الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 264331
تحميل: 8838

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264331 / تحميل: 8838
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أبو طالبعليه‌السلام ظهر النبوّة

ثمّ إنّه لمّا رأى المشركون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، ورأوا أنّ عمه أبا طالبعليه‌السلام قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلّمه لهم، مشى ملأ منهم إلى أبي طالبعليه‌السلام وقالوا له: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا؛ فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه.

فقال أبو طالبعليه‌السلام في جوابهم قولاً رفيقاً، وردّ عليهم ردّاً جميلاً، ثمّ بعث إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والملأ عنده، فلمّا دخل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: يابن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك أن تكفّ عنهم، وعن شتم آلهتهم، ويدَعوك وإلهك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب عمّه: ((يا عمّ، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟)).

فقال أبو طالبعليه‌السلام : وإلى ما تدعوهم يابن أخي؟

قال: ((أدعوهم يا عمّ، إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم)).

فابتدر إليه أبو جهل من بين الملأ قائلاً: ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها؟

وهنا أجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا السؤال بعد أن جلب انتباه الملأ إليه، وعطف مشاعرهم نحوه، بقوله: ((تقولون لا إله إلا الله)).

فنفروا عندما سمعوا ذلك، وقالوا: سلنا غيرها.

فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفورهم من الله تعالى، وعكوفهم على آلهتهم التي

٢٤١

لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمن ولا تغني من جوع، وأحسّ بعنادهم وتعصّبهم للباطل، وتغاضيهم وجحودهم للحقّ، التفت إليهم، وقال: ((لو جئتموني بالشمس حتّى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها)).

فقاموا من عنده غضاباً، وولّوا على أدبارهم نفوراً، ولكن قبل أن يتفرّقوا التفت أبو طالبعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال على مسمع من اُولئك القوم ومرأى منهم: يابن أخي، ادعُ كما أُمرت.

ثمّ أنشأ يقول:

واللهِ لـن يـصلوا إليكَ بجمعهمْ

حـتّـى اُوسـدَ في الترابِ دفينا

فاصدع بأمركَ ما عليكَ غضاضةٌ

وابـشر وقـرّ بذاك منك عيونا

ودعـوتني وعلمتُ أنّكَ ناصحي

ولـقـد صدقتَ وكنتَ ثمَّ أمينا

ولـقـد عـلمتُ بأنّ دينَ محمدٍ

من خـيرِ أديانِ البريّةِ دينا

وهكذا فإن المشركين لم يتمكّنوا أن يصلوا بجمعهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قُبض أبو طالبعليه‌السلام ، فلمّا قُبض نزل جبرائيل من عند الله تبارك وتعالى ليقول للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد فقدت مَنْ كان لك ظهراً، وعُدمت نصره ومظاهرته، فلا مكان لك بعد في مكة.

مع أبي طالبعليه‌السلام مرّة اُخرى

وفي مرّة اُخرى مشى الملأ من قريش إلى أبي طالبعليه‌السلام أيضاً، وقالوا له: يا أبا طالب، إنّ لك سنّاً وشرفاً ومنزلة، وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا، وإنا والله لا نصبر على هذا؛ من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتّى تكفّه عنّا، وننازله وإيّاك في ذلك حتّى يهلك أحد الفرقين.

وهنا لمّا سمع أبو طالبعليه‌السلام مقالة القوم بعث إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أقبل

٢٤٢

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله التفت إليه عمّه أبو طالبعليه‌السلام ، وقال له: يابن أخي، إنّ قومك جاؤوني قالوا لي: كذا وكذا، فما تقول؟

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكلّ عزم وحزم: ((يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى يظهره الله أو أهلك فيه)).

ثمّ استعبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فبكى ثمّ قام، فلمّا ذهب ناداه عمّه أبو طالبعليه‌السلام قائلاً: أقبل يابن أخي. فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أقبل التفت إليه عمّه أبو طالب وهو يطمئنه ويحمي ظهره بقوله: قل يابن أخي ما أحببت، فوالله لا أُسلمك لشيء أبداً.

وكان كما قالهعليه‌السلام ، فإنّه ما دام كان في قيد الحياة لم يسلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لشيء أبداً، ولم يتجرّأ أحد من مشركي قريش ولا غيرهم على استئصاله وتصفيته، ولا على صده عن رسالته، وكفّه عن تبليغها إلى الناس.

الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ظهر النبوّة والرسالة

وكان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يواصل خُطى أبيه أبي طالبعليه‌السلام ، ويسير بسيرته؛ فكانعليه‌السلام ظهراً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ موطن وموقف وقف فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما كان أبوه أبو طالبعليه‌السلام ظهراً له.

فلقد كان هوعليه‌السلام ربيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة، يعني كانعليه‌السلام منذ أيّامه الأولى عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي بيته، يتعلّم منه مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، كما كان تلميذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة؛ حيث إنّهعليه‌السلام كان أوّل مَنْ آمن به وصدّقه، وآزره ونصره.

وكان يصحبه مصاحبة الظلّ صاحبه، ويتبعه متابعة الفصيل أثر اُمّه، ويرى نور الوحي حين ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويسمع حسيس الملائكة، كما سمع رنّة الشيطان جزعاً من نزول الوحي، ويشمّ ريح النبوّة، حتّى قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((إنّك تسمع ما أسمع

٢٤٣

وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنّك لوزير، وإنّك لعلى خير)).

ولقد زخر تاريخ الإسلام الناصع بمواقف الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام المشرّفة تجاه الإسلام وتجاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث كان للإسلام عوناً وناصراً، ولرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ظهراً وحامياً؛ فذلك موقفه المشرّف يوم الدار ويوم الإنذار، وتلك تضحيته العظيمة ليلة المبيت وليلة الهجرة، وذلك مقامه البطولي يوم بدر وأُحد، ويوم الأحزاب وخيبر، وتلك منزلته العظيمة يوم تبوك ويوم نزول سورة براءة، ويوم المباهلة ويوم غدير خم.

وكثير غيرها من المواقف المشرّفة التي بدت منها واضحة كون الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ظهراً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وثبت منها للتاريخ أنّهعليه‌السلام كان ظهراً للنبوّة والرسالة، وأنّه لولا مواقفه العظيمة تلك لاندرس اسم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنته وسيرته، ولانمحت معالم النبوّة وآثار الرسالة والوحي.

العبّاسعليه‌السلام يواصل خطي أبيه عليه‌السلام

وكما كان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يواصل خطى أبيه أبي طالبعليه‌السلام ، ويسير بسيرته بالنسبة إلى حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومظاهرته له، فكذلك كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام يواصل خطى أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ويسير بسيرته بالنسبة إلى حماية الإمام الحسينعليه‌السلام وكونه ظهراً له.

وكيف لا يكون أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ظهراً لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وقد ولد - على ما مرّ - من أجل ذلك؟!

فإنّ أباه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كما عرفت كان قد اقترح على أخيه عقيل بن أبي طالبعليه‌السلام أن يشير عليه بالزواج من امرأة ولدتها الفحولة من العرب، أي بأن تكون من بيت معروف بالشجاعة والفروسية والنبل والكرامة حتّى تلد له ولداً غيوراً وشجاعاً يكون عضُداً وظهراً للإمام الحسينعليه‌السلام ، فأشار عليه عقيل

٢٤٤

بالزواج من فاطمة بنت حزام الوحيديّة الكلابيّة، المكناة باُمّ البنين، فتزوّجها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فولدت له بنين أربعة؛ أوّلهم وأكبرهم العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وإنّما سمّاه أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام باسم العبّاس، مع أنّ العبّاس من حيث اللغة هو الأسد الذي تهرب منه الاُسود خوفاً وذعراً؛ ليكون حافزاً له على الشجاعة والشهامة، ومذكّراً له بالبطولة والبسالة، فيكون اسماً على مسمّى، ويقوم بنصرة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام في كلّ موطن وموقف، وخاصّة في موقف كربلاء ويوم الطفِّ.

ومعلوم إنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي كان - على ما عرفت - يفكّر في إعداد مَنْ يكون ظهراً للإمام الحسينعليه‌السلام ، وذلك قبل ولادة ابنه العبّاسعليه‌السلام ، بل وقبل أن يتزوّج باُمّ العبّاسعليه‌السلام ، اُمّ البنينعليها‌السلام .

كم كان يسعى بعد أن ولد له العبّاسعليه‌السلام في أن يؤدّبه ويربّيه على إكبار أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويمهده ويعدّه ليكون للإمام الحسينعليه‌السلام ظهراً وعضُداً، ويعلّمه ويوصيه بأن لا تؤثّر في المغريات، ولا تستهويه الأطماع، وأن لا يؤثر على أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام شيئاً، ولا يقدّم على حماية أخيه ونصرته أحداً.

فكان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو خير تلميذ لأفضل أُستاذ في هذا المجال؛ حيث إنّهعليه‌السلام طبّق كلّ ما تعلمه من أُستاذه تطبيقاً حرفيّاً، ونفّذ كلّ وصاياه تنفيذاً دقيقاً وصحيحاً، ولم يتخلّف عمّا تلقّاه من تعاليم ووصايا قيد شعرة، ولم يبتعد عنها بقدار أنمُلة.

وإنّما أدّى كلّ ما كان عليه تجاه أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان له وبأحسن ما يكون، وأفضل ما يمكن عضُداً وظهراً، فكان بذلك ظهراً للولاية والإمامة كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ظهراً للنبوّة والرسالة.

٢٤٥

حديث زهير لأبي الفضلعليه‌السلام

لقد مرّ أنّ شمر بن ذي الجوشن قد طمع في أن يستهوي أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ويغريه بالأمان الذي عرضه عليه، والمنصب الذي جاء به من ابن زياد إليه؛ ليدخله في ما دخل فيه هو من ظلمات الظالمين وعبوديتهم، ظاناً بأنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ممّن يستبدل النور بالظلام، والحقّ بالباطل، والهدى بالظلال، والآخرة بالدنيا.

ولكن ما راعه إلاّ أن رأى أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام حين عرض عليه الأمان، ومنّاه بالجاه والمقام، يزمجر في وجهه زمجرة الأسد الباسل، ويزأر على مزاعمه وأباطيله زئير الليث الغضبان، ويرمي شباكه وخداعه بشرر أنفاسه الغاضبة رمي البركان قواصف النيران، وقواذف الجحيم، ويصرخ بوجهه معلناً عن كلمته الخالدة ومقالته الشامخة: ألا لعنك الله يا شمر ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا أمان له؟! وتأمرنا بأن نترك مَنْ خلقنا الله لأجله، وأن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

ثمّ عرض عليه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أن ينتقل هو إلى معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وله جائزة عند جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعرض الشمر بوجهه عن أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وعمّا طرحه عليه، وتضاءل ذلاً وصغاراً، ورجع بخسّة وخفّة، وهو يجرّ ذيول الخيبة والفشل، والمذلّة والهوان.

ورجع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام مع إخوته مرفوعي الرأس إلى معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأخبروا سيّدهم وإمامهم الحسينعليه‌السلام بالخبر، فقام عندها زهير بن القين من بين معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام وأقبل نحو أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وجلس إليه، وأخذ يحدّثه حديثاً تاريخيّاً صادقاً، ويذكّره بقصّة حقيقيّة واقعيّة، وهو

٢٤٦

يشكره، ويمدحه على موقفه البطولي من الشمر وأمانه، ويحضّه ويشجّعه على نصرة الإمام الحسينعليه‌السلام والذبّ عنه، ويقول له: ألا أُحدّثك بحديث وعيته؟

قال له العبّاسعليه‌السلام : بلى حدّثني به.

قال زهير: اعلم يا أبا الفضل، إنّ أباك أمير المؤمنينعليه‌السلام لمّا أراد أن يتزوّج بأمّك أمّ البنين طلب من أخيه عقيل بن أبي طالبعليه‌السلام - وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها - أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وذوو الشجاعة منهم؛ ليتزوّجها فتلد له غلاماً فارساً شجاعاً، وشهماً مقداماً، ينصر الإمام الحسينعليه‌السلام بطفّ كربلاء، ويكون له عضُداً وظهراً، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك.

السيّدة زينب عليها‌السلام تلتقي أخاها العبّاس عليه‌السلام

كان هذا - كما سبق - هو حديث زهير للعبّاسعليه‌السلام وتشجيعه لأبي الفضلعليه‌السلام على حمايته لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحراسته أخواته عقائل بني هاشم وبنات الرسالة، وهناك خبر يقول: إنّ السيّدة زينبعليها‌السلام التقت أخاها أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام بعد ذلك أيضاً، فتقدّمت إليه تشجّعه على موقفه المشرّف من أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتحرّضه على الصمود في موقفه ذلك، والثبات على نصرة إمامه والذبّ عنه.

وهي في نفس الوقت تشكره وتثني عليه وعلى وفائه ومواساته وثباته وشجاعته، كما إنّهاعليها‌السلام أخذت تذكّره بما كان من اهتمام أبيها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذا اليوم، وبقضيّة كربلاء، وقلقهعليه‌السلام ممّا يجرى فيها على ولده السبط من شدائد ومصاعب، وعلى بناته عقائل بني هاشم من رزايا ومصائب، وتخبره أيضاً عن أنّ أباهاعليه‌السلام قد تزوّج على أثر ذلك بامرأة من أشجع

٢٤٧

العرب حتّى تلد له غلاماً شجاعاً؛ يكون عضُداً لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وظهراً له وعوناً، فكان هو، يعني أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، نتيجة ذلك الزواج وثمرته، وعليه فيكون هو الذي قد أعده أبوه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لهذا اليوم، وادخّره لنصرة الإمام الحسينعليه‌السلام وحماية عقائله.

ثمّ إنّهاعليه‌السلام عقّبت كلامها ذلك بقولها له: أخي يا أبا الفضل، الخيام خيامك، والنساء أخواتك، فلا تقصّر عنّا بنصرتك.

العبّاسعليه‌السلام يعلن مظاهرته

وهنا لمّا سمع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كلام زهير، وما خصه به عليه، كما في الخبر الأول، وكذلك سمع ما قالته السيّدة زينبعليها‌السلام وحدّثته به، كما في الخبر الثاني، ثارت غيرته الهاشميّة، وتفجّرت همّته العلويّة، فتمطّى في ركابه حتّى قطعه، ثمّ التفت إلى زهير - على الخبر الأول - وقال له وبكلّ عزم وحزم، وشدّة وصلابة: تشجّعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟! فوالله لأُرينّك شيئاً ما رأيته.

كما إنّهعليه‌السلام التفت إلى أخته عقيلة الرسالة والإمامة، السيّدة زينبعليها‌السلام وقال لها ما يطمئنها، ويشدّ قلبها، ويسكن روعها وخوفها.

وهكذا كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فلقد أرى زهيراً وغير زهير ما لم يروه في حياتهم، وأتي بما لم يسمعوا به في التاريخ الغابر، ولا التاريخ المعاصر، بل ولا يمكن أن يسمع بمثله في المستقبل والزمان الآتي، أنّه وقف لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام مواقف بطوليّة رائعة، أعلن فيها مظاهرته العمليّة والقوليّة لأخيه الإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، حتّى أصبح معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام آمناً مطمئناً إلى مظاهرته وحمايته، وأصبح معسكر يزيد خائفاً ساهراً، وقلقاً مضطرباً من شدّة بأسه وكبير عزمه وهمّته.

إنّه كان في مجابهة الأعداء كفوءاً، وفي كشف

٢٤٨

الموكّلين بالشريعة جسوراً، وكان كلّما طلب الماء، واستقى لأطفال أخيه وذراري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفى عسكر الشريعة عن الفرات مع كونهم آلافاً مؤلفة، حتّى قيل: إنّهم كانوا عشرة آلاف، فكان في ذلك كما قال الشاعر في حقّه:

يـلـقى الـرماحَ بـنحرهِ فـكأنّما

فـي ظـنّه عـودٌ مـن الـريحانِ

ويرى السيوفَ وصوتَ وقعِ حديدها

عـرسـاً تـجلّيها عـليهِ غـواني

وكان في مقارعته لهم ومنازلته إيّاهم، وذلك كلّما أراد استنقاذ أحد، أو كشفهم عن معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام كما قال الآخر في حقّه:

وقعَ الـعـذابُ على جيوشِ أُميّةٍ

من بـاسـلٍ هو في الوقايعِ معلمُ

ما راعـهـم إلاّ تـقحّمُ ضيغمٍ

غيـرانَ يـعـجـمُ لفظَهُ ويدمدمُ

عـبست وجوهُ القومِ خوفَ الموتِ والـ

عـبّـاسُ فـيـهـم ضـاحكٌ متبسّمُ

قلبَ اليمينَ على الشمالِ وغاصَ في الـ

أوسـاطِ يحصدُ في الرؤوسِ ويحطمُ

قـسـمـاً بـصـارمهِ الصقيلِ وإنّني

في غـيـرِ صاعقةِ السما لا أُقسمُ

لولا الـقـضا لمحى الوجودَ بسيفهِ

واللهُ يـقـضـي مـا يـشاءُ ويحكمُ

وعلّق على ذلك في معالي السبطين، قائلاً: لعمر الله، لو لم يكن ما جرى على اللوح من أن يستشهد أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في يوم عاشوراء فينكسر بفقده ظهر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وينال درجة الشهادة، لأفنى العبّاسعليه‌السلام بسيفه معسكر يزيد، ومحا بصارمه جيش بني اُميّة جميعاً.

تحريض العبّاس عليه‌السلام الهاشميّين على المظاهرة

وجاء في معالي السبطين عن بعض الكتب حديث جميل عن مظاهرة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وذلك عن لسان السيّدة زينبعليها‌السلام

٢٤٩

فإنّها روت قائلة: لمّا كانت ليلة عاشوراء خرجت من خيمتي لأتفقّد أخي الإمام الحسينعليه‌السلام وأنصاره، وقد أفرد له خيمة، فوجدته جالساً وحده وهو يناجي ربّه، ويتلو القرآن، فقلت في نفسي: أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده؟! والله لأمضينَّ إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم على ذلك.

فأتيت إلى خيمة أخي أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام فسمعت منها همهمة ودمدمة، فوقفت على ظهرها ونظرت فيها، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة، وبينهم أخي أبو الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد جثا على ركبتيه كالأسد على فريسته، وهو يخطب فيهم خطبة ما سمعت مثلها إلاّ من أخي الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فأصغيت إليه فسمعته يقول في آخرها: يا إخوتي، ويا بني إخوتي، ويا بني عمومتي، إذا كان الصباح فما تقولون، وما أنتم عاملون؟

فقالوا في جوابه قولة رجل واحد: نحن رهن إشارتك، وتحت قيادتك، والأمر إليك فانظر ماذا ترى؟

فقال أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وهو يشكرهم على شعورهم، ويثني على معرفتهم: إنّا نعدّ من أهل البيت، وهؤلاء الأصحاب يعدّون قوماً غرباء، والحمل الثقيل لا يقوم إلاّ بأهله؛ فإذا كان الصباح فعلينا أن نكون أوّل مَنْ يبرز للقتال ومجابهة الأعداء، ولا ندع الأصحاب يتقدّمون علينا في هذا المجال، ويسبقونا في هذه المهمّة الشريفة، وحتّى لا يقول أحد من الناس بأنّهم قدّموا أصحابهم وأنصارهم للقتل، فلمّا قُتلوا بأجمعهم عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.

ولما وصل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في كلامه إلى هذا الموضع، قام بنو هاشم وسلّوا سيوفهم وهزّوها في وجه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام تأييداً له، وهم يقولون: الرأي رأيك، ونحن على ما أنت عليه. فشكرهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام على ذلك وأثنى عليهم.

٢٥٠

مع حبيب بن مظاهر

قالت السيّدة زينبعليها‌السلام فلمّا رأيت كبير اهتمامهم، وشدّة عزمهم سكن قلبي واطمأنّت نفسي ولكن خنقتني العبرة، فأردت أن أرجع إلى أخي الإمام الحسينعليه‌السلام وأخبره بذلك فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة، فاقتربت منها ووقفت بظهرها، ونظرت فيها فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة، وبينهم حبيب بن مظاهر يقول لهم: يا أصحابي، لِمَ جئتم إلى هذا المكان؟ تكلّموا وأوضحوا كلامكم رحمكم الله.

فقالوا بأجمعهم: جئنا لننصر ابن بنت نبيّنا غريب فاطمةعليه‌السلام .

فقال لهم: لِمَ تركتم حلائلكم وطلقتم نساءكم؟

فقالوا: لذلك.

فقال: فإذا كان الصباح فما أنتم فاعلون؟

قالوا: الرأي رأيك، والأمر إليك فانظر ماذا ترى؟

قال: أرى أنّه إذا جاء الصبح وبدأ القتال أن نكون أوّل مَنْ يبرز بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولا ندع هاشميّاً يتقدّمنا؛ فإنّه من الصعب علينا أن نرى هاشميّاً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب، ولئلاّ يقول الناس إنّهم قدّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم وأرواحهم.

وهنا قام الأصحاب وسلّوا سيوفهم وهزّوها في وجه حبيب، وهم يهتفون في تأييده قائلين: الرأي رأيك يا حبيب، نحن على ما أنت عليه. فشكرهم حبيب وأثنى عليهم.

قالت السيّدة زينبعليها‌السلام : ففرحت من ثباتهم وعزمهم، ولكن خنقتني العبرة، فانصرفت عنهم وأنا باكية، وإذا أنا بأخي الإمام الحسينعليه‌السلام قد اعترضني، فسكتّ وتبسّمت، فقالعليه‌السلام : ((أُخيّة زينب،)).

فقلت: لبيك يا أخي يا أبا عبد الله.

فقالعليه‌السلام : ((أُخيّة، أراكِ متبسّمة مع إنّي ما رأيتك منذ خروجنا من المدينة متبسّمة، فما هو سبب تبسّمك؟)).

فقلت: يا أخي، رأيت من إخوتي وبني هاشم والأصحاب كذا وكذا، وقصصت عليه خبرهم.

فقالعليه‌السلام : ((اعلمي يا أُخيّة، إنّ هؤلاء أعواني وأنصاري من عالم الذرّ، وبهم وعدني جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )).

٢٥١

الخصّيصة الثالثة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام قائد الجيش

القائد: من القَوْد، والقود: نقيض السَّوْق، يُقال: قاد البعير، أي جرّه خلفه، وفي الحديث - كما عن لسان العرب ـ: قريش قادة ذادة، أي يقودون الجيوش. وقادة: جمع قائد.

وروي أنّ قصيّاً قسّم مكارمه؛ فأعطى قَوْد الجيوش عبد مناف، ثمّ ورثها من بعده ابنه هاشم، ثمّ عبد المطلب، ثمّ أبو طالب، ثمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

هذا وقد جاء في كتاب الخصال أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّعليه‌السلام : ((يا علي، سألت ربّي فيك خمس خصال:.... خامستها: أن يجعلك قائد اُمّتي إلى الجنّة فأعطاني)).

وفي نوادر الراوندي مسنداً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((والمجاهدون في الله تعالى قوّاد أهل الجنّة)).

وفي كتاب الاختصاص عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: ((وأنا قائد المؤمنين إلى الجنّة)).

وفي خطبة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّها قالت في وصف كتاب الله، القرآن الكريم: ((قائد إلى الرضوان أتباعه)).

وفي كتاب فقه الزهراءعليها‌السلام : ((يجب أن يكون القائد بحيث يقود أتباعه إلى الرضوان وإلى السعادة)).

٢٥٢

وكذلك كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّه كان قائد جيش الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعميد عسكره، وقد قاد كلّ أفراد جيشه ببصيرة ومعرفة، وفي ظلّ إمامة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام المنصوص على إمامته من جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حيث رضوان الله والسعادة الأبديّة، فأوردهم جنان الخلد ونعيم الأبد، وأكسبهم عزّة الدارين، وشرف الدنيا والآخرة.

العبّاسعليه‌السلام وقيادة الجيش والقافلة

نعم، إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أصبح في يوم عاشوراء عبّأ أصحابه للقتال والمنازلة بعد أن صلّى بهم صلاة الغداة، أعطى الراية لأخيه العبّاس، وذلك بعد أن كان عقدها له في يوم خروجه من مدينة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد جعله بها قائداً لقافلته يوم ذاك، وجعله بها في يوم عاشوراء قائداً على جيشه، وعميداً لعسكره.

فلمّا شبّ القتال بين الفريقين، وألهب نيرانها قائد جيش يزيد عمر بن سعد، الذي لم تؤثّر فيه مواعظ الإمام الحسين وأصحابه، وباع آخرته بدنيا غيره؛ فإنّه تقدّم ورمى بسهم نحو معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام وقال: اشهدوا لي عند الأمير بأنّي أوّل مَنْ رمى، ثمّ تبعه جيشه ورموا معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام بالسهام كالمطر.

فإنّه لمّا نشب القتال وشبّ نيرانها، أثبت أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام نبوغه في فنون الحرب، وتفوّقه في إنجاز مهمّة القائد، وتأهّله لإدارة المعسكر والجيش واُمور القيادة.

كما وأثبت كفاءته لهذا المنصب الرفيع، وجدارته بإدارة هذا المقام المنيع، كيف لا وقد تدرّب في معسكر أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وتعلم على يديه فنون الحرب، وأساليب القتال والمنازلة؟! ولذلك استطاع أن يقف بجيشه القليل أمام جيش العدوّ الكثير وقفة الأسد الباسل أمام هجمة الثعالب الجبانة.

٢٥٣

فقد كانت النسبة بين جيش الإمام الحسينعليه‌السلام بقيادة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وبين جيش يزيد بقيادة ابن سعد أقل من نسبة الواحد إلى الألف حسب بعض المصادر، ومع ذلك استطاع جيش الإمام الحسينعليه‌السلام بقيادة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام الرشيدة وإدارته الحكيمة، الصمود أمام ذلك السيل الجارف، والتصدّي لتلك الجموع الغفيرة، والتحدّي لها والاستهانة بها، والتوطين على مقارعتها ومنازلتها بما لا نظير له في تاريخ الحروب، ولا سابق له في ميادين النضال والكفاح.

فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام منذ الصباح المبكّر من يوم عاشوراء، وحتّى لحظة الشهادة وساعة الوداع والرحيل لم يهدأ لحظة، ولم يسكن آناً، وإنّما كان في سعي دائم، وحركة دائبة، وكفاح مستمر، ونضال متواصل؛ بين إنقاذ الجرحى من محاصرة الأعداء، وبين صدّ هجوم العدوّ على مخيّم النساء، وبين الدفاع عن معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ومطاردة المهاجمين والمتسللين، وبين الاستقاء وإيصال الماء إلى العطاشى والظمآنين، وفي كلّ ذلك رافعاً اللواء بكفّه، مجابهاً العدوّ ببأسه وصموده، مروّعاً لهم بشجاعته وشهامته حتّى سلب العدوّ الأمن والأمان، والراحة والاطمئنان.

من آثار حسن القيادة

ثمّ إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام - وعلى إثر حسن قيادته - لمّا رأى قلّة الأنصار، وندرة أفراد معسكر أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، قدّم إخوته من اُمّه وأبيه للشهادة بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام ، واحتسبهم في الله؛ لينال بذلك ثواب الصابرين، وأجر الناصحين المخلصين.

ثواب الصابرين لصبره على مصابهم، وافتجاعه بهم،

٢٥٤

وأجر الناصحين لنصحه إيّاهم بالشهادة بين يدي إمامهم الإمام الحسينعليه‌السلام ، ونيلهم ذلك الفوز في الدنيا والآخرة.

ثمّ إنّهعليه‌السلام لمّا أراد رخصة لنفسه، والإذن من سيّده وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام للمبارزة والقتال، لم يأذن له الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ معلّلاً ذلك بقوله له: ((أنت صاحب لوائي، ومجمع عددي، والعلامة من عسكري)).

وهذا التصريح من الإمام الحسينعليه‌السلام يثبت لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أنّه كان قائد جيش الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء، وعميد عسكره.

وكذلك يدلّ عليه ما جاء في بعض الروايات من أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا حضر عند مصرع أخيه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام وأراد حمله إلى الفسطاط المعدّ للشهداء - وذلك بحسب الرواية - التفت أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام وهو في لحظاته الأخيرة إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأقسم عليه بحقّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركه في مكانه، ولا يحمله إلى المخيّم حيث فسطاط الشهداء؛ معبراً عذره عن ذلك بصوت ضعيف، ونبرات متقطّعة، قائلاً: أنا كبش كتيبتك، ومجمع عددك، والعلامة من عسكرك.

عندها تركه الإمام الحسينعليه‌السلام في مكانه وجزّاه خيراً، وقال له: ((جُزيت عن أخيك خيراً، فلقد نصرته حيّاً وميّتاً)).

وهذا الاعتذار من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لعدم حمله إلى فسطاط الشهداء قد تشابه تماماً مع تعليل الإمام الحسينعليه‌السلام في عدم الإذن له بالبراز، ومقاتلة الأعداء.

وأقلّ ما يدلّ عليه هذا هو قيادة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لجيش الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأنعم به قائداً.

نعم، لقد كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قائد جيش الإمام الحسينعليه‌السلام وعميد عسكره، وكان من حسن قيادته العسكريّة، وجميل فنونه الحربيّة، أن زرع

٢٥٥

الخوف والذعر في قلب معسكر يزيد، وجيش بني اُميّة، وبعثر جمعهم، وفرق جماعاتهم؛ فلقد ضرب الأعناق، وحصد الرؤوس، وأطار الأيدي والأرجل، وترك جيش العدوّ العنيد بأرقامه الكبيرة، وأعداده الغفيرة، وأفواجه الضخمة يموج بعضه في بعض، وذلك على قلّة أفراد جيشهعليه‌السلام ، وندرة تعداد عسكره.

كما إنّهعليه‌السلام أبقى الراية مرفوعة، واللواء مرفرفاً خفاقاً حتّى اللحظات الأخيرة من حياة الجيش، وبقاء أفراده؛ فإنّه ما دام كان هناك في معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام فرداً من أفراد الجيش حيّاً، وجنديّاً من جنود المعسكر الحسيني مدافعاً، أبقى أبو الفضل العبّاس اللواءعليه‌السلام عالياً مرفرفاً، والراية الشامخة خفّاقة، تروّع الأعداء وتخوّفهم، وتؤمّن الأحباء وتطمئنهم؛ فإنّ الراية بحسب الأعراف العسكرية ما دامت تخفق، واللواء ما دام يرفرف، يبقى العدوّ خائفاً مرعوباً، ونائياً بعيداً، لا يتجرّأ على الاقتراب والمداهمة، والاكتساح والإبادة المتعقّبة للسلب والنهب، ثمّ الأسر والسبي.

ومن أجل تحقيق ذلك كلّه، أي من أجل أن لا يقترب الأعداء من معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأن لا يتجرؤوا على مداهمة خيام النساء والأطفال، وأن لا يفكّروا في اكتساح معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام وإبادته جميعاً؛ ليتسنّى لهم السلب والنهب، ثمّ الأسر والسبي.

حافظ أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام على إبقاء الراية عالية مرفرفة، واللواء منشوراً خفّاقاً ما كان به رمق، وما دام قلبه ينبض بالحياة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ بالإضافة إلى قوّة إيمان أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وشدّة إخلاصه، يدلّ على كفاءة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لقيادة جيش الإمام الحسينعليه‌السلام ، وجدارته بحمل لوائه، والتزامه برايتهعليه‌السلام ، وكفى به فخراً وشرفاً، وعزّة وكرامة.

٢٥٦

الخصّيصة الرابعة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام المستجـار

أجار الرجل إجارة: خفره وأمّنه، وأغاثه وأنقذه، واستجار به: استغاث به، والتجأ إليه، واستجاره: سأله أن يجيره، وفي التنزيل العزيز:( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى‏ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) .

قال الزجاج: المعنى إن طلب منك أحد من أهل الحرب أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره، أي أمّنه وعرّفه ما يجب عليه أن يعرفه من أمر الله تعالى الذي يتبيّن به الإسلام، ثمّ أبلغه مأمنه؛ لئلاّ يصاب بسوء قبل انتهائه إلى مأمنه.

وكيف كان، فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام قد حصل على وسام المستجار للدور الذي كان لهعليه‌السلام في معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وخاصّة في يوم عاشوراء، فلقد استجار به جميع أفراد الجيش الذين كانوا تحت قيادته، ولجأ إليه كلّ مَنْ كان في معسكر أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل استجار به، وبحسب الظاهر حتّى أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام .

العبّاسعليه‌السلام الركن الوثيـق

ففي معالي السبطين أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام بكى على أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بعد مصرعه، وأنشأ يقول:

٢٥٧

أخـي يا نورَ عيني يا شقيقي

فـلي قد كنتَ كالركنِ الوثيقِ

أيابن أبي نصحتَ أخاكَ حتّى

سـقاكَ اللهُ كـأساً من رحيقِ

أيـا قـمراً منيراً كنتَ عوني

على كلّ النوائبِ في المضيقِ

فـبـعدكَ لا تـطيبُ لنا حياةٌ

سنجمعُ في الغداةِ على الحقيقِ

ألا لـلـهِ شـكوائي وصبري

ومـا ألـقاهُ من ظمأٍ وضيقِ

العطشان الذي جاد بالماء

وفي جلاء العيون نسب السيّد عبد الله شبّر الأبيات التالية إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ، وذلك عندما وقف على مصرع أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فإنّه بكى، وأنشأ يقول:

أحـقُّ الناسِ أن يُبكى عليه

فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخـوهُ وابـنُ والـدهِ عليٍّ

أبو الفضلِ المضرّجِ بالدماءِ

ومَـنْ واساهُ لا يُثنيهِ شيءٌ

وجـادَ لهُ على عطشٍ بماءِ

أبو الفضلعليه‌السلام ووسام المستجار

وفي معالي السبطين عن منتخب التواريخ: أنّ الشيخ الأُزري (رحمة الله تعالى عليه) لمّا كان ينظم في أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام قصيدته الهائيّة المعروفة، والتي فاقت في قوّتها معلّقة لبيد، ووصل في نضمه إلى قوله: يومٌ أبو الفضلِ استجارَ بهِ الهُدى

يعني: إنّ يوم عاشوراء يوم استجار الإمام الحسينعليه‌السلام فيه بأخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، توقف في ذلك، وفكّر في نفسه أنّه لا يكون قد غالى في ذلك في حقّ أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقال بما لا يناسب مقام الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٥٨

وعلى إثره تصوّر بأنّ هذا المصراع من البيت لعلّه لا يكون مقبولاً عند الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ ولذلك توقّف في نظم مصراعه الأخر ولم يكمل البيت، محاولاً تعديله وحذفه.

فلمّا جنّه الليل ونام رأى في منامه الإمام الحسينعليه‌السلام وهو يثنى على مصراعه الذي نظمه، ويقول له: ((لنِعْمَ ما قلت يا أُزري، وأحسنت وأجدت!)).

ثمّ أضافعليه‌السلام قائلاً: ((نعم، لقد استجرت بأخي أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام يوم عاشوراء؛ وذلك حين اشتدّ الضرّ، وعظم البلاء)).

ثمّ قال له: ((أفلا أكملت البيت وأتممته، وقلت بعده: والشمسُ من كدرِ العجاجِ لثامُها)).

يعني: إنّي استجرت به حين اغبرّت الأرض والسماء من كثرة العجاج، وشدّة الغبار المثار من وقع الخيل، وهجوم الأعداء حتّى صارت حجاباً للشمس، ولثاماً لها، واحتجبت بذلك عن الأبصار.

وبعبارة اُخرى: أراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن يستجير بأخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في ذلك اليوم العصيب، يوم عاشوراء الرهيب؛ ليمنح أخاه وسام (المجير والمستجار)؛ لأنّهعليه‌السلام رآه أهلاً لذلك، وعرفه جديراً بهذا التقدير والامتنان.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسألة الاستجارة

وفي التاريخ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد استجار بأحد شخصيات مكّة، يدعى (المطعم بن عدي)، وذلك بعد فقده عمّه أبي طالبعليه‌السلام ؛ فإنّه لمّا مات عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو طالبعليه‌السلام اشتدّ بلاء قريش على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة مولاه؛ رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم.

فاجتمع بهم في ناديهم ودعاهم إلى الله، فلم يرَ فيهم مَنْ يجيبه ويؤويه وينصره، ونالوه مع ذلك بأشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، فأقامصلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم عشرة أيّام لا

٢٥٩

يدع أحداً من أشرافهم إلاّ جاءه وكلّمه، فما كان جوابهم إلاّ أن قالوا له: اخرج من بلادنا.

وأغروا به سفهاءهم يرمونه بالحجارة حتّى شجّوا رأسه وأدموا رجليه، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله من الطائف متّجهاً إلى مكّة، ونزل بالطريق بنخلة وأقام بها أيّاماً، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل مكّة وتعود إلى قريش وقد أخرجوك منها؟!

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((يا زيد، إنّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإنّ الله ناصر نبيّه، ومظهر دينه)). ثمّ انتهىصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة، فأرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليقول له: ((أدخل في جوارك؟)).

فقال: نعم. ودعا بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت؛ فإنّي قد أجرت محمّداً.

فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه زيد بن حارثة حتّى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إنّي قد أجرت محمّداً فلا يهيجه منكم أحد.

فانتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الركن فاستلمه، وصلّى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتّى دخل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي مكّة عاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبليغ رسالات ربّه كما كان عليه من قبل، وهو في إجارة المطعم بن عدي وحمايته.

فإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد استجار بأحد شخصيات مكّة، وهو المطعم بن عدي في هذه القصّة، فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد استجار بأخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فأنعِمْ بأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام مجيراً ومستجاراً.

المجير لكلّ مَنْ استجار به

نعم، لقد أصبح أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بعد أن استجار به أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومنحه وسام المستجار، مستجاراً لكلّ ملهوف ومكروب، ومجيراً لكلّ ضعيف ومغلوب، فليس هناك مَنْ استجار به في مهمّ إلاّ وتيسّر له مهمّه، ولا

٢٦٠