الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 264425
تحميل: 8841

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264425 / تحميل: 8841
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((المتّقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليه عبادة)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((مَنْ يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((نِعْمَ الرجل الفقيه في الدين؛ إن احتيج إليه نفع، وإن لم يحتج إليه نفع نفسه)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((الفقهاء أمناء الرسل)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدّهم في إرشاد عباد الله، حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور...)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((علماء اُمّتي كأنبياء بني إسرائيل)). وفي رواية اُخرى: ((أفضل من أنبياء بني إسرائيل)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((إنّ مثَل العلماء في الأرض كمثَل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((... وإنّ خير الخير خيار العلماء)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((إنّ فضل العالم العابد كفضل الشمس على الكواكب)).

ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((ألا اُحدّثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله تعالى على منابر من نور؟)). فقيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين يحبّون عباد الله إلى الله، ويحبّون عباد الله إليّ، قال: يأمرونهم بما يحبّ الله وينهونهم عمّا يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبّهم الله)).

فكيف بأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؟! فإنّه إضافة إلى كونه من طلايع هؤلاء العلماء العاملين هو في مقدّمة الشهداء السعداء أيضاً.

اشفع لمَنْ شئت

وهنا يمكن الاستدلال أيضاً على علوّ مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورفيع منزلته لديه، ما جاء في كتاب معالي السبطين من قول

٣٢١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله له: ((ارجع أقرّ الله عينك، فأنت باب الحوائج، واشفع لمَنْ شئت)).

وهذا الكلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام على ما في الكتاب المذكور يكون كما يلي:

قال صاحب كتاب معالي السبطين: سمعت بعض مَنْ يعتمد عليه من الأساتيذ يقول: كان رجل من أهل الخير والصلاح يسكن كربلاء المقدّسة، ويقطن في أرضها المباركة، وكان له ولد صالح قد مرض، فجاء به بعد أن أعيا الأطباء علاجه ويئسوا منه إلى روضة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وتوسّل به إلى الله تعالى، وشفّعه في طلب شفاء ابنه من الله (عزّ وجل)، فبات ليلته عند مرقده الشريف، لائذاً بضريحه المنيف، وعائذاً به.

وفي الصباح أقبل إليه أحد أخلاّئه وأصدقائه ليقول له: إنّي رأيت البارحة رؤيا اُريد أن أقصّها عليك، وهي إنّي رأيت في المنام كأنّ أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام قد شفع إلى الله تعالى في ولدك، وطلب منه شفاء ابنك، وسأل له العافية.

عندها أقبل إليه ملك من الملائكة رسولاً من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليقول له: يا أبا الفضل، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخصّك بالسلام ويقول لك: ((لا تشفع في شفاء هذا الشاب؛ فإنّه قد بلغ الكتاب أجله، وقد انقطعت مدّته، وتصرّمت أيّامه)).

فقال أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام لذلك الملك: أبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنّي السّلام، وقل له: إنّي استشفع بك إلى الله، وأطلب منه بحقّك شفاءه.

فمضى إليه ذلك الملك، ثمّ عاد إليه، فقال له مثل كلامه الأوّل، فأجابه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أيضاً بمثل جوابه الأوّل.

تكررت هذه العملية ثلاث مرّات، وفي المرّة الرابعة لمّا جاء الملك وأعاد الكلام، قام أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام من مجلسه، وقصد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، حتّى إذا دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك بعد أن استأذنه بالدخول عليه، أقبل عليه وقال له بعد التحيّة والسّلام: يا رسول الله، صلّى عليك مليك الأرض والسماء،

٣٢٢

وليس من الصحيح بأنّ الله تعالى قد منحني وسام باب الحوائج وسمّاني به، والناس قد علموا بذلك فقصدوني وأمّوني، وهم يستشفعون ويتوسّلون بي إلى الله (عزّ وجلّ)؛ فإن لم يكن كذلك فليسلب الله سبحانه وتعالى هذا الاسم منّي، وليسحب هذا الوسام عنّي.

وهنا التفت إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مصدّقاً له، والابتسامة على شفتيه رضىً به وقبولاً منه، وقال له: ((ارجع أقرّ الله عينك، فأنت باب الحوائج، واشفع لمَنْ شئت، وهذا الشاب المريض قد شفاه الله ببركتك)).

وكان كما قصّ الرجل رؤياه؛ حيث إنّ ذلك الشاب المريض قام من مرضه وشوفي من علّته، وعاش ما عاش بعدها بصحة وسلامة، وعافية وكرامة، كلّ ذلك ببركة شفاعة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ووساطته عند الله (عزّ وجلّ).

ومن ذلك ظهر أنّ الرؤيا كانت من المنامات الصادقة والأحلام الطيّبة التي أخبرت الروايات الكريمة عنها قائلة: بأنّ رؤيا المؤمن جزءاً من سبعين جزء من النبوّة، كناية عن صدقها وتحققها في الخارج.

الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومنزلة العبّاس عليه‌السلام عنده

جاء في كتاب (قمر بني هاشم): أنّ اُمّ البنينعليها‌السلام رأت أمير المؤمنينعليه‌السلام في بعض الأيام قد أجلس ولده أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام وهو صغير في حضنه، وشمّر عن ساعديه وكفّيه الصغيرتين، وأخذ يقبّلهما ويبكي، فأدهشها الحال، وتعجّبت من هذا الأمر، فأقبلت على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام تسأله مندهشة، وتقول: لا أبكى الله عينك يا أمير المؤمنين، وهل في ساعدَي ولدي وكفّيه ما يستدعي التأثر والبكاء؟!

٣٢٣

فأوقفها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على ما لهذا الطفل من شأن كبير عند الله، ومنزلة رفيعة لديه على ما سيقوم به من نصرة أخيه وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء، والذبّ عنه حتّى تُقطع كلتا يديه في نصرته.

فلم تتمالك الاُمّ الحنون نفسها من وقع هذا الخبر حتّى بكت وأعولت، وشاركها مَنْ كان في الدار الزفرة والحسرة، والبكاء والعويل، فهدّأهم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وأسكتهم، ثمّ بشّر اُمّ البنينعليها‌السلام بمكانة ولدها العزيز عند الله (جلّ شأنه)، وأخبرها بأنّه سوف يعوّضه الله عن يديه المقطوعتين بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل مثل ذلك لجعفر بن أبي طالبعليه‌السلام أيضاً.

ومعلوم أنّ تقبيل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كفّي ولده أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وساعديه ليس هو من باب الشفقة والمحبّة فقط، بل هو من باب المقام والمنزلة أيضاً.

ستقر عيني بك

وجاء في كتاب معالي السبطين وغيره أيضاً: أنّه لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة، أي في ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي الليلة الأخيرة من عمر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث أخذ الإمام يودّع فيها أهل بيته وخاصّته، ويوصيهم بوصاياه ومواعظه، وفيها التفت إلى ولده أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وضمّه إلى صدره، وقال له: ((ولدي عبّاس، وستقرّ عيني بك يوم القيامة.

ولدي أبا الفضل، إذا كان يوم عاشوراء، ودخلت الماء وملكت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء وأن تذوق منه قطرة وأخوك الحسينعليه‌السلام عطشان)).

٣٢٤

والشاهد من هذا الخبر هو قول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لولده أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام : ((وستقرّ عيني بك في يوم القيامة))؛ فإنّ قرّة عين الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يكون إلاّ بما يراه الإمام من علوّ مقام ولده أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند الله تبارك وتعالى، ورفيع منزلته لديه.

منزلة العبّاس عليه‌السلام عند فاطمة الزهراء عليها‌السلام

جاء في كتاب (أسرار الشهادة) نقلاً عن بعض كتب المقاتل: أنّه إذا كان يوم القيامة واشتدّ الأمر على الناس، بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذن من الله تعالى الإمامَ أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى ابنته الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراءعليها‌السلام لتحضر مقام الشفاعة.

فيقبل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إليها ويخبرها بما قاله أبوها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويطلب منها حضور مقام الشفاعة، ثمّ يسألها قائلاً: ((يا فاطمة، ما عندك من أسباب الشفاعة؟ وما الذي ادّخرتيه لأجل هذا اليوم الذي فيه الفزع الأكبر؟)).

فتجيبه فاطمةعليها‌السلام بقولها له: ((يا أمير المؤمنين، كفانا لأجل هذا المقام اليدان المقطوعتان من ابني العبّاس)).

وفي هذا الخبر دلالة كافية على قبول الله تعالى اليدين المقطوعتين لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، [ اللّتين ] قطعتا في سبيله، وفي نصرة دينه ووليّه.

وهو يدلّ أيضاً على علوّ مقام صاحب اليدين المقطوعتين عند الله تبارك وتعالى، وسموّ منزلته لديه، إضافة إلى علوّ مقامه عند فاطمة الزهراءعليها‌السلام ؛ حيث إنّها دعته ابناً لها عند قولها: ((كفانا لأجل هذا المقام اليدان المقطوعتان من ابني العبّاس))، بعد جعلها يديه القطيعتين وسيلة للشفاعة في ذلك اليوم العظيم والموقف الرهيب.

٣٢٥

العبّاس عليه‌السلام ومنزلته عند الإمام المجتبى عليه‌السلام

لقد خاطب الإمام الصادقعليه‌السلام عمّه العبّاسعليه‌السلام في الزيارة المعروفة، التي علّم شيعته زيارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بها، وقال: ((السّلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله، ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (صلّى الله عليه وسلّم)).

فإنّ طاعة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لأخيه الإمام المجتبى الحسن الزكيعليه‌السلام تكشف عن مقامه عنده ومنزلته لديه، وليس مقاماً متواضعاً ومنزلة عادية، بل مقاماً رفيعاً ومنزلة سامية؛ وذلك لأنّهعليه‌السلام كان يطيعه عن علم تام، ومعرفة كاملة، ويقين راسخ؛ لأنّهعليه‌السلام كان يرى في إطاعته له إطاعة لأمر أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث أوصى بنيه وجميع أهل بيته، وشيعته ومحبّيه بالسمع والطاعة للإمام المجتبى الحسن الزكيعليه‌السلام ، ثمّ بعده لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام .

وممّا يدلّ أيضاً على عظيم منزلة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند أخيه الإمام المجتبىعليه‌السلام ، ورفيع مقامه لديه أن شرّكه الإمام الحسينعليه‌السلام في تجهيز الإمام المجتبىعليه‌السلام ، وتغسيله له وتكفينه إيّاه، مع أنّه لا يلي تجهيز المعصوم إلاّ المعصوم، ومَنْ أوصى المعصوم، ورآه المعصوم صالحاً لأن يشارك المعصوم في تجهيزه.

والظاهر: أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هو مَنْ قد أوصى الإمام المجتبىعليه‌السلام أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام بمشاركته له في تجهيزه، ورآه الإمام الحسينعليه‌السلام أيضاً صالحاً لذلك، فشرّكه معه في تجهيزه كما شرّك الإمام أمير المؤمنين ابن عمّه الفضل بن العبّاس بن عبد المطلب في تجهيز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن مع إلزامه في تعصيب عينيه؛ خشية العمى إن وقع بصره على ذلك الجسد الطاهر؛ فإنّ غير المعصوم كما

٣٢٦

لا يحقّ له تجهيز المعصوم؛ لعدم المجانسة في العصمة والطهارة معه، فكذلك لا يحقّ له النظر إلى جسد المعصوم عند تجهيزه، وإلاّ عمي بصره.

بينما أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قد شارك أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام في تجهيز الإمام المجتبىعليه‌السلام ، ولم يذكر في التاريخ أنّه عصّب عينيه أوغضّ طرفه عند مشاركته له، وهذا يدلّ على عظمة شأن أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وجلالة قدره.

منزلة العبّاس عليه‌السلام عند الإمام الحسين عليه‌السلام

وأمّا منزلة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام فحدّث ولا حرج، فكم من موقف للإمام الحسينعليه‌السلام مع أخيه أبي الفضل العبّاس كشف فيه عن علوّ مقامه عنده، وسموّ منزلته لديه.

فقد خاطبهعليه‌السلام يوم التاسع من المحرّم عندما زحف الجيش الأموي على مخيّم الإمام الحسينعليه‌السلام بقوله: ((اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم وتسألهم عمّا جاءهم، وما الذي يريدون؟)).

وهذه الكلمة لها أهميتها وقدرها؛ فإنّها تنبئ عن مكانة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتخبر عن خطر منزلته لديه.

وقد خاطبهعليه‌السلام يوم عاشوراء أيضاً، وذلك لمّا استأذنه للبراز إلى الأعداء والقتال بين يديه، بقوله: ((أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري)). وفي رواية اُخرى قال له، وهو يريد استبقاءه: ((أنت العلامة من عسكري، وأنت مجمع عددنا، فإذا مضيت يؤول جمعنا إلى الشتات، وعمارتنا تنبعث إلى الخراب)).

وخاطبه في يوم عاشوراء أيضاً، وذلك لمّا وقف على مصرعه، وأراد حمله إلى المخيّم، فأقسم عليه العبّاسعليه‌السلام بحقّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركه مكانه؛ لئلاّ

٣٢٧

يتجرّأ الأعداء عليه، بقوله: ((جزيت عن أخيك خيراً، فقد نصرته حيّاً وميّتاً)).

وخاطبه أيضاً لمّا قام من مصرعه، وهو يبكي ويكفكف دموعه بيديه، بقوله: ((الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي))، وغيرها من المخاطبات الدالة على عظيم مقام العبّاسعليه‌السلام عند أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وسموّ منزلته لديه.

الإمام زين العابدين عليه‌السلام ومنزلة العبّاس عليه‌السلام عنده

جاء في كتاب معالي السبطين إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا تفقّد ولده الإمام زين العابدينعليه‌السلام وعاده ليودّعه سأله عن عمّه العبّاسعليه‌السلام ، فاختنقت عمّته زينبعليها‌السلام التي كانت تمرّضه بعبرتها، وجعلت تنظر إلى أخيهاعليه‌السلام كيف يجيبه؛ لأنّه لم يكن يخبره لحد الآن بشهادة عمّه العبّاسعليه‌السلام خوفاً من أن يشتدّ مرضه، فقالعليه‌السلام له، وهو يرى أنّه لا بد من إخباره، ولا طريق لحجب هذا الخبر المفجع عنه: ((يا بني، إنّ عمّك قد قُتل، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات)). فبكى علي بن الحسينعليه‌السلام بكاءً شديداً حتّى غشي عليه.

ومعلوم أنّ سؤال الإمام زين العابدينعليه‌السلام أوّلاً وقبل كلّ أحد عن عمّه العبّاسعليه‌السلام ، وكذلك بكاؤه لمّا سمع باستشهاده حتّى الإغماء دليل على عظمة مقام العبّاسعليه‌السلام عند الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، ورفيع منزلته لديه.

على الدنيا بعد العبّاسعليه‌السلام العـفا

وجاء في كتب المقاتل أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام لمّا جاء لمواراة الأجساد الطاهرة والأبدان الزاكية، ووارى بنفسه جثمان والده سيّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، واستعان ببني أسد في مواراة بقيّة الشهداء السعداء، وفرغ منها،

٣٢٨

التفت إلى بني أسد وقال لهم: ((انظروا هل بقي من أحد؟)).

قالوا: نعم، بقي بطل مطروح حول المسنّاة، وإنّا كلّما حملنا منه جانباً سقط منه الجانب الآخر لكثرة ما به من ضرب السيوف، وطعن الرماح، فبكىعليه‌السلام من قولهم ذلك، وقال: ((امضوا بنا إليه)).

فلمّا رآه ألقى بنفسه عليه يلثم نحره الطاهر، ويقبّل يديه المقطوعتين، وهو يقول: ((على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم! وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب، ورحمة الله وبركاته)).

ثمّ قامعليه‌السلام وتولّى أمره بنفسه، فشقّ له ضريحاً وأنزله في مثواه وحده، ولم يشرك أحداً من بني أسد في ذلك كما فعل بأبيه سيّد الشهداءعليه‌السلام ، ولمّا أراد بنو أسد إعانته عليه قال لهم: ((يا بني أسد، إنّ معي مَنْ يعينني)).

وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على ما لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام من مقام كبير، وشأن عظيم عند الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، بل عند الله تبارك وتعالى، وعند رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعند الأئمّة من أهل بيتهعليه‌السلام .

رحـم الله عمّي العبّاسعليه‌السلام

وجاء في كتاب أمالي الصدوق أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام وقع نظره يوماً على عبيد الله بن العبّاس بن عليعليه‌السلام ، فتذكّر به عمّه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام فاستعبر، ثمّ قال: ((ما من يوم أشدّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من يوم قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلبعليه‌السلام أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام )).

ثمّ أضاف: ((ولا يوم كيوم الحسينعليه‌السلام ؛ ازدلف إليه فيه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الأمّة، كلّ يتقرّب بدمه إلى الله، وهو يذكّرهم بالله، فلا يتّعظون حتّى قتلوه بغياً، وظلماً وعدواناً)).

ثمّ قال: ((رحم الله عمّي العبّاس،

٣٢٩

فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، وإنّ للعبّاسعليه‌السلام عند الله منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)).

بعد فاجعـة الطفِّ

وجاء في بعض الكتب أيضاً إنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام لمّا رجع إلى المدينة بعد فاجعة الطفِّ لازم الحزن والبكاء على أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعلى عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وعلى سائر شهداء كربلاء.

وكان لا يجلس بعد ذلك في الأعياد للناس، بل كان يوم العيد يوم حزنه وبكائه، ويوم تجدّد المصاب عليه، فأراد منه شيعته ذات مرّة وبإصرار أن يجلس لهم في عيد مقبل عليهم، كما وأرسلوا نساءهم إلى مخدّرات الرسالة ليسألن منه ذلك، فأجابهمعليه‌السلام إلى ذلك على شرط أن لا يأتوه مهنئين ولا مباركين له بالعيد.

فلمّا كان يوم العيد جلسعليه‌السلام لهم، فلمّا رأى عبيد الله بن العبّاس بن عليعليه‌السلام - وكان صغيراً - أنّ ابن عمّه الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد جلس للناس في هذا العيد ظنّ أنّ حزن الإمام وبكاءه قد انقضى، فأقبل إلى جدّته اُم البنين وأراد منها أن تلبسه ثياب العيد حتّى يزور بها الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، الذي جلس للناس في هذا العيد، فقالت له اُمّ البنين: نعم يا بني.

وكانت اُمّ البنين قد ادّخرت ثياباً للعبّاسعليه‌السلام من أيّام الصغر، فأخرجتها وألبسته، فجاء عبيد الله بن العبّاسعليه‌السلام فيها ودخل على الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فلمّا رآه مقبلاً وقد لبس ثياب أبيه العبّاسعليه‌السلام قامعليه‌السلام من مجلسه، وقد تحادرت دموعه على خدّيه؛ ليستقبل ابن عمّه الصغير باكياً، فقيل له: لا أبكى الله عينك يابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟

فقالعليه‌السلام : ((لمّا وقع نظري على ابن عمّي هذا عبيد الله بن

٣٣٠

العبّاسعليه‌السلام المقبل عليّ، وقد لبس ثياب أبيه تذكّرت عمّي العبّاس، وتصوّرت أنّه هو الذي يدخل عليّ، فتذكّرت بذلك موقفه يوم الطفّ فبكيت)).

ثمّ فتح الإمامعليه‌السلام باعه وضمّ ابن عمّه عبيد الله بن العبّاسعليه‌السلام إلى صدره وقبّله، ثمّ أجلسه في حجره، والتفت إليه وهو يمسح على رأسه بيده الكريمة، ويقول له: ((أظننت يابن العم أنّ حزننا على عمّك الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعلى أبيك العبّاسعليه‌السلام ، وسائر بني هاشم والشهداء قد انقضى؟! هيهات يابن العم! إنّ حزننا عليهم لا ينقضي إلى يوم القيامة)).

ثمّ أنشأ يقول:

نحنُ بنو المصطفى ذوو غُصصٍ

يـجـرعـها في الأنامِ كاظمُنا

عـظـيمةٌ فـي الأنـامِ محنتُنا

أوّلُـنـا مـبـتـلـى وآخرُنا

يـفـرحُ هـذا الـورى بعيدِهمُ

ونحـنُ أعـيـادُنـا مآتمُنا

والناسُ في الأمنِ والسرورِ وما

يـأمـنُ طـولَ الزمانِ خائفُنا

وما خـصصنا بهِ من الشـ

رفِ الـطـائلِ بين الأنامِ آفتُنا

يـحـكمُ فـيـنا والحكمُ فيهِ لنا

جـاحـدُنـا حـقّـنا وغاصبُنا

ثمّ بكى، وبكى مَنْ كان حاضراً معه.

منزلة العبّاسعليه‌السلام عند الإمام الباقر عليه‌السلام

جاء في كتب المقاتل إنّ الإمام محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، المكنى بـ (أبي جعفر)، والملقّب من قبل جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تبارك وتعالى بلقب (الباقر)عليه‌السلام ، كان مع أبيه الإمام السجّادعليه‌السلام وجدّه الإمام الحسينعليه‌السلام قد حضر كربلاء، ومر عليه يوم عاشوراء وهو ابن خمس سنين، فكان يدرك كلّ الوقائع المؤلمة التي وقعت فيه، ويتحسّس جميع الأحداث المفجعة التي

٣٣١

اتّفقت لهم عنده، فكان المصاب الأليم يعصر قلبه، والرزايا العظيمة تستدرّ دمعه، وخاصّة عندما سمع بمقتل عمّ أبيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ذلك البطل الضرغام الذي كان معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وخاصّة مخيّم النساء آمناً في ظِلاله، ومطمئناً إلى حمايته ودفاعه، والذي بشهادتهعليه‌السلام أمِنَ العدوّ جانب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأيقن بالسيطرة عليه، وسهرت عيون الهاشميات، وباتت خائفة من الأسر، مرعوبة من السبي، وتسلّط الأعداء الجفاة عليهم.

ولذلك يمكن لنا القول بأنّ الإمام الباقرعليه‌السلام تقديراً لمواقف عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام المشرّفة، وشكراً لمساعيه الطيّبة، وإعلانا عن مقام عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عنده، ومنزلته لديه، قد لثم يدَي عمّه المقطوعتين، وقبّلهما بحرقة ولوعة؛ اقتداءً بأبيه الإمام السجّادعليه‌السلام ، وجدّه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وذلك حين مرّوا به وبعمّاته والهاشميات على مصارع القتلى، وأطافوا بهم حول أجسادهم الموذرة وأعضائهم المقطّعة.

وبذلك يكون قد قبّل يدَي أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ولثمها خمسة من الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، وهم: الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، فإنّهما قبّلا يديه في حال صغره، وحين كانتا مثبتتين في جسمه، والإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّه قبّلهما في صغره مثبتتين، وفي كبره مقطوعتين، والإمام السجادعليه‌السلام والإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فإنّهما قبّلا يدَيه وهما مقطوعتان عن جسمه، مرميّتان على رمضاء كربلاء.

٣٣٢

الإمام الصادق عليه‌السلام ومنزلة العبّاس عليه‌السلام عنده

لقد روي عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام الشيء الكثير، والجم الغفير في حقّ عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وكلّ واحد منها ينبئ عن علوّ مقامه عنده، وسموّ منزلته لديه، بل كلّ واحد منها صريح في بيان ما لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام من الجاه والجلال عند الله تعالى، وعند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعند فاطمة الزهراءعليه‌السلام ، وعند الأئمّة من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد اشتهر منها قولهعليه‌السلام في حقّه: ((كان عمّنا العبّاس بن عليعليه‌السلام نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد اللهعليه‌السلام وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً)).

ويكفي أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هذا الوسام الكريم من الإمام الصادقعليه‌السلام ، الذي هو وسام من الله تعالى؛ لأنّهعليه‌السلام يتكلّم عن آبائهعليهم‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن جبرائيل، عن الله تعالى، وقد أبان فيه عن مدى شخصيّة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام الكبيرة، وكشف عبره عن مغزى نفسية العبّاسعليه‌السلام الرحبة، وأفصح في طيّاته عن معنوياته الواسعة والصلبة.

وقد اشتهر منها أيضاً قولهعليه‌السلام فيما علّمه شيعته وأصحابه إذا حضروا عند مرقد أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أن يخاطبوه به من لفظ الزيارة المرويّة بسند صحيح متّفق عليه، والتي تبتدئ بتقديم التحيّة، وإهداء السّلام من الله وملائكته وأنبيائه ورسله، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، زاكيّة طيّبة في كلّ صباح ومساء على العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وتنتهي بالدعاء والثناء، وطلب المغفرة والرضوان، ونيل الفلاح والنجاح للزائرين الوافدين، وتضمّ فيما

٣٣٣

بين البدء والختم معانٍ شامخة، ومقامات سامية تضاهي ما جاء من المعاني الشامخة في زيارات المعصومينعليهم‌السلام ، وتوازي ما روي من المقامات السامية لهم (سلام الله عليهم أجمعين).

فالزيارة هذه إذاً صريحة في عظمة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وجلالة قدره.

منزلة العبّاس عليه‌السلام عند باقي الأئمّة عليهم‌السلام

ثمّ إنّ باقي الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الإمام الصادقعليه‌السلام وحتّى الإمام المهديعليه‌السلام وإن لم يصلنا منهم تصريح في حقّ عمّهم أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام سوى ما وصلنا من الإمام الهاديعليه‌السلام ؛ وذلك على ما في الإقبال من زيارة الناحية المقدّسة الصادرة عنها سنة مئتين واثنين وخمسين هجريّة، المتعرّضة لأسماء الشهداء، والتي يقول فيها الإمامعليه‌السلام مخاطباً عمّه العبّاسعليه‌السلام : ((السّلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه...)).

وسوى ما بلغنا من الزيارة الصادرة من الناحية المقدّسة لصاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، والتي يقول فيها الإمامعليه‌السلام : ((السّلام على الأعضاء المقطّعات)).

إلاّ أنّهمعليهم‌السلام أقرّوا ما روي صحيحاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام من لفظ زيارة عمّهم أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأمروا شيعتهم أن يزوروا عمّهم العبّاسعليه‌السلام بتلك الزيارة المأثورة، فيكونون بذلك قد قبلوا ما تضمّنته الزيارة من مقام رفيع لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وما صرّحت به من مرتبته السامية؛ فيصح لنا حينئذ أن نقول: إنّ مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند مَنْ لم يصلنا منه تصريح في حقّه من الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام هو نفس مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند مَنْ وصلنا من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام تصريح منه في حقّهعليه‌السلام .

٣٣٤

اُمّ البنين عليها‌السلام ومنزلة العبّاس عليه‌السلام عندها

إنّ الاُمّ وإن عُرف بأنّه يشدّها إلى ابنها محبّة الاُمومة، وعلاقة الحمل والرضاع ن والتربية والحضانة، إلاّ أنّ اُمّ البنينعليها‌السلام قد فاقت في محبّتها لولدها العبّاسعليه‌السلام على محبّة الاُمومة، وسمت في علاقتها به علاقة القرابة القريبة؛ وذلك لمعرفتها بما يحمله أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بين جوانبه من إيمان راسخ وولاء كبير لأخيه وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام .

وما يضمّه بين أضلاعه من إخلاص لله تعالى ولرسوله ولدينه وإمامه، وما ينطوي عليه من صفات خيّرة وخلق كريم؛ حيث اجتماع كلّ ذلك في أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، والذي بشّرته به إرهاصات ولادتهعليه‌السلام ، بل وقبل ولادته وحمله، جعلت له مكانة عظيمة لدى اُمّه اُمّ البنينعليها‌السلام ، وأحرزت له منزلة رفيعة لديها؛ ولذلك نراهاعليها‌السلام تعوّذه من صغره بقولها:

أُعـيـذهُ بـالواحدِ

من عينِ كلّ حاسدِ

قـائـمِهمْ والقاعدِ

مـسلمِهمْ والجاحدِ

صـادرِهم والواردِ

مـولودِهمْ والوالدِ

وترثيه بعد شهادته بقولها:

يا مَنْ رأى العبّاس كرّ

عـلـى جماهيرِ النّقدْ

ووراه مـن أبناءِ حيـ

ـدرِ كـلُّ ليثٍ ذي لُبدْ

نُـبّئتُ أنّ ابني أُصيـ

ـبَ بـرأسهِ مقطوعَ يدْ

ويـلي على شبلي أما

لَ برأسِهِ ضربُ العمدْ

لو كانَ سيفكَ في يدِيـ

ـك لـما دنا منكَ أحدْ

٣٣٥

وقولها الآخر:

لا تـدعـوَنّـي ويكِ اُمَّ البنينْ

تـذكّـريني بـليوثِ العرينْ

كـانـت بـنونَ ليَ أُدعى بهمْ

والـيومُ أصبحتُ ولا من بنينْ

أربـعـةٌ مـثـلُ نسورِ الرُّبى

قد واصلوا الموتَ بقطعِ الوتينْ

تـنـازعُ الـخرصانُ أشلاءَهم

فـكـلّهم أمسى صريعاً طعينْ

يـا لـيتَ شعري أكما أخبروا

بأنّ عـبّاساً قطيعَ اليمينْ

نعم، إنّ اُمّ البنينعليها‌السلام كانت هي أوّل مَنْ رثى العبّاسعليه‌السلام على ما في مقاتل الطالبيِّين؛ فإنّها كانت تخرج إلى البقيع تندب أولادها الأربعة؛ العبّاسعليه‌السلام وإخوته عبد الله وجعفر وعثمان، أشجى ندبة وأحرقها، فيجتمع الناس لسماع ندبتها والبكاء معها مساعدة لها، حتّى إنّ مروان هذا العدو اللدود لبني هاشم كان إذا مرّ بالبقيع وسمع ندبة اُمّ البنين أقبل وجلس يبكي مع الناس لبكائها.

منزلة العبّاس عليه‌السلام عند السيّدة زينب عليها‌السلام

وأمّا منزلة العبّاسعليه‌السلام عند السيّدة زينبعليها‌السلام فقد ظهر منذ ولادتهاعليها‌السلام ، فكانت بعد اُمّه اُمّ البنينعليها‌السلام هي كالأم الحنون له، تناغيه في المهد، وتربّيه في أحضانها، وتغذّيه بعلمها ومعرفتها.

وهي التي أتت به عند ولادته إلى أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ ليقيم عليه سنن الولادة من الأذان والإقامة في أذنيه اليمنى واليسرى، ومن التسمية، وجعل الكنية واللقب له، ثمّ سألت أباها عن اسمه، فقال لها: ((إنّه عبّاس))، وعن كنيته، فقال: ((إنّه أبو الفضل))، وعن لقبه، فقال: ((إنّه قمر بني هاشم، وقمر العشيرة، والسقّاء)).

فقالتعليها‌السلام متفائلة: أمّا اسمه (عبّاس) فهو علامة الشجاعة والبسالة، وأمّا كنيته (أبو الفضل) فهو آية

٣٣٦

الفضل والكرامة، وأمّا لقبه (قمر بني هاشم، وقمر العشيرة) فهو وسام الجمال والكمال، والصباحة والوجاهة، ولكن يا أبه، ما معنى أنّه السقّاء؟

فقال لها أبوها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد استعبر: ((إنّه ساقي عطاشى كربلاء)). وقصّ عليها شيئاً من حوادث عاشوراء، فأجهشت السيّدة زينبعليها‌السلام بالبكاء لمّا سمعت ذلك، فهدّأها أبوها بقوله: ((بُنية زينب، تجلّدي واصبري، وخذي أخاك إلى اُمّه، واعلمي أنّ له معك لموقف مشرّف وشأن عظيم)).

وهذا ممّا زاد في مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند أخته السيّدة زينبعليها‌السلام ، وأضاف في منزلته لديها، حتّى أنّهاعليها‌السلام طلبت من أبيها عند ارتحاله على ما في بعض الكتب بأن يتكفّلها أخوها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ويلتزم بحمايتها وحراستها، وخاصّة في كربلاء، وعند السفر إليها.

فدعاعليه‌السلام ولده أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأخذ بيد ابنته الكبرى السيّدة زينبعليها‌السلام ووضعها في يدهعليه‌السلام ، وقال له: ((بني عبّاس، هذه وديعة منّي إليك، فلا تقصّر في حفظها وصيانتها)). فقال العبّاسعليه‌السلام لأبيهعليه‌السلام ودموعه تجري على خديه: لأنعمنّك يا أبتاه عيناً.

وكان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بعد ذلك يهتمّ باُخته الكبرى السيّدة زينبعليها‌السلام أكثر من ذي قبل، ويرعاها أشدّ رعاية من الماضي، وخاصّة في أسفارها التي اتّفقت لهاعليها‌السلام بعد ذلك.

فإنّ أوّل سفرهاعليها‌السلام كان في أيّام خلافة والدها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام الظاهرية، حيث هاجرعليه‌السلام من المدينة إلى الكوفة وجعلها مقرّاً لخلافته، فهاجرت هيعليها‌السلام إليها أيضاً.

وأمّا أسفارها الباقية، وهي عبارة عن سفرها مع أخيها الإمام المجتبى الحسن الزكيعليه‌السلام إلى المدينة المنوّرة، والرجوع إلى مدينة جدّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك سفرها مع أخيها الإمام الحسينعليه‌السلام حين خروجه على يزيد بن معاوية - عدوّ الله وعدوّ رسوله - من المدينة إلى مكّة ومنها إلى كربلاء، فكان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الذي تكفّل ركوبها ونزولها، وتعهّد حراستها

٣٣٧

ورعايتها في طوال الطريق، وخاصّة عند نزولها في كربلاء، وعلى الأخصّ في الأيّام الصعبة والظروف العصيبة التي أحاطت بهم في كربلاء من كلّ جانب وإلى يوم عاشوراء.

ولذلك لمّا أراد الأعداء السفر بها وببقية السبايا إلى الكوفة ومنها إلى الشام، وأحضروا النياق الهزّل الخالية عن الوطاء، والعارية عن المحامل، ليركبوهم عليها ويعرجوا بهم من ربوع كربلاء، التفتت السيّدة زينبعليها‌السلام نحو العلقمي وصاحت برفيع صوتها، والأسى يقطّع نبرتاها: أخي عبّاس، أنت الذي من المدينة أركبتني، وها هنا أنزلتني، قم الآن فركّبني، فها هي نياق الرحيل تجاذبنا بالمسير.

عـبّاس يا حامي الظعينةِ والحرمْ

بحماك قد نامتْ سكينةُ في الحرمْ

صرختْ ونادتْ يومَ إذ سقطَ العلمْ

الـيومُ نـامتْ أعـينٌ بكَ لمْ تنمْ

وتـسهّدتْ اُخـرى فـعزَّ منامُها

عـبّاس تـسمعُ ما تقولُ سكينةٌ

عـمّاه يـومَ الأسرِ مَنْ يحميني

العبّاس عليه‌السلام ومقامه عند محبّيه وشيعته

لقد رفع الله مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وأعلى منزله في الدنيا والآخرة، ولدى محبّيه وشيعته، بل ولدى الناس أجمعين، حتّى إنّ العلاّمة الدربندي في أسرار الشهادة كما عن معالي السبطين، قال وهو يصف بعض ما لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام من الجاه والمقام عند الناس:

ثمّ انظر إلى اسمه الشريف عند المخالف والموالف؛ فإنّه قد جعل قريباً من أسماء الأئمّة الحجج، ولا تمضي ساعة إلاّ وقد وقع الحلف باسمه الشريف، بل الرعب منه أكثر من غيره، بحيث لا يحلفون باسمه كذباً؛ خوفاً من الابتلاء والافتضاح، وقد شاهدوا ذلك باُمّ أعينهم.

٣٣٨

وقصة التوسل به في قضاء الحوائج معروفة، بحيث إنّه لا يمضي أسبوع واحد إلاّ وقد علا أحدهم المنارة العبّاسيّة المباركة، وأخذ ينادي بأعلى الصوت: رفع الله راية العبّاس، وبيّض وجهه؛ فإنّه قد قضيت حوائجنا بتوسّلنا به إلى الله تعالى، ونزولنا بفنائه، ولجوئنا ببابه، ثمّ قال: وكيفيّة النذورات له وكثرتها معلوم وواضح.

ويشهد لهذا التصريح المذكور في معالي السبطين، والمحكي عن أسرار الشهادة، التاريخ الغابر والمعاصر، وكلّ مَنْ توفّق لأن يقصد أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ويتشرّف بالحضور في روضته المباركة، ويزوره في كربلاء المقدّسة عن كثب؛ حيث إنّه يشاهد كلّ هذه الاُمور قائمة في روضته المباركة على قدم وساق، ولا عجب من ذلك؛ إذ هو الذي منحه الله تعالى وسام (باب الحوائج)، وآلى على نفسه أن لا يردّ صاحب حاجة من بابهعليه‌السلام خائباً، ولا مؤمّلاً به محروماً، بل يردّهم بحوائجهم مفلحين منجحين، وسالمين غانمين.

العلماء إذا زاروا مرقد العبّاس عليه‌السلام

هذا، وقد جاء في المأثور من زيارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام المرويّة في المزار الكبير لابن المشهدي، بسند صحيح عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، إنّ من آدابها هو أن ينكبّ الزائر على مرقد أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ويقبّله، ويقول كذا وكذا.

وجاء في مزار الشيخ المفيد، ومزار السيّد ابن طاووس، أنّه عندما يستأذن الزائر في الدخول إلى روضة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام المباركة، يدخل وينكبّ على القبر الشريف، ويقول وهو مستقبل القبلة: ((السّلام عليك أيّها العبد الصالح...)).

وفي زيارة اُخرى لهعليه‌السلام : ((ثمّ تنكبّ على القبر وتقبّله، وتقول: بأبي أنت واُمّي يا ناصر دين الله!...)).

٣٣٩

ومن أجل ذلك كان العلماء الأعلام والمراجع العظام إذا قصدوا أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وتشرّفوا بزيارته في روضته المباركة، قبّلوا عتبته الشريفة ولثموها عند دخولهم إليه، كما يلثمون عتبة الإمام الحسينعليه‌السلام ويقبلونها عند الدخول إليه والتشرّف بزيارتهعليه‌السلام .

وينقل عن صاحب كتاب [ أسرار الشهادة ] العلاّمة الدربندي أنّه قال يوماً للشيخ الأنصاري، وذلك في أيّام مرجعية الشيخ: إنّ الشيعة يرجعون إليكم ويقتدون بكم ويقتفون آثاركم، فلو كنتم عند تشرّفكم إلى زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام تقبّلون عتبته المقدّسة حين دخولكم في روضته المباركة، اقتدى الشيعة بكم في ذلك، وفعلوا كما تفعلون، فتشتركون في ثوابهم، وتؤجرون بأجرهم.

فأجابه الشيخ الأنصاري قائلاً: إنّي اُقبّل عتبة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام المقدّسة وألثمها، ناهيك عن أعتاب الأئمّة الطاهرين من أئمّة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كالإمام الحسينعليه‌السلام .

ثمّ أضاف قائلاً: إنّي إنّما أقبّل عتبة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وألثمها؛ لأنّها موطئ أقدام زواره الكرام، ناهيك عن أنّها عتبة باب الحوائج وباب الإمام الحسينعليه‌السلام أبي الفضل العبّاس ابن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

هذا بعض ما لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام من الجاه العظيم، والمقام الرفيع عند الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعند ابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام وعند الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعند أمّه اُمّ البنينعليها‌السلام وعند أخته السيّدة زينبعليها‌السلام ، وعند شيعته ومحبّيه.

وأمّا حقيقة مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وواقع منزلته فممّا لا يعلمها إلاّ الله تبارك وتعالى. رزقنا الله زيارته، وحشرنا معه في الدنيا والآخرة، آمين ربّ العالمين.

٣٤٠