• البداية
  • السابق
  • 156 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10674 / تحميل: 4064
الحجم الحجم الحجم
عاشوراء بين الصلح الحسني والكيد السفياني

عاشوراء بين الصلح الحسني والكيد السفياني

مؤلف:
العربية

وقتل الحسين وأهل بيته، وضربه على ثناياه بالقضيب، وحمل رأسه على خشبة»(1) .

وقال يزيد (لعنه الله) للإمام السجاد عليه‌السلام : «كيف رأيت صنع الله بأبيك يا علي بن الحسين؟ ...

وشاور مَن كان حاضراً في أمره، فأشاروا عليه بقتله ...»(2) فسكت.

وقد واجهت السيدة زينبعليها‌السلام يزيد (لعنه الله) بالتقريع من أجل ذلك(3) .

وقال للإمام السجاد عليه‌السلام أيضاً: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) (4) .

وقال يزيد (لعنه الله) للإمام السجادعليه‌السلام أيضاً: أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، فالحمد لله الذي أذلّهما وسفك دماءهما(5) .

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للمقرّم / 11 عن الفروع 3 / 548 - باب قتل أهل البغي، ط المنار سنة 1345.

(2) إثبات الوصية / 143، وراجع الفتوح - لابن أعثم - المجلد الثالث 5 / 130.

(3) بلاغات النساء - لأحمد بن أبي طاهر / 21، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 62، وأخبار الزينبات - للعبيدلي / 86، واللهوف / 79 ط سنة 1369 هـ.

(4) راجع الكامل في التاريخ 4 / 87، وتاريخ الطبري 4 / 352، 355، وتفسير القمي 2 / 352 في تفسير الآية في سورة الشورى، وتذكرة الخواص / 262، ومقاتل الطالبيِّين / 120، والإرشاد - للمفيد 2 / 120، وسير أعلام النبلاء 3 / 320.

(5) الفتوح - لابن أعثم - المجلد الثالث 5 / 131.

١٠١

ودعا يزيد (لعنه الله) برأس الإمام الحسينعليه‌السلام ، وجعل يضرب أو ينكت (والنكت: هو الضرب) ثغر الإمام الحسينعليه‌السلام بقضيب في يده(1) ، وجعل يقول: قد لقيت بغيك يا حسين(2) .

جوائز يزيد (لعنه الله) لابن زياد

ولمّا قتل ابنُ زياد الإمامَ الحسينعليه‌السلام أوصله يزيد (لعنه الله) بألف ألف درهم جائزة(3) .

وقال لسلم بن زياد، أخي عبيد الله بن زياد، حينما قدم عليه بعد قتل الإمام الحسينعليه‌السلام : لقد وجبت محبّتكم يا بني زياد على آل سفيان(4) .

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للمقرّم / 454 عن الإتحاف بحبِّ الأشراف / 23، والكامل في التاريخ 4 / 85 ط دار صادر، وتذكرة الخواص / 148، والصواعق المحرقة 2 / 580. ونقل أيضاً عن الفروع - لابن مفلح 3 / 549، وعن شرح مقامات الحريري - للشربشي 1 / 93.

وراجع مجمع الزوائد 9 / 195، والفصول المهمة - لابن الصباغ / 205، والخطط للمقريزي 2 / 289، والبداية والنهاية 6 / 260 ط دار إحياء التراث.

وراجع مناقب ابن شهر آشوب 3 / 261 المطبعة الحيدريّة، وسير أعلام النبلاء 3 / 319، 320، 309.

(2) الكواكب الدرية - للمناوي 1 / 56.

(3) الفتوح - لابن أعثم - المجلد الثالث 5 / 135.

(4) الفتوح - لابن أعثم - المجلد الثالث 5 / 36، وينابيع المودة 3 / 31 ط دار الاُسوة، والصراط السوي في مناقب آل النبي / 85.

١٠٢

وكتب يزيد (لعنه الله) بعد مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى ابن زياد: أمّا بعد، فإنك قد ارتفعت إلى غاية أنت فيها كما قال الأوّل:

رفعتَ فجاوزت السحابَ وفوقَه

فما لك إلاّ مرتقى الشمس مقعدا

أفد عليَّ لأجازيك على ما فعلت

ولما جاء استقبله يزيد (لعنه الله)، وقبّل ما بين عينيه، وأجلسه على سرير ملكه، وأدخله على نسائه.

وقال للمغني: غنِّ.

وللساقي: اسق.

ثمّ قال:

اسقني شربةً اُروّي فؤادي

ثمَّ صلْ فاسق مثلها ابنَ زيادِ

موضعَ السر والأمانة عندي

وعلى ثغر مغنمي وجهادي

زاد ابن الجوزي:

قاتلَ الخارجي أعني حسيناً

ومبيدَ الأعداءِ والحسّادِ

وأوصله ألف ألف درهم، ومثلها لعمر بن سعد، وأطلق له خراج العراق سنة(1) .

كما أنه حين وافاه النبأ بمقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان في

____________________

(1) راجع شرح الأخبار 3 / 253 ط جماعة المدرسين - قم - إيران، ومرآة الزمان في تواريخ الأعيان / 106، وتذكرة الخواص / 290، وراجع مروج الذهب 3 / 67.

١٠٣

بستانه الخضرا، كبّر تكبيرة عظيمة(1) .

وحين وصل السبايا إلى الشام «جمع يزيد مَن كان بحضرته من أهل الشام، ثمّ دخلوا عليه، فهنّوه بالفتح»(2) .

وتقدّم أنه حين وضع رأس الإمام الحسينعليه‌السلام جعل ينكت ثناياه بالقضيب، وهو يقول:

أبى قومُنا أن ينصفونا فأنصفتْ

قواضبُ في أيماننا تقطر الدما

نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

ثم صلب الرأس الشريف على باب القصر ثلاثة أيام(3) .

وفي نص آخر: نصبه بدمشق ثلاثة أيام، ثمّ وضع في خزائن السلاح(4) .

وفي نص آخر: أنه نصبه على باب مسجد دمشق(5) .

وفي نص آخر: نصبه في جامع دمشق في المكان الذي نُصب فيه

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 222.

(2) البداية والنهاية 8 / 197 ط سنة 1966م، وراجع سير أعلام النبلاء 3 / 309.

(3) راجع الخطط - للمقريزي 2 / 289، والإتحاف بحبِّ الأشراف / 23، ومقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 75، وسير أعلام النبلاء 3 / 319.

(4) البداية والنهاية 8 / 222 دار إحياء التراث، وسير أعلام النبلاء 3 / 319.

(5) الأمالي للصدوق / 147 ط سنة 1389 هـ - النجف الأشرف.

١٠٤

رأس النبي يحيى بن زكرياعليهما‌السلام (1) .

ثمّ حبس السبايا في محبس لا يكنّهم من حر ولا برد(2) ..

ولعلّه نصبه في أكثر من موضع في الأيام المختلفة.

لو صحت مزاعمهم

وبعد، فلو صح ما يزعمونه من أن يزيد (لعنه الله) لم يأمر ابن زياد بقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقد كان من المفترض أن يقتص منه، أو على الأقل أن يحاسب ويعاقب ابن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وغيرهم (لعنهم الله) ممّن شارك في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيد شباب أهل الجنة.

وكان عليه أيضاً أن يعاقب عمرو بن سعيد الأشدق الذي أمر صاحب شرطته على المدينة عمرو بن الزبير بن العوام بهدم دور بني هاشم في المدينة، ففعل، وبلغ منهم كل مبلغ، وهدم دار ابن مطيع(3) .

وكان عليه أن يستغني - على الأقل - عن خدمات ابن زياد والأشدق وغيرهما ..

وكان عليه أن لا يرضى من سفيانيّة أهل دمشق بأن يستقبلوا السبايا

____________________

(1) صبح الأعشى 4 / 97 ط المؤسسة المصرية العامة، ونقل عن تذهيب التهذيب 1 / 157.

(2) الأمالي للصدوق / 148.

(3) راجع الأغاني 4 / 156 ط.

١٠٥

بالدفوف، وبالفرح والسرور(1) .

وبعد كل ما تقدم:

فما معنى محاولة هؤلاء تبرئة يزيد (لعنه الله) ممّا اقترفته يداه، وادعاء أنه لم يأمر بقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولا رضي به، بل حاول أن يمنع من عودة القتال بين أهل الشام وأهل العراق؟!

أنصار السفياني:

وبعد أن اتضح: أن هذا المنشور قد اعتمد في عرضه لما جرى للإمام الحسينعليه‌السلام الرواية السفيانيّة اليزيديّة الشاذة التي أجمعت الدلائل والشواهد، والنصوص التاريخية على خلافها.

نقول:

ما كنا نظن أننا نعيش إلى اليوم الذي نحتاج فيه إلى إثبات أنّ يزيد (لعنه الله) هو الذي قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم!

وإن أخشى ما نخشاه هو أن يكون هذا النوع من الطروحات التي تسعى لتبرئة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (لعنه الله) الذي ارتكب أعظم الجرائم وأفظعها في حق الدين - أن تكون من إرهاصات عودة السفيانيّة، وأن يكون هؤلاء المروِّجون لها من الموطّئين لظهور السفياني في آخر الزمان ..

____________________

(1) أمالي الصدوق / 100.

١٠٦

ولعلّ ما يؤكّد هذا المعنى: أنّ المنشور يسعى للنيل من شخص الإمام الحسينعليه‌السلام ، سيد شباب أهل الجنة، والإمام المنصوص على إمامته من قِبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه، بقوله: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»، وتصويره على أنه كان طالباً للدنيا كما أشارت إليه الرواية المكذوبة عن ابن عمر.

وذلك توطئة للطعن في أصل الإمامة الذي لم يزل يؤرِّق هؤلاء الناس، ويمثّل الشوكة الجارحة في قلوبهم، والقذ المؤلم في عيونهم، والشجا المعترض في حلوقهم.

ابن تيمية المتجرِّئ على حرمات الله:

وأمّا كلام ابن تيمية الذي ورد في المنشور، فهو ظاهر في أنه يدافع عن يزيد (لعنه الله)، ويتهم الإمام الحسينعليه‌السلام بأنه لا عقل أو لا دين له، والعياذ بالله، وذلك حين زعم أنه أقدم على أمر ليس فيه مصلحة دين ولا مصلحة دنيا!

فهل أصبح ابن تيمية المجسِّم، المتحامل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام أعرف بالتكليف الشرعي من سيد شباب أهل الجنة؟!

ثمّ إننا لا ندري كيف يكون الإمام الحسينعليه‌السلام سيداً لشبابها، وليس على وجه الأرض أحد يساميه أو يساويه على حد تعبير ابن كثير الحنبلي(1) ما دام أنه لا يعرف مصلحة الدين ولا

____________________

(1) البداية والنهاية 8 / 162 ط دار إحياء التراث العربي سنة 1413.

١٠٧

مصلحة الدنيا، ويقدم على أمر «ما كان سليماً » على حدِّ تعبير ابن تيمية، وقد أوجب الفساد على حدِّ تعبير هذا المتعصب البعيد عن الأدب مع أهل بيت النبوة؟!

أليس في ذلك تعذير ليزيد (لعنه الله)، ولابن زياد، وللشمر بن ذي الجوشن، ولعمر بن سعد، ولحرملة، و و ..؟!

وانتهاك لحرمة ومقام الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتسفيه لرأيه، وتصويب أعدائه، أو على الأقل تهوين لجريمتهم؟!

ثمَّ هو اعتراض على الله وعلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أعطيا الأوسمة للإمام الحسينعليه‌السلام دون يزيد القرود والفهود، والخمور والفجور!

النصب وإيحاءاته

ويلاحظ أنه قد ورد التعبير في المنشور أنّ الحر قال عن السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام : إنها «سيدة نساء العرب »، مع أن الرواية تصرح بأنها:

سيدة نساء هذه الاُمّة ..

وسيدة نساء العالمين.

وسيدة نساء أهل الجنّة(1) !

____________________

(1) راجع أسرار الأسماء لفاطمة الزهراءعليها‌السلام / 69 - 83 فإنه قد ذكر طائفة كبيرة من النصوص عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مصادر كثيرة جدّاً من السنة والشيعة على حدٍّ سواء.

١٠٨

١٠٩

الفصل الثاني:

اللطم

على الإمام الحسينعليه‌السلام

١١٠

١١١

قتل الإمام الحسين وقتل الأنبياءعليهم‌السلام

ثم ذكر المنشور الذي يبدو أنه مأخوذ ممّا جاء في البداية والنهاية لابن كثير أنّ الأنبياء قُتلوا، وكذلك قُتل علي، وعمر، وعثمان، وهؤلاء كلّهم أفضل من الحسين، ولذلك لا يجوز إذا جاء ذكرى الحسين اللطم إلخ.

ثمّ استشهد بحديث: ليس منّا من لطم الخدود وشق الجيوب.

ونقول:

إنّ هذا الكلام كله أيضاً غير دقيق ولا صحيح، ونلخّص ما نرمي إليه ضمن النقاط التالية:

فظاعة جريمة يزيد (لعنه الله)

بالنسبة إلى قولهم: «إن مقتل الحسين ليس هو بأعظم من قتل الأنبياء».

نقول:

إنه غير صحيح، فإنّ قتل الإمام الحسينعليه‌السلام بهذه الصورة التي تم فيها قد كان هو الأفظع والأبشع، والأعظم خطراً، وذلك لأنه كان يهدف إلى اغتيال جهود جميع الأنبياء كلهم، وذلك بالقضاء على دين

١١٢

الإسلام الذي جاء به خاتم الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو الدين الأتم والأكمل، ونبيّه هو الأشرف والأفضل من كلِّ ما ومَن خلق الله، والذي هو ثمرة جهود وتضحيات جميع الأنبياء والأوصياء والصالحين، من النبي آدمعليه‌السلام إلى النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أوصياء نبينا أفضل:

وأمّا بالنسبة لتفضيل الأنبياء على الإمام الحسين عليه‌السلام ، فإننا نقول:

إنّ أوصياء نبينا الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل وأشرف من سائر الأوصياء، بل هم أفضل من كلِّ من عدا نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تدلّ عليه النصوص الكثيرة التي أثبتت أن آدم، ونوحاً، وإبراهيم، ويونس، وغيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام قد توسّلوا إلى الله بهم، وطلبوا الفرج والغوث من الله بواسطتهم.

وإذا كان الأمر كذلك فلا تصل النوبة إلى الحديث عن كونهم أفضل من عمر بن الخطاب، ومن عثمان بن عفان، فكيف إذا كان هؤلاء قد اعتدوا على بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً بالضرب، وأسقطوا جنينها حتّى ماتت واجدة على أبي بكر وعمر كما صرح به البخاري وغيره!

وكيف إذا كان الصحابة والتابعون قد نقموا على عثمان حتّى قُتل بحضرتهم، وبمشاركة منهم.

فهل يصح بعد هذا المقايسة بين هؤلاء وبين الإمام الحسينعليه‌السلام

١١٣

فضلاً عن السعي لتفضيلهم عليه؟!

اللطم على الإمام الحسينعليه‌السلام مطلوب لله تعالى:

أمّا ما ادعاه المنشور من أنه لا يجوز إذا جاءت ذكرى الإمام الحسينعليه‌السلام اللطم وما شابه، فهو غير صحيح أيضاً، بل هو مستحب ومطلوب ومحبوب لله تعالى، خصوصاً إذا كان فيه إدانة للباطل وتأييد للحق، وتربية للنفوس على مقت الظلم ورفضه، والبراءة من الظالمين والمفسدين.

ونحن نكتفي في هذا السياق بالتذكير بما يلي:

أيهما أعظم

هل لطم الصدور والخدود أعظم؟

أم البكاء حتّى العمى الحقيقي أعظم؟

فإن القرآن قد صرح بأنّ النبي يعقوبعليه‌السلام قد بكى على ولده النبي يوسفعليه‌السلام - الذي كان حياً - حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، بل هو قد كاد أن يهلك من ذلك، قال تعالى:( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) (1) .

حديث لطم الخدود، لا يدلّ:

بالنسبة لحديث: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليّة»،نقول:

____________________

(1) سورة يوسف / 84 - 85.

١١٤

إنه لا بدّ أن يكون ناظراً إلى من يفعل ذلك استعظاماً واعتراضاً على قضاء الله لمجرد موت عزيز له.

وقد ألمح العسقلاني، والقاري، والكرماني، والقسطلاني، والمناوي إلى ذلك، فقد ذكروا أن:

السبب فيه أي في هذا النهي - ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء(1) أو نحو ذلك ..

والدليل على ذلك:

أولاً: إنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ليس منّا مَن لطم الخدود إلخ، مع أن الذي يلطم صدره وخده في المصاب، أو يشقّ جيبه لا يخرج من الدين، فلا يصح أن يقال: ليس منا.

أمّا إذا فعل ذلك اعتراضاً على الله سبحانه، كما ربما يصدر من بعض ضعفاء الإيمان، فإنه لا يكون من أهل الإيمان حقيقة، لأنّ المؤمن لا يعترض على ربه، وينطبق عليه مضمون هذا الحديث بصورة حقيقية.

ثانياً: إنّ ممّا يدل على ذلك أيضاً ذيل الحديث، أعني قوله: ودعا بدعوى الجاهليّة فإن من يدعو بدعوى الجاهليّة، ويعود إلى التزام رسومها، ويترك ما يدعوه إليه الإسلام لا يكون من أهل الإيمان والإسلام.

____________________

(1) فتح الباري 3 / 195 ط دار الريان للتراث، وشرح الكرماني على البخاري 7 / 88، وإرشاد الساري 2 / 406، وعمدة القاري 8 / 87.

١١٥

وبذلك يظهر: أنه لا مجال للتأويلات الباردة التي يحاولون المصير إليها، والسعي إلى حمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس منا على المجاز، فراجع(1) .

1 - وقد قال الكرماني: إلاّ أن يفسر دعوى الجاهليّة بما يوجب الكفر، نحو تحليل الحرام، أو عدم التسليم لقضاء الله، فحينئذ يكون النفي حقيقة(2) .

وقال المناوي: وهو يدل على عدم الرضا، وسببه ما تضمّنه من عدم الرضا بالقضاء(3) .

فهذا الحديث ليس ناظر إلى ما هو من قبيل اللطم في عاشوراء الذي هو لأجل إعزاز الدين، وإظهار الحب لأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ، وإحياء شعائر الله تعالى.

2 - وقد روى الخوارزمي أن دعبلاً أنشد الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام قصيدته التائية، ومنها قوله:

أفاطمُ لو خلتِ الحسينَ مجدّلا

وقد مات عطشاناً بشطِّ فراتِ

إذاً للطمت الخدَّ فاطمُ عنده

وأجريت دمع العين في الوجناتِ

فلم يعترض عليه الإمامعليه‌السلام ، ولو بأن يقول له: إن أمنا

____________________

(1) فتح الباري 3 / 195.

(2) شرح الكرماني على البخاري 7 / 88، وعمدة القاري 8 / 87.

(3) فيض القدير شرح الجامع الصغير 5 / 493.

١١٦

فاطمةعليها‌السلام لا تفعل ذلك، لأنه حرام، بل هوعليه‌السلام قد بكى وأعطى الشاعر جائزة، وأقرّه على ما قال(1) .

والإمام الرضاعليه‌السلام لا يمكن أن يخفى عليه مثل هذا الحكم الشرعي في أمر هو محل ابتلاء الناس، ولا بدّ أن يكون الناس قد بدؤوا بممارسته منذ الأيام الأولى لوقوع الفاجعة. ويشير إلى ذلك ما ورد في النص التالي:

3 - لمّا مرّوا بالسبايا على الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه صاحت النساء، ولطمن وجوههن، وصاحت زينبعليها‌السلام : يا محمّداه(2) !

ولم يعترض عليهنّ الإمام السجادعليه‌السلام ، ولم نسمع أن أحداً من الاُمّة قد خطَّأهن في ذلك.

4 - وحين ارتجز الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء:

يا دهرُ اُفٍّ لك من خليلِ

كم لك في الإشراق والأصيلِ

سمعته السيدة زينبعليها‌السلام ، فشقّت ثوبها، ولطمت وجهها،

____________________

(1) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 131، والبحار 49 / 237، 239 - 252، والغدير للعلامة الأميني وغير ذلك.

(2) مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي 2 / 39، والبداية والنهاية 8 / 210 ط دار إحياء التراث العربي.

١١٧

وخرجت حاسرة تنادي: وا ثكلاه! وا حزناه! إلخ(1) .

5 - وممّا يدل على عدم حرمة اللطم في موت الأنبياء والأوصياء وأبناء الأنبياء، خصوصاً الذين ليس على الأرض أحد يساميهم أو يساويهم، ما رواه أحمد وغيره، وهو: عبد الله، عن أبيه، عن يعقوب، عن أبيه، عن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال:

سمعت عائشة تقول: مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين سحري ونحري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض وهو في حجري، ثمّ وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء، وأضرب وجهي(2) .

قال محمّد سليم أسد عن هذا الحديث بهذا الإسناد: وهذا إسناد صحيح(3) .

ورواه أبو يعلى، عن جعفر بن مهران، عن عبد الأعلى، عن محمّد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه.

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 113، وراجع تاريخ الاُمم والملوك 4 / 319 ط الاستقامة، وتاريخ اليعقوبي 2 / 244 ط صادر، والإرشاد - للمفيد 2 / 94، والكامل - لابن الأثير 4 / 59.

(2) مسند أحمد 6 / 274.

(3) مسند أبي يعلى 8 / 63 هامش.

١١٨

وقال محمّد سليم أسد: إسناده حسن من أجل جعفر(1) .

وروي أيضاً عن سعيد بن المسيب مثل ذلك(2) .

ونحن إنما نستدل على هؤلاء بما عندهم، وفي كتبهم، على قاعدة: «ألزمواهم بما ألزموا به أنفسهم ».

6 - إنّ مجرد أن يضرب الإنسان نفسه لمصيبة تحلّ به ليس حراماً، فقد روى أحمد، عن روح، عن محمّد بن أبي حفصة، عن ابن شهاب، عن محمّد بن عبد الرحمان، عن أبي هريرة أنّ أعرابياً جاء يلطم وجهه، وينتف شعره، ويقول: ما أراني إلاّ قد هلكت!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وما أهلكك؟».

قال: أصبت أهلي في رمضان!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تستطيع أن تعتق رقبة ...» إلخ(3) .

حيث يلاحظ: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعترض عليه، ولم ينهه عما يفعله بنفسه.

7 - كما أنّ ابن عباس يروي لنا قضية طلاق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لنسائه، وفي حديثه: قال عمر: فدخلت على حفصة وهي قائمة تلتدم، ونساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائمات يلتدمن.

____________________

(1) المصدر السابق متناً وهامشاً.

(2) مسند أحمد 2 / 516، ونصب الراية - للزيعلي 3 / 15 ط دار الحديث - القاهرة، عن الموطأ، وعن الدارقطني، والكتب الستة.

(3) مسند أحمد 2 / 516.

١١٩

فقلت لها: أطلّقك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...؟ إلخ(1) .

ابنُ أبي أوفى فهم خطأً:

وأمّا ما رواه أحمد، عن علي، عن عاصم، عن الهجري أن عبد الله بن أبي أوفى كان في جنازة ابنته، فسمع امرأة تلتدم.

وقال مرة: ترثي.

فقال: مه، ألم أنهكن عن هذا؟

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينهى عن المراثي. لتفض إحداكن من عبرتها ما شاءت(2) .

أمّا هذه الرواية فإنّ سياق الكلام يشير إلى أنّ الحديث إنما هو عن المراثي [التي كانت شائعةً] في تلك الأيام، حيث إنّ النساء كنّ ينحن بالباطل، ويذكرن في نوحهن أموراً لا حقيقة لها وينسبنها للميت، وقد ورد النهي الأكيد عن ذلك.

وهذا هو الأنسب بقول ابن أبي أوفى: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينهى عن المراثي. وتكون كلمة «تلتدم » خطأً، وهي من تصرفات الرواة.

وحتّى لو كانت رواية تلتدم هي الأصح، فإن النهي عن المراثي لا يستلزم النهي عن اللدم واللطم.

____________________

(1) كنز العمال 2 / 534 عن ابن مردويه.

(2) مسند أحمد 4 / 383.

١٢٠