الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم0%

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 289

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ جعفر التستري
تصنيف: الصفحات: 289
المشاهدات: 37348
تحميل: 6458

توضيحات:

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 289 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37348 / تحميل: 6458
الحجم الحجم الحجم
الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهل يتصوّر قلب لا يغلب عليه في مثل هذه الحالة ؟ فهذا أحد مواضع بكائه.الثاني: حين وقف على جسد أخيه العباسعليه‌السلام فرآه صريعاً مع قربة مخرّقة، وكلّ من يديه المباركتين مطروحة في طرف ؛ فحينئذ بكى بكاءً شديداً، وقالعليه‌السلام : (( الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي )).الثالث: لمّا أراد القاسمعليه‌السلام أن يبرز إلى الحرب اعتنقه وبكى حتّى غُشي عليه (سلام الله عليه).الرابع: لمّا وقف على جسده ورآه رضيضاً بحوافر الخيل.الخامس: حين برز ولده علي الأكبرعليه‌السلام ، أرخى عينيه، وأخذ شيبته بيده، ورفع رأسه المبارك ودعا ربّه تعالى.السادس: حين كان يُسلّي أخته زينب الكبرىعليها‌السلام عن البكاء والجزع غلب عليه البكاء، وقطرت من عينه قطرات، ثمّ حبس نفسه عن البكاء.فإذا تأمّلت هذه الحالات وجدت أنّه يستحيل لصاحب القلب السليم الرؤوف الرحيم أن لا يبكي عندها، ووجدت أنّ من الخصوصيات الصادرة منه في هذه الحال حكمة خاصّة.فحالته عند وداع ابنته الصغيرة، وحالة الأخ المواسي التي قُطعت يداه لقربة ماء، تقتضي البكاء حتّى يُغشى عليه، وهكذا باقي الكيفيات الخاصّة.طبعاً هنا ما أحصره المؤلّف من بكاء الإمام في ستة مواضع ليس بالضّرورة أنّها هي تلك فقط المواضع السّتة، بل قد يعني بها أبرز مواطن بكائه، وإلاّ فإنّ البلاء والمصاب الذي ألمّ بالإمام في كربلاء كان شديداً على قلب إمامنا، بل على جميع أهل بيته ومَنْ معه، بل على أولياء الله تعالى من الأولين والآخرين، حيث دون تلك المواضع السّتة التي ذكرها المؤلّف هناك مصاب الرضيع القتيل على صدر أبيه الحسينعليه‌السلام ومصاب الرضيع الآخر.ومصاب أصحابه الذين لم يُعلم على مرّ التاريخ أصحاباً كأصحابه، يستأنسون بالموت استيناس الطفل لثدي أُمّه، وأيضاً مصاب الطفلة المظلومة حميدة حين مسح على رأسها، وأيضاً مصاب بناته وحال نسائه وما هنّ مستقبلات له من السّبي والضرب على متونهنّ والإذلال بحيث سيروهنّ بخيّالة قليلة وهزال، وحرق الخيام، وحاله مع أهل بيته وأطفال حين توديعهم.وأيضاً مصاب ابنه العليل المهموم لأبيهعليهما‌السلام ، وأيضاً مصاب الأُمّة والتي منها أعدائه الذين فاق عددهم على الثلاثون ألفاً والسبعون ألفاً، بل لم يُعلم عددهم لكثرته في كتب الحديث، مصابه بهم كيف عميت بصائر كلّ تلك الجموع من البشر، وما هو إلاّ رحمة منه على أُمّة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما هو إلاّ لطيب نفسه وطهارته، وإنّه من أهل بيت طُهّروا تطهيراً.

خاتمة

اعلم أنّ العنوان السابق خصائص صفاته في طول حياته، وهذا العنوان خصائص صفاته يوم عاشوراء، وهذه الخاتمة لخصائص خصائص من صفاته البارزة يوم عاشوراء، وحاصلها صفتان عجيبتان :

الصفة الأولى: إنّه جُمعت في صفاته الأضداد ؛ ولهذا عزّت له الأنداد

ولنعدّ الصّفات بذكر كلّ صفة خاصّة وضدّها مجتمعتين، فنقول: كانعليه‌السلام إذا زاد اضطراباً اطمأنّ قلبه، وهدأت جوارحه، فهو المضطرب الوقور، وكانعليه‌السلام قد بكى في مواضع كثيرة قد ذكرناها، ولكن ازداد بذلك صبره الذي عجبت منه الملائكة فهو الباكي الصّبور، وقد كانعليه‌السلام مكثوراً أحاط به الأعداء من جميع الجهات ولكن لم يضعف قلبه من ذلك، فهو رابط الجأش مكثور ،

٤١

وقد كانعليه‌السلام موتوراً قُتل أصحابه وأهله وولده وإخوانه وهو مع ذلك ثائر بدمه، فكأنّه أخذ الثأر من قتلته، فهو الثائر الموتور، وقد كان فرداً وحيداً بلا أنصار، لكن :

كأنّه وهو فردٌ في جلالتِهِ

في عسكرٍ حين تلقاهُ وفي حشمِ

وإنّه لمّا كان يشدّ عليهم ينكشفون انكشاف المِعزى إذا شدّ عليها الذئب ؛ فهو الفريد ذو العسكر، والوحيد ذو الحشم وقد كانعليه‌السلام محتضراً غريباً وحوله أهله وعياله ؛ فهو الغريب عند الأهل وقد كانعليه‌السلام يستغيث لإتمام الحجّة عليهم، ويغيث كلّ مَنْ ناداه بـ ( أدركني يا أبا عبد الله )، فهو المغيث المستغيث وكانعليه‌السلام قد فدته نفوس الشهداء، ولا زالت تفديه قتلاً بين يديه، والأحياء جميعاً إلى يوم الجزاء، مع أنّه قد فدى نفسه الشريفة لهم ولهدايتهم ونجاتهم ؛ ولذا أنشد بعض الحكماء عن لسان حاله عند مخاطبته لأصحابه :

فديتموني إنّما أنا جئتكم أفديـ

ـكم من لظى فهو الفادي المفدّى

وكانعليه‌السلام حين وقوعه صريعاً مطروحاً يسعى تخليص أهله، ومَنْ يجيء إليه فهو المطروح الساعي، وكانعليه‌السلام قد بلغت شدّة عطشه إلى اللوك للسانه، يعني كثرة إدارة لسانه في فمه، حتّى تجرّح لسانه من شدّة عطشه وإعيائه ويبس لسانه، وكان يسعى في سقي العطاشى حتّى إنّه أراد سقي ذي الجناح قبل أن يشرب، وما نراه شرب (سلام الله تعالى عليه) ؛ حيث سمع بهتك الخيام فألقى بالماء، فهو العطشان السّاقي.

وكانعليه‌السلام عارياً بالعراء، لكن :

تحمي أشعته العيون فكلّما

حاولنَ نهجاً خلنه مسدودا

فهوعليه‌السلام العاري المستور بنور الشّمس، ونورٌ ذاتي يخرج من بدنه المبارك يشهده العدو والقريب وكانعليه‌السلام مضمّخاً بالدماء والتراب، ولكن لم ير الناظر إليه قتيلاً مضمّخاً بدمه أنور منهعليه‌السلام ، حتّى قال عدوّه: لقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله فهو المضمّخ بالتراب ذو النور الأزهر.

وكانعليه‌السلام لم يبقَ له مأوى ولا مأمن، وقد وصف به نفسه أيضاً، وكان يأوي إليه كلّ خائف، كما آوى إليه عبد الله بن الحسنعليه‌السلام وغيره من أهل بيته ؛ فهو المأوى بلا مأوى، وهو الملجأ بلا ملجأ.

وكانعليه‌السلام مسلّياً عن البكاء، وهو سبب البكاء، كما في رواية الغفاريين عبد الله وعبد الرحمن حين استأذنا وبرزا ،

٤٢

إذ كانا يبكيان، فقال: (( ما يبكيكما، وأنا أرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين ؟ )).

فقالا: ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك يا سيّدنا ؛ نراك قد أُحيط بك ولا نقدر أن نمنع عنك.

وكانعليه‌السلام مسكتاً عن البكاء وهو يبكي ؛ وذلك حين أخذت زينب الكبرى بالبكاء، لمّا سمعت ما سمعت ليلة عاشوراء من نعي الإمامعليه‌السلام لنفسه، فجاءت صارخة حاسرة وقالت: يا أخي، هذا كلام مَنْ أيقن بالقتل ! قال: (( نعم يا أُختاه، لا يذهب حلمك، واصبري )) ثمّ غلب عليه البكاء.

[ الصفة ] الثانية: من خصائص خصائصه جمعه بين التكليفين المتنافيين ظاهراً

بيان ذلك: إنّه قد ثبت أنّ للنبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله خصائص في أحكامٍ تكليفية ووضعية تخالف الأحكام العامّة الثابتة لأُمّته، ولك منها: بالنسبة إلى ما يتعلّق بتكليفه وبإمامته وسلوكه مسلك الدعوة إلى الدين، والحفظ للشريعة أحكام خاصّة مثبتة،( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) وقد عمل كلّ من الأئمّة بمقتضى ما في صحيفته المختومة بخاتم من ذهب لم تمسّه النار ؛ [حيث] أتى بها جبرئيلعليه‌السلام ، وقد أشرنا إليها.

وحيث إنّ فيها أحكاماً تُخالف ما ثبت في ظاهر الشّريعة لباقي الأئمّةعليهم‌السلام ، فما ينبغي الاعتراض بعد ذلك بأنّه كيف جاز الإقدام على ما يقطع معه بالضرر، وذهاب الأنفس بالنسبة إلى بعض الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ؛ فإنّهم إنّما بلغوا هذه المرتبة للتسليم والرضا، بل وحبّ القضاء والقدر بهذا التكليف وقد اختصّ سيّدنا المظلوم الحسينعليه‌السلام في قضيته بالجمع بين التكليفين ؛ الظاهري الموافق لتكليف سائر الناس، والواقعي الموافق لتكليفه الخاصّ، وهذا أيضاً من خصائصهعليه‌السلام .

أمّا التكليف الواقعي الذي دعاه إلى الإقدام على الموت والقتل، وتعريض عياله ونسائه وابنه العليل، ومَنْ معهم من النساء المواسيات للأسر، وأطفاله للذبح مع علمه بذلك فالوجه فيه أنّ عتاة بني أُميّة، وخاصة معاوية، قد اُشرب الناس حبهم، بحيث اعتقدوا أنّهم على الحقّ، وأنّ علياً وأولادهعليهم‌السلام وشيعتهم على الباطل، حتّى جعلوا سبّ عليعليه‌السلام من أجزاء صلاة الجمعة، وسُنّة واردة.

وبلغ الأمر في ذلك أنّ بعض أتباعهم

٤٣

نساه في صلاة الجمعة حين خطبته وسافر، وذكره وهو في البريّة، فقضاه في محلّ تذكّره، فبنوا هناك مسجداً سمّوه مسجد الذكر ؛ تأكيداً لهذا الأمر.فلو كان الحسينعليه‌السلام يبايعهم تقيّة ويسلّم لهم لما بقي من الحقّ من أثر ؛ فإنّ كثيراً من الناس اعتقدوا أنّه لا مخالف لهم في جميع الأُمّة، وأنّهم خلفاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حقّاً، فبعد أن حاربهم الحسينعليه‌السلام ، وصدر ما صدر إلى نفسه وعياله، وأطفاله وحرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه الناس لضلالتهم، وبأنّهم سلاطين الجور حقّاً وصدقاً، لا حجج الله تعالى ولا خلفاء لحبيبهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فظهر دين الحقّ من جديد بعد أن أخمده الأمويون بجورهم وكفرهم.وأمّا التطبيق على التكليف الظاهري فبيانه أن نقول: إنّهعليه‌السلام قد سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه فلم يتيسر له، وقد ضيّقوا عليه الأقطار، ولم يدَعوا له في الأرض مقرّاً، فكتب يزيد إلى عامله في المدينة أن يقتله فيها ؛( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ، ولاذ إلى حرم الله تعالى الذي جعله مأمناً للوحوش أن تُصاد، وللطيور أن تنفر، وللشجر والنبات أن يُقطعا، فأرادوا قبضه هناك، أو قتله غيلة وهو مُحرِم ؛ فأحلّ وخرج ولم يتمكّن من إتمام حجّه أيضاً، ولم يكن له في الأرض مقرّ.وقد تحقّق له التكليف الظاهري بالتوجّه إلى الكوفة ؛ لأنّ جميع أهلها كتبوا له بالسّمع والطاعة وألقوا إليه الحجّة، ولم يتبيّن منهم خلاف ذلك، خصوصاً بعد أن كتب له مسلم بن عقيل ببيعة الناس له، فلم يكن له عليهم حجّة لو لم يأتهم، ثمّ لمّا أتاهم وعلم بنقضهم البيعة لم يمكّنوه من الرجوع، ومع ذلك كلّه نقول: لو رجع أين يرجع ؟ لو لم يأتهم فأين كان يذهب ؟ملاحظة: إنّ الحسينعليه‌السلام لم يكن السبب الحقيقي في خروجه أو توجّهه للكوفة لسبب بيعة الناس له، كلاّ، بل كان خروجه أوّلاً من مكة المكرّمة حفاظاً منه على أن لا يُراق فيها دم، وأمّا نقض الكوفة لبيعتهم فهو كان يعلم بذلك قبل أن يقدمهم وهذا له بحث طويل مستقل حول علم الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، ولكنّه خرج إلى الكوفة لأسباب غير بيعة أهلها، يُذكر منها: أنّ بها أرضية واسعة لموالاة أهلها لمحمد المصطفى وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرها من الأسباب.

وأيضاً السّبب الأساس لخروجه، والذي كان واجباً عليه أن يخرج، هو حفاظ على ما تبقّى من دين جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولئلاّ يُمحق ما تبقّى من الدين ومَنْ أحقّ منه بالخروج على الحكومة الظالمة الجاحدة ؟!فكان هذا الحديث النبويّ الشّريف مصداقاً لهذا الكلام، وهو قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّ الإسلام محمدي الوجود، حسيني البقاء) (*) .لقد ضاقت عليك الأرض يا أبا عبد الله الحسين، وكنت مضطرباً حيران على ما ترى من تضييع الحقوق وذهاب الدين المحمدي، ولم يكن لك بدّ ولا مفرّ يا حبيبي يا حسين.والدليل على ذلك قولهعليه‌السلام لأخيه ابن الحنفية، وقد أشار إليه بأن يذهب إلى اليمن، أو إلى البوادي وكهوف الجبال: (( لو دخلت في جحر هامة من هوامّ الأرض لاستخرجوني حتّى يقتلوني )).ويدلّ على ذلك أيضاً، قوله

____________________

(*) تجدر الإشارة إلى أننا لم نعثر على مثل هكذا حديث في أغلب المصادر الروائية التي بأيدينا، بل وجدناه مقولة تُنسب للعلاّمة محمد حسين آل كاشف الغطاءرحمه‌الله (موقع معهد الإمامين الحسنَين).

٤٤

للفرزدق: وقد قاله له وهو خارج عن مكة داخل الحرم، بأبي أنت وأُمّي يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما أعجَلك عن الحج ! فقالعليه‌السلام : (( لو لم اُعجّل لاُخذت )).

وقوله لأبي هرّة الأزدي في الثعلبية، وقد قال له: ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فقالعليه‌السلام : (( ويحك يا أبا هرة ! إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت )).

طبعاً، هنا هرب ليفتدي بنفسه وما يملك فقطّ لإبقاء دين الله تعالى، ويدلّ على ذلك قوله أيضاً لعمرو بن لوذان، وهو شيخ من بني عكرمة رآه ببطن العقبة، قال له: يابن رسول الله، أين تريد ؟

قالعليه‌السلام : (( الكوفة )).

فقال: أُنشدك الله تعالى لما انصرفت ؛ فوالله لا تقدم إلاّ على حدّ السيوف والأسنّة، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً.

فقالعليه‌السلام : (( يا عبد الله، ليس يخفى عليّ الرأي، ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره )) ثمّ قالعليه‌السلام : (( والله، لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي )).

فانظروا إلى قولهعليه‌السلام : (( ولكنّ الله )) ؛ فإنّه بيان للتكليف الواقعي الذي تقدّم ذكره وقوله: (( والله لا يدعونني ))، بيان للاضطرار، وإنّه لا يفيد الرجوع ولا الفرار وفي تعبيره عن قلبه بـ ( العلقة ) إشارة إلى شدّة مصيبته، وانقلاب قلبه دماً في تلك الحالة مع كونه أولى بالأمر.

ثمّ أقول: إنّه لو بايعهم لقتلوه أيضاً، كما يدلّ عليه كلام ابن زياد حيث قال: ينزل على حكمي وحكم يزيد، يعني يجعل نفسه محكومة لنا، فلربما قتلناه أو خليناه.

وقول الشمر: فليبايع ثمّ نرى رأينا فيه.

بأبي المستضعف الغريب الوحيد، الذي أرادوا أن يقرّ لهم إقرار العبيد.

ومن جملة كلام لهعليه‌السلام يوم عاشوراء:(( والله، لا أقرّ لكم إقرار العبيد، ولا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل)).

بأبي أنت وأُمّي يا أبا عبد الله ! نعم، والله قتلُك في ميدان الحرب والضرب أنبل من الإقرار لهم، وقد قلت أنت: (( إنّ مصارعة الكرام أحسن من مضارعة اللئام )) ولو كنت ترضى بذلك تقيّة وتكليفاً ظاهريّاً فكنت تقرّ لهم، ما خلوك

٤٥

وما تركوك حتّى يجمعوا لك بين الذلّة والقتلة ؛ ولذا قلت (صلوات الله تعالى عليك) بنفسي أنت: (( القتلة ولا الذلّة، والمنيّة ولا الدنيّة )).

آه بأبي أنت وأُمّي ! أعززت نفسك، وأحييت نفسك، وأحييت العباد بتحمّلك هذا التكليف.

انتهى العنوان الثالث

العنوان الرابع

في خصائصه من حيث الألطاف الإلهية به، والاحترامات الربانية له

وهي على أقسام :

القسم الأوّل: خصوصيتهعليه‌السلام في التعبير عن اللطف الإلهي بالنسبة إليه

من وجوه :

الأوّل: خصوصيات ما في الروايات المعتبرة المرويّة في كامل الزيارة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (( بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في منزل فاطمة الزهراءعليها‌السلام والحسينعليه‌السلام في حجره، إذ بكى وخرّ ساجداً، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا فاطمة، إنّ العلي الأعلى تراءى لي في بيتك هذا، ساعتي هذه، في أحسن صورة وأهيأ هيئة، وقال لي: يا محمّد، أتحبّ الحسين ؟ قلت: نعم ؛ قرّة عيني، وريحانتي، وثمرة فؤادي، وجلدة ما بين عيني.

فقال لي: يا محمّد ـ ووضع يده على رأس الحسينعليه‌السلام ـ بورك من مولود، عليه بركاتي وصلواتي، ولعنتي وسخطي وعذابي، وخزيي ونكالي على مَنْ قتله وناصبه، وناوأه ونازعه.

أما إنّه سيّد الشهداء من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وسيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وأبوه أفضل منه، فاقرأه منّي السّلام، وبشّره بأنّه راية الهدى، ومنار أوليائي، وحفيظي وشهيدي على خلقي، وخازن علمي، وحجّتي على أهل السماوات وأهل الأرضين، والثقلين والجنّ والإنس )).

والمراد من الترائي: غاية الظهور العلمي وبحسن الصورة: ظهور صفات الكمال ووضع اليد: كناية عن إفاضة الرحمة الخاصّة على الإمام الحسين (صلوات الله تعالى عليه).

ففي هذه الرواية ستّ عشرة خصوصية للحسينعليه‌السلام معبّرة عن اللطف الإلهي، وأخصّها وأفخرها قوله: وضع الله تعالى يده على رأس الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّه كناية عن نهاية اللطف بالنسبة إليه بحيث لا يتصوّر فوقه لطف.

وقد عبّر الله تعالى عن نهاية إفاضة

٤٦

اللطف الكامل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه وضع الله تعالى يده على ظهره ليلة المعراج، فوضع اليد تعبير عن غاية الإفاضة.

لكن في التفرقة بين كونه على الرأس أو على الظهر حكمة خاصّة لا ترتبط بالأفضلية، وفي الحقيقة الوضع على ظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الوضع على رأس الحسينعليه‌السلام .

الثاني والثالث: إنّ الله تعالى قد تولّى قبض روحه عند موته وصلّى عليه، فهذه التعبيرات كلّها، كنايات عن الألطاف لا يُتصوّر أزيد منها.

وحاصل معناها: أنّه قد أعطى الله تعالى الحسين من الألطاف كلّ ما يمكن أن يُعطى.

ونحن بتوسّلنا بهعليه‌السلام نرجو أن يكون من ألطاف الله تعالى عليه صلاح أمورنا في الدنيا والآخرة.

القسم الثاني: وهو إعطاؤه ما يناسب صفاته

ولا أقول: شبه أو مثل صفاته، بل أقول: أعطاه أنموذجاً من صفاته، وخصّها به.

وهي من وجوه :

الأوّل: إنّ من صفات الله تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) ، ولها خمسة معانٍ، وقد أعطى الحسينعليه‌السلام ما يُناسب ذلك، فإن من شيء إلاّ وقد بكى لمصيبته، ولكن لا نفقه بكاءهم، كلّ شيء بحسب حاله، ولا ينحصر في تقاطر الدمع من العين.

فبكاء السّماء: تقاطر الدم وبكاء الأرض: أنّ كلّ حجر يُرفع يُرى تحته دماً وبكاء السمك: خروجه من الماء وبكاء الهواء: إظلامه وبكاء الشمس: كسوفها وبكاء القمر: خسوفه، كما ورد كلّ ذلك في الروايات.

الثاني: إنّ الإقرار بوجود الصانع الحكيم فطري( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ، فأهل كلّ دين حتّى عبدة الأصنام يقرّون به، والملاحدة والزنادقة عند إنكارهم باللسان يثبتونه.

وفي الحسينعليه‌السلام بالنسبة إلى احتراق القلب على مصيبته كذلك حتّى مَنْ لم يعرفه يبكي عليه ويُقيم عزاءه، كبعض الهنود المخالفين للإسلام، بل مَنْ عاداه حين إظهار عداوته كان يبكي عليه، فكان ابن سعد يبكي عليه حين أمر بقتله وكلّمته

٤٧

زينب (سلام الله تعالى عليها).

والسالب لفاطمةعليها‌السلام كان يبكي، ويزيد قد رقّ لهم حين اُدخلت السّبايا والرؤوس إلى مجلسه كما عن فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام ، وسائر قتلته كانوا يبكون في بعض الحالات، ويزيد كان يبكي في بعض الليالي.

نعم، لم أعثر على رقّة وبكاء على حالة من الحالات بالنسبة إلى اللعين ابن زياد، لكن عثرت على تغيّر حالة له في وقت واحد، وذلك حين أمر بقتل السجّاد (صلوات الله تعالى عليه)، فاعتنقته عمّته زينبعليها‌السلام وقالت: إن قتلته فاقتلني معه فنظر إلى ذلك وقال: عجباً للرحم ! والله إنّي لأظنها ودّت أنّي قتلتها معه، دعوه فإنّي أراه لما به.

الثالث: إنّ صفات الله تعالى لا يجري أفعل التفضيل فيها حقيقة وإن جرى ظاهراً، كما يشهد به جميع فقرات دعاء البهاء، تقول: (( اللّهمّ إنّي أسألك من بهائك بأبهاه، وكلّ بهائك بهي )) وكذلك الأسماء، فيُقال: الاسم الأعظم وفي الحقيقة إنّ كلّ أسمائه أعاظم على نهج سواء.

وفي الحسينعليه‌السلام أيضاً ما يناسب ذلك ؛ فقد يُقال: نريد أن نذكر أعظم مصائبه، وكلّ مصائبه عظيمة فإذا تأمّلت أصغر مصائبه وجدتها أكبرها، وإذا نظرت إلى أسهل مصائبه وجدتها أصعبها.

الرابع: إنّه تعالى جعل وسائل القرب إليه، والرضا عن العباد والغفران لهم كثيرة، وجعل لهم طُرقاً في كلّ فعل وصفة ونيّة، وجعل في إيصاله الفيض إلى العباد عموماً، وله تسبيبات لا يُدرك ضبطها.

وقد أعطى الحسينعليه‌السلام ما يُناسب ذلك، فجعل له تسبيبات كثيرة، وعمّم فيها وجعل لها أعواضاً كعباداته، حيث لم يحرم منها أحداً، وحعل لكلّ عمل عوضاً وبدلاً، حتّى إنّه جعل لنيّة العمل في بعض الأوقات ثواب العمل.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الحسينعليه‌السلام فجعل لزيارته فضلاً، وجعل بدلها التجهيز إليها، وجعل بدلها الزيارة من بُعد، وكذلك لمّا جعل لبكائه فضلاً وافراً أراد أن لا يُحرم أحد من هذا الخير ؛ فجعل مصائبه مختلفة، وما يُبكى عليه أنواعاً وأقساماً باختلاف القلوب

٤٨

واختلاف أسباب رقتها.

فإنّ كلّ قلب لا يرقّ على كلّ مصيبة، فقلب لا يرقّ على الغريب، ولكن يرقّ على العطشان الغريب، وقلب لا يرقّ على الجرح، ولكن يرقّ على جرح الجرح، وقلب لا يرقّ على جرح الجرح، ولكن يرقّ على الرضّ بعد جرح الجرح، وهذا لا ينتهي الكلام فيه، فلاحظ كلّ مصيبة، ولاحظ أعلاها ثمّ لاحظ أشدّ أنواع ذلك الأعلى، ثمّ أشد ذلك الأشد، تجده مجتمعاً في الإمام المظلوم، وجعل أسباب الحصول كثيرة، ولها فصل مستقل والله تعالى المستعان.

الخامس: إنّ صفاته لا شريك له فيها، فكلّ ما يُنسب إليه، ويتعلّق به من جميع ما يُلاحظ خاصة به، فهو ممتاز فيها لا شريك له في خصوصياتها.

السادس: من الصّفات المنسوبة إليه أنّ محبته لا تشبه محبّة المحبين.

وكذلك محبّة الحسينعليه‌السلام حتّى إنّها لا تشبه محبّة مَنْ هو مساوٍ معه، أو أفضل منه، فهي كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( محبّته مكنونة في بواطن المؤمنين ) (١) .

وقد سُئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا أيضاً حين ظهرت منهصلى‌الله‌عليه‌وآله كيفية خاصّة في الملاطفة مع الحسينعليه‌السلام على ما روى المقداد (رضي الله تعالى عليه)، حيث قال: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً في طلب الحسن والحسينعليهما‌السلام فوجدهما نائمين في حديقة على الأرض، فبدأ برأس الحسين يعطفه، وجعل يُرخي لسانه في فمه مراراً حتّى أيقظه، فقال المقداد: كأن الحسين أكبر ؟ فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما ذكر.

فقد ظهرت خصوصية للحسينعليه‌السلام ، وانكتامها في باطنه زيادة على أخيه، مع إنّه في الشرف والمرتبة أفضل أو مساوٍ له ؛ لأنّه بدأ برأسه فرفعه، وأيقظه بإرخاء لسانه في فمه مراراً.

وهذا هو حال انكتام محبّته في قلوب المؤمنين الخالصين في الإيمان ؛ ففي قلوبهم علامات وخصوصيات وإن كان اللازم أن تكون محبّة جدّه وأبيه أكثر منه ؛ لأنّهما أفضل منه.

لكنّ لمحبّته خصوصيات لا دخل لها بالكثرة.

من تلك الخصوصيات: إنّ أفئدتهم

____________________

(١) أصل الحديث: (( إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة )) (الخرائج والجرائح ـ للراوندي ٢ / ٨٤٢) (موقع معهد الإمامين الحسنين)

٤٩

تهوي إلى زيارته وترقّ وتحنّ إليها إذا سمعوا بها، أو بزوّاره حين الذهاب أو القدوم، أزيد ممّا تهوي إلى الحجّ وغيره من الزيارات.

ومنها: إنّ مَنْ توجه إلى زيارة الأئمّة إنّما يسميه فقط، أي إنّ الزائر الإيراني مثلاً الذي يروم زيارة العتبات المقدّسة في العراق إذا سُئل عن مقصده يجيب بأنّي أروم زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام مع إنّه قاصد لزيارة باقي الأئمّةعليهم‌السلام أيضاً.

ومنها: إنّ لاسمه الشّريف تأثيراً في قلوبهم كما ناداه أبوه: (( يا عبرة كلّ مؤمن )) وكما قال هوعليه‌السلام : (( أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى )).

ومنها: إنّ دخول شهره، يعني المحرّم، يملأ القلوب همّاً وكمداً وحزناً عميقاً في النفوس.

ومنها: إنّ الرقّة عليه لا يُملّ منها بكثرة التكرار على التكرار، فإذا سمعوا عزاءه كلّ يوم ألف وألف مرّة فبمجرّد سماعهم أنّه قُتل عطشان مقروحاً وقد حُزّ رأسه، أو واقفاً على الأرض مستغيثاً، أو سمعوا حكاية استغاثته، ارتفعت أصواتهم.

القسم الثالث: من الألطاف الخاصّة به ما أعطاه تبارك وتعالى من كلامه المجيد وتكليماته

أمّا كلامه المجيد، وهو القرآن، فلمّا أعطاه منه عنوان مستقل نذكره إن شاء الله تعالى.

وأمّا تكليمه تعالى فقد ذكر مصيبته في تكليم آدمعليه‌السلام ومَنْ بعده، وفي تكليم الكليمعليه‌السلام مكرراً، وغيره من الأنبياءعليهم‌السلام ، إلى الخاتم كما ذكرنا تفصيله في عنوان مجالس الرثاء، وسنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

وأمّا التكليم الخاصّ معه فهو كثير منه ما قبل شهادته على ما رواه أنس بن مالك حيث إنّه ساير الحسينعليه‌السلام فأتى قبر خديجة الكبرىعليها‌السلام فبكى، ثمّ قالعليه‌السلام : (( اذهب عنّي )) قال أنس: فاستخفيت عنه، فلمّا طال وقوفه في الصّلاة سمعته يقول: ((

يا ربّ يا ربّ أنتَ مولاهُ

فارحم عُبيداً إليك ملجاهُ

يا ذا المعالِ عليكَ معتمدي

طوبى لِمَنْ كنتَ أنتَ مولاهُ

طوبى لِمَنْ كان نادماً أرقاً

يشكو إلى ذي الجلالةِ بلواهُ

وما بهِ علّة ولا سقمٌ

أكثر من حبّهِ لمولاهُ

٥٠

إذا اشتكى بثه وغصّته

أجابه الله ثمّ لبّاهُ

أذا ابتلى بالظلام مبتهلاً

أكرمه الله ثمّ أدناهُ

فنوديعليه‌السلام :

لبّيك عبدي وأنتَ في كنفي

وكلّ ما قلتَ قد علمناهُ

صوتك تشتاقهُ ملائكتي

فحسبُكَ الصوت قد سمعناهُ

دُعاك عندي يجولُ في حجب

فحسبُكَ الستر قد سفرناهُ(١)

لو هبّتِ الريحُ من جوانبه

خرّ صريعاً لِما تغشّاهُ

سلني بلا رغبةٍ ولا رهبٍ

ولا تخفْ إنّني أنا اللهُ

ملاحظة: قوله: لو هبت الريح من جوانبه، الضمير إمّا راجع إلى الدعاء فيكون كناية عن أنّه يجول في مقام لو كان مكانه رجل لغُشي عليه ممّا يغشاه من أنوار الجلال، ويُحتمل إرجاعه إليهعليه‌السلام على سبيل الالتفات لبيان غاية خضوعه وولهه في العبادة، بحيث لو تحرّكت الريح لأسقطته.

ومنها نداءات خاصّة له يوم شهادته، أشرفها نداؤه بقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) .

القسم الرابع: فيما أعطاه تبارك وتعالى من أفضل مخلوقاته محمداً المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله

ولبيان ذلك أمور :

الأول: بيان ما أعطاه منه بطريق التعداد والتحديد والتعيين مجملاً

الثاني: بيان كيفية هذا الإعطاء المحدود

الثالث: بيان ما فوق ذلك

أمّا الأمر الأوّل: فنقول: قد أعطاه قلبه الباطني فجعله محلّ علاقة خاصّة له، وقد أعطاه قلبه الظاهري فقال: (( إنّه مهجة قلبي )) وقد أعطاه روحه فقال: (( إنّه روحي التي بين جنبي )) وقد أعطاه فؤاده فجعله له ثمرة وقد أعطاه عقله فجعله له طمأنينة وقد أعطاه باصرته فقال: (( إذا نظرت إليه ذهب ما بي من الجوع )) وقد أعطاه شامّته فقال: (( هو ريحانتي )) وقد أعطاه

____________________

(١) أي إنا كشفنا الستر عنك.

٥١

عينيه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( هو نورهما )) وقد أعطاه من بين عينيه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( هو جلدة ما بين عيني )) وقد أعطاه قوته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( هو قوتي إذا نظرت إليه ذهب ما بي من الجوع )) وقد أعطاه كتفه فجعله له مركباً وقد أعطاه ظهره فجعله له مرتحلاً وقد أعطاه حجره فجعله له حاضناً وقد أعطاه لسانه فجعله له راضعاً وقد أعطاه يده فجعل إبهامه ومسبحته له غاذياً وقد أعطاه صدره فجعله له مجلساً ومأمناً وقد أعطاه شفتيه فجعلهما مقبّلاً ولاثماً وقد أعطاه كلامه فجعله له مادحاً وراثياً وذاكراً له في كلّ حين وقد أعطاه ابنه فجعله له فادياً، فكان يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله مكرّراً: (( فديت مَنْ فديته بابني إبراهيم ))(١) .

الأمر الثاني: في بيان بعض تفاصيل هذه فنقول: أمّا امتياز علاقته معه فيظهر معه من كيفية لقائه له، وحضوره عنده ومجيئه له، وذهابه إليه، فإنّ العلاقة مع الأولاد خصوصاً في حال طفولتهم والاستئناس معهم، واللعب معهم، أمر معتاد لكن تحقّق هذه الكيفية بالنسبة إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الحسينعليه‌السلام خارق للعادة.

فترى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه وهو فرد في جلالته ؛ في عسكر حين تلقاه وفي حشم فكيف بجلالته ووقاره حين هو جالس في أصحابه، فمع ذلك الوقار الذي علا كلّ وقار، ومع تلك السكينة التي أنزلها الله تعالى عليه، ولُقّب بصاحب الوقار والسكينة.

كان إذا رأى الحسينعليه‌السلام مُقبلاً عليه وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يحدّث أصحابه يقطع حديثه، ويقوم من مجلسه ويستقبله، ويحمله على كتفه المبارك، ويأتي به فيقعده عنده أو في حجره.

وأعجب من ذلك أنّه وهو على المنبر يخطب يقطع خطبته وينزل ويستقبل ويقول كلاماً يقضى منه العجب، وذلك في رواية ابن عمر أنّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( والذي نفسي بيده، ما دريت أنّي نزلت من منبري )).

وكيف يكون هذا الكلام على حقيقته، بل هو كناية عن شدّة الحبّ والعلاقة بحيث كان كذلك.

وأعجب من كلّ ذلك ما رواه ابن ماجة في السنن، والزمخشري في الفائق قالا: رأى النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الحسين

____________________

(١) كما ورد في المنتخب ـ للطريحي / ٥١.

٥٢

بن عليعليه‌السلام وهو يلعب مع الصبيان في السكة، فاستقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام القوم، فبسط إحدى يديه فطفق الصبي يفرّ مرّة من هنا ومرّة من هاهنا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يضاحكه، ثمّ أخذه فجعل إحدى يديه على ذقنه والأُخرى على فأس رأسه، وأقنعه وجعل فاه على فيه فقبّله، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( أنا من حسين وحسين منّي، أحبّ الله تعالى مَنْ أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط )) ورواه غيرهما أيضاً.

توضيح: إنّ فأس الرأس يعني طرف مؤخرة المشرف على القفا.

تنبيه: هذه المحبّة لم تكن للحسين وحده، بل كانت لمَنْ أحبّه أيضاً، و يُشهد الله تعالى على ذلك و يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :(( اللّهمّ إنّي أحبّه وأحبّ مَنْ يحبّه )) وكان يدعو لمحبّه بأنّ يحبّه الله تعالى، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً )).

وقد رأىصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً صبيّاً في الطريق، فجلس وأخذه وتلاطف معه، فسُئل عن ذلك فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( إنّي أحبّه لأنّه يحبّ ولدي الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّي رأيت أنّه يرفع التراب من تحت قدميه ويمسح به وجهه وعينيه، وأخبرني جبرئيلعليه‌السلام أنّه يكون من أنصاره في وقعة كربلاء )).

فالآن نحن نرجو إن كنّا محبّين لإمامنا الحسينعليه‌السلام أن يحبّنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويحبّنا الله تعالى، بدعائهصلى‌الله‌عليه‌وآله لنا، وإذا أحبّنا أن يغفر لنا ويعفو عنّا.

وأمّا كون ظهره له مركباً فقد اتّفق كثيراً، وليس هو من العادات كما يتّفق لكثير من الناس في حقّ أولادهم، بل خارق للعادات، وذلك إنّه قد كان يتّفق أنّه يركب ظهر جدّه وهو في السجود في صلاة الجماعة فيُطيل السجود ولا يرفع رأسه المبارك حتّى يقوم هو أي الحسين باختياره.

وقد تعجّب الذين كانوا يصلّون معه، فسألوه: إنّه هل نزل وحي ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( لا، ولكن ابني ارتحلني)).

وأمّا كون كتفه محملاً فلقد كان يفعل من ذلك ما لا يفعله الرجل الجليل، يحمل صبيّاً على كتفه ويمشي في الأسواق والطرق، وكلّما يريد أصحابه أن يحملوه أو يحملوا أخاه، يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( نِعْمَ الراكبان أنتما )) نعم، قد كان يحمله عنه جبرئيلعليه‌السلام ، وقد كان يحمله وهو في الصلاة.

وأمّا كون حجره له حضناً ؛ فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٥٣

قد تولّى من ذلك ما لا يتولاّه إلاّ النساء، وقد حضنه بمجرّد ولادته المباركة فنادى: (( يا أسماء، هلمّي إليّ بابني)) فقالت: لم ننظفه بعد فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( أنتِ تنظّفيه ! إنّ الله تعالى قد نظّفه وطهّره )).

فأخذه وتولّى حضانته ورضعه من إبهامه، وكان يلاعبه كالنساء ويقرأ له نغوتهنّ، ويكلّمه بلسان الأطفال، ونحو ذلك ممّا يُستغرب حتّى أنكر عليه بعض أزواجه كعائشة، بل بعض أصحابه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( ما خفي عليك أكثر )) فعلم أنّ ذلك من أمر إلهي وحكم ربّاني، وقد صرّحصلى‌الله‌عليه‌وآله معتذراً بذلك فقال: (( إنّ الله تعالى قد أمرني بحبّهما )).

فعدم قيامه من السجود حين ارتحله بأمر إلهي، وحمله على كتفه بأمر إلهي، والركض معه في الطريق بأمر إلهي، وقيامه واستقباله بأمر إلهي.

والوجه في هذا أمران سنذكرهما إن شاء الله تعالى في محلّهما.

وأمّا كون شفتيهصلى‌الله‌عليه‌وآله لاثمتين ومقبّلتين فلا عجب من ذلك، ولا من كيفية تقبيلهما ؛ فكان يضمّهما إليه ويشمّهما ويقبّل كلاً منهما لنصف ساعة، ويقول: (( هما ريحانتاي ))، وقد يُقبّل أحدهما وهو في الصلاة ويده في يده.

وقد اشتهر أنّه قبّل فم الحسين ونحر الحسين، فتألمّ الحسين من ذلك، وأظهره لأُمّه الزهراءعليها‌السلام ؛ حيث إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّله في نحره وقبّل أخيه الحسنعليه‌السلام في فمه في يوم ما، لكن لم أعثر لذلك على رواية، إنّما الذي عثرت عليه في الروايات المتواترة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُقبّل الحسينعليه‌السلام تارة من نحره، وتارة من جبينه، وتارة من جميع بدنه، وتارة يكشف عن بطنه فيُقبّل فوق سرته على قلبه، وتارة يُقبّل أسنانه، وتارة يُقبّل شفتيه، وكان يُكثر من جميع ذلك، ولقد كان في تخصيصه لهذه معجزة له.

وكان يذكر سبب البعض، فيقول عند تقبيل جميع البدن: (( اُقبّل موضع السيوف وأبكي )).

٥٤

ولكن لم يذكر السبب في تقبيل الثغر والأسنان، وتقبيل فوق السرّة حتّى عُلم السبب بعد وقوع ما وقع.

واعلم أنّ تخصيصه للاحترامات الخاصّة لوجوه ثلاثة :

الأوّل: بيان مرتبته وعظم درجته وكرامته.

الثاني: مقابلة كلّ خصوصية احترام بما يقع عليه من هتكها ؛ ليعلم عظم المصيبة فيما يقع عليه، فإذا لاحظت مَنْ يستقبله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو طفل تعلم عظم المصيبة.

وإنّه يبلغ به الحال في خذلان الناس له: إنّه كان لا يُنازله أحد فيمَنْ يُصادفه في الطريق لئلاّ يستنصره، كما في رواية زهير، وإذا استقبل واحداً في الطريق ليسأل منه يعدل عن الطريق معرضاً عنه وكما في قضية الأسديين.

الثالث: إدخال السرور عليه جبراً لحزنه وكربه وظلمه، فإذا أراد الجبر لهذا الفرد من الحزن والكرب فلا بدّ أن يكون بهذا المقدار حتّى يقع التلافي، فهل لكم فيه أُسوة ؟ تجبرون القلب المكسور، وتفرّجون عن المكروب ؛ ببكاء عليه، وسلام عليه، وتحية له، وزيارة له، بل وبشكل عامّ وتلبية له.

الأمر الثالث: في بيان أعلى من ذلك وأبلغ، بأن نقول : إنّه تعالى قد أعطاه نبيّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منه ولا أقول ذلك مبالغة ولا شططاً، بل قال هوصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( حسين منّي وأنا من حسين )).

القسم الخامس: فيما أعطاه تبارك وتعالى من أعظم المخلوقات، أعني العرش

ولهذا الإعطاء كيفيات :

الأولى: في خصوصيات من العرش لهعليه‌السلام

فنقول: إنّه قد أعطاه من العرش ظلّه، فجعله له مجلساً يجلس فيه يوم القيامة، ومعه زوّاره والباكون عليه، فيرسل إليهم أزواجهم من الجنّة فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه.

وقد أعطاه تعالى وتعالى يمين العرش فجعله مقرّاً له في برزخه ؛ فإنّه عن يمين العرش دائماً ينظر إلى مصرعه وما حلّ فيه، وينظر إلى زوّاره والباكين عليه، ويستغفر لهم ويخاطبهم، ويسأل جدّه وأباه أن يستغفروا لهم.

وقد أعطاه تعالى فوق العرش محلّ حديث لزائره، وأيّ حديث ! فقد ورد في بعض أقسام زياراته أنّه يكون من محدّثي الله تعالى فوق عرشه.

فالعرش مجلس حديث

٥٥

لزوّاره ظلّه لمَنْ يحدّثه، وفوقه لمَنْ يحدّثه الله تعالى، وقد أعطاه نظير العرش من أصناف الملائكة المحدقين والطائفين، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

الثانية: كيفية أعلى من ذلك وأبلغ

بأن نقول: إنّه قد أعطاه العرش فكأنّه كلّه له ؛ لأنّه إذا كان مع أخيهعليهما‌السلام زينة له وقرطا وشنفاً فكلّ شيء بزينته، فلو تكلّم العرش لقال: أنا من حسين.

القسم السادس: فيما أعطاه من أحسن المخلوقات وهو الجنّة

وله أيضاّ كيفيتان :

الأولى: في الخصوصيات

فنقول: أعطاه من الجنّة شجرة خاصّة، وقصراً خاصّاً، وجعل من الحور العين قابلة له، وجعلهنّ لاطمات عليه، وخلق حورية مخصوصة لهعليه‌السلام ، وأعطاه منها باب مستقلاً اسمه باب الحسينعليه‌السلام وهو أكبر أبوابها.

الثانية: في كيفية أعلى من ذلك وأبلغ

فنقول: قد أعطاه الجنّة كلّها ؛ فإنّها خُلقت من نوره المبارك كما في الروايات، فالجنّة كلّها من الحسين وإنّها تشتاق إلى الحسين (سلام الله تعالى عليه) كما في الروايات الصحيحة، فلو تكلّمت لقالت بلسان الحقيق: أنا من الحسين.

القسم السابع: فيما أعطاه الله تعالى من باقي مخلوقاته من الخصوصيات

فاستمع لذلك :فنقول: قد أعطاه من كلّ مخلوق أفضله، وأجمل ما يمكن أن يعطي منه لواحد، ولنذكر إجمال ذلك في أبواب، ثمّ نفصّلها: باب ما أعطاه الله تبارك وتعالى من الملائكة باب ما أعطاه من الأنبياءعليهم‌السلام باب ما أعطاه من الأزمنة باب ما أعطاه من السماء باب ما أعطاه من الهواء والفضاء باب ما أعطاه من الماء

باب ما أعطاه من الأشجار

باب ما أعطاه من الأنهار

باب ما أعطاه من البحار

باب ما أعطاه من الإنس

باب ما أعطاه من الجن

باب ما أعطاه من الطير والوحش

باب ما أعطاه من الجبال

باب ما أعطاه من الظاهرية في هذه النشأة

هذا مجملها، وفهرسها فلنشرع في التفصيل فنقول :

٥٦

باب السّماء

اعلم أنّ الله تعالى قد أعطاه من السماوات خصائص خاصة، فجعلها مصعداً لجسد الحسينعليه‌السلام يوم قتله، وجعلها باكية عليه بالدم والتراب الأحمر والحمر.

ثمّ إنّه أعطى كربلاء من الخصائص الظاهرية والمعنوية خصائص أفضل ممّا أعطى السّماء ثمّ إنّ للحسينعليه‌السلام ـ على وفق ما أعطى السماوات السبع وما فوقهنّ ـ أفضلها، فلاحظ الصفات المعنوية تارة، وانظر إلى ما فيه من الموجودات الظاهرية الأُخرى، واستمع لما يُتلى عليك.

ولاحظ التطبيق عند بيان كلّ واحدة، فلنتكلّم أوّلاً عن الصفات المعنوية للسماء فنقول: السماء معدن الفيوض الربّانية، والحسينعليه‌السلام معدنها، بنحو أسهل حصولاً، وأيسر أسباباً، وأعظم تأثيراً.

السماء محلّ صعود الدعاء واستجابته، والحسينعليه‌السلام اسمه محلّ استجابة الدعاء، كما تحقّق ذلك في دعاء آدم النبي وزكريا ويوسف وغيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام بتوسّلهم إلى الله تعالى بالخمسة أصحاب الكساء.

السماء يصل إليها صراخ المظلوم، وكربلاء قد ارتفع منها صراخ المظلومين بنحو خاصّ لا مثيل له.

السماء يصل إليها أنين الأيتام، خصوصاً إذا بكوا، بل خصوصاً إذا كان بكاءهم ليلاً، فيهتز لهم العرش، وكربلاء ارتفع منها أنين أيتامٍ قد اختصّوا بكيفية خاصّة بهم.

السماء فيها البُراق أوصلت راكبها المباركصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قاب قوسين، وكربلاء فيها ذو الجناحين، فرس الإمام الحسينعليه‌السلام أوصل راكبه المبارك الحسينعليه‌السلام إلى مرتبة: أنا من حسين، لكن بسقوطه عنه.

السماء معراج الأنبياءعليهم‌السلام ، وكربلاء معراج الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء (صلوات الله عليهم).

السماء فيها أوضاع مؤثرة في الهواء والأرض، وكربلاء فيها أوضاع أثّرت في السماء والعرش والكون، بل وجميع المخلوقات بأسرها إلى يوم القيامة.

السماء فيها زجل، أي الصوت الرفيع العالي زجل التسبيح والتهليل، والتكبير والتحميد، وأصناف من القائمين والراكعين، والساجدين والقانتين، وكربلاء قد علا فيها زجل الضجيج والعويل، والأنين والاستغاثة من: يا أباه ! ويا أخاه ! ويا ولداه ! ووا أباه ! ووا أخاه ! ووا سيداه ! ويا سيداه ! ووا عمّاه ! وهي أحبّ إلى الله تعالى في عالم العبودية والتسليم من زجل الملائكة بالتسبيح.

السماء قد سجدت فيها

٥٧

الملائكة كلّها لآدمعليه‌السلام ، وكربلاء قد صلّت فيها جميع الملائكة والأنبياء على جسد الحسين المقطّع إرباً إرباً، المرضوض قبل الموت وبعده، المضمّخ بدمائه الزاكيات.

السماء قد وصفها الله تعالى بالسقف المحفوظ، والحسيـنعليه‌السلام قد جعله تعالى سقفاً حافظاً لمَنْ لاذ به.

السماء قد وصفها الله بالسقف المرفوع، والحسين المظلومعليه‌السلام قد جعله الله تعالى رافعاً لدرجات مَنْ توسّل بهعليه‌السلام .

السماء قال الله تعالى عنها:( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ) ، والحسينعليه‌السلام قد أنزل الله تعالى به ذلك الماء الطهور إذ بهعليه‌السلام ينزل الغيب، وقد نزل به أيضاً الغيث عند الاستسقاء فسقى ممّا خلق أنعاماً وزروعاً وأناسي كثيراً، فقد خصّه بأن أنزل به طهور جميع الأرجاس والبليات المعنوية يذهب به رجز الشيطان، وبذلك الماء يُطفئ النيران، وذلك الماء بعينه يكون من مياه الجنان كما ذكرناه وسنذكره.

السماء: قال تعالى بحقّها:( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ، فرزق الحياة الزائلة في السماء والحسينعليه‌السلام فيه رزق الحياة الدنيا والبرزخ، بل والآخرة الدائمة، وما توعدون به من الفوز بالجنان ورفع الدرجات والرضوان والخلود بالنعيم.

ثمّ لنتكلم ثانياً في الحياة الظاهرة، فنقول: قوله تعالى:( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) ونقول: أفلم ينظروا إلى الحبيب الحسينعليه‌السلام في أرض كربلاء كيف كان موقفه ومشهده، ومصابيحه حوله ممّن كان معه ؛ سواء الأنصار، أو أهل بيته، أو عياله ونسائه، وكيف كان رجومه للشياطين، ونوره وضياؤه ؟!

فارجع البصر ثمّ ارجع البصر كرتين إلى حالة ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير، ودمعه غزير، انظر إلى الحسينعليه‌السلام ، وانظر أولاً إلى السماء في أوضاعها وزينتها وتأثيراتها ومَنْ حلّ فيها، ثمّ انظر إلى الحسينعليه‌السلام ومدفنه كربلاء.

ففي السماء عرش عظيم، وفي كربلاء زينة العرش العظيم.

السماء مسكن الملائكة، والحسينعليه‌السلام مختلف الملائكة.

السماء معراج الأنبياءعليهم‌السلام ، وكربلاء معراج الملائكة.

السماء ذات البروج، والحسينعليه‌السلام ذو البروج كما في الرواية، فإنّه إمام [ وابن إمام ] وأخو إمام وأبو التسعة الأئمّة المعصومين.

السماء فيها الصراخ، كما في الحديث إنّ الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يجعل له بيتاً يسمّى بالصراخ، قبل البيت المعمور، يطوف به

٥٨

كلّ يوم سبعون ألفاً ولا تقع لهم النوبة بعد، والحسين إمامناعليه‌السلام له صريخ، قد وكّل به سبعون ألفاً لا يُستبدلون كلّ يوم.

السماء فيها الجنة، والحسينعليه‌السلام زينة، وخُلقت من نوره الجنة، وقبره تُرعة من تُرع الجنة، وهو سيد شباب أهل الجنة.

والسماء فيها جبرئيل الملكعليه‌السلام ، وفي كربلاء مخدوم جبرئيلعليه‌السلام .

السماء اُسري إليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلاً، وكربلاء اُسري إليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نهاراً كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: اُسريت إلى موضع يُقال له: كربلاء.

السماء فيها موسىعليه‌السلام ، وكربلاء فيها شجرة موسىعليه‌السلام .

السماء فيها عيسىعليه‌السلام ، وكربلاء ولد فيها عيسى النبيعليه‌السلام .

السماء فيها جبرئيلعليه‌السلام ، وكربلاء فيها مخدوم جبرئيلعليه‌السلام ونزل في مدفنه جبرئيلعليه‌السلام .

السماء فيها الشمس ويعرضها الكسوف، وشمس وجه الحسينعليه‌السلام ضُحاها حين اشتدّ عليه الأمر، وكان كلّما قرب الأمر أشرق لونه وازدهرت أنواره بهاء وهيبة.

السماء فيها أقمار، وكربلاء فيها قمر بني هاشم وقد انخسف حين حيل بينه وبين أخيه في ميدان الحرب، وهو القمر الذي أوّل ما تُطالب بحقّه الزهراء البتولعليها‌السلام في المحشر يوم القيامة، فاعرف مَنْ يكون وما هو قدر هذا القمر الأزهر ؟

السماء فيها كفّ الخضيب، والحسينعليه‌السلام له الرأس الخضيب والوجه الخضيب والبدن الخضيب ؛ ولذا أثّرت في استجابة الدعاء إلى الله تعالى.

السماء فيها السيارات السبع، وكربلاء فيها سيارات سبع من أولاد عليعليه‌السلام ، واثنان وسبعون غيرهم قد ساروا برؤوسهم المباركة.

السماء فيها نجوم ظاهرة ألف وخمسة وعشرون، وخفيّات لا تعدّ، ولكلّ واحد تأثير مخصوص، والحسينعليه‌السلام في بدنه أربعة آلاف ظاهري من السيف والرمح والسهم إلخ، والخفيّات لا تعدّ، ولكلّ واحد تأثير خاصّ موجب لألطاف خاصة، كما لا ننسى الرض على الرض، والجرح على الجرح، والضربة فوق الضربة.

السماء فيها القطب وبنات نعش تدور حوله، وكربلاء فيها بدن قطب الإمامة وبناته يدرنَ حوله وأطفاله ونساءه بالنوح والعويل.

السماء فيها حامل الرأس، وكربلاء فيها الرؤوس الزاكيات المحمولة.

السماء فيها البيت المعمور

٥٩

وهو قبال الصراخ، والكعبة يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملك يُخلقون في ذلك اليوم، ثمّ لا تقع عليهم النوبة، والحسينعليه‌السلام له أيضاً من الملائكة الطوّافين حول قبره نفس هذا العدد، كما سنذكره في عنوان الملائكة إن شاء الله.

السماء فيها المجرّة، وهي البياض المعترض في السماء، يُقال: إنها أثر كبش فداء إسماعيلعليه‌السلام ، والحسينعليه‌السلام فيها مجرّة يبقى أثرها حتّى إنّه يُحشر مع ذلك الأثر يوم القيامة من خصائصه وتأثيرات في ذلك لخلاص العاصين بواسطته.

باب الأرض

قد أعطاه الله تعالى منها أرضاً شرّفها بخصوصيات على الأرضين، كما سيجيء في باب الاحترام لمدفنه، وقد جعل له صفات الأرض، وخصوصياتها كلّها فنقول :

الأرض فيها معدن الجواهر والذهب والفضة، والحسينعليه‌السلام معدن القصور من اللؤلؤ والياقوت والذهب والفضة.

الأرض قد أنبث الله تعالى فيها من كلّ زوج بهيج للناس، والحسينعليه‌السلام قد أنبت له كلّ فرد بهيج ممتاز لا ينال بغيره، كما سيظهر في العنوان الآتي.

الأرض قد جعلها الله تعالى للناس مهاداً وكفاتاً، أي المنازل، يستقرّون عليها أياماً أحياءً وأمواتاً، والحسينعليه‌السلام قد جعله الله للاستقرار الدائم مهداً ومهاداً، وجعل مدفنه المبارك كفاتاً لشيعته أحياءً وأمواتاً.

باب ما أعطاه تعالى من الهواء والفضاء

قد أعطاه الله تعالى من هذين ما بين قبره والسماء، بل ما بين الحائر والسماء فجعل له أوصافاً :

الأوّل: بأن جعله مختلف الملائكة، كما ورد: (( ما بين قبر الحسينعليه‌السلام إلى السماء مختلف الملائكة ))، ومعراجاً يعرج فيه بأعمال زواره، وجعل إسماعيلعليه‌السلام صاحب الهواء يحضر ذلك الفضاء كلّ يوم ويسأل ملائكة الحائر ويسألونه.

الثاني: جعله مصعد عمل لم يصعد مثله.

الثالث: جعله مهبط رحمة خاصة لم يهبط مثلها.

الرابع: إنّه محلّ صعود الفيض من الأرض لأهل السماء ؛ فإنّه معراج الملائكة.

٦٠