الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 264394
تحميل: 8838

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264394 / تحميل: 8838
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخصّيصة الثامنة عشرة

في أنّهعليه‌السلام بطل العلقمي

وهوى بجنبِ العلقميِّ فليتهُ

لـلشاربينَ بهِ يُدافُ العلقمُ

وقال السّيد الطحان:

جرّعتَ أعداءَكَ يومَ الوغى

فـي حدِّ ماضيكَ من العلقمِ

وقد بذلتَ النفسَ دونَ الحمى

مـجاهداً يـا بطلَ العلقمي

الياء في العلقمي ياء النسبة، والمراد به نهر علقمة، وهو نهر كان متفرّعاً من الفرات ومنشعباً منه، وكان يمرّ بأرض كربلاء وضواحيها ويسقيها جميعاً، وعلى مقربة منه صرع أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وسقط شهيداً، وذلك حيث يكون مرقده الشريف الآن.

قيل: إنّ هذا النهر - أي نهر العلقمي - كان هو النهر الوحيد الذي يجري في كربلاء أيام نزل الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته بها، وقد شهد هذا النهر بطولات كثيرة من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، بطولات روحية وجسمية معاً.

العلقمي وبطولات العبّاس عليه‌السلام الجسميّة

أمّا بطولات أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام الجسمية التي شهدها العلقمي منه فحدّث ولا حرج، فلقد كان أوكل ابن سعد عمرو بن الحجاج مع أربعة آلاف

١٤١

فارس على العلقمي يحموا ماءه ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويمنعونه من الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته، فاستقى العبّاسعليه‌السلام منه لمعسكر الإمام الحسينعليه‌السلام مرّات عديدة، وذلك بعد أن فرّق جموع الموكّلين به وبدّد شملهم.

ومن المعلوم أنّ تفريق أربعة آلاف فارس عن العلقمي، مع أنّ مهمّة هؤلاء الفرسان كان هو الحيلولة بينه وبين كلّ وارد إليه من أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وذلك بكل ما يملكونه من أسلحة وعتاد وجزم وعزم، هو أمر عظيم لا يقدر عليه أحد سوى أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، حيث كان يحمل عليهم كالليث الغضبان، ولا يعبأ بالسهام التي كانت تقبل نحوه كالمطر، فكان جسمه الشريف يصبح من كثرة ما يصيبه من النبل والسهام كالقنفذ وهو لا يكترث بشيء من ذلك، بل كان كلّ همّه اقتحام العلقمي والدخول فيه وحمل الماء إلى مخيّم الإمام الحسينعليه‌السلام ومعسكره، وكان يفعل في كلّ مرّة ذلك وبكلِّ جدارة.

العلقمي وبطولات العبّاسعليه‌السلام الروحية

وأمّا بطولات أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام الروحية التي شهدها العلقمي من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام فحدّث أيضاً ولا حرج، فإنّ مَنْ يستطيع تفريق أربعة آلاف فارس ويقدر على تبديد جمعهم، صحيح أنّه دليل على بطولته الجسمية الجسدية.

ولكن لولا قدرته الروحية الكبيرة التي لا تهاب من الإقدام على الموت، ولا ترهب من اقتحام لجج الحرب المدمرّة لَما كان يستطيع التقدّم نحو العدو حتّى شبراً واحداً، ولا أن يدنو من العلقمي بمقدار أنملة، فكيف بأن يقتحمه ويملأ الوعاء منه؟ فما ظهور بطولته الجسمية وبروز قوته الجسدية إلاّ عن دافع الروح القوية وقدرتها المعنوية العالية.

١٤٢

ألم تسمع بخبر ابن الحنفية في وقعة الجمل، وذلك على ما اشتهر عليه ابن الحنفية من البطولة والشجاعة؟ فإنّه لمّا أمره أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام بأن يحمل على القوم تريّث وأبطأ عن مهاجمتهم ومداهمتهم، فلمّا استفسرعليه‌السلام منه عن سبب تثاقله؟ أجاب: بأنّه يتريّث انقطاع رشق السهام التي تتوالى نحوه كالمطر. فدفععليه‌السلام في صدره وقال له: ((لقد أصابك عرق من اُمّك)).

ممّا يظهر منه أن موقف ابن الحنفية من رشق السهام، مع قوّته الجسدية الفائقة، كانت قد نتجت عن ضعف الروح التي لحقته من اُمّه، وإلاّ فأبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو مَنْ يُضرب بقوة روحه وعلو معنوياته المثل، بينما اُمّ أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هي اُمّ البنينعليها‌السلام المعروفة ببيتها العريق في الشجاعة والبطولة، والتي قد ورثت من آبائها الفروسية والشهامة، وورّثتهما ابنها أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام .

فأبو الفضل وريث شجاعة أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام واُمّه اُمّ البنينعليها‌السلام ، ولا كلام في شجاعة مثلهعليه‌السلام روحاً وجسداً.

المواساة: بطولة معنوية

أضف إلى كلّ ذلك بطولته الروحية الاُخرى التي هي أعظم كلّ البطولات الروحية، وأكبر كلّ القدرات المعنوية التي شهدها العلقمي من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ألا وهي بطولة المواساة وقدرة التغلّب على النفس، وزمّ جماحها إلى الماء وتلهّفها إلى شربه.

فإنّ إنساناً مثل أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام قد كابد شحّ الماء وقلّته، وأعطى حصّته من الماء لأطفال أخيه العطاشى، وعانى من ثقل الحديد ومطاردة الأعداء، وعانى حرّ الشمس وحرّ الحرب حتّى أصبح فؤاده كالجمر، وقلبه كالبركان، قد دخل العلقمي وأحسّ ببرده، فكان من الطبيعي له وبدافع حسّ العطش الكبير والظمأ الشديد، وعبر حركة طبيعية أن تمتدّ يداه إلى الماء

١٤٣

وتغترف منه غرفة لتقرّبه من فمه، حتّى يُطفئ بها فورة العطش، ويُخمد عبرها أوار الظمأ، وكانت هذه الغَرفة من الماء وتعقيبها بثانية وثالثة واستساغتها.

ولكن حاشا لمثل أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ربيب أمير المؤمنينعليه‌السلام والمترعرع في حجر اُمّ البنينعليها‌السلام أن ينزل إلى ما تتطلّبه طبيعته الجسدية، ويسف إلى مستوى غرائزه الجسمية، وقد تعلّم من أبيه واُمّه كيف يحلّق في سماء الفضيلة ويعلو في أجواء المعنويات الروحية، وكيف يكبح جماح نفسه ويغلب فورة هواه؛ ولذلك عندما قرّب الماء من فمه وتذكّر عطش أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام صبّ الماء على الماء، وملأ القربة ماءً وخرج من العلقمي متّجهاً نحو الخيام، وهو يخاطب نفسه ويقول:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبـعدهُ لا كنتِ أنْ تـكوني

هـذا الـحسينُ واردُ المنونِ

وتـشـربـينَ باردَ المعينِ

تاللهِ مـا هـذا فـعـالُ ديني

ولا فـعـالُ صـادق اليقينِ

جفاف العلقمي واندثاره

نعم، لقد شهد العلقمي هذه البطولات الروحية والجسمية من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وأعجب بها كما أعجب بصاحبها الأبي وراعيها الوفي أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وراح يهتزّ له سروراً، ويموج به مرحاً، ويتبختر اعتزازاً وافتخاراً.

لكنه لمّا شهد مصرع هذا الشهم النفل، واغتيال هذا الطاهر المبارك على مقربة من شواطئه وسواحله، وضفافه وحافّته وهو ظامئ عطشان، وذلك على أيدي الغدرة الفجرة، والخونة الكفرة، اُصيب بخيبة أمل كبيرة، وفجع بمَنْ كان قد اعتزّ به وافتخر، وبقي متحيّراً لا يدري ما يفعل، ولا يعرف كيف يتصرّف في ردّ فعل منه على هذه الاُمور الصعبة التي وقعت بجواره، والظروف القاسية التي جرت على

١٤٤

مرأى منه ومسمع. حتّى إذا وقف على ضفافه الإمام الصادقعليه‌السلام وخاطبه قائلاً: ((إلى الآن تجري - يا علقمي - وقد حرم جدّي منك؟!)).

وبراوية معالي السبطين: أنّه وقف عليه الإمام زين العابدينعليه‌السلام عند رجوعه من الشام وخاطبه بقوله: ((منعت ماءك - يا علقمي - عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وتجري؟!)). فاستحيى العلقمي من ذلك وعرف من مخاطبة الإمام الصادقعليه‌السلام ، ومخاطبة الإمام السجادعليه‌السلام له كيف يتعامل مع الواقع المرّ الذي شهده، والمنظر المفجع الذي رآه؛ فغار من حينه وجفّ الماء، وصار العلقمي بعد ذلك أثراً تاريخياً مسطوراً في كتب التاريخ، ومدوّناً في ذاكرة الأيام، حيث صار العبّاسعليه‌السلام ينسب في بطولته وشجاعته إلى هذا النهر، ويعرف من بعد ذلك ببطل العلقمي.

ولنِعم ما قيل في هذا المعنى:

يـا مـنْ إذا ذُكرتْ لديهِ كربلا

لـطمَ الـخدودَ ودمعهُ قد أهملا

مهما تمرُّ على الفراتِ فقل: ألا

بُـعداً لـشطّكَ يا فراتُ فمرّ لا

تـحلو فـإنّكَ لا هنيّ ولا مري

أيُـذادُ نسلُ الطاهرينَ أباً وجدْ

عن ورودِ ماءٍ قد أُبيحَ لمَنْ وردْ

لو كنتَ يا ماءَ الفراتِ مِنَ الشّهَدْ

أيسوغُ لي منكَ الورودُ وعنكَ قدْ

صُـدّ الإمامُ سليلُ ساقي الكوثرِ

١٤٥

الخصّيصة التاسعة عشرة

في أنّهعليه‌السلام كبش الكتيبة

عـبّاسُ كبش كتيبتي وكنانتي

وسريّ قومي بل أعزُّ حصوني

وقال الأُزري في رثائه للعبّاسعليه‌السلام :

اليومُ بانَ عن الكتائبِ كبشُها

اليومُ فلَّ عن البنودِ نظامُها

الكبش يطلق على البطل الشجاع الذي يعجز عن مقاومته الأبطال والشجعان، علماً أنّ الشجاعة هي قوّة القلب، ورباطة الجأش، فقد روي: أنّ كسرى أنوشيروان سأل الحكيم (بوذر جمهر) عن الشجاعة ما هي، فأجاب: إنّها قوّة القلب.

فقال له كسرى: لم لا تقول إنّها قوّة اليد؟

فأجاب: إنّ قوّة اليد فرع على قوّة القلب.

كما يطلق الكبش أيضاً على مقدّم الجيش أميراً كان وملكاً، ويطلق أيضاً على سيّد القوم وقائدهم، والكتيبة يعني الجيش.

وفي العرف: إنّ الكبش لا يطلق في الحرب على أحد إلاّ على مَنْ تكاملت فيه معاني البطولة، واجتمعت فيه خصال الرجولة والفروسيّة؛ ولذلك لم يطلقوا هذا اللّقب في الإسلام على أحد قبل أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام إلاّ على الأشتر مالك بن حارث النخعي صاحب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث كانوا يطلقون عليه لقب كبش العراق، وقد عُرف به.

١٤٦

كبش الكتيبة وسام عظيم

ثمّ إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الذي فاز بهذا اللقب الكبير (كبش الكتيبة) من بين أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأهل بيته الذين استشهدوا معه في يوم عاشوراء، ولقد وسمه به أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومنحه إيّاه تقديراً على شجاعته وبطولته، وتبجيلاً إيّاه على شهامته ومراجله.

فلقد كان ظهراً للإمام الحسينعليه‌السلام على أعدائه، وأمناً لنسائه وأطفاله، ورعباً في قلوب مناوئيه والمجتمعين على قتاله، فإنّ جيش ابن سعد كانوا يهابونه مهابة الكلب الأجرب من الأسد الغاضب، ويخافون منه مخالفة الثعلب الجبان من الليث الغضبان.

وما قصة عرض الأمان عليه الذي جاء به الشمر من عند ابن زياد، ولعبة إغرائه بالمال، وعرض إمارة جيش ابن زياد عليه إلاّ خوفاً من سيفه وصارمه، وذعراً من صولاته وسطواته، وتخلّصاً من شدّته وبأسه. فلقد كانوا عرفوه من صفّين وهابوه منها؛ لِما أبدى فيها من شجاعة وشهامة، وصلابة وبسالة فكانوا لا ينامون ولا يهدؤون خوفاً من قوّة ساعده وفتك صمصامه، حتّى قيل فيه:

قسماً بصارمهِ الصقيلِ وإنّني

في غيرِ صاعقةِ السما لا أقسمُ

لولا القضا لمحا الوجودَ بسيفهِ

واللهُ يـقضي ما يشاءُ ويحكمُ

مصرع كبش الكتيبة

ولذلك لما صرع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام واستشهد صابراً مظلوماً، اشتدّ الحال على الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقال حين وقف على مصرعه معبّراً عن ذلك: ((الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي)).

وأمّا حال المعسكرين: معسكر

١٤٧

الإمام الحسينعليه‌السلام من نساء وأطفال، ومعسكر ابن سعد من خيّالة ورجالة، فقد أصبح كما قال الأُزري فيهم:

اليوم نامتْ أعينٌ بكَ لمْ تنم

وتسهّدتْ اُخرى فعزَّ منامُها

يعني إنّ أعين الأعداء التي كانت قد بقيت ساهرة خوفاً من سيف أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وصارمه، وذعراً من سطوته وصولته، قد آمنت بعد مصرعه، ونامت هانئة بعد مقتله.

بينما حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأطفال والنساء الذين كانوا يعتزّون بوجود أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ويفتخرون بأنّه في معسكرهم، وينامون آمنين؛ لأن عيني أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ساهرة في حمايتهم، ويرقدون مطمئنّين؛ لأنّ قلب أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام يقظان لحراستهم، أصبحوا بعد قتله خائفين، وعلى إثر مصرعه وجلين؛ قد تسهّدت عيونهم وقلقت قلوبهم، فعزّ منامهم وسهرت جفونهم، واستسلموا للأسر والسبي، وتوقّعوا السلب والنهب، وقد وقع كلّ ذلك بعد استشهاد كبش الكتيبة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

إني كبش كتيبتك

ثمّ إنّه جاء في بعض كتب المقاتل: أنّه لمّا أقبل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مصرع أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ورآه بتلك الحالة، وقال فيه ما يقوله الأخ الشقيق في فراق أخيه العزيز، أراد أن يحمله بعدها إلى المخيّم، فقال له العبّاسعليه‌السلام : ما تريد أن تفعل يا أخي؟

فقالعليه‌السلام : ((اُريد أن أحملك إلى المخيّم)).

فقال العبّاسعليه‌السلام : سألتك بحقّ جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تركتني في مكاني هذا.

فقالعليه‌السلام : ((ولماذا يا أخي يا أبا الفضل؟)).

فقال أبو الفضلعليه‌السلام : إني مستحٍ من ابنتك سكينة، فقد وعدتها بالماء ولم آتها به، ثمّ إنّي كبش كتيبتك فإذا رآني أصحابك

١٤٨

مقتولاً فلربما قلّ عزمهم ووهنت إرادتهم.

فقال له أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو يشكره على موقفه الجميل وشعوره الطيّب: ((جُزيت عن أخيك خيراً، فلقد نصرته حيّاً وميّتاً)).

وهكذا كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فلقد نصر أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام في حياته ولم يقصّر عن نصرته حتّى بعد مصرعه واستشهاده، وكلامه المذكور آنفاً إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كبير وفائه، وعظيم إخلاصه، وتأدّبه مع أخيه وسيّده أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وأهل بيته.

كما إنّه يدلّ على مهارته بفنون الحرب وخبرته بتعاليم القتال والمجابهة، ممّا يدلّ كلّ ذلك على إنّهعليه‌السلام قد نال بجدارة وسام كبش الكتيبة، وكبش كتيبة الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٤٩

الخصّيصة العشرون

في أنّهعليه‌السلام حامي الظعينة

حامي الظعينةِ أينَ منهُ ربيعةٌ

أم أيـنَ مـن عليا أبيهِ مكدّمُ

فـي كتفهِ اليسرى السقاءُ يُقلّهُ

وبكفّهِ اليمنى الحسامُ المخذّمُ

مـثـلُ السحابةِ للفواطمِ ريّهُ

ويصيبُ حاصبهُ العدوّ فيرجمُ

الظعينة هي المرأة في الهودج، وجمع الظعينة هو: ظعائن وظُعُن. وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو حامي الظعينة، وحامي الظعن، وحامي ظعينة كربلاء، وحامي ظعينة الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل حامي ظعن الرسالة والنبوّة، كما كان أخوه الإمام أبو عبد الله الحسين حامي الشريعة وأحكامها، وحافظ الكتاب وحدوده، ومن أحكام الشريعة وحدود الكتاب حماية الظعن وكفالة الظعينة.

فكان الإمام الحسينعليه‌السلام كباقي الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام هو حافظ أساس هذا الحكم الإنساني والإسلامي، وحامي أصله وفرعه، وقد وكّل أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لهذه المهمّة الإنسانية والإسلاميّة وهي حماية الظعن، حتّى يقوم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بحماية موكب النساء والأطفال ذراري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحريمه الذين اصطحبهم معه في سفره إلى العراق، فقام بها أحسن قيام، وأدّاها أجمل أداء حتّى عُرف منها بهذا اللقب الكريم، ووسم بهذا الوسام العظيم حامي الظعينة.

١٥٠

إنّ الغيرة الإسلاميّة والإنسانية، والكرامة النفسية والاجتماعية تحثّ الإنسان إلى حماية نسائه وأطفاله، وتحضّه على توفير الأمن والأمان لهم، وتدعوه إلى حياطتهم ورعايتهم، وذلك في كلّ مكان وزمان، في السفر والحضر، وفي الحلّ والترحال، وفي النزول والركوب.

ومَنْ أولى برعاية هذا الخلق النبيل من مؤسس الأخلاق ومهذّبه، ومعلم الإنسانية ومزكّيها، ومبلّغ الإسلام وحاميه الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من أهل بيتهعليهم‌السلام ؟

ولذلك كانواعليهم‌السلام إذا أرادوا بنسائهم وأطفالهم السفر أركبوهم في هوادج مغطّاة بأغطية ومسدلة بستور حتّى يأمنوا من نظر الأجانب، ويحفظوا من الحرّ والبرد، وكذلك فعل الإمام الحسينعليه‌السلام حين خرج بنسائه وأطفاله من مدينة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله متّجهاً نحو مكّة المكرّمة ومنها إلى العراق، وأوكل بذلك أخاه الأغر وعضيده الوفي أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام .

وكان موكب النساء على إثر ذلك قرير العين هادئ البال، مطمئن النفس والقلب، إذ على رأسه سيّده الإمام الحسينعليه‌السلام ، وفي حمايته أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام وسائر أبطال بني هاشم.

مع ربيعة بن مكدم

وفي البيت الأول الذي جعلناه مطلع هذه الخصّيصة يقول ناظمها السّيد جعفر الحلّي وهو يخاطب أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام : لقد نال أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام وبكلّ جدارة لقب حامي الظعينة، وتفوّق في تضحيته من أجل ظعائن الرسالة والإمامة على جميع أقرانه ممّنْ ضرب به المثل في هذا المجال، كربيعة بن مكدم الكناني.

وكان ربيعة واحداً من بني فراس بن غنم، حيث عُرف بحامي الظعن حيّاً وميّتاً، وأثنى عليه الشعراء وتغنّوا بموقفه الشجاع فخراً واعتزازاً، وترنّموا بكبير

١٥١

شهامته وشدّة غيرته على ظعنه في كلّ موطن وموقف.

وكان من قصته على ما حكي من مجمع الأمثال عن أبي عبيدة: إنّ نبيشة بن حبيب السلمي خرج غازياً، فلقي ظعناً من كنانة بالكديد فأراد أن يحتويها، فمانعه ربيعة بن مكدم في فوارس، وكان غلاماً له ذؤابة، فشدّ نبيشة فطعنه في عضده، فأتى ربيعة اُمّه فقال:

شدّي عليَّ العصبَ اُمَّ سيّارْ

فـقد رُزئتُ فارساً كالدينارْ

فأجابته اُمّه قائلة:

إنّـا بنو ربيعة بنِ مالكِ

نُـزرأُ في خيارنا كذلكِ

ما بينَ مقتولٍ وبينَ هالكِ

ثمّ ضمّدت له جراحه وعصّبته، فلمّا أراد أن يذهب إلى القوم استسقاها ماءً، فقالت له اُمّه: اذهب فقاتل القوم، فإنّ الماء لا يفوتك.

فرجع فكرّ على القوم فكشفهم، ورجع إلى الظعن وقال لهنّ: إنّي ميّت من هذه الطعنة، ولكن سأحميكنّ ميّتاً كما حميتكنّ حيّاً؛ وذلك بأن أقف بفرسي على العقبة وأتّكئ على رمحي، فإذا فاضت نفسي كان الرمح عمادي، فالنجاء النجاء؛ فإنّي أردّ بعملي هذا وجوه القوم ساعة من النهار.

فقطعت الظعن العقبة، ووقف هو بإزاء القوم على فرسه متّكئاً على رمحه، ونزف من الدم إلى أن فاضت روحه، ومات وهو يتمنّى أن يأتي إليه مَنْ يحمله إلى أهله ويجعله بينهم، ولكن خاب أمله ومات وهو معتمد على رمحه كأنّه حي، والقوم بإزائه يحجمون عن الإقدام عليه.

فلمّا طال وقوفه في مكانه ورأوه لا يزول عنه رموا فرسه، فقمص الفرس وسقط ربيعة لوجهه على الأرض فعلموا أنّه ميّت، فتوجّه القوم عندها لطلب الظعن فلم يلحقوهنّ. ومن هذه القصّة اشتهر أنّه لم يعرف قتيل حمى الظعائن مثل ربيعة بن مكدم.

١٥٢

بين ربيعة والعبّاس عليه‌السلام

ولكن أين ربيعة بن مكدم من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؟ إنّ ربيعة لو كان حيّاً لافتخر بغيرة العبّاس على ظعائنه، ولاندهش من شدّة غيرته، وعظيم حيطته ورعايته لظعائنه، إنّ ربيعة لمّا طعن راح يلتجئ إلى اُمّه كي تضمّد جرحه وتعصّبه، فتقوم اُمّه بتشجيعه وبعث الحمية فيه، بينما العبّاسعليه‌السلام لمّا قطعوا يمينه أخذ يرتجز ويقول ما يبعث الغيرة في نفس كلّ سامع، والحمية في قلب كلّ إنسان حرٍّ، إنّه كان يقول: يمناي لديني ولإمامي - اللذين علّماني حماية الظعن والغيرة على الأهل والعيال، وخاصّةً على مثل ربيبات الرسالة والإمامة - الفداء والوقاء.

نعم، إنّ ربيعة بن مكدم يطلب الماء من اُمّه ليروي به عطشه فتصرفه اُمّه عن شرب الماء، وتوقفه على أنّ حماية الظعن أهمّ من انشغالك بشرب الماء وهنّ معرّضات للخطر، بينما أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام يدخل العلقمي فاتحاً للماء، ويقتحمه مستولياً عليه، ويدني الماء من فمه ويقرّبه إلى فيه بلا أي مانع ولا رادع، ودون أي انشغال به، وتثبّط له على الأمر الأهم الذي هو حماية ظعائن الرسالة والإمامة.

فإنّهعليه‌السلام مع أنّ الماء في متناوله ورحابه، والشرب جائزاً له ومباحاً عليه، أعرض عن شرب الماء مواساةً لأخيه وسيّده الإمام الحسينعليه‌السلام ولظعائن النبوّة والولاية، وصرف نفسه عن الالتذاذ بشرب الماء مع شدّة العطش وعظيم ظمأه؛ ليشتغل بالأهم من ذلك ألا وهو حماية الظعن والسّقاية لهنّ.

إنّ ربيعة يقف بفرسه على العقبة ويتّكئ على رمحه حتّى إذا نزف دمه ومات يبقى معتمداً على رمحه؛ إنّه أراد بذلك ردّ وجوه القوم عن الظعائن ساعة من النهار، ثمّ لمّا رموا فرسه، قمص الفرس، سقط على وجهه إلى الأرض ميّتاً.

١٥٣

فعل ربيعة كلّ ذلك ولكنه كان يتمنّى عند سقوطه أن يأتي إليه مَنْ يحمله إلى أهله، ويجعله بين أسرته وينقذه من غربته ووحدته، بينما أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام لمّا سقط من على ظهر جواده وأتاه أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام كالصقر المنقض، وأراد أن يحمله إلى المخيّم يأبى عليه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ذلك، ويقسمه بحقّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعه في مكانه؛ حتّى لا تندهش الظعائن بقتله، ولا تنذعر ربيبات الرسالة والإمامة بنبأ استشهاده، وحتّى لا يستسبع العدو لفقده، ولا يتجاسر على اقتحام المخيّم بعد موته ولو ساعة من النهار، أي بمقدار ما بقي خبر شهادته مخفيّاً عليهنّ وعليهم.

الإمام الحسين عليه‌السلام وحماية الظعائن

وهكذا فاق أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كلّ أقرانه في هذه المكرمة النبيلة، وزاد عليهم أيضاً في التضحية من أجلها، والفداء في حمايتها حيّاً وميّتاً، حتّى صار هو وحده الجدير بهذا اللقب الكريم حامي الظعينة.

نعم، إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو الإمام المنصوص عليه من عند الله تبارك وتعالى، والإمام المنصوص عليه هو إمام في كلّ المحاسن والمكارم ومنها مكرمة حماية الظعن؛ ولذلك يكون الإمام الحسينعليه‌السلام هو السبّاق حتّى في هذه المكرمة.

ويكفي له دليلاً موقفهعليه‌السلام بعد سقوطه من ظهر جواده في يوم عاشوراء؛ حيث إنّهعليه‌السلام بقي بعدها مدّة طريح الأرض وقد أعياه نزف الدم، والقوم يهابون الدنوّ منه والاقتراب إليه، وقد اختلفوا بينهم في حياته وموته، فمن قائل: إنّه قد مات، ومن قائل: إنّه لم يمُت، وإنّما عمل هذا مكيدة.

فقال شمر بن ذي الجوشن: اقصدوا مخيّمه؛ فإن كان حيّاً لم تدعه غيرته الهاشمية أن يسكت عنكم

١٥٤

فقصدوا الخيام فتصارخت النسوة وعلا أصواتهن، فأراد الإمام الحسينعليه‌السلام النهوض إليهم فلم يستطع، فنادى بهم: ((ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً)).

فناداه شمر وقال: ما تقول يابن فاطمة؟

قال: ((أقول: أنا الذي أُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً)).

فقال شمر: لك هذا.

ثمّ صاح بالقوم: إليكم عن حرم الرجل فاقصدوه في نفسه، فلعمري لهو كفؤ كريم. فقصده القوم وعطفوا عليه.

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الحسيني حيث يقول:

قالَ اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي

قـد حـانَ حيني وقد لاحتْ لوائحهُ

فالإمام الحسينعليه‌السلام إذاً مؤسّس هذه المكارم والمضحّي من أجلها، وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو خير مَنْ اقتدى بأخيه وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وفاز السّبق في هذه المكرمة، ونال وسام حامي الظعينة وحامي الظعن، وحامي ظعينة الإمام الحسينعليه‌السلام بجدارة.

١٥٥

الخصّيصة الواحدة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام المعروف بسبع القنطرة

السبع: يُقال للأسد ولكلّ حيوان مقدام فتّاك، ويطلق على الرجل الشجاع البالغ في الشجاعة والإقدام.

والقنطرة: يقال للجسر، ولكلّ ما بني على الماء من أنهار وجداول للعبور.

وسبع القنطرة يعني الرجل الشجاع الذي حمى الجسر من عبور الأعداء عليه، وأثبت من نفسه جدارة الحراسة للجسر، وسجّل عليه مواقف بطولية مشرّفة.

كيف عرف عليه‌السلام بهذه الخصّيصة؟

وإنّما عُرف أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بسبع القنطرة؛ لأنّه - على ما روي - قد أبدى من نفسه في حرب النهروان - والنهروان بلد من بغداد بأربعة فراسخ - جدارة عالية في حراسة القنطرة، والجسر الذي كان قد أوكله أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام مع مجموعة من الفرسان بحفظه يوم النهروان من الخوارج، وسجّل عليه مواقف شجاعة وبطولات هاشمية مشرّفة.

فإنّه لم يدع بشجاعته وبسالته جيش الخوارج أن يعبروا من عليه، ولا أن يجتازوه إلى حيث يريدون، بل صمد أمامهم بسيفه وصارمه، وصدّهم عمّا كانوا ينوونه بعزمه وبأسه؛ ولذلك لمّا دخل وقت

١٥٦

الصلاة وطلب الإمام أمير المؤمنين ماءً يتوضّأ به أقبل فارس والإمامعليه‌السلام يتوضّأ، وقال: يا أمير المؤمنين، لقد عبر القوم - ويقصد بهم الخوارج - وإنهم عبروا القنطرة التي أوكل بها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ابنه العبّاسعليه‌السلام مع مجموعة من الفرسان.

فلم يرفع الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إليه رأسه، ولم يلتفت إليه؛ وذلك وثوقاً منه بشجاعة ولده المقدام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام الذي أوكله بحفظ القنطرة من سيطرة الأعداء، وأمره بحراستها من عبورهم عليها وتجاوزهم عنها.

هذا مضافاً إلى ما أخبره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله في شأن الخوارج، وما يؤول إليه أمرهم وفتنتهم، وما أطلعهصلى‌الله‌عليه‌وآله على جزئيات قضيّتهم، وكيفية مقاتلتهم له، ومواقع نزولهم وركوبهم، وسوء عواقبهم ومصارعهم.

على إثر ذلك كلّه أجاب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ذلك الفارس بقوله: ((إنّهم ما عبروا ولا يعبرونه، ولا يفلت منهم إلاّ دون العشرة، ويقتل منكم إلاّ دون العشرة)). ثمّ قالعليه‌السلام : يؤكد ذلك: ((والله ما كذبتُ ولا كُذّبت)). فتعجّب الناس من كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام لذلك الفارس.

وكان هنالك مع الإمام رجل وهو في شكّ من أمره فقال: إن صحّ ما قال فلا أحتاج بعده إلى دليل غيره، فبينما هم كذلك إذ أقبل فارس فقال: يا أمير المؤمنين، القوم على ما ذكرت لم يعبروا القنطرة.

مع خوارج النهروان

ثمّ إنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام صلّى بالناس صلاة الظهر وأمرهم بالمسير إليهم وهم دون القنطرة، ثمّ حملعليه‌السلام عليهم بأصحابه حملة رجل واحد، وذلك

١٥٧

بعد أن أتمّعليه‌السلام الحجّة عليهم، واستتابهم ممّا جنوه من قتل عبد الله بن خباب وبَقْر بطن زوجته وإخراج طفلها وقتله، فرجع منهم ثمانية آلاف وبقي أربعة آلاف لم يتوبوا، وقالوا له: لنقتلنّك كما قتلناه.

فحملعليه‌السلام عليهم، واختلطوا فلم يكن إلاّ ساعة حتّى قتلوا بأجمعهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة أنفس؛ فرجلان هربا إلى خراسان وإلى أرض سجستان وبهما نسلهما، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يسمّى السّن، ورجلان صارا إلى بلاد عمّان وفيها نسلهما إلى الآن، ورجلان صارا إلى بلاد اليمن، ورجل آخر هرب إلى البرّ ثمّ بعد ذلك دخل الكوفة وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

كما إنّه لم يقتل من أصحاب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ تسعة، فكان كما أخبر به أمير المؤمنينعليه‌السلام تماماً من دون زيادة ولا نقصان.

١٥٨

الخصّيصة الثانية والعشرون

في أنّهعليه‌السلام المعروف بالضيغم

حتّى إذا اشتبكَ النزالُ وصرّحتْ

صـيدُ الرجالِ بما تجنُّ وتكتمُ

وقـعَ العذابُ على جيوشِ أُميّةٍ

مـن باسلٍ هو في الوقائعِ معلمُ

ما راعـهم إلاّ تقحّمُ ضيغمٍ

غـيـرانَ يـعجمُ لفظهُ ويدمدمُ

الضيغم هو الأسد، ويقال: للرجل الشجاع البالغ في الشهامة والشجاعة، والبطولة والإقدام، وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام عُرف بين الناس بالضيغم؛ لكبير شهامته وعظيم شجاعته، وشدّة بأسه وخفّة ساعده. فقد كان إذا قابله العدو وواجهه ضربه بضربة قاضية تأتي على حياته، ولكن من سرعة الضربة وخفّة الساعد، وحدّة السيف وقوّة القبضة كان لا يلتفت المضروب إلى ما جرى عليه.

فلو أنّهعليه‌السلام كان قد ضرب رقبته بقي رأسه ثابتاً على جثّته، فإذا فرّ لينجو بنفسه وتحرّك سبقه الرأس متقدّماً على الجثّة وسقط ومات.

وقد وصف السّيد جعفر الحلّي هذا المعنى من شجاعة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في قصيدته حيث يقول:

ما كرَّ ذو بأسٍ لهُ متقدّماً

إلاّ وفـرَّ ورأسهُ المتقدّمُ

مع أبي أيوب الهمداني

وجاء في كتاب صفّين لنصر بن مزاحم، عن أبي روق الهمداني، عن أبيه،

١٥٩

عن عمّ له يدعى بأبي أيوب قال: حمل يومئذ أبو أيوب على صفوف أهل الشام ثمّ رجع، فوافق رجلاً صادراً قد حمل على صفوف أهل العراق، ثمّ رجع فاختلفا بضربتين، فنفحه أبو أيوب فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو، وكذب الناس أن يكون أبو أيوب قد ضربه، وأرابهم أمره، حتّى إذا دخل في صفوف أهل الشام وقع ميّتاً وندر رأسه، فقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ((والله، لأنا من ثبات رأس الرجل أشدّ تعجّباً منّي لضربته! وإن كان إليها ينتهي وصف الضارب)).

وغدا أبو أيوب إلى القتال، فقال له عليعليه‌السلام : ((أنت كما قال القائل:

وعلّمنا الضربَ آباؤنا

وسوفَ نعلّمه أيضاً بنينا))

من مواقف العبّاس عليه‌السلام في صفين

ولقد جاء في كتاب الكبريت الأحمر وغيره: بأن أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام قد اشترك مع أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام في حرب صفّين وأبدى من نفسه مواقف بطولية مشرّفة، أثبتت جدارته لمنازلة الأبطال ومقارعة الأقران، ولعلّه منها ومن أمثالها عُرف عند الناس بالضيغم واشتهر لديهم به.

ومن تلك المواقف الشجاعة موقف احتلال الفرات وإزاحة جيش معاوية عن الماء؛ فإنّ معاوية كان قد سيطر على الفرات ووكّل به آلاف المقاتلين ليمنعوه عن معسكر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حتّى أضرّ العطش بجيش الإمامعليه‌السلام ، وعند ذلك ألقى الإمامعليه‌السلام خطبة حماسية على أصحابه حرّضهم فيها على احتلال الفرات، ثمّ انتدب لهذا الأمر سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسينعليه‌السلام ، فحمل الإمام الحسينعليه‌السلام مع جماعة من الفرسان، وكان يعضده أخوه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام حتّى احتلّوا الفرات، وأزاحوا جيش معاوية عنه وارتووا من الماء.

ثمّ إنهم لم يقابلوا معاوية بالمثل وإنّما أباحوا الماء لهم، ولم يمنعوهم عنه.

١٦٠