الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 264452
تحميل: 8842

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264452 / تحميل: 8842
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخصّيصة السابعة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام صاحب العصمة الصغرى

العصمة في كلام العرب: المنع. وعِصمة الله عبده: أن يعصمه ويمنعه ممّا يوبقه ويهلكه. وعصمه يعصمه عصماً: منعه ووقاه. وفي التنزيل العزيز:( لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) ، أي لا مانع. واعتصم فلان بالله إذا امتنع به. والعصمة: الحفظ، يُقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله: إذا امتنعت بلطفه من المعصية.

إذاً فالعصمة من حيث اللغة هي: الحفظ والوقاية، والصون والمنع، ومن حيث الاصطلاح هي: قوّة معنويّة، وملكة روحيّة يهبها الله لمَنْ يشاء من عباده، يحفظه بها من العيوب والذنوب، ومن الخطأ والزلل، ويقيه عبرها من السهو والنسيان، ومن العثرات والهفوات، لكن لا على وجه يسلب منه الاختيار، بل على وجه يبقى له حقّ الاختيار محفوظاً؛ وذلك لأنّ الاختيار هو من لوازم التكليف، فإذا سلب منه الاختيار كان معناه سلب التكليف عنه، والحال أنّ المعصومينعليهم‌السلام مكلّفون بالتكاليف الشرعية كسائر الناس، فتكليفهم دليل على أنّ العصمة التي جعلها الله تعالى فيهم غير سالبة لاختيارهم.

إذا عرفنا معنى العصمة، فلا بدّ لنا أن نعرف بعدها أنّ العصمة على قسمين: ذاتية واجبة، وعرضية مكتسبة.

٢٨١

العصمة الكبرى وأصحابها

أمّا القسم الأوّل من العصمة، وهي العصمة الذاتيّة الواجبة: فهي العصمة الكبرى، التي جعلها الله تعالى في ذات الأنبياء وأوصيائهم، وأوجبها لهم، وجلبها عليهم، وخصّهم بها، حتّى قال تعالى، وهو أصدق القائلين، وأعدل المخبرين في محكم كتابه ومبرم خطابه، وهو يخبر عن نبيّه الكريم ورسوله المصطفى، خاتم أنبيائه وسيّد رسله محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن ابنة نبيّه الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراءعليه‌السلام ، وعن أوصياء نبيّه الطيّبين الطاهرين؛ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام والأئمّة الأحد عشر من ذريّته، بدءاً بالإمام المجتبى، وختماً بالإمام المهديعليه‌السلام ، ويصفهم بالعصمة في هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب القائلة:( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

وإنّما جعل الله تعالى العصمة في ذات أنبيائه وأوصيائه، وجبلهم عليها، وأوجبها لهم، وزيّنهم بها، وخصّ من بينهم المعصومين الأربعة عشرعليهم‌السلام بأعلى درجاتها وأرقى مراقيها؛ لأنّ الله تعالى خوّل نبيّه الكريم وأهل بيته الطاهرين حقّه وشريعته، وفوّض إليهم ولايته ودينه، وجعلهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمر الناس بطاعتهم والانقياد لهم.

فإذا لم يكونوا مع ذلك كلّه معصومين من الزلل والخطل، والسهو والنسيان، كان معناه إيقاع الناس في الخطأ والاشتباه، وسوقهم إلى الضلال والفساد، وحاشا لله أن يفعل ذلك؛ فإنّ الله تعالى حكيم، ولا يفعل الحكيم ما يخالف الحكمة.

هذا مضافاً إلى أنّ الله تبارك وتعالى جعل مهمّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أداء الرسالة وتبليغها، وجعل مهمّة أوصيائه والأئمّةعليهم‌السلام من بعده حفظ تلك الرسالة

٢٨٢

وحراستها، فإذا لم يسلّح الله تعالى نبيّه الكريم، وكذلك أوصيائه والأئمّة الطاهرين من بعده بالعصمة لم يكن أحد منهم مصوناً من الاشتباه والنسيان، والزيادة والنقصان، وإذا احتمل في حقّهم ذلك لعدم عصمتهم انعدمت الثقة بهم وممّا جاؤوا به، وسلب الاطمينان إليهم وبما قالوا، وبذلك تبطل الشرايع والأديان، وتنسخ الإمامة والوصاية والنبوّات.

ونسخ الإمامة والنبوّات، وبطلان الشرايع والأديان خلاف حكمة الله تعالى، ونقضاً لغرض الله الحكيم، فلا بدّ إذاً من كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه، والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام من بعده معصومين، وفي أرقى مراقي العصمة، وأرفع درجاتها وأعلى قممها.

الصورة التي لن تراها

ولقد أجاد الشيخ كاظم الأُزري في قصيدته التي يصف فيها عصمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام حيث يقول:

مـعقلُ الخائفينَ من كلّ خوفِ

أوفرُ الـعربِ ذمّةً أوفاها

مـصدرُ الـعلمِ ليسَ إلاّ لديه

خـبرُ الـكائناتِ من مبتداها

فـاضَ لـلخلقِ منهُ علمٌ وحلمٌ

أخـذتْ مـنهما العقولُ نُهاها

نوّهتْ باسمهِ السماواتُ والأر

ضُ كما نوّهتْ بصبحٍ ذُكاها

وغـدت تـنشرُ الفضائلَ عنه

كـلّ قومٍ على اختلافِ لُغاها

طربت لاسمهِ الثرى فاستطالت

فـوقَ عُـلويّةِ السما سفلاها

تـلـكَ نـفسٌ أعزّها اللهُ قدراً

فـارتضاها لنفسهِ وارتضاها

حـازَ من جوهرِ التقدّسِ ذاتاً

تـاهت الأنـبياءُ في معناها

لا تُجِل في صفاتِ أحمدَ فكراً

فـهي الصورةُ التي لن تراها

٢٨٣

أيّ خـلـقٍ لـلـهِ أعـظـمُ مـنهُ

وهو الـغايةُ الـتي استقصاها

قلّـبَ الـخـافقينِ ظهراً لبطنٍ

فـرأى ذاتَ أحـمـد فـاجـتباها

لـسـتُ أنـسـى له منازلَ قدسٍ

قد بـنـاها التقى فأعلى بناها

ورجالاً أعـزّةً فـي بـيوتٍ

أذِنَ اللهُ أن يعـزَّ حـمـاهـا

سادةٌ لا تـريـدُ إلاّ رضا اللـ

ـه كـمـا لا يـريـدُ إلاّ رضـاها

خـصّـهـا عـن كـمالهِ بالمعاني

وبـأعـلـى أسـمـائـه سمّاها

لـم يـكـونـوا للعرشِ إلاّ كنوزاً

خـافـيـاتٍ سـبـحانَ مَنْ أبداها

كم لـهـم ألسنٌ عن اللهِ تُنبي

هـي أقـلامُ حـكـمـةٍ قد براها

وهـمُ الأعـيـنُ الصحيحاتُ تهدي

كلّ عـيـنٍ مـكفوفةٍ عيناها

علمـاءٌ أئـمـةٌ حـكـماءُ

يـهـتـدي الـنـجمُ باتّباعِ هداها

قـادةٌ عـلـمُـهـم ورأيّ حجاهم

مـسـمـعـاً كلّ حكمةٍ منظراها

ما أُبالي ولو أُهيلت على الأرضِ الـ

سـمـاواتُ بـعـد نَـيْـلِ ولاها

العصمة الصغرى وأربابها

وأمّا القسم الثاني من العصمة، وهي العصمة العرضية المكتسبة: فهي العصمة التي نالها أولياء الله المخلصون بجدهم وجهدهم، وحصل عليها عباد الله الصالحون بتعبهم وعنائهم، وهم اُولئك الذين عرفوا الله تعالى حقّ معرفته، وأيقنوا به عين اليقين، فأحسّوه بكلّ وجودهم وكيانهم، ولمسوه بكلّ قلوبهم وأرواحهم، فآمنوا به أخلص الإيمان، وأذعنوا له غاية الإذعان، وسلموا إليه منتهى التسليم، وتوكّلوا عليه أصدق التوكّل.

إنّهم علموا بأنّه تعالى مطّلع عليهم فاستحيوا من أن يعصوه، وأيقنوا بأنّه

٢٨٤

قادر عليهم فهابوا من أن يخالفوه، إنّهم اطمأنّوا إلى أنّه تعالى سيحاسبهم على ما عملوه فأحجموا إلاّ عن البرّ والإحسان، وعرفوا بأنّه سيؤاخذهم على ما قالوه فسكتوا إلاّ عن المعروف والخير، وحسبوا بأنّه سيجازيهم على كلّ صغيرة وكبيرة فعملوا بما أمر الله به حتّى المستحبّات، فكيف بالواجبات والفرائض؟ واجتنبوا عمّا نهى الله عنه حتّى المكروهات، فكيف بالمعاصي والمحرّمات؟

إنّهم لم يفكّروا في شيء إلاّ في عظمة الله وكبريائه، وعزّته وقدرته، وعلمه حكمته، وحلمه وغضبه، ورأفته ورحمته، وآثاره وصنعه، وآلائه ونعمه، فرأوه أهلاً للعبادة فعبدوه، وأهلاً للشكر فشكروه، وأهلاً للتعظيم والتقديس فعظّموه وقدّسوه.

إنّهم عرفوا أنّ الدنيا والهوى، والنفس والشيطان، عدوّاً لهم فاتّخذوهم عدوّاً، فرغبوا عن الدنيا، وخالفوا أهواءهم، وروّضوا أنفسهم على التقوى، وعصوا الشيطان، وأطاعوا الرحمن، ونفعوا عباد الله، وخدموا خلق الله، وأرضوا بذلك الرحمن، وأرغموا أنف الشيطان.

إنّهم اطمأنّوا إلى أنّه تعالى طبيبهم فاتّبعوا وصفته، وحكيمهم فانتهجوا حكمته، وربّهم وخالقهم فعملوا برضاه واجتنبوا سخطه وغضبه، ورازقهم وهاديهم فأحبّوه وأخلصوا له في حبّه، وأحبّوا مَنْ أمر الله تعالى بحبّهم ومودّتهم، وأبغضوا مَنْ أوجب الله تعالى بغضهم وعداوتهم، وأطاعوا مَنْ فرض الله تعالى طاعتهم، وخالفوا مَنْ أمر الله تعالى بمخالفتهم، ونصروا الله ودينه، وكانوا مع رسوله وأهل بيته، فقدّموهم على أنفسهم، وبذلوا أرواحهم وقاءً لهم، واستشهدوا بين أيديهم.

٢٨٥

العبّاس عليه‌السلام ووسام العصمة

وليس هذه المواصفات التي ذكرناها كلّها إلاّ معنى العصمة، وقد نالها أبو الفضل العبّاس بجدارة وكفاءة، واكتسبها لنفسه بهمّة واجتهاد، واتّصف بها بكلّ قوّة وصلابة.

أليس هو الذي أطاع الله، وكان مع الصادقين مع ريحانة رسول الله، وسبطه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعصى الهوى والشيطان لمّا عرض عليه الإمارة والأمان، فلعن أمانه وخداعه، وفخه ومكره؟

وأليس هو الذي رغب عن الدنيا، وروّض نفسه على التقوى، وواسى أخاه العطشان، فلم يشرب من الماء وهو على الماء، مع عظيم عطشه وشدّة ظمئه، فنال بذلك وسام (المواسي) كما جاء في زيارتهعليه‌السلام : ((فنعم الأخ المواسي))؟

وأليس هو الذي قدّم دمه وبذل نفسه في نصرة الله وكتابه، وحماية رسول الله وذريّته، وطاعة إمامه ووليّه، ومضى شهيداً محتسباً، حميداً طيّباً حتّى قال في حقّه الإمام الصادقعليه‌السلام ، كما في الزيارة المأثورة عنه، وهو يلعن قاتليه: ((فلعن الله اُمّة قتلتك، ولعن الله اُمّة ظلمتك، ولعن الله اُمّة استحلّت منك المحارم، وانتهكت حرمة الإسلام))؟

وهل يُنتهك بقتل كلّ أحد حرمة الإسلام؟ طبعاً لا، إلاّ مَنْ نال وسام العصمة بكفاءة، وحصل عليها بجدّ وجهد، كأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فإنّه بقتله، وهكذا بقتل الإمام المعصوم الذي جعل الله العصمة في ذاته، وأوجبها له في جبلته، كالإمام الحسينعليه‌السلام يتمّ انتهاك حرمة الإسلام.

فهذه الفقرة من الزيارة إذن تشير إشارة ضمنيّة واضحة إلى أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هو من أصحاب العصمة الصغرى، وأنّه قد نال بجدارة العصمة من القسم الثاني، فهنيئاً لأبي الفضل

٢٨٦

العبّاسعليه‌السلام وسام العصمة الصغرى.

ولقد أجاد الشيخ محمّد رضا الأُزري، وهو يصف عصمة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وشجاعته ومواساته في قصيدته، ويقول:

يـومٌ أبو الفضلِ استجارَ بهِ الهُدى

والـشمسُ من كدرِ العجاجِ لثامُها

والبيضُ فوقَ البيضِ تحسبُ وقعها

زجـلَ الرعودِ إذا اكفهرّ غمامُها

فـحـمـى عـرينتهُ ودمدمَ دونها

ويذبَّ من دونِ الشّرى ضرغامُها

من بـاسلٍ يلقى الكتيبةَ باسماً

والـشوسُ يـرشحُ بالمنيّةِ هامُها

وأشـمُ لا يـحـتـلّ دارَ هضيمةٍ

و يـسـتقلّ عن النجومِ رغامُها

أو لـم تـكـن تدري قريشٌ أنّه

طـلاّعُ كـلّ ثـنـيّـةٍ مقدامُها

بـطلٌ أطـلَّ على العراقِ مجلّياً

فـاعصوصبتْ فرقاً تمورُ شئامُها

وشـأى الـكرامَ فلا ترى من اُمّةٍ

لـلـفخرِ إلاّ ابن الوصيِّ إمامُها

هـو ذاكَ مـوئلها يرى وزعيمُها

لو جـلَّ حادثُها ولدَّ خصامُها

وأشـدّهـا بـأساً وأرجحها حِجاً

لـو نـاصَ موكبُها وزاغَ قوامُها

مـن مُـقدمٍ ضربَ الجبالَ بمثلِها

من عـزمهِ فتزلزلتْ أعلامُها

ولـكـم لـهُ من غضبةٍ مُضريّةٍ

قـد كادَ يلحقُ بالسحابِ ضرامُها

ثـمّ انـبـرى نحو الفراتِ ودونَهُ

حـلـبـاتُ عاديةٍ يصلُّ لجامُها

فـهـنالِكمْ مـلكَ الشريعةَ واتّكى

مـن فـوقِ قـائمِ سيفهِ قمقامُها

فـأبـتْ نـقـيـبتُهُ الزكيّةُ ريَّها

وحشى ابنِ فاطمةٍ يشبُّ ضرامُها

٢٨٧

الخصّيصة الثامنة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام عالماً فاضلاً، وفقيهاً كاملاً

لقد ورد في الخبر: ((إنّ العبّاس بن عليعليه‌السلام زق العلم زقاً)). واشتهر أيضاً قولهم: ((إنّه كان من فقهاء أولاد الأئمّةعليهم‌السلام )). وهذا يدلّ على أنّ من خصائص أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وامتيازه على معاصريه من سائر بني هاشم وغيرهم هو تفوّقه في العلم والمعرفة، والفضل والكمال؛ وذلك لملازمتهعليه‌السلام لثلاثة من الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، وتتلمذه على يدهم، وطلب العلم لديهم.

وكان أوّل هؤلاء المعصومين الذين لازمهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وتتلمذ على يدهم هو أبوه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو الذي روي عنه أنّه قال: ((يُرخى الصبي سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويستخدم سبعاً، وينتهي طوله في ثلاث وعشرين، وعقله في خمس وثلاثين، وما كان بعد ذلك فبالتجارب)).

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ذلك: ((الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لأحدى وعشرين وإلاّ فاضرب على جنبه؛ فقد أعذرت إلى الله تعالى)).

وفسّر ذلك حفيده الإمام الصادقعليه‌السلام المروي عنه قوله: ((دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبعاً، وألزمه سبع سنين، فإن فلح وإلاّ فلا خير فيه)).

وفي رواية اُخرى أنّهعليه‌السلام قال: ((احمل صبيّك حتّى يأتي عليه ست سنين، ثمّ أدّبه في الكتاب ست سنين، ثمّ ضمّه إليك سبع سنين فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح وإلاّ فخلّ سبيله)).

وجاء في الخبر: ((العلم في - وفي نسخة: من - الصغر كالنقش في الحجر)).

٢٨٨

بخلاف العلم في الكبر فإنّه ليس كذلك.

فالإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نظراً إلى أنّه هو إمام علم النفس والاجتماع، والتربية والتعليم، والأخلاق والآداب، وقد أدرك عنده نجله أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أربعة عشر عاماً من عمره، فعلى فرض أنّه تركه يلعب سبعاً فقد أدّبه سبعاً، وعلّمه من علومه ما يجب أن يعلّمه فيها، وثقّفه بثقافته ما يلزم تثقيفه بها، وذلك في هذه السنوات السبع المهمّة من عمر أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

السنوات السبع الثانية من عمر الإنسان

وعليه، فإنّ السبع الثانية من عمر كلّ إنسان جعلها الله تعالى حسب الأحاديث الشريفة الآنفة أفضل مقطع من عمر الإنسان لتحصيل العلم والمعارف، وأنسب حصّة من حياته لنيل التهذيب والتثقيف، كما وأعطى الله سبحانه وتعالى بحسب الروايات المباركة المزبورة نفسها هذه السنوات السبع أهميّة كبرى، ودوراً مصيريّاً في حياة الإنسان؛ حيث إنّها تكون قاعدة رصينة لتحليق الإنسان منها إلى سماء الفضيلة والسعادة إن اغتنمت هذه السنوات السبع في التعليم الصحيح والتثقيف المطلوب، وإلاّ كانت قاعدة صلبة لقذف الإنسان في هاوية الرذيلة والشقاء.

وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى يمنّ على الإنسان في هذه السنوات السبع، وخاصة في السنة الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة من عمر الإنسان بإيقاض غريزة حبّ التحقيق والتحري، وحبّ الاطّلاع على الحقائق ومعرفة الواقعيات، وحبّ التوصّل إلى المعنويات والروحانيات، وحبّ الحصول على العقائد والإلهيات، وحبّ العبادة والتديّن، كلّ ذلك استعداداً للسفر إلى السنوات السبع الثالثة من عمر الإنسان، والرحيل إلى سنّ المراهقة المشحون بالرهق والتعب من حياة الإنسان.

٢٨٩

مبادرة ناشئتنا بالتربية والتعليم

وقد نبّه على حساسيّة هذه السنوات السبع من عمر الإنسان، وأهميّة دورها في مستقبل حياة الإنسان نبيّنا الحبيبصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة من أهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، حيث أوقفونا على أهميّة هذا المقطع الحساس من عمر الإنسان، وعلّمونا كيف ننتهز هذه الفرصة الذهبيّة من حياة أجيالنا المهيّأة لتلقّي التربية والتعليم، والمستعدة لمعرفة المذهب والدين؛ وذلك بتقديم ما يلزم من التعليم والتثقيف، وعرض ما يجب من تهذيب وتزكية.

وأمرونا بالاهتمام في ذلك، والإسراع في تعليم أحداثنا وناشئتنا أحاديثهم الشريفة، وكلماتهم الثمينة بعد تعليمهم القرآن الحكيم وتثقيفهم فيه، وحذّرونا من التسامح والتساهل في ذلك؛ لئلاّ يسبقنا المرجئة (وهم أصحاب الباطل، وجميع أنواع المنحرفين) إلى تعليم أحداثنا زخارفهم، وتثقيفهم بأباطيلهم.

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أيّما ناشئ ينشأ في العلم والعبادة حتّى يكبر أعطاه الله يوم القيامة ثواب اثنين وسبعين صدّيقاً)).

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما في نهج البلاغة في وصيّته لابنه الإمام الحسنعليه‌السلام : ((إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسوا قلبك، ويشغل لبّك)).

وعليه، فإنّ الإنسان إذا لم يُثقّف ثقافة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام ، وهي الثقافة الصحيحة المنشودة من أوّل شبابه، ولم يهذب بتعاليم الإنسانيّة الراقية في هذه السنوات السبع المهمّة من عمره تلاقفته الثقافات الاُخرى، وقسا قلبه عن قبول الحقّ والإذعان له، واشتغل لبّه بما يصرفه عن التوجّه للحقّ والاشتغال بتعلمه وقبوله، وهذا هو ما يعانيه مجتمعنا الإسلامي،

٢٩٠

وتئن منه اُمّتنا الإسلاميّة في هذا اليوم، حيث تلاقفت شبابنا الثقافات الاُخرى، وخدعتهم تعاليمهم البراقة، وجرّتهم إلى الرذيلة والشقاء، ثمّ قست قلوبهم على الباطل، واشتغلت ألبابهم عن معرفة الحقّ إلاّ مَنْ عصم الله.

السنوات السبع الثالثة في حياة الإنسان

فالتعليم والتربية في هذه السنوات السبع الثانية إضافة إلى فوائدها الجمّة هي تحصين للأجيال من الانزلاق في المبادئ الباطلة، كما إنّها هي تحصين لهم أيضاً من الانزلاق في هاوية الجنس والاعتياد وغير ذلك؛ لأنّ الإنسان عندما يدخل في السنوات السبع الثالثة من عمره تستيقظ عنده غريزة الجنس وتوابعها، وينمو في الجانب الجسدي والمادي.

فإذا كان قد تثقّف بالثقافة الصحيحة، وأشبع روحه وفكره بالتعاليم الإنسانيّة العالية استطاع أن يواكب النمو الروحي والمعنوي فيه، مع النمو الجسدي والمادي فيه، وأن يكون في توازن معقول وانسجام مقبول بين الجانب الروحي والجانب الجسمي، وأن يعيش على أثر ذلك التوازن والانسجام في سنّ المراهقة بسلام وأمان.

بينما لو لم يتدارك الإنسان بواسطة والديه والمسؤولين السنوات السبع الثانية من عمره، وأهمل تثقيفها بالثقافة الصحيحة، وتساهل في إشباعها بتعاليم أهل البيتعليهم‌السلام الأخلاقيّة العالية، طغى نمو الجانب الجسدي والمادي في الإنسان على حساب هزال الجانب الروحي والمعنوي، وهو أمر خطير جدّاً، وخاصّة عندما يدخل الإنسان في السنوات السبع الثالثة، وهي سنّ المراهقة من عمر الإنسان، فإن الجانب الجسمي والمادي ينمو فيه آنذاك نموّاً كبيراً وسريعاً، ومعه لا بدّ أن يواكب الجانب الروحي والمعنوي أيضاً، بينما قد بقي الجانب الروحي

٢٩١

والمعنوي فيه هزيلاً وضعيفاً؛ فيفقد التوازن المطلوب والانسجام اللازم بين الجانب الروحي والجانب الجسمي، فيعيش على أثره سنّ المراهقة بقلق واضطراب؛ وذلك لأنّ الجسم قد تضخّم، وهو يطالبه بإشباع رغباتها من الجنس، وما أشبه ولو عن طريق الاعتداء على شرف مجتمعه، وسؤدد أمّته، والروح قد بقي هزيلاً لا يستطيع من زمّ الجسم وتأطير رغباته بالمشروع من الجنس وغير ذلك.

ومعلوم أنّ تضخّم الجسم ينتصر بتحقيق رغباته ولو بالطرق غير المشروعة، ومعنى انتصار الجسم في تحقيق رغباته بأيّ طريق كان هو شقاء الإنسان والمجتمع، وسقوطه في هاوية الرذيلة والفساد، وابتلاؤه بالأمراض الروحيّة من معاناة القلق والأرق، والتوتّر والاضطراب، وإلى غير ذلك، إلى جانب الأمراض الجسديّة الفتّاكة أيضاً.

تصحيح المناهج الدراسية

هذا وقد عرف الاستعمار والمستعمرين، وخاصّة منهم الذين يحقدون لأجل مصالحهم الفرديّة، ومنافعهم الشخصيّة على الإسلام الحكيم والمسلمين الأبرياء، ويتجاهلون نعمة الإسلام ورحمته، وأحكامه وقوانينه، وسماحته وسلمه، وحبّه لكلّ الناس، وإسعافهم بكلّ خير مهما كانت قومياتهم ولغاتهم، وحرصه على منافع كلّ الناس ومصالحهم الخاصّة والعامة مهما كانت مواقعهم وطبقاتهم.

فإنّ الاستعمار المتجاهل لنعمة الإسلام ورحمته، والمتناسي لخدمة المسلمين وفضلهم، قد خطّط تخطيطاً دقيقاً، ونسّق تنسيقاً مدروساً، ودسّ في مناهجنا الدراسيّة مناهج فارغة من الدين، جوفاء من حيث التعاليم الأخلاقيّة

٢٩٢

والإنسانيّة، وخاصّة في هذه السنوات السبع من حيث ناشئتنا، وعمر أجيالنا، فأعدموهم على أثر تلك المناهج النمو الروحي والمعنوي، وجعلوهم مغلوبين أمام نموّ الجانب الجسدي والمادي، ومقهورين تجاه رغباتهم ومتطلباتهم، فأدخلوهم بذلك في معترك شاق بين الروح والجسد، وأنزلوهم إلى بؤر القلق والاضطراب، ودرك الرذيلة والفساد، وسلّموهم إلى هاوية التذمّر والشقاء، ودوّامة الفضيحة والهلاك.

أجل، إنّ الاستعمار خطّط ونفّذ فأفرغ مناهجنا الدراسيّة في بلادنا الإسلاميّة عبر أياديه عن التعاليم الأخلاقيّة العالية، والمفاهيم الدينيّة الراقية، مع غنى الإسلام بكلّ العلوم الراقية، واحتوائه على جميع المفاهيم العالية، والاجتماعيّات المطلوبة، والآداب المحبوبة، بينما هو ملأ مناهجه الدراسيّة في بلاده، وجعل على ما قيل ستين بالمئة منها فيما يسمّونه بالتعاليم الليبراليّة، وسمّوه بذلك؛ لأنّ دينهم ليس فيه تعاليم اجتماعيّة دينيّة شاملة، وأربعين بالمئة منها في بقيّة العلوم الطبيعية من رياضيات وغيرها.

بينما مناهجنا الدراسيّة نحن خاويّة عبر عوالمهم من الموادّ المعنويّة والروحيّة، مصفرة عبر أياديهم من الدروس الأخلاقيّة والدينيّة، حيث النسبة المعنويّة والدينيّة، وكذلك القرآنيّة والحديثيّة فيها لا تصل العشرة بالمئة إلى جانب تسعين بالمئة من المواد الاُخرى التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ومعلوم أنّ هذه النسبة الضئيلة لا تشبع حاجات الروح، ولا تسدّ جوعته المعنويّة أمام طغيان الجسم، وشدّة رغباته الجنسيّة؛ فينشأ جيلنا الإسلامي الناشئ خاوياً فارغاً، متواتراً متناقضاً، تتلاعب به وبأفكاره الشياطين، ودعاة الثقافات الاُخرى، وتتقاذف به وبمقدّراته أصحاب الأطماع والأغراض، وأهل البدع والضلال، وعلينا إذا أردنا انتشال شبابنا من مهاوي السقوط، وتدارك

٢٩٣

مستقبلنا ومستقبل ناشئتنا من المخاطر والمهالك أن نضع مناهجنا الدراسيّة بأيدينا، وكما أراد الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لنا، وأمر أئمّتنا الطاهرينعليهم‌السلام به، بتغطية كلّ المواد الدراسيّة بالمواد القرآنيّة والحديثيّة، والدينيّة والأخلاقيّة المرويّة عن الرسول الحبيبصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين من أهل بيته، حتّى نتدارك ما فاتنا، ونتلافى ما ضيّعوه عنّا وأخذوه منّا إن شاء الله تعالى، فإلى هذا الأمل المنشود، والهدف المحمود بإذن الله وتوفيقه.

العبّاس عليه‌السلام وتلمّذه عند الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

وكيف كان، فإنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي أمرنا بأن نبادر ناشئينا وشابنا بالتعليم والتثقيف، وننتهز الفرص الذهبيّة من أعمارهم، ولا ندعها تذهب أدراج الرياح سُدى بلا تزود ولا استفادة كاملة منها، والذي قال: ((الأدب لقاح العقل، وذكاء القلب، وعنوان الفضل)). قد بادر نجله الأغر قمر بني هاشم أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام بالتهذيب والتزكيّة، والتربيّة والتعليم.

ومعلوم أنّ مَنْ يتأدّب على يد والد شفيق، وأب عطوف، واُستاذ أديب، ومعلّم أريب كالإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي هو أديب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أديب الله تعالى كما قال هوصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أدّبني ربّي فأحسن تأديبي))، كم يكون مؤدّباً ومهذّباً؟!

وكيف لا يكون كذلك والحال أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام الذي هو أديب أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والإمام أمير المؤمنين هو أديب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أديب الله، فأبا الفضل العبّاسعليه‌السلام يكون حينئذ هو الآخر أديب الله أيضاً؛ فإنّ أديب أديب الله هو أديب الله أيضاً؟

فأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو أديب الله، وكفاه فخراً.

٢٩٤

ملازمة العابسعليه‌السلام لأخيه الإمام المجتبى عليه‌السلام

هذا وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قد أكمل السنوات السبع الثانية من عمره، وقضى تلك الفترة الذهبيّة من عمره في التأدّب على يدي أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الذي هو أديب أديب الله تعالى، أعني أنّهعليه‌السلام أديب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قضى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام شهيداً ومضى حميداً سعيداً، وذلك عندما أكمل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام السنة الرابعة عشرة من عمره.

ثمّ لازم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أخاه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام في السنوات السبع الثالثة من عمره، وهو سنّ المراهقة التي أمرتنا روايات أهل البيتعليهم‌السلام بملازمة الوالد لولده، والأخ الأكبر أخاه الأصغر - مثلاً - الذي هو في سنّ المراهقة، وضمّه إلى نفسه، واصطحابه معه؛ ليكون من جهة رقيباً عليه، وحسيباً لتصرفاته وأعماله.

ومن جهة اُخرى شريكاً له في اُموره، ووزيراً ومشاوراً له في قبضه وبسطه وحلّه وترحاله، حتّى يُلبس ما تعلّمه من نظريّات في السنوات السبع الثانية ثوب العمل والتجسيد الخارجي في السنوات السبع الثالثة، ويقرن النظريات العلميّة بالتجارب الخارجيّة.

فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام قد لازم في هذه السنوات السبع الثالثة أخاه المجتبى سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الأكبر، وريحانته من الدنيا، والإمام المجتبىعليه‌السلام ، الذي هو من أهل البيتعليهم‌السلام الذين علّمونا اُسلوب تربية الناشئة وطريقتها، وأمرونا بملازمة الذين وصلوا سنّ المراهقة واصطحابهم، قد التزم بأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وضمّه إليه، واهتمّ به وأشرف عليه؛ ليكمل دورته العلميّة النظريّة، وينضجها عبر مرورها بمرحلة التطبيق والعمل الخارجي، وليكون مشرفاً على

٢٩٥

تصرّفاته وتقلّباته في الاُمور، ومرشداً له ومسدّداً إيّاه فيها.

ومعلوم أنّ مَنْ يكون ملتزمه وموجّهه سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته من الدنيا، وذلك في أهم مقطع من عمره، وأغلى فرصة ذهبيّة في حياته، كم يكون موفّقاً ومتفوّقاً، وحميداً وسعيداً؟ وكم يصبح أديباً أريباً، وعالماً نحريراً، وفاضلاً قديراً؟

الإمام الحسينعليه‌السلام والتزامه أخاه العبّاس عليه‌السلام

ثمّ إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام بعد أن قضى من عمره أربعة وعشرين عاماً، والتي كان في الأعوام العشرة الأخيرة منها في ملازمة أخيه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام والتلمّذ عليه والتفقّه لديه، فارقه على إثر استشهادهعليه‌السلام مظلوماً مسموماً، وذلك بالسم القاتل الذي دسّه إليه معاوية بن أبي سفيان، ثمّ لازم بعد ذلك أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ ليواصل تلمّذه عليه، والاستمرار في تفقّهه لديه.

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام هو الآخر بعد أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخيه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، الذي التزم بأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وضمّه إليه، وأشرف على تكميل رحلته العلميّة والثقافيّة، واعتنى بمواصلة دورته التهذيبيّة والأخلاقيّة حتّى تخرّج أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام على يدي ثلاثة من الأئمّة المعصومينعليه‌السلام ، ومن معهد علوم وثقافة أهل البيتعليه‌السلام ، عالماً فاضلاً، وأديباً بارعاً، وزكيًّا مهذّباً، وإنساناً كاملاً، وجامعاً للفضائل والمناقب، والمكارم والمحاسن، والأخلاق والآداب، والعلم والحلم، والمعقول والمنقول، والتفسير والتأويل، والفصاحة والبلاغة، وما إلى ذلك من كمال وجمال، فهنيئاً له على توفيقه وسعادته، ومباركاً عليه وسام العالم الفاضل، والفقيه الكامل الذي ناله بجدارة، وحصل عليه بكفاءة، ووصله بوسام الشهادة في سبيل الله، واختتم به حياته العلميّة، وصدّق

٢٩٦

بها دورته الثقافية؛ حيث أمضاها بدمائه الحمراء، ووقع عليها بيديه المقطوعتين في سبيل الله ونصرة دينه، والذب عن إمامه.

من فصاحة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وبلاغته

عرف أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كبقيّة بني هاشم بالفصاحة والبلاغة، والسلامة وحسن التعبير، حتّى قيل عنهعليه‌السلام أنّه كان بليغاً في كلامه، وفصيحاً في نطقه وأدائه.

وقد ذكر الفاضل الدربندي في أسراره بأنّ بعض مَنْ يدّعي الشجاعة والبسالة برز في يوم عاشوراء وأخذ يهدّد أبا الفضل العبّاس، ويندّد به، ويريد منه الاستسلام له، وإلقاء السلاح أمامه، ويحذره شدّة بأسه وطعنه، وقوّة مراسه وضربه.

فسخر منه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ومن كلامه، ولم يعبأ به وبشجاعته، ولم يكترث بتهديده وتنديده، وإنّما أجابه بكلّ قوّة وصلابة، ورباطة جأش ومناعة طبع، قائلاً: إنّي أرى كلامك هذا كالسراب الذي يلوح، فإذا قصد صار أرضاً بواراً، والذي أملته منّي بأن أستسلم لك فذلك بعيد الحصول على صعب الوصول، وإنّي يا عدوّ الله ورسوله معوّد للقاء الأبطال، والصبر على النزال، ومكافحة الفرسان، وبالله المستعان.

ثمّ أضاف قائلاً: ومَنْ كملت هذه الصفات فيه فليس يخاف مَنْ برز إليه، ولا يهاب منازلته ومقارعته. ويلك! أليس لي اتّصال برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فأنا غصن متّصل بشجرته، وزهرة من نور ثمرته، ومَنْ كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام، ولا يخاف ضرب الحسام، وأنا ابن علي بن أبي طالب، لا أعجز عن مبارزة الأقران، ولا أملّ من الضرب والطعان، وما أشركت بالله لمحة بصر، ولا

٢٩٧

خالفت رسول الله فيما أمر، وأنا منه كالورقة من الشجرة، وعلى الاُصول تنبت الفروع، فاصرف عنّا ما أمّلت، واقطع منّا ما رجوت، فما أنا ممّن يأسى على الحياة، ويجزع من الوفاة، فخذ في الجدّ، واصرف عنك الهزل.

ثمّ أنشأ يقول:

صبراً على جورِ الزمانِ القاطعِ

ومـنـيّةٍ مـا إن لها من دافعِ

لا تـجـزعنَّ فكلّ شيءٍ هالكٌ

حـاشى لمثلي أن يكونَ بجازعِ

فـلـئن رمانا الدهرُ منه بأسهمٍ

وتـفرّقٍ مـن بعدِ شملٌ جامعِ

فـلـكم لنا من وقعةٍ شابت لها

قممُ الأصاغرِ من ضرابٍ قاطعِ

ثمّ تصاولا، واختلفا بضربات، وكان النصر أخيراً لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، والموت والهلاك لذلك المغرور الخاسر.

هل ضوء الشمس ضحىً يُنكر؟

قد تبيّن ممّا مضى أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام في الفضل هو ذاك كالشمس في الضحى، يُنير علماً وحلماً، ويضيء فقهاً وحكمة؛ إذ هو مَنْ حصل في الفضل والعلم على أكبر شهادة عالميّة يمكن تحصيلها لأحد في أحدث الجامعات العلميّة الغابرة والمعاصرة والمستقبليّة.

كيف لا وهو خريج جامعة رسول الله الحبيبصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطالب معهد الأئمّة الطاهرين من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومتلمّذ على يد ثلاثة من أئمّة أهل البيت المعصومينعليه‌السلام ؟ وهذا واضح ولا غبار عليه.

ولكن قد يتّفق أن يشكّ الجاهل بمقامات أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام العلميّة في مراتب علميّة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ويتردّد في درجات كماله وفضله؛ فإنّ مَنْ لا معرفة له بشهادة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام العلميّة، ومداركه الثقافيّة العالية، قد يشكّ في مقاماته تلك، كما يشكّ في بقيّة الأشياء التي يجهلها الإنسان، ويعدم معرفتها.

٢٩٨

كما إنّه قد يشكّ في ذلك من اغترّ بعلمه، وأعجب بفضله، وتصوّر في نفسه اغتراراً وجهلاً بأنّه فوق الجميع علماً وفضلاً، فإنّ مثل هذا قد يشكّ أيضاً في مدارج علميّة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ويرتاب في مدارك فضله، ويتردّد في تفوّق مقاماته العلميّة، وكمالاته الروحيّة والجسديّة.

ولذلك ينقل عن بعض العلماء أنّه شاهد في كربلاء المقدّسة وحوزاتها العلميّة المشرّفة رجلاً من الأفاضل قد اغترّ بعلمه، وأعجب بفضله، وأبعد في غلوائه ودعواه، شاهده وقد كان في منتدى من أصحابه، وجمعاً من أترابه، حيث جرى بينهم ذكر أبي الفضل العبّاس وما كان يحمله من المعارف الإلهيّة، والثقافة الدينيّة التي امتاز بها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في هذا المجال، وصارحهم بأفضليّته هو بالنسبة إليه، وأعلميّته منه.

وما إن صرّح هذا الرجل المغرور بذلك حتّى قوبل بإنكار من جماعته وأصحابه، واستغراب من جرأته واغتراره؛ فأخذوا يصبّون اللوم عليه وعلى ادّعائه، ويحذّرونه من غروره وغلوائه، ولكن بدل أن يتنبّه الرجل المغرور، ويرجع من غلوائه ودعواه قام يبرهن على ادّعائه ذلك بتعداد مآثره ومناقبه، وذكر علومه وفضائله، وتفصيل تهجّده وتنفّله، وتشريح عبادته وزهادته، قائلاً: إن كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام يُفضّل عليه في مثل هذه الاُمور فإنّ عنده مثلها، وإن كان يُفضّل بالشهادة قال: فإنّ الشهادة لا تعادل ما يحمله هو - ذلك المغرور - من العلوم الدينيّة، والاُصول الإسلاميّة وعقائدها.

وهنا انفضّ المجلس، وقام الجماعة من عنده منكرين عليه، ومعرّضين به، بينما هو بقي متغطرساً في كبريائه، ومصرّاً على غروره وغلوائه، غير نادم على ما صدر منه، ولا متهيّب ممّا قاله.

٢٩٩

مع الرجـل المغرور

تفرّق الجمع وذهب كلّ واحد من الجماعة والمغرور إلى منزله ومأمنه، وفي الصباح المبكّر أسرع كلّ واحد من الجماعة الذي أسهر ليلتهم همّ هذا الرجل المغرور، وأقلق فكرهم كبير ما ادّعاه ذلك الرجل المعجب بنفسه، والمنبهر بعلمه وفضله إلى داره، وقصدوا منزله ليروا هل هداه الله تعالى ورجع من غيّه؛ لأنّهم قد دعوا الله تعالى ليلتهم وسألوه هدايته، أم لم تشمله عناية الله وبقي على غيّه؟

فلمّا طرقوا عليه الباب قيل لهم: إنّ الرجل قد بكّر في زيارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وهو الآن في روضته المباركة، فأقبلوا مسرعين إلى روضة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ليعرفوا خبره، فلمّا دخلوا الروضة المباركة وإذا بالرجل قد ربط نفسه بالضريح المقدّس عبر حبلٍ قد شدّ طرفاً منه في عنقه، والطرف الآخر في الضريح وهو تائب من تكبّره وغلوائه، ونادم على ما سلف منه وفرّط فيه، فأحاطوا به عند ذلك وسألوه عن أمره.

فأجاب قائلاً: لمّا تركتكم بالأمس وذهبت إلى منزلي أخذت مضجعي في فراشي ونمت وأنا على ما فارقتكم عليه، فرأيت في المنام كأنّي في مجلس حافل قد ضمّ جمعاً من أهل العلم والفضل بين جوانحه، وبينما أنا كذلك إذ دخل علينا رجل، وقال: تهيّؤوا واستعدوا لاستقبال أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام فها هو قادم إليكم ووافد عليكم، فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً عظيماً حتّى دخلعليه‌السلام والنور الإلهي يسطع من وجهه، والجمال العلوي يزهو في محيّاه، فاستقبلناه بحفاوة حتّى جلسعليه‌السلام على كرسي كان قد أُعدّ له في صدر المجلس، عندها جلس

٣٠٠