الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 264471
تحميل: 8842

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264471 / تحميل: 8842
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثاني أبواب الحوائج

وأمّا الثلاثة الباقون ممّن عُرفوا بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام وخاصّتهم فهم كالتالي:

1ـ الطفل الرضيع: وهو الجندي الصغير من حيث السنّ، والكبير من حيث القدر والمعنى، الذي استشهد على يدي أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء؛ وذلك حين أخذه إلى عسكر يزيد بن معاوية ليسقوه شربة من الماء الذي كانوا قد منعوه على الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته.

ولكنهم بدل أن يعطفوا على هذا الرضيع ويسقوه الماء مع ما كانوا يرونه كيف يتلظّى من شدّة العطش، ويلوك لسانه من حرارة الظمأ سقوه بكأس الموت، ورموه بسهم المنيّة؛ فذبحوه على يدي أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام من الوريد إلى الوريد، ومن الأذن إلى الأذن، وتركوه يرفرف كالطير المذبوح على يدي أبيه حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة في وجه أبيه بابتسامة ارتسمت على شفتيه؛ كناية عن رضاه بتقديم نفسه هدية صغيرة، وفداءً متواضعاً لله تعالى، فتقبّله الله بأحسن قبوله، وجعله باباً من أبواب الحوائج إليه حتّى عُرف بباب الحوائج.

ثالث أبواب الحوائج

2 - الثاني ممّن عُرف بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام وخاصّتهم اُمّ البنينعليها‌السلام ، وهي اُمّ أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، يعني فاطمة بنت حزام الوحيديّة الكلابيّة، وقد نالت هذا المقام عند الله تبارك وتعالى بحسن اعتقادها وإيمانها بالله ورسوله، وشدّة إخلاصها وولائها لأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فقد

١٠١

نذرت نفسها، ووقفت طاقاتها - لما تقلّدت وسام الزوجيّة من ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ومن حين دخلت بيته - لخدمة ابني رسول الله وريحانتيه الإمامين الهمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وقدّمتهما على نفسها وعلى أولادها وذويها، وعلّمت أولادها ودّهما والإخلاص في ولائهم لهما، وربّتهم على محبّتهما وعلى إيثارهما، وتقديمهما على أنفسهم والتضحية والفداء من أجلهما بالروح والدم، والغالي والرخيص، وأرسلتهم مع إمامهم الحسينعليه‌السلام في خروجه من المدينة نحو مكة والعراق، وأمرتهم بنصرته والذبّ عنه، وأوصتهم على أن لا يبخلوا بأنفسهم وبذل أرواحهم في حفظه والدفاع عنه.

وكذلك فعلوا حيث إنهم لم يقصّروا في نصرة إمامهم، ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وإنّما قدّموها فداءً لإمامهم الحسينعليه‌السلام ، ووقاءً له، ونالوا بذلك شرف الدنيا وثواب الآخرة.

هذا وعندما جاء بشر بن حذلم ينعى الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أهل المدينة، خرجت اُمّ البنين فيمَن خرج من الناس، لكنها لم تسأل بشراً عن أولادها وإنّما سألته عن سيّدها الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكلّما كان بشر يخبرها بقتل واحدٍ من أولادها كانت تجيبه بكل رباطة جأش وسكون نفس: فداءً لسيّدنا الحسينعليه‌السلام .

ثمّ كانت تقول له: أسألك عن سيّدنا الحسينعليه‌السلام وتخبرني عن أولادي؟! حتّى إذا سمعت بنعي الإمام الحسينعليه‌السلام بكت واعولت ووقعت مغشياً عليها.

وهنا لمّا رأى الله تعالى كبير إخلاصها، وعظيم حبّها وولائها، وصدق قولها وفعلها أثابها على ذلك بعزّ الدنيا وشرف الآخرة، وجعلها باباً من أبواب الحوائج إليه، ووسيلة من وسائل رضوانه وغفرانه، فما رجاها مؤمل حاجة ولا صاحب مشكلة ووسّطها إلى الله تعالى إلاّ وانقلب بقضاء حاجته، ونجاح مهمّته، وحلّ مشكلته.

١٠٢

رابع أبواب الحوائج

3ـ الثالث والأخير ممّن عرف بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام وخاصّتهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وهو محطّ بحثنا ومحور حديثنا في هذا الكتاب، وأنعم به باباً للحوائج، فقد نال هذا المقام واتّسم بهذا الوسام ثواباً من عند الله تبارك وتعالى على عظيم عنائه وبلائه، وتقديراً له على كبير مواساته وإيثاره، حتّى جاء في زيارته المعروفة المنقولة عن الإمام الصادقعليه‌السلام : ((أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنِعم الأخ المواسي... إلى أن يقولعليه‌السلام : فنِعم الصابر المجاهد، المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه...)).

نعم، لقد واسى أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام مواساة عظيمة، وأدى ما كان عليه من حقوق الأخوّة؛ ممّا استحقّ بها المدح من الإمام الصادقعليه‌السلام والثناء عليه بقوله: ((فنِعم الأخ المواسي)).

هذا وحيث كان كلّ همّ أبي الفضلعليه‌السلام هو نصرة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام والذبّ عنه، وحمايته والدفع عنه استحقّ بسببه أيضاً إطراء الإمام الصادقعليه‌السلام عليه والاعتزاز به بقوله: ((فنِعم الصابر المجاهد، المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه)).

أجل، لقد كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام من عظيم إيمانه بالله ورسوله وأهل بيته، وكبير تأدّبه مع أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام يرى نفسه على ما كان عليه من فضل وعلم وشرف وسؤدد جندياً صفراً تجاه قائد سماوي عظيم، وعبداً رقّاً أمام مولىً كريم.

كيف لا والإمام الحسينعليه‌السلام حجّة الله على خلقه، والإمام المنصوب من

١٠٣

عند الله تبارك وتعالى في بريّته كما نصّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك عليه، وأبو الفضلعليه‌السلام هو مَنْ يعرف حقّ الحجة؛ ولذلك كان العبّاسعليه‌السلام حتّى في يوم عاشوراء لا يتصرّف من عند نفسه ولا يجتهد برأيه، بل كان يتعبّد بكل الأوامر الصادرة إليه من مولاه وإمامه، ويطبّقها تطبيقاً حرفيّاً بلا زيادة ولا نقصان من عنده.

وقد تجلّى ذلك في موقفه عندما جاء إلى الإمام الحسينعليه‌السلام يستأذنه في البراز ومقاتلة القوم الظالمين الذين لم يحفظوا حرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذرّيته، ولم يرعوا شخصه الكريم بعد غيابه في أبنائه وأهل بيته، لكن الإمام الحسينعليه‌السلام أبى أن يأذن له وقال: ((إن كان ولا بدّ فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء)).

العبّاس عليه‌السلام عند طلب أخيه

امتثل أبو الفضلعليه‌السلام كلام أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وانصرف عن مقاتلته الأعداء، وأقبل نحو الخيام وأخذ منها قربةً خاوية واتّجه بها نحو العلقمي ليأتي بالماء إلى الأطفال.

أقبل العبّاسعليه‌السلام حتّى اقتحم الفرات، ولمّا أحسّ ببرد الماء اغترف منه غرفة بيده وقرّبه إلى فمه، فقد كان عطشانَ شديد العطش، ظمآن عظيم الظمأ، لكنه عندما قرّب الماء من فمه تذكّر عطش أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام فأبى أن يشرب؛ مواساةً لأخيه.

وصبّ الماء على الماء وملأ القربة، وخرج من الفرات متّجهاً نحو مخيّم النساء والأطفال، وكل همّه إيصال الماء إلى الأطفال العطاشى الذين بقوا بانتظار مجيئه عندما رأوه أخذ القربة واتّجه نحو الفرات.

١٠٤

ترك البراز من أجل الماء

لقد ترك أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام مقاتلة القوم الذين قتلوا إخوته وأبناء إخوته، ولم يشف صدره منهم ابتغاء طلب الماء وإيصاله إلى الأطفال العطاشى.

هذا وهو البطل العظيم الذي ورث الشجاعة من أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والذي لو كان همّه بدل إيصال الماء مقاتلة هؤلاء الظالمين لَما ترك على وجه الأرض منهم أحداً ينجو بنفسه، ولا شخصاً منهم يسلم على روحه، لكنه امتثل أمر إمامه واكتفى بطلب الماء عمّا فيه شفاء صدره.

ودخل الماء ولم يذُق منه شيئاً مع شدّة أواره واستعار قلبه؛ مواساةً لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، كلّ ذلك وهو راضٍ بما عنده من الماء، مؤملاً إيصاله إلى الأطفال الذين تصاعد صراخهم من ألم العطش نحو السماء، وعلا صراخهم من شدّة الظمأ أجواء كربلاء.

وعندما عرف الأعداء انشغال العبّاس بالماء عن مقاتلتهم انتهزوا الفرصة، وجنّدوا كلّ طاقاتهم للتخلّص من بأسه؛ لأنهم كانوا يعلمون أنّه لو تفرّغ العبّاس لقتالهم لأتى على آخرهم.

وكانت المصيبة الكبرى والرزية العظمى حين كَمَن له أحد الأشقياء وراء نخلة وغدر به بضربة مفاجئة قطع بها يمينه، ثمّ كَمَن له شقي آخر فقطع يساره، وكان الخطب الأعظم والبلاء الجلل عندما أُصيبت القربة بسهم وأُريق ماؤها، عندها تحيّر أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فلا ماء عنده ليوصله إلى الأطفال العطاشى الذين ينتظرون قدومه بالماء، ولا يدين عنده حتّى يحارب بهما.

وحيث خابت آمال أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأيس من تحقيق أمانيه وبلوغ مآربه، جازاه الله عن ذلك لإخلاصه، وعوّضه بها لوفائه؛ بأن جعله باباً للحوائج إليه في الدنيا. فما أمّه أحد بحاجة إلاّ ورجع مقضياً حاجته، مستجاباً دعاؤه، ووهبه جناحين في الآخرة يطير بهما في الجنّة حيث يشاء، وأعطاه مقاماً هناك يغبطه به جميع الشهداء.

١٠٥

الخصّيصة الثانية عشرة

في أنّهعليه‌السلام السقّاء

ورث العبّاسعليه‌السلام عمل السقاية من أجداده الطاهرين وآبائه الكرام، فقد كانت السقاية من مختصّات بني هاشم دون سائر قريش؛ وذلك لِما كان يتّصف به بنو هاشم من النُبل والشرف، والسخاء والكرم، فقد كانوا هم وحدهم الأسخياء فيما يصرفونه من أموال ويبذلونه من طاقات في سبيل تأمين الماء، وتأمين الطعام على ضيوف الرحمن وحجاج بيت الله الحرام، وعلى غيرهم من سائر الناس، وهذا ممّا اشتهر في الناس واعترف به حتّى أعداؤهم؛ فقد قال معاوية بن أبي سفيان العدو اللدود لبني هاشم: إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه أصله.

وقصي بن كلاب كما في التاريخ كان أوّل مَنْ أسّس سقاية الحاج، وقام بإطعامهم، ثمّ ورثها من بعده ابنه عبد مناف، ثمّ ابنه هاشم، وعندما أدركت هاشم الوفاة ووافته المنيّة كان ابنه عبد المطلب بن هاشم صغيراً عند أخواله، فقام بها عمّه المطلب بن عبد مناف.

حتّى إذا كبر عبد المطلب بن هاشم سلّمها عمّه إليه، فقام بها عبد المطلب أحسن قيام، ثمّ أتحفه الله بإظهار زمزم له وأكرمه بها، كما كان أكرم بها جدّه إسماعيل بن إبراهيمعليه‌السلام من ذي قبل. ولمّا مات عبد المطلب ورثها منه أبو طالب، ثمّ سلّمها أبو طالب لأخيه العبّاس بن عبد المطلب؛ كرامةً أكرمه بها.

١٠٦

ثمّ إنّ العبّاس بن عبد المطلب سلّمها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكة، لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ردّها إليه ثانية؛ فقد كان من دأب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن تعاليم دينه الحنيف ردّ كلّ مأثرة لا تتنافى مع الإسلام إلى أصحابها، وإقرارها فيهم وفي أيديهم؛ فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخلع أحداً من منصبه، ولم يدفعه عن حقّه الذي كان له قبل الإسلام إذا لم يكن ممّا ينافي الإسلام، ورضي به الناس.

استسقاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

نعم، لقد سقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الماء من أنامله عمّه أبا طالبعليه‌السلام ومَنْ كان معه في قافلته التجارية إلى الشام حين كانوا في الطريق ورأوا أنّ البئر التي كانوا يستسقون منها قد أُعميت وطمست.

كما وسقىصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه في مرّات عديدة حين أضرّ بهم العطش ولم يجدوا ماءً طبيعياً يشربوه، فسقاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الماء عن طريق المعجزة وشربوا منه حتّى رووا.

وقد استسقى أبو طالب بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أجدب أهل مكة وأقحطوا، فأنزل الله تعالى عليهم الغيث وأخصب ناديهم وباديهم، حتّى قال أبو طالبعليه‌السلام في ذلك:

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ

ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ

واستسقى هوصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل المدينة فما استتمّ دعاءه حتّى التفّت السماء بأروقتها، فجاء أهل البطانة يضجّون: يا رسول الله الغرق!

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((حوالينا لا علينا)). فانجاب السحاب عن المدينة كالإكليل، فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ضاحكاً حتّى بدت نواجذه، وقال: ((لله درّ أبي طالب! لو كان حيّاً لقرّت عيناه)).

١٠٧

وهنا قام رجل من كنانة وأنشد:

لكَ الحمدُ والحمدُ ممّنْ شكرْ

سُـقينا بوجهِ النبيّ المطرْ

إلى أن قال:

وكـانَ كـما قـالهُ عمّهُ

أبو طالبٍ أبيضُ ذو غررْ

بهِ اللهُ يسقي صوبَ الغمام

وهـذا العيانُ لذاكَ الخبرْ

الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يسقي أهل بدر

وهكذا كان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فقد استسقى ليلة بدر بعد أن أحجم الجميع عنه وأتى بالماء إلى مخيّم المسلمين، مع ما كانت عليه الليلة من ظلام قاتم وبرد شديد، وكان معسكر المشركين قريباً من البئر بحيث يخاف الوقوع في أيديهم، كما إنّ ماء البئر كان ممّا لا تناله اليد، ولم يكن دلو يستقى به، فنزل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في البئر وملأ القربة ماءً، ثمّ خرج منها وتوجّه إلى معسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي الطريق مرّت به عواصف ثلاث أقعدته عن المشي، ولمّا سكنت أقبل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقصّ عليه خبر العواصف، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أمّا العاصفة الأولى فجبرائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك؛ وأمّا الثانية فميكائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك؛ وأمّا الثالثة فإسرافيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، وكلّهم أُنزلوا مدداً لنا)).

ومنه اشتهر قول القائل: بأن لعليعليه‌السلام في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاثة مناقب، وقال في معناه السّيد الحميري قصيدة عصماء جاء فيها:

ذاكَ الـذي سـلّمَ في ليلةٍ

عـلـيهِ ميكالُ وجبريلُ

جبريلُ في ألفٍ وميكالُ في

ألـفٍ ويـتلوهمُ سَرافيلُ

لـيـلةُ بـدرٍ مدداً اُنزلوا

كـأنّـهـم طـيراً أبابيلُ

١٠٨

السقاء يوم الحديبية

وقد استسقى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً يوم الحديبية حين نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه الجُحفة فلم يجد بها ماءً، وذلك بعد أن بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالروايا سعد بن أبي وقاص، فرجع مع السّقاة خالياً وهو يقول: يا رسول الله، لم استطع أن أمضي وقد وقفت قدماي رعباً من القوم.

فبعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بالروايا رجلاً آخر، فرجع هو الآخر مع السّقاة خالياً أيضاً، وقال كما قال الأول: يا رسول الله، ما استطعت أن أمضي رعباً.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حينئذ الإمام أمير المؤمنينصلى‌الله‌عليه‌وآله وأرسله بالروايا، فخرجعليه‌السلام بالسّقاة - ومعهم الروايا - وهم لا يشكّون في رجوعه خالياً كما رجع الذين من قَبله، حتّى إذا ورد الحرار استقى ثمّ أقبل مع السّقاة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالماء، ورآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والماء معه كبّر الله ودعا له بخير.

إرسال الماء إلى عثمان

كما إنّ التاريخ أثبت في صفحاته استقاء عليعليه‌السلام الماء وإرساله مع أولاده إلى عثمان وهو في الحصار الذي أوجده بنفسه على نفسه، وذلك بعد أن صُدّت السيّدة اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ومنعت، وأُريق الماء الذي كانت تحمله إلى عثمان.

كما وسقى جيش معاوية من الفرات لمّا استولىعليه‌السلام على الماء، وذلك بعد أن منعهم معاوية عنه قائلاً: اقتلوهم عطشاً.

١٠٩

استسقاء سبطي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

وهكذا كان الإمام الحسن المجتبى والإمام الحسينعليهما‌السلام ؛ فقد استسقى بهما لإبانة فضلهما أبوهما الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حين أضرّ الجدب بأهل الكوفة، فما أن أتمّ الإمام الحسن والإمام والحسينعليهما‌السلام حتّى هطلت السماء على أهل الكوفة بالماء، وأبدلت جدبهم بالخصب، وقحطهم بالغيث والبركة.

السقاية لأهل الكوفة

هذا ولم ينسَ التاريخ سقاية الإمام الحسينعليه‌السلام أهل العراق، وذلك بعد مغادرة مكة والمدينة متّجهاً نحو الكوفة وفي منزل شراف؛ حيث لمّا كان وقت السحر أمر فتيانه بأن يستقوا من الماء ويكثروا، ففعلوا ذلك وهم لا يعلمون أنّه لماذا أمرهمعليه‌السلام بالإكثار من الماء.

ثمّ ارتحلوا، وفي الطريق إذا بهم قد التقوا بالحُر وجيشه، وكان قد أضرّ بهم العطش، وأسعر قلوبهم حرّ الشمس وثقل الحديد، وهنا عرف الفتية الهدف من إكثار الماء عندما قال لهم الإمام الحسينعليه‌السلام : ((اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً)).

فقام الفتية بسقي القوم حتّى أرووهم من الماء، ثمّ اقبلوا يملؤون القصاع والأواني بالماء ويدنونها من الخيل، فإذا عبّت فيها ثلاثاً وأكثر وارتوت منه صبّوا بقية الماء عليها.

وكان آخر مَنْ جاء من جيش الحُر رجل يقال له: علي بن الطحان المحاربي، فلمّا رأى الإمام الحسين ما به وبفرسه من العطش قال له: ((أنخ الراوية)). أي الجمل المحمل بالماء، لكنه لم يعرف ما يفعل، فقال له: ((يابن أخي، أنخ الجمل)).

فأناخه، فقال له: ((اشرب)). فجعل كلّما يشرب سال الماء من السقاء، فقال له: ((أخنث السّقاء)). أي اعطفه، لكنه

١١٠

أيضاً لم يدرِ كيف يفعل، فقام الإمام الحسينعليه‌السلام بنفسه وخنث له السّقاء، وقال له: ((اشرب واسق فرسك)). فشرب وسقى فرسه أيضاً ورشّفه ترشيفاً.

سقاية العبّاس عليه‌السلام في الظروف الصعبة

واقتدى أبو الفضل العبّاس بأجداده وآبائه الطاهرين، وبأخويه الكريمين الإمامين الهمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام في السّقاية، وانتحل لنفسه بكل اعتزاز وافتخار لقب (السّقّاء)، وكان يقوم بالسّقاية في كلّ مناسبة وفي كلّ فرصة تتيح له القيام بها؛ وخاصةً في كربلاء وعلى الأخص عندما منع ابن سعد الماء عن الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه، وحرّمها عليهم بأمر من يزيد وابن زياد.

وكان ذلك في اليوم السابع من المحرم الحرام عام واحد وستين للهجرة، واستمرّ ذلك التحريم حتّى مساء يوم عاشوراء، هذا مع أنّ الفصل الزماني تلك السنة كان هو فصل الصيف، وصيف المنطقة الوسطى في العراق يكون حارّاً شديد الحرارة، وجافّاً كثير الجفاف.

وكان الذي يشدّد تلك الحرارة ويضاعف ما كان موجوداً هناك من الجفاف استعار نار الحرب وتطاير شررها، والتهام الأسنّة والسيوف نفوس الأعزّة وأرواح الإخوة والأحباب؛ فإنّ كلّ ذلك كان ممّا يزيد في التهاب القلوب واستعارها، ويؤثّر في شدّة عطشها وأوارها.

ومعلوم أنّ السّقاية في هذه الظروف الصعبة والقاسية كم يكون لها من أهمية كبيرة وعظيمة، خاصةً وأنّ السّاقي والحال هذه كم يكون له من مقام رفيع ودرجة عالية، وقد نال الحظّ الوافر من هذه السّقاية، وحصل على السهم الأكبر من ثوابها وأجرها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام حتّى قيل كما في كتب التاريخ

١١١

والأخبار؛ مثل تاريخ الخميس، وسرائر ابن إدريس: إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لمّا تعهّد سقي موكب كربلاء وإغداق الماء عليهم في أيّام محرّم وعشرة عاشوراء، وخاصةً أيام تحريم الماء عليهم ومنعه عنهم، لُقّب باللقب الكبير، ووسم بالوسام النبيل وسام (السّقاء).

السّقاء منذ الأيام الأولى

وروي على ما في ثمرات الأعواد: أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كان ذات يوم جالساً وحوله ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه الإمامان الهمامان الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وإلى جنبهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فعطش الإمام الحسينعليه‌السلام ، فعرف ذلك أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فقام وهو إذ [ ذاك ] صبي صغير وأقبل إلى الدار وقال لأُمّه اُمّ البنين: يا اُمّاه، إنّ سيّدي ومولاي الإمام الحسينعليه‌السلام عطشان، فهل لي إلى إيصال شربة من الماء العذب إليه من سبيل؟

فقالت له اُمّه اُمّ البنين بشغف وشفقة: نعم يا ولدي. ثمّ قامت مسرعة وأخذت معها قدحاً وملأته بالماء العذب ووضعته على رأس ولدها العبّاس، وقالت له وبكلّ رأفة وحنان: اذهب به إلى سيّدك ومولاك الإمام الحسينعليه‌السلام .

فأقبل العبّاسعليه‌السلام بالماء نحو الإمام الحسينعليه‌السلام والماء يتصبّب من القدح على كتفيه، فوقع عليه نظر أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ورآه قد حمل قدح الماء على رأسه والماء يتصبّب من القدح على كتفيه، تذكّر وقعة كربلاء فرقّ له، وقال وهو يخاطبه ودموعه تتقاطر على وجنتيه: ((ولدي عبّاس، أنت ساقي عطاشى كربلاء))؛ فسمّي من ذلك (السّقاء).

١١٢

الخصّيصة الثالثة عشرة

في أنّهعليه‌السلام ساقي عطاشى كربلاء

إذا كانَ ساقي الناسِ في الحشرِ حيدرٌ

فـساقي عُطاشى كربلاءِ أبو الفضلِ

على أنّ ساقي الناسِ في الحشرِ قلبُهُ

مـريعٌ وهـذا بـالظما قـلبُهُ يغلي

وقال السّيد جعفر الحلّي في سقاية العبّاسعليه‌السلام لعطاشى كربلاء:

وتشتكي العطشَ الفواطمُ عندهُ

وبصدرِ صعدتهِ الفراتُ المفعمُ

لو سدّ ذو القرنين دونَ ورودهِ

نـسـفتهُ همّتهُ بما هو أعظمُ

ولو استقى نهرَ المجرّةِ لارتقى

وطـويـلُ ذابـلهِ إليها سلّمُ

يصوّر الشاعر الموالي لأهل البيتعليهم‌السلام السّيد جعفر الحلي في هذه الأبيات الأخيرة جدارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لحمل وسام (ساقي عطاشى كربلاء)، وتأهّله للقيام بهذه المهمّة الشريفة، ويصفه بأنّه من عظيم همّته وكبير عزمه وشدّة غيرته لا يسمح لنفسه أن يرى واحدة من الفواطم تتلوّى عطشاً، ويسمع منها تشتكي ظمأً؛ فإنّه يوفّر لها الماء حتّى ولو كان بينه وبين الماء سداً منيعاً كسد ذي القرنين المعروف بالقوة والإحكام.

فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لو استقى من نهر المجرّة - ناهيك عن نهر الفرات - لجعل رمحه الطويل سلّماً يصعد عليه، ومدرجاً يرتقي عبره إلى السماء ليحمل منه الماء ويأتي به إليهم، وكذلك كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأنعم به شهماً غيوراً، وبطلاً مقداماً.

١١٣

أمران مهمّان

ثمّ إنّ في البيتين الأوّليين إشارة إلى أمرين مهمّين يتطلّبان الوقوف عندهما قليلاً، وهما كما يلي:

الأمر الأوّل: فيهما إشارة إلى مقام السّقاية وعظم مكانتها، والمماثَلة بين ساقيين أحدهما أعظم من الآخر وأكبر درجة عند الله، وهو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وذلك في يوم القيامة الكبرى وعلى حوض الكوثر، والآخر هو ابن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وذلك في يوم عاشوراء يوم القيامة الصغرى وعلى نهر الفرات.

الأمر الثاني: فيهما إشارة إلى عظمة الساقي وكبير فضله، والمقارنة بين موقفي الساقيين أحد الموقفين أرقّ من الموقف الآخر وأشجى للقلوب، وهو إنّ ساقي العطاشى في كربلاء أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام كان يغلي قلبه من شدّة العطش والظمأ، مع أنّ الساقي يقتضي أن يكون راوياً هانياً لأنّه صاحب ماء؛ إذ لو لم يكن له ماء فكيف يصحّ أن يكون ساقياً؟!

وهذا ما يبعث على تساؤل السامع عن أنّه كيف يمكن أن يكون ساقياً للماء وهو في نفس الوقت عطشان ويقضي ظامياً؟

نعم، إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام كان ساقياً للماء ومع ذلك كان عطشان وقضى ظامياً؛ مواساةً لسيّده وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام .

وكفى به كرماً ونبلاً، وعزّاً وشرفاً، وقد نحله الإمام الصادقعليه‌السلام على عمله الكبير هذا وساماً بقي ولا يزال إلى يوم القيامة فخراً ولآخرته ذخراً؛ وذلك حين خاطبه في زيارته المعروفة قائلاً: ((فنِعم الأخ المواسي)).

١١٤

السّقاية في القرآن والحديث

هذا ولا يخفى أنّ عمل السّقاية من الأعمال الشريفة، والأفعال الحسنة الجميلة التي امتدحها الله ورسوله، وندب إليها الإسلام والعقل، وحبّذها القرآن والسنّة، قال تعالى:( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ) .

وقال سبحانه:( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ) .

وقال تعالى:( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُوراً ) .

وقال (عزّ وجلّ) في حقّ موسى لمّا ورد ماء مدين ورأى امرأتين تذودان وهما تريدان الاستقاء:( فسقى لهما ) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أفضل الأعمال إبراد الكبد الحرّى)). يعني سقي الماء.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((أفضل الصدقة إبراد كبد حارّة، وأفضل الصدقة صدقة الماء)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((مَنْ سقى عطشانَ أعطاه الله بكل قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة، وسقاه من الرحيق المختوم، وإن كان في فلاة من الأرض ورد حياض القدس مع النبيِّين)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((إنّ الله تعالى يحبّ إبراد الكبد الحرّاء، ومَنْ سقى كبداً حرّاء من بهيمة وغيرها لأظلّه الله تعالى يوم لا ظلّ إلاّ ظله)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((ثمان خصال مَنْ عمل بها من اُمّتي حشره الله مع النبيِّين والصدّيقين والشهداء والصالحين... وأروى عطشانَ...)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((سبعة أسباب يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته... وحفر بئراً وأجرى نهراً...)).

١١٥

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((خمس مَنْ أتى الله بهنّ أو بواحدة منهنّ وجبت له الجنّة: مَنْ سقى هامة صادية...)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً لمن سأله أن يدلّه على عمل يدخل به الجنّة: ((اشترِ سقاءً جديداً ثمّ اسقي بها حتّى تخرقها، فإنك لا تخرقها حتّى تبلغ أعلى الجنّة)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه يوماً، وذلك بعد أن صلّى بهم الصبح: ((معشر أصحابي، رأيت البارحة عمّي حمزة بن عبد المطلب وأخي جعفر بن أبي طالب وبين أيديهما طبق من نبق، فأكلا ساعة ثمّ تحوّل النبق عنباً فأكلا ساعة، فتحوّل العنب رطباً، فدنوت منهما فقلت: بأبي أنتما! أي الأعمال وجدتما أفضل؟

قالا: فديناك بالآباء والاُمّهات! وجدنا أفضل الأعمال الصلاة عليك، وسقي الماء، وحبّ علي بن أبي طالب)).

وعن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال: ((مَنْ أطعم مؤمناً جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنّة، ومَنْ سقى مؤمناً ظامئاً سقاه الله من الرحيق المختوم)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ((قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ سقى مؤمناً شربة ماء من حيث يقدر على الماء أعطاه الله بكل شربة سبعين ألف حسنة، وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء فكأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل)).

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: ((مَنْ سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمَنْ أعتق رقبة، ومَنْ سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمَن أحيا نفساً، ومَنْ أحياها فكأنّما أحيا الناس أجمعين)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ((ما من مؤمن يطعم مؤمناً شبعة من طعام إلاّ أطعمه الله من طعام الجنّة، ولا سقاه ريّه إلاّ سقاه الله من الرحيق المختوم)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ((أربع مَنْ أتى بواحدة منهنّ دخل الجنّة: مَنْ سقى هامة ظامئة...)).

١١٦

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام لمَنْ كان معه في طريق مكة، وقد رأوا رجلاً قد استلقى تحت ظلال شجرة شوك الجمال: ((اذهب إليه وانظر ما به، لا يكون قد صرعه العطش)).

قال الراوي: فذهبت إليه وترجّلت عن مركبي، وأخذت أفحص عنه، فإذا هو رجل نصراني قد أضرّ به العطش، فأقبلت إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وأخبرته بخبره وقلت: إنّه رجل نصراني قد صرعه العطش. فقالعليه‌السلام : ((اذهب إليه بالماء واسقه، فإن لكلِّ كبد حرّاء أجر)).

وعن أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، عن آبائه، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه رأى ليلة المعراج في الجنّة صاحب الكلب الذي سقى الكلب ماءً وأنقذه من أن يموت عطشاً؛ يعني الرجل الذي أدخله الله تعالى الجنّة بسبب سقيه الحيوان وإروائه من الظمأ.

وروي عنهعليه‌السلام أيضاً: ((إنّ امرأة رأت في الصحراء كلباً ظامئاً قد أشرف على الموت من شدّة العطش، وكان هناك بئر بعيدة القعر قليل الماء، فدخلت البئر وملأت حذاءها ماءً وأخذته بفمها وخرجت، وسقت به ذلك الكلب حتّى ارتوى ونجا من الموت، فرحم الله تعالى تلك المرأة بعملها هذا، وعفا عنها وغفر لها)).

وروي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوضّأ فمرّت به هرّة وأخذت تنظر إلى الماء، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أظنّ هذه الهرّة عطشى)). ثمّ قرّب الماء إليها فشربت الهرّة منه ثمّ توضّأصلى‌الله‌عليه‌وآله بفضلتها.

العبّاس عليه‌السلام وسقايته الأولى

نعم، إنّ السِّقاية هي عمل الأبرار والصالحين، ودأب ذوي المكانات والمروءات، ولها أجر عظيم وثواب جزيل، وقد نال شرفها وحصل على أرفع

١١٧

وسام فيها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام .

ففي التاريخ: أنّه لمّا كتب ابن زياد إلى ابن سعد بأن يمنع الماء عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويحرّمه عن أهل بيته، قلّ الماء في الخيام وعند معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، فاستدعىعليه‌السلام أخاه العبّاس وضمّ إليه عشرين فارساً وأرسله إلى الفرات ليستقي لهم، والظاهر أنّ هذا الاستقاء كان في مساء يوم السابع من المحرّم، أي ليلة الثامن منه.

فأقبل العبّاسعليه‌السلام بهم نحو الفرات، وكان الوقت ليلاً والظلام قد طبق الكون، وغطّى بأجنحته السوداء كلّ مكان، وكان ما بين الفرسان العشرين هلال بن نافع البجلي، وكان بينه وبين الموكّل على الفرات عمرو بن الحجاج قرابة وصداقة، فتقدّم هلال الفرسان واقتحم الفرات فأحسّ به عمرو فصاح: مَنْ الوارد؟ أجاب هلال: أنا واحد من أولاد عمّك، جئت لأشرب الماء، فعرفه عمر وقال له: اشرب هنيئاً مريئاً.

هنا انتهز هلال الفرصة ليقدّم نصيحته لابن عمّه عمرو ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ولذلك قال له: يا عمرو، أتأذن لي بشرب الماء وتمنعه من ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وهم عطاشى؟!

هزّ هذا الكلام كيان عمرو وأوقفه على سوء فعله وشناعة أمره، لكنه سرعان ما غضّ عنه بصره، وأغفل عن وقعه قلبه، وأخذ يوجّه موقفه غير الإنساني بقوله: صحيح كلامك، ولكن ما أفعل والأمر ليس بيدي، وإنّما أنا مأمور وعليّ التنفيذ.

قرأ هلال عبر هذا الكلام كلّ ما يدور في نفس عمرو من تسويلات الشيطان، وكل ما يحمل في ذهنه من مكائد النفس والهوى؛ ولذلك أعرض عن جوابه وتوجّه نحو فرقة السِّقاية وقال: هلمّوا واملؤوا أوعيتكم من الماء.

اقتحمت فرقة السِّقاية وفي مقدّمتها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام الفرات وملؤوا أوعيتهم، وذلك بعد أن انقسموا إلى فرقتين: فرقة تقاتل الأعداء وتشغلهم بذلك، وفرقة يملؤون أوعيتهم، حتّى إذا فرغوا من ملء أوعيتهم واتّجهوا نحو الخيام

١١٨

تركت الفرقة الثانية القتال وأحاطوا بالفرقة الأولى وساروا معاً نحو المخيّم، وكان حصيلة هذه المهمّة قتل عدّة من جيش العدو، وجرح عدّة آخرين من محافظي الشريعة الذين كانوا يبلغون أربعة آلاف تحت قيادة عمرو بن الحجاج، ووصول أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ومَنْ معه بالماء إلى المخيّم سالمين.

وعلى إثر هذه المهمّة عُرف أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام حيث أوصل الماء بسلامة إلى الخيام بـ (السّقاء )، ولُقّب بساقي عطاشى كربلاء.

وكانت هذه السِّقاية التي قام بها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هي أُولى سقاياته في كربلاء بعد منع الماء عنهم وتحريمه عليهم، ومنها عُرف بالسّقاء. ولكن لم تكن هي الأولى والأخيرة، وإنّما كانت هناك سقايات اُخرى قام بها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في كربلاء أيام ضرب الحصار عليهم، نذكر منها ما يلي:

السِّقاية الثانية

جاء في هامش منتهى الآمال للمحدّث القمّي، عن كتاب المحاسن والمساوئ للبيهقي في ورود الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه بكربلاء ما مضمونه: أنّه كان بين معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام والفرات فاصلة قريبة، فحال الأعداء بين الإمام الحسينعليه‌السلام ومنعوا أصحابه من الوصول إليه، فصاح الشمر فيهم قائلاً: انظروا إلى هذا الماء كيف يجري كبطون الحيّات، لا ندعكم تذوقون منه شيئاً حتّى تردوا الحامية.

عندها التفت أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وقال: ألسنا على الحقّ؟ فأجابه الإمام الحسينعليه‌السلام : ((بلى والله، نحن على الحقّ)).

فاستلهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام من جواب أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام الإذن في الاستقاء، وطلب الماء للنساء والأطفال الذين أضرّ بهم

١١٩

العطش في الخيام فحمل عندها على القوم الموكّلين بالفرات حملة أزالهم عن الماء وكشفهم عن الشريعة، وخلّى الطريق بين معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام وبين الفرات حيث تسنّى للإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه أن يشربوا من الماء، ويحملوا منه معهم إلى النساء والأطفال، وكانت هذه السِّقاية على الظاهر في اليوم التاسع من المحرّم؛ وذلك بعد ورود الشمر في كربلاء.

السِّقاية الثالثة

ثمّ لمّا كان يوم عاشوراء وبدأ ابن سعد القتال، وشنّ الحرب على آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثر القتلى في صفوف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وبان الانكسار فيهم، عندها أخذ الإمام الحسينعليه‌السلام ينادي؛ إتماماً للحجّة ودفعاً للعذر: ((أما من مغيث يغيثنا! أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله !)).

فلمّا سمع ذلك أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أقبل إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فقبّل ما بين عينيه واستأذنه في البراز فلم يأذن له، وطلب منه الاستقاء للأطفال، فودّعه ممتثلاً أمره، وحمل القربة واتّجه نحو الفرات.

فلمّا أراد أن يقتحم الشريعة أحاطوا به ليمنعوه، ففرّقهم وهو يقول: أنا العبّاس بن علي، أنا ابن أُختكم الكلابيّة، أنا عطشان وأهل بيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عطاشى، وهم يذادون عن الماء وهو مباح على الخنازير والكلاب!

ثمّ دخل الفرات وملأ القربة وخرج بالماء نحو المخيّم، فاعترضه الموكّلون بالشريعة ليمنعوه من إيصال الماء إلى المخيّم، فقاتلهم وهو يقول:

أنا الذي اُعرفُ عند الزمجرهْ

بـابنِ عـليٍّ المسمّى حيدرهْ

إن أثـبتوا اليوم لنا يا كفرهْ

١٢٠