الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 47880
تحميل: 4917

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47880 / تحميل: 4917
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخصمان:

موازنة

لخّص المقريزي المنافسة التي بين الهاشميين والاُمويّين في بيتين، فقال:

عبدُ شمسٍ قد أضرمتْ لنبي ها

شمٍ حرباً يشيبُ منهَا الوليدُ

فابنُ حربٍ للمصطفى وابنُ هنْـ

دٍ لعليّ وللحُسينِ يزيدُ

وسنعرض في ختام هذا الفصل عرضاً موجزاً لهذه المقابلة المتسلسلة بين أفراد الاُسرتين لتحقيق الرّأي فيها، ولكنّنا نجتزئ هُنا بالمقابلة بين الخصمين المتصاولين من هاشم وعبد شمس في شخصي الحُسين ويزيد فأيّاً كان الميزان الذي يوزن به كلّ من الرّجلين فلا مراء البتة في خير الرّجلين

وما من رجل فاز حيث ينبغي أن يخيب، كما قد فاز يزيد بن معاوية في حربه للحُسين، وما اختصم رجلان كان أحدهما أوضح حقّاً

٤١

وأظهر فضلاً من الحُسين في خصومته ليزيد بن معاوية.

والموازنة بين هذين الخصمين هي في بعض وجوهها موازنة بين الهاشميين والاُمويّين من بداءة الخلاف بين الاُسرتين، وهي موازنة حفظت كفتيها على وضعهما زهاء سبعة قرون، فلم يظهر في هذه القرون أموي قح، إلا ظهرت فيه الخصال الاُمويّة المعهودة في القبيلة بأسرها، ولم يظهر في خلالها هاشمي قح إلاّ رأيت فيه ملامح من تلك الخصال التي بلغت مثلها الأعلى في مُحمّد بن عبد الله (عليه الصّلاة والسّلام).

والهاشميون والاُمويّون من أرومة واحدة ترتفع إلى عبد مُناف، ثمّ إلى قُريش في أصلها الأصيل

ولكن الاُسرتين تختلفان في الأخلاق والأمزجة وإن اتحدتا في الأرومة فبنو هاشم في الأغلب الأعم مثاليون أريحيون ولا سيّما أبناء فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وبنو اُميّة في الأغلب الأعم عمليون نفعيون، ولا سيّما الاُصلاء منهم في عبد شمس من الآباء والاُمّهات.

وتفسير هذا الاختلاف مع اتحاد الأرومة غير عسير فإنّ الأخوين في البيت الواحد قد يختلفان في الأخلاق والأعمال، كما يختلف الغريبان من اُمّتين بعيدتين، تبعاً لاختلاف سلسلة الميراث في الاُصول والفروع، على ذلك النّحو الذي يأذن أحياناً باختلاف الألوان والملامح في نسل واحد، تأخذ كلّ شعبة منه بناحية من نواحي الوراثة.

* * *

٤٢

ومن الثابت الذي لا نزاع فيه أنّ عبد المطلّب واُميّة كانا يختلفان حتّى في الصورة والقامة والملامح وفي نسل اُميّة شبهة نشير إليها ولا نزيد، فهي محل الإشارة والمراجعة في هذا المقام

دخل دغفل النسابة على معاوية، فقال له: مَن رأيت من عُلية قُريش؟ فقال: رأيت عبد المطلّب بن هاشم واُميّة بن عبد شمس. فقال: صفهما لي. فقال: كان عبد المطلّب أبيض، مديد القامة، حسن الوجه، في جبينه نور النّبوّة وعزّ الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنّهم أسد غاب. قال: فصف اُميّة. قال: رأيته شيخاً قصيراً، نحيف الجسم ضريراً، يقوده عبده ذكوان. فقال معاوية: مه ذاك ابنه أبو عمرو! فقال دغفل: ذلك شيء قلتموه بعد وأحدثتموه وأمّا الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به.

وذكر الهيثم بن عدي في كتاب المثالب: إنّ أبا عمرو بن اُميّة كان عبداً لاُميّة اسمه ذكوان فاستلحقه.

ونقل أبو الفرج الأصبهاني - وهو من الاُمويّين - ما تقدّم فلم يعرض له بتفنيد

ووضح الفرق بين بني هاشم وبني اُميّة في الخلائق والمناقب في الجاهليّة قبل السّلام. فكان الهاشميون شرّاعاً إلى النجدة ونصرة الحقّ والتعاون عليه ولم يكن بنو اُميّة كذلك فتخلّفوا عن حلف الفضول الذي نهض به بنو هاشم وحلفاؤهم، وهو الحلف الذي اتفق فيه نخبة من

٤٣

رؤساء قُريش: ليكونن مع المظلوم حتّى يؤدّوا إليه حقّه، وليأخذن أنفسهم بالتآسي في المعاش والتساهم في المال، وليمنعن القويّ من ظُلم الضعيف والقاطن من عنف الغريب. واتفقوا على هذا الحلف؛ لأنّ العاص بن وائل اشترى بضاعة من رجل زبيدي ولواه بثمنها، فنصروا الرّجل الغريب على القرشي وأعطوه حقّه

ولما تنافر عبد المطلّب وحرب بن اُميّة إلى نفيل بن عدي، قضى لعبد المطلّب وقال لحرب:

أبوكَ معاهرٌ وأبوهُ عفٌّ

وذادَ الفيلَ عنْ بلدٍ حرامٍ

يشير إلى فيل أبرهة الذي أغار به على مكّة.

وقال عن اُميّة: إنّه معاهر؛ لأنّه كان يتعرض للنساء، وقد ضرب بالسّيف مرّة لأنّه تعرّض لامرأة من بني زهرة. وكان له تصرّف عجيب في علاقات الزواج والبّنوّة، فاستلحق عبده ذكوان وزوّجه امرأته في حياته، ولم يعرف سيّد من سادات الجاهليّة قط صنع هذا الصنيع.

اختلاف النشأة:

وندع اختلاف الطبائع ومغامز النّسب، ثمّ ننظر في اختلاف النشأة والعادة - مع اختلاف الخلقة الجسدية - فنرى أنّهما صالحتان لتفسير الفارق بين أبناء هاشم وأبناء عبد شمس بعد جيلين أو ثلاثة أجيال

فقد كان بنو هاشم يعملون في الرّئاسة الدينية، وبنو عبد شمس

٤٤

يعملون في التجارة أو الرّئاسة السّياسية وهُما ما هُما في الجاهليّة من الرّبا والمماكسة والغبن والتطفيف والتزييف، فلا عجب أن يختلفا هذا الاختلاف بين أخلاق الصراحة وأخلاق المساومة، وبين وسائل الإيمان ووسائل الحيلة على النّجاح.

ويتّفق كثيراً في الكهانات الوثنية أن يتّصف رؤساء الأديان بصفات الرّياء والدهاء والعبث بأحلام الأغرار والجهلاء، ولكنّهم يتّصفون بهذه الصّفة حين يعلمون الكذب فيما يمارسون من شعائر الكهانة ومظاهر العبادة، ويتّخذونها صناعة يرجونها لمنفعتهم أو لما يقدرون فيها من منفعة أولئك الأغرار والجُهلاء

أمّا أبناء هاشم فلم يكونوا من طراز أولئك الكهان المشعوذين، ولا كانوا من المحتالين بالكهانة على خداع أنفسهم وخداع المؤمنين والمصدّقين بل كانوا يؤمنون بالبيت وربّ البيت، وبلغ من إيمانهم بدينهم أنّ عبد المطلّب - جدّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - أوشك أن يذبح ابنه فدية لربّ البيت؛ لأنّه نذر لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة. ولم يتحلّل من نذره حتّى استوثق من كلام العرافة بعد رمي القداح ثلاث مرّات.

* * *

والأخلاق المثالية توائم الرّئاسة الدينية التي يدين أصحابها بما يدعون إليه فإن لم تكن في بني هاشم موروثة من معدن أصيل في الاُسرة،

٤٥

فهي أشبه بسمت الرّئاسة الدينية والعقيدة المتمكّنة والشّعائر المتّبعة جيلاً بعد جيل، وهي أخلق أن تزداد في الاُسرة تمكّناً بعد ظهور النّبوّة فيها، وأن يتلقّاها بالوراثة والقدوة أسباط النّبي وأقرب النّاس إليه

وإنّك لتنحدر مع أعقاب الذرّيّة في الطالبيّين - أبناء عليّ والزهراء - مئة سنة وأربعمئة سنة، ثمّ يبرز لك رجل من رجالها فيُخيّل إليك أنّ هذا الزمن الطويل لم يبعد قطع بين الفرع وأصله في الخصال والعادات كأنّما هو بعد أيّام معدودات لا بعد المئات وراء المئات من السّنين، ولا تلبث أن تهتف عجباً: إنّ هذه لصفات علويّة لا شكّ فيها؛ لانّك تسمع الرّجل منهم يتكلّم ويجيب من يكلّمه، وتراه يعمل ويجزي من عمل له، فلا تخطئ في كلامه ولا في عمله، تلك الشّجاعة والصراحة، ولا ذلك الذكاء والبلاغ المسكت، ولا تلك اللوازم التي اشتهر بها عليّ وآله، وتجمعها في كلمتين اثنتين تدلاّن عليها أوفى دلالة، وهُما الفروسية والرياضية

طبع صريح ولسان فصيح، ومتانة في الاُسر يستوي فيها الخلق والخُلق، ونخوة لا تُبالي ما يفوتها من النفع إذا هي استقامت على سنّة المروءة والإباء

فمن يحيى بن عمر إلى عليّ بن أبي طالب خمسة أو ستّة أجيال ولكن يحيى بن عمر يوصف لك، فإذا هو صورة مصغّرة من صور عليّ بن أبي طالب على نحو من الأنحاء، فمن أوصافه التي وصفه بها

٤٦

الكاتب الأموي أبو الفرج الأصبهاني، إنّه كان رجلاً فارساً شجاعاً، شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً عن رهق الشباب وما يعاب به مثله.

وممّا روي عنه: أنّه كان مُقيماً ببغداد، وكان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحلّه عنه حتّى يحلّه يحيىرضي‌الله‌عنه ، ولما ضايقه الاُمراء وضنوا عليه بجرايته في بيت المال، كان يجوع ويعرض عليه الطعام فيأباه ويقول: إن عشنا أكلنا.

ثمّ ثار وبلغت أنباء ثورته بغداد، فأقبلت عليهم الجموع المحشودة لقتاله، وأسرع إليه بعض الأعراب فصاح به: أيّها الرّجل، أنت مخدوع هذه الخيل قد أقبلت فوثب إلى متن فرسه فجال به، وحمل على قائد القوم فضربه ضربة بسيفه على وجهه فولّى منهزماً وتبعه أصحابه، فجلس معهم ساعة وهو لا يُبالي ما يكون.

* * *

ولما تكاثرت عليه الجموع وقُتل بعد ذلك، اتّهم النّاس صاحبه الهيضم العجلي إنّه كان مدسوساً عليه، وإنّه غرّر به لينكص عنه عند احتدام القتال. فأقسم الرّجل بالطلاق إنّه لم يكن له في الهزيمة صنع مدبّر قال: وإنّما كان يحيى يحمل وحده ويرجع، فنهيته عن ذلك فلم يقبل وحمل

٤٧

مرّة كما كان يفعل، فبصرت عيني به وقد صرع في وسط عسكرهم، فلمّا رأيته قُتل انصرفت بأصحابي.

ويحيى الشّهيد هذا هو الذي قال ابن الرّومي جيميته المشهورة في وصف قتاله ومقتله، وهي طويلة منها قوله يخاطب اُمراء زمانه:

فـلوْ شـهدَ الـهيجَا بـقلبِ أبـيكُمُ

غداةَ التقى الجمعان والخيلُ تَمعجُ (١)

لأعـطى يـدَ الـعاني أو ارتدَّ هارباً

كـما ارتـدَّ بالقاعِ الظليمُ (٢) المهيّجُ

ولـكـنّهُ مـا زال يـغشى بـنحرهِ

شبا الحربِ حتّى قال ذو الجهلِ أهوجُ

وحـاشى لـهُ مِـن تـلكُمُ غيرَ أنّهُ

أبـى خـطّةَ الأمـرِ الذي هوَ أسمجُ

وأيـن بـهِ عـن ذاكَ لا أيـن إنَّـه

إلـيـه بـعرقيهِ الـزّكيّينِ مـحرَجُ

كـأنّي بـهِ كـالليثِ يـحمي عرينَهُ

وأشـبـالهُ لا يـزدهـيهِ المهجهجُ

____________________

(١) معج الفرس: أسرع سيره في سهولة.

(٢) ذكر النّعام.

٤٨

كـدأبِ عـليٍّ فـي المواطنِ قبلهُ

أبي حسنٍ والغصنُ منْ حيثُ يخرجُ

كـأنّي أراهُ إذ هـوى عـن جوادِهِ

وعُـفّرَ بـالتّرب الـجبينُ المشجَّجُ

فحبَّ بهِ جسماً إلى الأرضِ إذ هَوَى

وحـبّ بـهِ روحـاً إلى اللهِ تعرجُ

* * *

وقد أصاب ابن الرّومي الوصف والتعليل، فما كان كلّ من يحيى ولا أسلافه من قبله، إلاّ عليّاً صغيراً يتأسّى بعليّ الكبير، أو غصناً زاكياً يخرج من دوحته الكُبرى، ( والغصن من حيث يخرج ) كما قال، ولولا قوّة هذه الطبائع في أساس الاُسرة الطالبية لما انحدرت على هذه الصّورة الواضحة بعد ستّة أجيال.

فنحن نرى يحيى بن عمر بعد هذه الأجيال - وهو بعموده الحديدي وجرأته التي لا تتزعزع ويقينه الذي لا يلوي به الإغراء والوعيد - كأنّما هو نسخة من جدّه الكبير الذي يحمل باب خيبر وقد أعيا حمله الرّجال، وينهدّ لعمرو بن ودّ وقد تهيّبه مئات الأبطال، ويتوسّط الصفوف حاسراً وقد برزوا له بشكّة القتال ودروع النزال

ولم يكن لبني اُميّة - على نقيض هذا - نصيب ملحوظ من الخلائق

٤٩

المثالية والشّمائل الدينية، ولا كان ظهور النّبوّة في اُسرة منافسة لاُسرتهم من شأنه أن يعزّز مناقبها فيهم كما يعتزّ بها أبناء بيتها وفروع أرومتها. بل لعلّه كان من شأنه أن يجنح بهم من طرف خفي إلى صفات تقابل تلك الصفات، ومزايا تعوّض لهم ما فاتهم من تلك المزايا فتمكّنت فيهم - قبل ظهور النّبوّة وبعدها - خلائقهم العملية التي درّبتهم عليها المساومات التجارية وراضهم عليها مراس المطامع السياسية، فاشتهر اُناس من رؤوسهم بمحاسن هذه الخلائق ومعائبها على السّواء، وشاعت عنهم صفات الحلم والصبر والحنكة والدهاء، كما شاعت عنهم صفات المراوغة والجشع والإقبال على الترف ومناعم الحياة.

* * *

ولقد تقابل الحُسين بن عليّ ويزيد بن معاوية في تمثيل الاُسرتين، كما تقابلا في كثير من الخلائق والحظوظ ولكنّهما تفاوتا في تمثيل اُسرتيهما كما تفاوتا في غير ذلك من وجوه الخلاف بينهما. فكان الحُسين بن عليّ نموذجاً لأفضل المزايا الهاشمية، ولم يكن يزيد بن معاوية نموذجاً لأفضل المزايا الاُمويّة، بل كان فيه الكثير من عيوب اُسرته ولم يكن له من مناقبها المحمودة إلاّ القليل.

وليس لنا هُنا أن نفصل القول في أحوال كلّ من الرّجلين وخصائص كلّ من النموذجين، ولكنّنا نجتزئ منهما بما يملأ الكفّتين في هذا الميزان،

٥٠

وهو ميزان الأريحية والنفعية في حادث كبير من حوادث التاريخ العربي يندر نظيره في جميع التواريخ.

مكانة الحُسينعليه‌السلام :

وإذا كانت المعركة كلّها هي معركة الأريحية والنفعية، فالمزية الأولى التي ينبغي توكيدها هُنا للحُسين بن عليّرضي‌الله‌عنه ، هي مزيّة نسبه الشّريف ومكانه من محبّة النّبي (عليه الصّلاة والسّلام)

إنّ المؤرّخ الذي يكتب هذا الحادث قد يكون عربياً مُسلماً أو يكون من غير العرب والمسلمين، وقد يؤمن بمُحمّد أو ينكر مُحمّداً وغيره من الأنبياء، ولكنّه يخطئ دلالة الحوادث التاريخية إذا استخفّ بهذه المزيّة التي قُلنا إنّها أحقّ مزايا الحُسين بالتوكيد في الصّراع بينه وبين يزيد.

فليس المهمّ أن يؤمن المؤرّخون بقيمة ذلك النّسب الشّريف في نفوسهم أو قيمته في علوم العُلماء وأفكار المفكّرين، ولكنّما المهم أنّ أتباع يزيد كانوا يؤمنون بحقّ ذلك النّسب الشّريف في الرّعاية والمحبّة، وأنّهم مع هذا غلبتهم منافعهم على شعورهم فكانوا من حزب يزيد ولم يكونوا من حزب الحُسين.

فلولا هذه المزيّة في الحُسين لما وضح الصراع بين الأريحية والنفعية عند الفريقين، ولا كان المصطرعون هُنا وهُناك من مزاجين مختلفين،

٥١

ولا كان للمعركة كلّها تلك الدلالة التي كشفت النّفس الإنسانيّة في جانبين منها قويين، يتنازعان حوادث الاُمم والأفراد من زمان بعيد، وسيظلاّن على نزاعهما هذا إلى زمان بعيد.

* * *

ولقد كان الحُسين بن علي بهذه المزية أحبّ إنسان إلى قلوب المسلمين، وأجدر إنسان أن تنعطف إليه القلوب.

كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي سمّاه، وسمّى من قبله أخاه قال عليّرضي‌الله‌عنه :(( ولمّا ولد الحسن سمّيته حرباً، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قُلت: حرب. فقال: بل هو حسن. فلمّا ولد الحُسين سمّيته حرباً، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قُلت: حرب. فقال: بل هو حُسين )).

وذهب إلى الحُسين وإخوته كلّ ما في فؤاد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من محبّة البنين، وهو مشوق الفؤاد إلى الذرّيّة من نسله، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يطيق أذاهما، ولا يحبّ أن يستمع إلى بكاء منهما في طفولتهما على كثرة ما يبكي الأطفال الصغار. وخرج من بيت عائشة يوماً، فمرّ على بيت فاطمة فسمع حُسيناً يبكي، فقال:(( ألم تعلمي أنّ بكاءه بؤذيني؟ )).

وكان يقول:(( ادعي إليّ ابنيَّ )) . فيشمهما ويضمهما إليه، ولا يبرح

٥٢

حتّى يضحكهما ويتركهما ضاحكين، وروى أبو هريرة: أنّه كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يدلع لسانه للحُسين، فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش إليه، وكان عيينة بن بدر شهده في بعض هذه المجالس، فقال متعجّباً: يصنع هذا بهذا! فو الله إنّ لي لولد وما قبّلته قط. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :(( مَن لا يرحم لا يُرحم )).

* * *

وخرج ليلة في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حُسيناً، فوضعه ثمّ كبّر للصلاة فأطال سجدة الصلاة. قال راوي الحديث: فرفعت رأسي فإذا بالصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلمّا قضى الصلاة، قيل: يا رسول الله، إنّك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتّى ظننا أنّه قد حدث أمر أو أنّه يوحى إليك؟ قال:(( كلّ ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن اُعجّله )) .

وقامصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب المسلمين، فجاء الحسن والحُسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزلصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنبر، فحملهما ووضعهما بين يديه ثمّ قال:(( صدق الله ( أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما )).

* * *

ولا يوجد مُسلم في العصر القديم أو العصر الحديث يحبّ نبيّه كما يحبّ

____________________

(١) سورة الأنفال / ٢٨.

٥٣

المؤمنون أنبياءهم، ثمّ يصغر عنده حساب هذا الحنان الذي غمر به قلبه الكريم سبطيه وأحبّ النّاس إليه

فبهذا الحنان النّبوي قد أصبح الحُسين في عداد تلك الشّخوص الرمزية التي تتخذ منها الاُمم والملل عنواناً للحُب، أو عنواناً للفخر، أو عنواناً للألم والفداء فإذا به محبوب كلّ فرد ومفخرته، وموضع عطفه وإشفاقه، كأنّما تمّت إليه وحده بصلة القرابة أو بصلة المودّة.

وقد بلغ الحُسين بهذا الحنان - مع الزمن - مبلغه من تلك المكانة الرّمزية، فأوشك بعض واصفيه أن يلحقه في حمله وولادته ورضاعه بمواليد المعجزات، فقال بعضهم: لم يولد مولود لستة أشهر وعاش إلاّ الحُسين وعيسى بن مريم.

وقال آخرون: إنّهرضي‌الله‌عنه لم ترضعه اُمّه ولم ترضعه اُنثى، وأعتلّت فاطمة لما ولدت الحُسين وجفّ لبنها، فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد، فكان يأتيه فيلقمه إبهامه فيمصّه، ويجعل الله في إبهام رسوله رزقاً يغذّيه، ففعل ذلك أربعين يوماً وليلة، فأنبت الله سبحانه وتعالى لحمه من لحم رسول الله

وروي عنه غير ذلك كثير من الأساطير التي تحيط بها الاُمم تلك الشّخوص الرمزية، التي تعزّها وتغليها فتلتمس لها مولداً غير المولد المألوف والنشأة المعهودة، وتلحقها أو توشك أن تلحقها بالخوارق والمعجزات

* * *

ولقد كانت حقيقة الحُسين الشّخصية كفؤاً لتلك الصورة الرّمزية

٥٤

التي نسجتها حوله الأجيال المتعاقبة قبل أن يرى منه أبناء جيله غير تلك الحقيقة.

فكان ملء العين والقلب في خلق وخُلق وفي أدب وسيرة، وكانت فيه مشابه من جدّه وأبيه إلاّ أنّه كان في شدّته أقرب إلى أبيه، قالرضي‌الله‌عنه مُشيراً إلى الحسن:(( إن ابني هذا سيخرج من هذا الأمر، أشبه أهلي بي الحُسين )). واتّفق بعض الثقات على أنّ الغالب على الحسن الحلم والأناة كالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى الحُسين الشدّة كعليّ.

صفات الحُسينعليه‌السلام :

وقد تعلّم في صباه خير ما يتعلمه أبناء زمانه من فنون العلم والأدب والفروسية، وإليه يرفع كثير من المتصوّفة وحُكماء الدين نصوصهم التي يعوّلون عليها ويردّونها إلى عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه . وقد اُوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء.

ومن كلامه المرتجل قوله في توديع أبي ذر - وقد أخرجه عثمان من المدينة بعد أن أخرجه معاوية من الشّام -:(( يا عمّاه، إنّ الله قادر أن يغيّر ما قد ترى، والله كلّ يوم في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، وما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل الله الصبر والنّصر، واستعذ به من الجشع والجزع؛ فإنّ الصبر من الدين والكرم، وأنّ الجشع لا يقدّم رزقاً والجزع لا يؤخّر أجلاً )).

٥٥

وكان يومئذ في نحو الثلاثين من عمره، فكأنّما أودع هذه الكلمات شعار حياته كاملة منذ أدرك الدُنيا إلى أن فارقها في مصرع كربلاء.

* * *

وتواترت الرّوايات بقوله الشّعر في أغراض الحكمة وبعض المناسبات البيتية، ومن ذلك هذه الأبيات:

اغْنَ عن المخلوقِ بالخالقِ

تَـغْنَ عن الكاذبِ والصادقِ

واسترزقِ الرّحمنَ من فضلهِ

فـليسَ غيرُ الله من رازقِ

مـنْ ظنَّ أنَّ الناسَ يُغنونهُ

فـليس بـالرحمنِ بالواثقِ

ومنه هذان البيتان في زوجته وابنته:

لـعمركَ إنّني لاُحبُّ دارا

تكونُ بها سكينةُ والربابُ

اُحـبّهما وأبذلُ كلَّ مالي

وليس لعاتبٍ عندي عتابُ

وهُما - سواء صحّت نسبتهما إليه أو لم تصح - معبّران عن خُلُقه في بيته وبين أهله، فقد كان من أشدّ الآباء حدباً على الأبناء وأشدّ الأزواج عطفاً على النّساء.

٥٦

ومن وفاء زوجاته بعد مماته أنّ الرّباب - هذه التي ذُكرت في البيتين السّابقين - خطبها أشراف قريش بعد مقتله، فقالت: ما كنت لاتخذ حماً بعد رسول الله وبقيت سنة لا يظلّها سقف حتّى فنيت وماتت، وهي لا تفتر عن بكائه والحزن عليه

خُلق كريم:

وقد سنّ الحُسين لمن بعده سنّة في آداب الاُسرة تليق بالبيت الذي نشأ فيه ووكّل إليه، أن يرعى له حقّه ويوجب على النّاس مهابته وتوقيره، فهو على فضله وذكائه وشجاعته ورجحانه على أخيه الحسن في مناقب كثيرة ومآثر عدّة، كان يستمع إلى رأي الحسن ولا يسوءه بالمراجعة أو المخالفة، فلمّا همّ الحسن بالتسليم لمعاوية، كان ذلك على غير رضى من الحُسين، فلم يوافقه وأشار عليه بالقتال، فغضب الحسن وقال له: والله، لقد هممت أن أسجنك في بيت وأطيّن عليك بابه حتّى أقضي بشأني هذا وأفرغ منه، ثمّ أخرجك

فلم يراجعه الحُسين بعدها وآثر الطاعة والسّكوت.

* * *

ومن رعايته لسنن الاُسرة ووصايا الأبوّة، أنّه ركبه دين فساومه معاوية بمئتي ألف دينار أو بمبلغ جسيم من المال على عين أبي بيزر، فأبى

٥٧

أن يبيعها مع حاجته إلى بعض ما عرض عليه؛ لأنّ أباه تصدّق بمائها لفقراء المدينة، ولو أنّه باعها لوقفها معاوية على اُولئك الفقراء.

وقد أخذ نفسه بسمت الوقار في رعاية اُسرته ورعاية النّاس عامّة، فهابه النّاس وعرف معاوية عنه هذه المهابة، فوصفه لرجل من قريش ذاهب إلى المدينة، فقال: إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله مؤتزراً إلى أنصاف ساقيه

ولم يُذكر عنه قط أنّه كان يواجه النّاس بتخطئة وهو يعلّمهم ويبصّرهم بشؤون دينهم، إلاّ أن تكون مكابرة أو لجاجة فله في جواب ذلك أشباه تلك القوارص التي كانت تؤثر عن أبيه.وما لم تكن مكابرة أو لجاجة فهو يحتال على تصحيح الخطأ حيلة لا غضاضة فيها على المخطئين.

فمن آدابه وآداب أخيهعليهما‌السلام في ذلك، أنّهما رأيا أعرابياً يخفف الوضوء والصّلاة، فلم يشاءا أن يجباه بغلطه وقالا له:(( نحن شابّان وأنت شيخ ربما تكون أعلم بأمر الوضوء والصلاة منّا، فنتوضأ ونصلّي عندك، فإن كان عندنا قصور تعلمنا )). فتنبّه الشّيخ إلى غلطه دون أن يأنف من تنبيههما إليه.

ومرّ يوماً بمساكين يأكلون فدعوه إلى الطعام على عادة

٥٨

العرب، فنزل وأكل معهم، ثمّ قال لهم:(( قد أجبتكم فأجيبوني )). ودعاهم إلى الغداء في بيته.

* * *

ورويت الغرائب في اختبار حذقه بالفقه واللغة، كما رويت أمثال هذه الغرائب في امتحان قدرة أبيهعليه‌السلام فقيل: إنّ أعرابياً دخل المسجد الحرام فوقف على الحسنرضي‌الله‌عنه وحوله حلقة من مُريديه فسأل عنه، فقال - لما عرّفوه به -: إيّاه أردت جئت لأطارحه الكلام وأسأله عن عويص العربيّة. فقال له بعض جلسائه: إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشّاب. وأومأ إلى الحُسينعليه‌السلام ، فلمّا سلّم على الحُسين وسأله عن حاجته قال: إنّي جئتك من الهرقل والجعلل، والأيتم والهمهم.

فتبسّم الحُسين وقال:(( يا أعرابي، لقد تكلّمت بكلام ما يعقله إلاّ العالمون )).

فأجابه الأعرابي قائلاً - يُريد الإغراب -: وأقول أكثر من هذا، فهل أنت مجيبي على قدر كلامي؟ ثمّ أذن له الحُسين فأنشد أبياتاً تسعة، منها:

هفا قلبي إلى اللّهوِ

وقدْ ودّعَ شرخيهِ

فأجابه الحُسينعليه‌السلام مُرتجلاً بتسعة أبيات في معناها ومن وزنها وقوافيها، يقول منها:

٥٩

فما رسمٌ شجاني قد

مـحتْ آياتُ رسمَيهِ

سـفورٌ درّجتْ ذيليْـ

نِ في بوغاءِ قاعيهِ

هتوفٌ مرجفٌ تترى

عـلى تـلبيدِ ثوبَيهِ

إلى آخر الأبيات ثمّ فسّر له ما أراد من الهرقل وهو ملك الرّوم، والجعلل وهو قصار النّخل، والأيتم وهو بعض النّبات، والهمهم وهو القليب الغزير الماء، وفي هذه الكلمات أوصاف البلاد التي جاء منها وإشارة إليها

فقال الأعرابي: ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاماً، وأذرب لساناً، ولا أفصح منه منطقاً!

وتلك رواية من روايات على منوالها، إن لم تنبئ بما وقع فهي منبئة بما تداوله النّاس من شهرة الحُسين في صباه الباكر بالعلم والفصاحة

ولخبرته بالكلام وشهرته بالفصاحة، كان الشّعراء يرتادونه وبهم من الطمع في إصغائه أكبر من طمعهم في عطائه ولكنّه على هذا كان يجري معهم على شرعة ذوي الأقدار والأخطار من أنداده، فيبذل لهم الجوائز ما وسعه البذل ويؤثرهم على نفسه في خصاصة الحال، وقد لامه أخوه الحسن في ذلك فكتب إليه:(( إنّ خير المال ما وقي به العرض )). إلاّ أنّه في الواقع لم يكن يعطي لوقاية العرض وكفى،

٦٠