كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 22986
تحميل: 5068

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22986 / تحميل: 5068
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولأي وظيفة من وظائفها إلاّ إذا كان موالياً للخليفة وأركان دولته، ومعادياً لأعداء الخليفة وأعداء دولته.

ومع أنّ عصر الخلفاء الثلاثة الاُول عصر ذهبي وراشد إذا ما قيس بعصور الخلفاء الذين جاؤوا من بعد الأربعة، ومع هذا لم يصدف أن استعمل أي خليفة منهم رجلاً واحداً موالياً لأهل بيت النبوة، أو كارها للخلفاء الثلاثة إلاّ شخصاً واحداً استعملاه للدعاية.

ولما آلت مقاليد الحكم والخلافة إلى معاوية أعلن وبكلِّ صراحة وخطياً بسلسلة من مراسيمه الملكية بأنه لا عطاء ولا مكان بدولته لأي إنسان لا يواليه ولا يطيعه، ولا عطاء ولا مكان بدولته لأي إنسان يحب علي بن أبي طالب وأهل البيت، ومن ثبتت موالاته لعلي وأهل بيت النبوة فيتوجب على ولاة معاوية أن ينكلوا به ويهدوا داره(1) ، وإذا جهر مواطن من رعايا دولة الخلافة بهذا الحب، وامتنع عن مسبة علي بن أبي طالب فإنّ عقوبته حسب قوانين دولة البطون هي الموت صبراً.

وما فعله معاوية بالصحابي الجليل حجر بن عدي وأصحابه المخبتين الصالحين دليل قاطع على ذلك؛ فقد قتلهم صبراً بتهمة رفضهم الشتم ولعن عدو الخليفة علي بن أبي طالب. ولا مانع لدى الخليفة من نهب أموال الذين لا يوالونه، وقتل أطفالهم كما فعل بسر بن أرطاة.

ولم تكتف دولة الخلافة بذلك، بل فرضت على رعاياه أن يعلنوا رضاهم بكل ما يفعله الخليفة وأركان دولته، وأن يعرفوا بأنه لا حق لهم بالاعتراض على فعل من أفعال الخليفة.

وجاءت وسائل إعلام هذه الدولة ومَن سار في ركابها من علماء السوء، فألقوا بروع الناس أنّ محبة الخليفة وطاعته، وعدم معصيته، وعدم الخروج عليه، والقبول بأعماله كلها واجبات دينية مفروضة على كلِّ ذكر واُنثى من رعايا دولة الخلافة.

وأن الخليفة ليس مسؤولاً أمام أحد؛ فبإمكانه أن يظلم، وأن يعطل الحدود، ويضيق الحقوق، ويغصب الأموال، ويضرب الأبشار، ومع هذا تبقى طاعته فرضاً مقضياً على كلِّ فرد من أفراد الرعية، ولا يجوز الخروج عليه، والخروج عليه حرام بإجماع علماء دولة الخلافة(2) .

ثمَّ إنه لا علاقة لأحد من

____________________

(1) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن المدائني في كتابه الأحداث 3 / 595 تحقيق حسن تميم.

(2) راجع صحيح مسلم 6 / 20 - 22 باب «الأمر بلزوم الجماعة» و12 / 229 بشرح النووي، وسنن البهيقي 8 / 158 - 159، وكتاب التمهيد لأبي بكر الباقلاني - باب «ما يوجب خلع الإمام» طبعة القاهرة 1366.

٢٠١

الرعية بالمسلك الشخصي للخليفة؛ فإن كان الخليفة فاسقاً فتجب طاعته، ولا علاقة لأحد بفسقه(1) .

لقد خُلق الخليفة الغالب ليطاع، وليحكم، وخلقت الرعية لتطيعه وتقبل بحكمه إن أرادت السلامة في الدنيا والجنة في الآخرة، وإذا رفض فرد من أفراد الرعية ذلك فلا عطاء له ولا رزق، ولا مكان له في دولة الخلافة ولا في المجتمع «الإسلامي». ويتولى الخليفة وأركان دولته قتله بتهمة شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، ويوم القيامة يدخل النار جزاء وفاقاً لمعصيته لخليفة البطون.

وأمام هذه الآلية المحكمة من إرهاب الدولة اقتصر دور الرعية على الطاعة والقبول بأفعال الخليفة مهما كانت. نحن أمام نظام يرفع شعار الدين ويقوم بعمل المجرمين، نحن أمام نظام الفراعنة، ولكنه يلبس لباس الدين؛ نظام يديره اُولئك الذين حاربوا رسول الله ودينه بكل وسائل الحرب حتّى اُحيط بهم، فاستسلموا وتظاهروا بالإسلام.

وبعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استولوا على منصب الخلافة بالقوة والغصب، وحكموا الاُمّة باسم الإسلام الذي لا يعرفونه، وهم كانوا بالأمس من أشد أعدائه؛ فكمموا الأفواه، وصادروا الحريات، وغصبوا الحقوق والأموال، وقتلوا النفوس المحرمة، وأذلوا عباد الله، وزيفوا الدين وحرفوه، وسخّروه مطية لمطامعهم وأهوائهم، وعاثوا في الأرض فساداً على سنة من آل فرعون؛ فذلت الاُمّة واستذلت أكثريتها، واختارت الحياة مع الذل، والعافية على الموت. وكانت الاُمم الكافرة تتفرج عليها وهي تتآكل من الداخل، وتتعجب كيف تمكن الخلفاء من قلب كل شيء هذا الانقلاب المريع!

لقد أدرك الإمام الحسينعليه‌السلام بوصفه الإمام الشرعي، وبوصفه الوارث الوحيد للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن الاُمّة تعيش أخطر مراحل حياتها، وأنه لا بدّ للإسلام من منقذ، ولا غنى للاُمّة عمن يوقظها من سباتها العميق، وإن تُركت الاُمّة على ما هي عليه فقد تعتقد الاُمم الاُخرى أن الإسلام في حقيقته ما هو إلاّ الإسلام الذي تمارسه دولة الخلافة، والنظم التي تتبناها دولة الخلافة وإن كانت إسلاميّة في ظاهرها، ولكن لا

____________________

(1) راجع المراجع السابقة.

٢٠٢

علاقة الإسلام بجوهرها ومحتواها.

ثمَّ ترك الأمر وشأنه؛ فقد تنجح دولة الخلافة بفرض مفهومها السطحي والسقيم للإسلام، وإجبار الاُمّة على تبنيه. ومع العادة والتكرار وضغط وسائل إعلام دولة البطون يصبح إسلام الخليفة وأركان دولته هو الإسلام، ولا إسلام غيره بعد أن تنجح دولة الخلافة بتحريف الكلم عن مواضعه، وتبديل مضامين دين الله الحنيف، وتحريفه بعدما اعتدل.

لكلِّ هذه الأسباب كان الإمام الحسينعليه‌السلام موقناً أنه لا بدّ من انتفاضة، وثورة من نوع خاص تعيد الإسلام لمساره الصحيح، وتقدمه للعالم بوجهه المشرق، وتنقذ الاُمّة من ذلها، وتفضح خزعبلات وألاعيب دولة الخلافة ومتاجرتها بالدين.

ولكن الإمام الحسينعليه‌السلام موقن أيضاً بأن الأمر ليس بهذه السهولة؛ فدولة النبي حكمت الجزيرة وأهلها سنتين، ودولة الخلفاء حكمت بضعاً وخمسين سنة، وخلال مدة حكمها الطويل أوجدت سنناً ورسختها أكثر من سنن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

مَن يجرؤ على الانتفاضة؟

الكلمة العليا في المجتمع الإسلامي كله كانت للخليفة وأركان دولته؛ فالخليفة وأركان دولته هم وحدهم من الناحية الرسمية والفعلية والأعداد الصحيحة يقولون ويفعلون، وما عداهم كسور. فالقلة المؤمنة اختفت نهائياً عن مسرح التأثير على الحياة، وقررت أن تكتم إيمانها كما فعل المؤمنون في المجتمعات الكافرة للاُمم السابقة، والأكثريّة الساحقة من الاُمّة سلّمت ويئست من المقاومة بعد أن أدركت أن الخليفة لا يُقهر.

وإنّ أُمة ألقت وسائل إعلامها بروع الناس أن رضا الله من رضا الخليفة، وبعد أن اكتشفت أن مفاتيح كل شيء بيد الخليفة فلا شيء يمنعه من أن يقتل أياً كان، أو أن يترك أياً كان؛ إنه الطاغية القاهر فوق الرعية، فمَن يخطر بباله مثل هذه الظروف أن ينتفض أو أن يثور؟! ومَن يجرؤ على قيادة الثورة؟ ومن يجرؤ على تأييد الثورة أو الالتحاق في صفوفها؟

ثمَّ لنفترض أن أحدهم قد ثار، فإنّ الخليفة وأركان دولته سيخمدون الثورة قبل أن يسمع بها أحد، وسيصوّرون الثائر إعلامياً بصورة الكافر الشاق لعصا الطاعة، والمفارق للجماعة، العاصي والخارج على «أمير المؤمنين وخليفة رسول رب

٢٠٣

العالمين»! ثمَّ يقوم الخليفة بتقطيع الثائر إرباً إرباً أمام الاُمّة، وستتفرج الاُمّة عليه وهو يُقطّع أوصال ضحيته دون أن تقوى على أن تقول: «لا»؛ لأن كلمة لا حُذفت عملياً من قواميس اللغة.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو المؤهل الوحيد للقيام بانتفاضة وقيادة ثورة؛ فهو في قاموس الشرعيّة الإلهية الإمام الشرعي من بعد أبيه وأخيهعليهم‌السلام ، ثمَّ إنه الوحيد من ذرّية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليس في بلاد الإسلام مَن هو أقرب للنبي منه؛ فهو ابنه، وهو حفيده وحبيبه، وسيد شباب أهل الجنة، وكلّ المسلمين وعلى رأسهم الخليفة يعلمون ذلك علم اليقين.

ولنترك المجال للإمام الحسينعليه‌السلام ليعرف نفسه بالمزايا التي تفرد بها واختص بها عن غيره. قال الإمام الحسينعليه‌السلام مخاطباً القتلة من جيش الخليفة: « أمّا بعد، فانسبوني، فانظروا مَن أنا، ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم فعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألستُ ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟!

أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟! أوَ ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمي؟! أوَ لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله قال لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟! فإن صدّقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله ما تعمدت كذباً...، ولإن كذبتموني فإن فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم.

سلو جابر بن عبد الله الأنصاري، أو سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!

فإن كنتم في شكٍّ من هذا القول أفتشكّون أثراً ما أني ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة... »(1) .

وقال الإمام الحسينعليه‌السلام لرجل من أهل الكوفة: « والله، لو لقيتك بالمدينة

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 3 / 318، والإرشاد للمفيد / 234، والكامل لابن الأثير 2 / 561، وبحار الأنوار 45 / 6، والعوالم 17 / 250، وأعيان الشيعة 1 / 601، ووقعة الطف / 206، والموسوعة / 419 - 421.

٢٠٤

لأريتك أثر جبريل من دارنا، ونزوله على جدّي بالوحي. يا أخا الكوفة، مستسعى العلم من عندنا، أفَعلموا وجهلنا؟! هذا لا يكون »(1) . فعلم الحلال والحرام، والصواب والخطأ، والفيصل بين الشرع والهوى هو قول الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ لأنه الإمام المؤهّل لقيادة الاُمّة، ووارث علم النبوة والكتاب.

ثمّ إنّ العرب كلها تعرف الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فهو العالم الفذ الذي لا يدانيه عالم، والشخص الفريد من نوعه الذي واجه جيشاً وبرباطة جأش، وببأس لا مثيل له، وهو الرجل الشامخ المقام الذي واجه محنة تهد الراسيات بأعصاب فولاذية، ولم يهن ولم يستسلم، وهوالذي أقدم بمحض اختياره على تقديم روحه دفاعاً عن الحق.

فالإمام الحسينعليه‌السلام كان أوحد زمانه؛ لأنه الإمام الشرعي؛ فهو الأعلم، وهو الأتقى، وهو الأفضل. كان متألقاً كالشمس الطالعة في النهار، وكالبدر في ظلمات الليل، فكان هو الوحيد المؤهل ليبعث انتفاضته، وليقود ثورة من نوع خاص؛ فلن يقوى الخليفة وإعلام دولته على التشكيك بدين الإمام، أو النيل من مكانته، أو إقناع المسلمين بخزعبلات ودعايات إعلام دولة الخلافة التي يسمون بها عادة أعداء الخليفة ودولته.

مَن هم المنتفضون والثوّار؟

لقد قرر الإمام الحسينعليه‌السلام أن يستجيب لنداء الواجب ولدوره التاريخي، لقد قرر أن ينتفض وأن يكون أول ثائر، وعزم على تحمل مسؤولية قيادة الانتفاضة المباركة وقيادة الثورة.

ولكن في ذلك المناخ الذليل مَن يجرؤ على الانتفاضة، ومَن يجرؤ على الثورة، ومَن يجرؤ على تأييد قائد الثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومَن يجرؤ على الالتفاف حوله والسير معه إلى نهاية الشوط؟! بل ومَن يستطيع أن يصافح الإمام الحسينعليه‌السلام أو يجتمع معه؟! فعمّ الذل والإرهاب في ذلك المجتمع، وأماتا فيه كل قيم الإسلام وقيم النخوة والإباء.

يبدو أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد أراد المنتفضين

____________________

(1) بصائر الدرجات 11 ح1، والكافي 1 / 398 ح3، وبحار الأنوار 6 / 157 و 45 / 93، والموسوعة / 347.

٢٠٥

والثوار من نوعية خاصة ليتمكّنوا من القيام بانتفاضة وثورة من نوع خاص؛ فمنذ اليوم الأوّل لإعلان موقف الإمام الحسينعليه‌السلام :

1 - نهض آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيت النبوة، وذوو القربى، وأعلنوا إنضواءهم تحت راية الحسينعليه‌السلام وتأييدهم له، ومباركتهم لخطواته، واستعدادهم للمضي معه قدماً حتّى الشهادة في سبيل الله؛ وتبعاً لهم انضمت نساؤهم وذراريهم، وهكذا تكوّنت الخلية الأولى من خلايا الانتفاضة والثورة، وهذه الخلية عبارة عن آل البيت، وأهل البيت، وذوي القربى مع نسائهم وأطفالهم.

إنّ هذه الخلية الأولى تتكوّن من أولاد الرسول وأحفاده وبناته، ومن أبناء عمومة الرسول وأحفادهم، وهذه فئة يعرفها كل المسلمين بما فيهم الخليفة وأركان دولته، ولا يخفى شرفها ومكانتها على أحد من الناس؛ إنهم عائلة الرسول، وحرمة الرسول؛ فهم أحد الثقلين الذي أمر رسول الله بالتمسك بهما، وهم آل محمّد الذين لا تجوز صلاة عبد إن لم يصلِّ عليهم، وهو أهل المودة في القربى الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم ومسلمة، وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فماذا عسى الخليفة أن يقول عنهم؟ وبماذا يمكن لوسائل إعلام دولته أن تصفهم؟ فقول الخليفة وأركان دولته مقابل قول الله ورسوله، فهل في الدنيا كلها عاقل واحد يمكنه أن يكذّب الله ورسوله ويصدق الخليفة وأركان دولته؟!

ثمَّ إنّ هذه الفئة المباركة هي سنام القدسية في المجتمع الإسلامي، فهل يعقل أن يدوس الخليفة على قدسية هذه الفئة أمام كلِّ المسلمين؟! وإن داس عليها علناً فما الذي يبرّر وجوده وشرعيّة هذا الوجود كحاكم للمسلمين إذا داس على أقدس مقدّساتهم وهو آل محمّد وأهل بيته وذوو قرباهعليهم‌السلام .

صحيح أن الخليفة وأركان دولته يمكنهم أن يهدموا الكعبة المشرفة إذا اقتضت مصلحتهم ذلك، وقد هدموها بالفعل، ولكن هل يعقل أن يقتلوا ابن النبي الوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، وأحفاد النبي، وبني عمومته، وأن يسبوا بنات النبي وبنات عمومته؟!

إنّ فرعون مصر وهامانه، ونمرود ووزراءه أسمى وأجل من أن يفكّروا بذلك، فهل [يُعقل] أن يفعل (خليفة المسلمين) ما يخجل فرعون ونمرود عن فعله؟! وهل يُعقل أن يفعل أركان دولة الخليفة ما يستحيي هامان

٢٠٦

ووزراء نمرود عن فعله؟! فإن فعل الخليفة وأركان دولته ذلك فما هم إلاّ كفرة ملحدون، يتسترون بلفظ الشهادتين ومظاهر الإسلام وقشوره؛ ليحكموا مجتمعاً يدين أفراده بدين الإسلام!

ثمَّ إن فعل الخليفة وأركان دولته ذلك فما هو المتبقي من التبريرات لسكوت الاُمّة وخنوعها وهي تشاهد الخليفة وأركان دولته وهم يدوسون على آخر ما تبقّى لهم من مقدّسات، خاصة وأن انتفاضاتهم سلمية، وثورتهم قائمة على الدين والمنطق والحوار، ولا يطلبون إلاّ الحق، فما الذي يمنع الخليفة من إعطائهم هذا الحق، ومن رفع ظلاماتهم والاستماع لمطالبهم في ملأ من الناس؟!

2 - وأيد انتفاضة الإمام الحسينعليه‌السلام وثورته أيضاً بالإضافة لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعة من نخبة الاُمّة الإسلاميّة، وهم أهل البصائر، وأهل النخوة والإيمان والتضحية طمعاً برضوان الله وجنته، وقد وصفهم أحد القادة الموالين للخليفة بقوله لجنوده:... أتدرون مَن تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين...(1) . هذه شهادة عدوهم بهم.

صحيح أن هذا العدو لا أخلاق له ولا دين، ولا يمكن الاعتداد بشهادته؛ لفساد دينه وخلقه وتردّي إنسانيته، لكن الظروف التي جرت فيها الشهادة، والأسباب الدافعة لتلك الشهادة، وسماع المئات لها دون أن ينفي صحتها أحد منهم، مع أنه يثاب على النفي ولا يعاقب، كل هذا يجعلنا نجزم بصحة هذه الشهادة.

فالذين وقفوا مع الحسينعليه‌السلام من أبناء الاُمّة الإسلاميّة وأيّدوه هم نخبة في قمة الإباء والرجولة؛ فهم فرسان وفي قمة الوعي؛ لأنهم أهل بصائر، ومن الملحدين بثقافة الهوان والذل؛ لأنهم طلاب موت لا طلاب حياة، وأن شرفهم وتفوّقهم وتميزهم مستمد من أعمالهم، وأصيل في نفوسهم.

وقد أثبتت مجاري الأحداث طبيعة تلك النخبة التي اختارها الله تعالى لتقف مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومع آل محمّد، وأهل بيت النبوة، وذوي القربى؛ فقد تحملوا مشاق رحلة الشهادة فلم يهنوا ولم يحزنوا، وليلة المذبحة طلب منهم الإمام الحسينعليه‌السلام أن ينسحبوا في جنح الليل وستره، وأن يتركوه وحده ليواجه

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 435.

٢٠٧

مصيره؛ لأن القوم إنما يطلبونه، فإن ظفروا به (ذهلوا عن غيره)، وبيّن لهم الإمام بأنه ليس له في أعناقهم بيعة ولا عليهم ذمّة، وأنه راضٍ منهم، لكن أهل بيت النبوة والنخبة التي التحقت به من أبناء الاُمّة الإسلاميّة رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، ورأت أن ذلك عار الدنيا وشنارها إذا تركت إمامها وحيداً للوحوش الكاسرة.

وفي صبيحة المذبحة أراد شباب أهل بيت النبوة أن يتقدّموا للقتال، فأبت تلك النخبة المباركة وأصرّت على أن تقاتل بين يدي الإمامعليه‌السلام وأهل بيت النبوة حتّى تفديهم وتموت دونهم.

اُولئك هم أصحاب الحسينعليه‌السلام ، واُولئك هم الرجال الذين اختارهم الله من اُمّة كاملة ليموتوا بين يدي الإمام الحسين وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ، ولينالوا شرف الشهادة دفاعاً عن الحق وأهله، وهم قلة لا يتجاوز عددهم التسعين رجلاً. ومن المدهش حقاً أن فيهم عرباً وموالي، وفيهم من عرب الشمال وعرب الجنوب، وفيهم الشباب وفيهم الشيوخ!

الناجون الراشدون

قال الإمام الحسينعليه‌السلام : « وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمَن أطاعني كان من المرشدين، ومَن عصاني كان من المهلكين »(1) . فالذين اتبعوا الإمام الحسينعليه‌السلام كانوا من الناجين الراشدين، والذين لم يتبعوه كانوا من الهالكين؛ لأن الإمام الحسينعليه‌السلام كان كما كان جده وأبوه المعيار الموضوعي بين الحق والباطل، وبين النجاة والهلاك.

حزب الله وحزب الشيطان

قال الإمام الحسينعليه‌السلام لأصحابه: « أصحابي، إن القوم قد استحوذ عليهم الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ». وأنشد يقول:

تعدّيتمُ يا شرَّ قومٍ ببغيكمْ

وخالفتمُ فينا النبيَّ محمّدا

____________________

(1) راجع مقتل الحسين للخوارزمي 2 / 6، وتاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 206، وبحار الأنوار 45 / 8، والعوالم 17 / 251، والموسوعة / 424.

٢٠٨

أما كان خيرُ الرسل أوصاكم بنا

أمـا كان جدي خيرة الله أحمدا

أما كانت الزهراءُ أمي ووالدي

عليٌّ أخا خير الأنام المسددا(1)

والثابت أن حزب أهل بيت النبوة هو حزب الله، وأن مَن يخالفهم من حزب إبليس(2) .

والخلاصة: إنّ الذين وقفوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام هم حزب الله، وهم صفوة الله من خلقه في زمانهم، وهم الفئة المؤمنة حقاً، وهم أحباب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا الذين خذلوا حسيناً وأهل بيت النبوة، ولم ينصروهم، بل وقفوا مع عدوهم وقاتلوهم فهم حزب الشيطان حقاً، وهم الخاسرون، وهم الفئة الباغية(3) ؛ لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبر الاُمّة بأن الفئة الباغية هي التي تقتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

ثمَّ إذا لم يكن قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ومبيدوا آل محمّد وأهل بيته [هم] الفئة الباغية، فمن تكون هذه الفئة إذاً؟! وإذا لم يك قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام وأعداء الحسين هم حزب الشيطان، فمن يكون حزب الشيطان إذاً؟! وإذا لم يكن الذين أيّدوا الإمام الحسينعليه‌السلام ووقفوا معه ودافعوا عنه وماتوا دفاعاً عنه وعن آل محمّد هم حزب الله في زمانهم، فمن يكن حزب الله؟!

____________________

(1) معالي السبطين 1 / 348، بحار الأنوار 45 / 41، والعوالم 17 / 283، والموسوعة / 426 - 427.

(2) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر / 91 و140، وإحياء الميت للسيوطي بهامش الإتحاف / 114، ومنتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد 5 / 93، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي / 298.

(3) راجع مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام للخوارزمي 1 / 87 - 88، وذخائر العقبى للطبري / 119، انظر إلى وصف الإمام الحسنعليه‌السلام لهم بالفئة الباغية الفتوح 5 / 79، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 26، ومثير الأحزان / 46، وأعيان الشيعة 1 / 595.

٢٠٩

٢١٠

الفصل الرابع

رحلة الإمام الحسينعليه‌السلام للشهادة في سبيل الله

الطريق إلى الموت

يوم امتنع الإمام الحسينعليه‌السلام عن مبايعة يزيد كان موقتاً أنه قد سلك الطريق إلى الموت، وأن يزيد وجنوده سيقتلونه، وسيقتلون أهل بيت النبوة إن عاجلاً أم آجلاً، وأن مسألة قتلهم مسألة وقت ليس إلاّ.

وقد خصصنا بحثاً في الفصول السابقة بعنوان «يقين الإمام الحسين» أثبتنا فيه أن الإمامعليه‌السلام كان يعرف أين يُقتل، وكيف يُقتل، ومَن يُقتل معه، ومتى يُقتل، ومَن هم القتلة.

كان موقناً أن المنايا يرصدنه ليبقى دائماً على طريق الموت لا يحيد عنها قيد أنملة، وكان الإمام دقيقاً إلى درجة التصوير الفني عندما تمثّل بقول يزيد بن المفرّع الحميري وهو يدخل لوداع جده العظيم:

يوم اُعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا ترصدنني أن أحيدا(1)

ومع يقين الإمامعليه‌السلام أنه يسلك هو وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الصادقين الطريق إلى الموت، وأن الفرعون وجنوده سيطاردونهم حتّى يظفروا بهم، وأنهم سيقتلونهم أشنع قتلة، إلاّ أن الإمام قد صمم بأن يكون موته وموت أهل بيته وأصحابه الصادقين موتاً من نوع خاص يليق بعظمة الإمام وطهر أهل بيت النبوة، وجلال وشموخ الصادقين من أصحابه؛ موتاً ينالون به أعظم درجات الشهادة عند الله تعالى، وهكذا وصّاه الجد العظيم يوم جاء الحسينعليه‌السلام لوداعه(2) .

____________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 271، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 186، وتاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 195، ووقعة الطف / 83، والموسوعة / 286.

(2) راجع الفتوح 5 / 20، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 186، وبحار الأنوار 44 / 328، والعوالم 17 / 177، والموسوعة / 287.

٢١١

يريده الإمام موتاً بحجم عظمة المهمة والأهداف التي خرج لتحقيقها، موتاً يكشف حقيقة الفرعون وجنوده.

استغلال فترة المطاردة

مثلما صمّم الإمام الحسينعليه‌السلام على أن يكون موته وأهل بيته وأصحابه من نوع خاص، كذلك صمم الإمام على استغلال فترة مطاردة الاُمويِّين له، وما تبقّى له من حياة أحسن استغلال؛ لتسمع الاُمّة كلها بخروجه، ولإقامة الحجة عليها، وليكشف الاُمويِّين على حقيقتهم البشعة، ولفضح يزيد ونظامه، وليعلن باسم الله ورسوله وباسم الاسلام الذي يمثّله بطلانَ الخلافة، وعدم شرعيتها، وبطلان كافة الفتاوى الفارغة التي كانت تضفي هالة من القداسة الزائفة على الخليفة الجبّار المتغلب، وتُحرّم معصيته والخروج عليه.

وليظهر الخليفة المتغلب بصورته الحقيقية كغاصب ما ليس له، وجالس بالقهر بالمكان الذي خصصه الله لغيره(1) ، وكمدّع لما ليس له(2) ، وكمطيع للشيطان، وتارك للرحمن، ومبطل للحدود، وشارب للخمور، ومستأثر بأموال المسلمين(3) ، وكمفسد كبير في ثوب مصلح، وكقائد لحزب الشيطان(4) ، وكإمام فاسق يحكم بالجور والعدوان(5) .

والإمام يريد من الاُمّة ومن العالم كله أن يتساءل: كيف يمكن التوفيق بأن ادّعاء الخليفة أنه «خليفة رسول رب العالمين»، وبين أعماله الإجراميّة المنبثقة عن سلوكه الشخصي القذر، ومسيرته الإرهابيّة كحاكم مستهتر بالأموال والأرواح،

____________________

(1) راجع الفتوح 5 / 11، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 182، وانظر إلى قول الإمام برسالته لأشراف البصرة « وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه، وورثته وأحق الناس بمقامه... » في تاريخ الطبري 3 / 280، ومثير الأحزان / 27، وبحار الأنوار 44 / 340، وأعيان الشيعة 1 / 590، ووقعة الطف / 107.

(2) الإرشاد للمفيد / 224، والكامل لابن الأثير 2 / 552، واللهوف / 24، وأعيان الشيعة / 596، وبحار الأنوار 44 / 377.

(3) راجع تذكرة الخواصّ / 217، والموسوعة / 326.

(4) معالي السبطين 1 / 348، وبحار الأنوار 45 / 41، والعوالم 17 / 283.

(5) الفتوح 5 / 35، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 195، والموسوعة / 313، وراجع المراجع في البند الثاني لتر تركيز الإمامعليه‌السلام على جورهم وعدوانهم.

٢١٢

وبأحكام الدين، وطويته الفاسدة التي تضمر الحقد والبغض للبقية من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ؟ !

والإمامعليه‌السلام يريد من الاُمّة أن تستفيق من غفلتها ومن نومها العميق، ومن تطرّفها وحبها للحياة مع الذل؛ فالعيش كالمرعى الوبيل هو خسة؛ فالحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، والموت للخلاص من هذه الحياة ما هو إلاّ شهادة، والحياة مع الظالمين ليست إلاّ برماً (2) .

ويريد الإمام الحسينعليه‌السلام من الاُمّة أن ترجع لدينها وتعرف مَن هم الذين اختارهم الله ولاة لأمرها فتلتفّ حولهم، وتتخلّى عن طاعة بني اُميّة؛ فإنها إن فعلت ذلك فإن يزيد سيسقط تلقائياً.

لقد تمكّن الإمام خلال فترة المطاردة، وبوسائل محدودة، ومن خلال تصريحاته وخطبه ومقابلاته التي كانت تفيض بالصدق واليقين، وأنبل المشاعر نحو الدين والاُمّة من أن يوصل ما أراد إيصاله للاُمّة، ومن إقامة الحجة عليها وعلى الاُمويِّين معاً.

وتمكّن خلال الفترة المتبقّية له من الحياة من أن يضرب المثل الأعلى بالشجاعة والتضحية والإقدام، والإقبال على الموت بنفس مطمئنة راضية في سبيل نصرة الحق، ولا يخفى ما لذلك من أثر في بعث الحياة باُمّة أذلها الاُمويِّون فذلّتِ، وما لذلك من أثر في تحجيم بني اُميّة وجنودها كعصاة وكأعداء لله ولرسوله، وكقتلة مجرمين لا همّ لهم إلاّ مصالحهم الأنانية الضيّقة.

والأهم أنه مزّق وبمنتهى القوة كافة البراقع والمظاهر الزائفة التي كانوا يتسترون بها، وعرّاهم وكشفهم للاُمّة وللعالم كله حقيقتهم البشعة.

الحوار بين لغة الدين والمنطق، ولغة المخالب والأنياب

لقد ترك الإمام الحسينعليه‌السلام جوار جدّه العظيم وهو كاره، وخرج وهو كاره، وتمنّى لو اُتيحت له الفرصة ليبقى في المدينة، ويتنقل في بلاد الإسلام، ويدخل

____________________

(1) راجع الفتوح 5 / 11، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 182.

(2) تاريخ الطبري 3 / 307، وتاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 214، ومقتل الخوارزمي 1 / 237 على سبيل المثال.

٢١٣

مع يزيد وجنوده في حوار بلغة الدين والمنطق، ويقنعهم أنه الأولى بسلطان النبي وميراثه، والأحق، وأنه الإمام الشرعي المؤهل إلهياً لهذا المنصب، وأنه الأولى بمبايعتهم لهم، وأن يزيد الذي يصر على أخذ البيعة من الإمام الحسينعليه‌السلام أو أن يضرب عنقه ليس مؤهلاّ للخلافة والقيادة؛ لا في سلوكه، ولا في سيرته، ولا في علمه، ولا في تاريخ أبيه وجده الدموي المتميز بعداوة صارخة لله ولرسوله؛ فصدور يزيد وجنوده أضيق من أن تتسع بذلك، وأسماعهم أضعف من أن تطيق سماع ذلك.

لقد اتّسع فرعون مصر على جبروته بموسى وهارون، وأتاح لهما الفرصة ليدليا بما عندهما، وسمع منهما حجتهما كاملة، بل وأتاح لهما الفرصة ليثبتا صحة هذه الحجة على مرأى ومسمع من الشعب المصري كله.

وكان موسى آمناً خلال فترة طرحه لما جاء به، ولم يتعرض له فرعون بسوء، وعندما التقى موسى بالسحرة على مشهد من الناس ليثبت صحة ما جاء به، كان موسى آمناً لم يتعرض له فرعون ولا جنوده بالسوء، وعندما نجح موسى بهزيمة السحرة أمام الناس لم يتعرض له، ولم يقتله، بل اتهمه والسحرة بالمكر، وتركهم أحياء، وتركهم طلقاء.

ليت فرعون - يزيد - المسلمين قد تخلّق بأخلاق فرعون مصر وأتاح للإمام الحسينعليه‌السلام ما أتاحه فرعون مصر لموسى! ليته منح الإمام الحسينعليه‌السلام الفرصة والحرية التي منحها فرعون مصر لموسى! ليته سمع حجة الإمام الحسينعليه‌السلام كاملة وأتاح له الفرصة ليثبت صحة ما جاء به، وما عنده، وأعطاه الحرية والأمن إلى حين على الأقل لما كان هنالك داع للخروج، ولما كانت هنالك ضرورة لنثر شمل أهل بيت النبوة وتشتيتهم في البلاد، ومطاردتهم بهذه الهمجية والوحشية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً!

إنّ فرعون مصر لم يطلب من موسى أن يبايعه، ولم يطلب منه أن يعترف بشرعيّة حكمه؛ لأنه يدرك بأن طلبه غير معقول وغير منطقي.

إنّ فرعون مصر لم يخيّر موسى بين الاعتراف بشرعيّة حكمه أو بالموت كما فعل يزيد عندما أمر واليه

٢١٤

على المدينة أن يأخذ البيعة من الحسين وإن أبى أن يضرب عنقه(1) ، أو أن يأخذه أخذاً شديداً ليست فيه رحمة حتّى يبايع(2) .

فيزيد ابن معاوية يسوم الإمام الحسينعليه‌السلام عمداً وبغضاً، ويعامله معاملة السوقة، ويتصرف بالمغصوب تصرف المالك، ويريد من صاحب الحق أن ينسى حقه، وأن يبارك للغاصب ما غصب.

يريد من ابن النبي وأهل بيت الطهارة أن يصفقوا للماجن على مجونه، وللخليع على خلاعته، وللفاسق على فسقه، وإن لم يفعلوا ذلك فلا داعي لأن يسمع الخليفة كلامهم؛ فيزيد أقل وأذل من أن يرتقي إلى مستوى فرعون مصر ليعطي الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته من الفرص والأمان ما أعطاه فرعون لموسى.

فالطاغية لا يجد ولا يعرف أصلاً لغة الحوار بالدين والمنطق، إنه وجنوده يعرفون ويجيدون لغة المخالب والأنياب والإرهاب، والبطش والقسوة، فلو ظفر وجنوده بالإمام الحسين وأهل بيت النبوة لقطعوهم إرباً إرباً وبمنتهى الوحشية والهمجية، ولما سمع بمقالتهم وحجتهم أحد، ولأشاعت وسائل إعلام دولة الخلافة أن الإمام وأهل بيت النبوة قد انتحروا، أو أكلوا طعاماً مسموماً فماتوا.

وليس من المستبعد ان يتظاهر الاُمويِّين بالحزن على الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، وأن يتظاهروا بالبراءة، ويلبسون القفازات البيض وأيديهم ملطخة بدماء الجريمة، وكل هذا يفرض على الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيت النبوة أن يخرجوا في جنح من الليل، وأن لا يمكنوا جيش الطاغية من إلقاء القبض عليهم.

طبيعة رحلة الشهادة

عندما امتنع الإمام الحسينعليه‌السلام عن بيعة يزيد بن معاوية كان موقناً أن المواجهة قد بدأت بينه وبين يزيد تماماً كما بدأت بين موسى وفرعون مصر. وعندما خرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة المنورة كان لديه الإحساس العميق بأنه يفر من يزيد وجنوده تماماً كما فر موسى من فرعون مصر وجنوده.

كان الإمام

____________________

(1) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم 5 / 10، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 180 - 185، واللهوف / 9 - 10، ومثير الأحزان / 14 - 15.

(2) راجع تاريخ الطبري 6 / 188 باب «بيعة يزيد بن معاوية».

٢١٥

الحسينعليه‌السلام موقناً أنه وأهل بيته وأصحابه غرباء تماماً، يسيرون في مملكة بني اُميّة بلا ناصر ولا معين، بين قوم قلوبهم غلف لا يعون ولا يرحمون.

وقد أثبتت الوقائع بالفعل في ما بعد؛ لأن فرعون مصر وجنوده كانوا بمنتهى الرحمة والخلق إذا ما قيست أفعالهم بأفعال جيش الاُمويِّين، فعندما غادر الإمام المدينة المنورة تلا قوله تعالى:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (القصص /21)(1) ، وهو عين ما قاله موسى عندما فرّ من فرهون مصر وجنوده.

والإمام الحسينعليه‌السلام الذي اختاره الله إماماً، وأعدّه وأهّله لا يلقي الكلام على عواهنه، إنما يبرز بكلامه ومقارنته أدق المخفيات بصيغة يفهمها المكلفون فهماً كاملاً؛ لتقوم الحجة عليهم وفق موازين الحق ومعاييره.

ولمّا وصل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكّة تلا قوله تعالى:( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل ) (القصص /22)(2) ، وهو عين ما قاله موسى عندما ابتعد نسبياً عن الخطر، وعندما أشرف على مدين.

فالتمثّل بقول موسى في مكانين مختلفين، وفي فترتين زمنيتين متباعدتين يعكس بوضوح وحدة المحنة بين النبي موسى والإمام الحسينعليهما‌السلام ، ووحدة الجو النفسي بينهما، والتشابه بالحالتين، والتطابق في طبيعة الخصمين، ووحدة المعاناة؛ وإبرازاً لهذا فإن الإمام الحسينعليه‌السلام يستعين بإعجاز القرآن ليضع الاُمّة معه في موقفه وطبيعة معاناته، وليستصرخ لا شعورها لنصرته.

الخارطة الجغرافية والإعلاميّة لرحلة الشهادة

من المدينة إلى مكّة

قبل أن يخرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة إلى مكّة بادئاً رحلة الشهادة كتب الرسالة التي وجهها إلى بني هاشم، والتي تحدثت عن اُمور غيبية لم تحدث بيقين

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 3 / 272، والكامل لابن الأثير 2 / 531، والإرشاد / 202، ووقعة الطفِّ / 85، والعوالم 17 / 181، وينابيع المودة / 402، وأعيان الشيعة 1 / 588، والموسوعة / 299.

(2) راجع الإرشاد للمفيد / 202، وبحار الأنوار 44 / 332، والعوالم 17 / 181، والكامل لابن الأثير 2 / 531، وتاريخ الطبري 3 / 272، والفتوح 5 / 25، وأعيان الشيعة 1 / 588، ووقعة الطف / 586، والموسوعة / 305.

٢١٦

قاطع أثارت فضول أهل المدينة، وعرفوا مضمونها، وجاء فيها: « بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم. أمّا بعد، فإنَ مَن لحق بي منكم استشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح. والسّلام »(1) .

ثمّ إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد اجتمع مع نساء بني هاشم عندما اجتمعن للنياحة والبكاء لمّا سمعن بعزم الإمام على الخروج، وتكلّمت النسوة مع عمته اُمّ هانيء، واجتمع معها الإمام الحسينعليه‌السلام . ومن خلال المعلومات التي وصلت إلينا يبدو واضحاً أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد استشرف أمامهن رحلة الشهادة، وأحاطهن علماً بمآل هذه الرحلة، واُمّ هانيء التي روت للإمام الحسينعليه‌السلام تفاصيل الهاتف الذي سمعته(2) .

ومن الطبيعي أن يكون حديث الإمام الحسينعليه‌السلام مع الهاشميات قد انتشر بين نساء المدينة خلال يومين أو ثلاثة من اجتماع الإمام بهن. ثمَّ هل يعقل أن تجتمع الهاشميات للنياح والبكاء، وينحن ويبكين، ولا تسأل نساء المدينة عن السبب؟!

وقد أفضى الإمام الحسينعليه‌السلام بتصريحات أمام ابن الزبير(3) ، والمسور بن مخرمة(4) ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام(5) ، وعبد الله العدوي(6) .

ثمَّ إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كتب لأخيه محمّد بن الحنفيّة كتاباً سمّاه «الوصية» بيّن فيه الغاية من خروجه، جاء فيه: « وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي؛ اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق

____________________

(1) بصائر الدرجات 481 ح5، واللهوف / 28، والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 76، ومثير الأحزان / 39، وبحار الأنوار 44 / 330 و42 / 81، والعوالم 17 / 179.

(2) راجع بحار الأنوار 55 / 88، وأعيان الشيعة 1 / 888، ومقتل الحسين للمقرم / 152، ومعالي السبطين 1 / 214، والموسوعة / 295 - 296.

(3) راجع الفتوح لابن أعثم 5 / 11، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 182، وتاريخ الطبري 3 / 270، والكامل لابن الأثير 2 / 530، ووقعة الطف / 80.

(4) راجع تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 202، والموسوعة / 288.

(5) راجع تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 202، والموسوعة / 289.

(6) أنساب الأشراف 3 / 155، والفتوح لابن أعثم 5 / 25، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 189.

٢١٧

فالله أولى بالحق، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين... »(1) .

ثمّ إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد أجرى حواراً موسّعاً مع أخيه محمّد بن الحنفيّة، وأذن له بالبقاء في المدينة، وشاع بين سكان أهل المدينة أن الإمام قد كتب وصيته وسلّمها لمحمد بن الحنفيّة، فمن الطبيعي أن يسأل أهل المدينة ابن الحنفيّة عمّا جرى، وعن مضمون الوصية، بل ومن الطبيعي أن يسأله أمير المدينة وأركان إمارته أن يبعثوا ليزيد بن معاوية بكل ما سمعوه من أخبار الإمام الحسينعليه‌السلام .

ولم يخرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة إلاّ بعدما أقام الحجة كاملة على أهلها، وبعدما يئس من نصرتهم له. ولو كان عند الإمام الحسينعليه‌السلام أي أمل بنصرة أهل المدينة وحمايتهم له ولأهل بيته لما خرج منها.

ولقد عبّر الإمامعليه‌السلام عن شعوره بالمرارة وخيبة الأمل فيهم، وعن غضبه منهم بأكثر من مناسبة؛ فقد شكا أمام قبر جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً: « أنا فرخك وابنُ فرختك، وسبطك في الخلف الذي خلفت على اُمّتك، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنهم لم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك »(2) .

ومثل قول الإمامعليه‌السلام : «... وقد سمعت رسول الله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدي فلم يفعلوا ما أمروا به، فابتلاهم الله بابنه يزيد زاده الله في النار عذاباً »(3) .

ومثل قول الإمامعليه‌السلام مناجياً رسول الله أمام قبره الشريف: « لقد خرجت من جوارك كرهاً، وفرّق بيني وبينك حيث إني لم اُبايع ليزيد بن معاوية شارب الخمور، وراكب الفجور، وها أنا خارج من جوارك على الكراهة، فعليك مني السلام »(4) .

وغاية الإمام الحسينعليه‌السلام من الخروج منصبّة على البحث عن مأوى آمن

____________________

(1) بحار الأنوار 44 / 329، والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 89، والعوالم 17 / 179.

(2) راجع الفتوح 5 / 19، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 186، والعوالم 17 / 177.

(3) الفتوح لابن أعثم 5 / 17، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 184، والموسوعة / 285.

(4) المنتخب للطريحي / 410، وناسخ التواريخ 2 / 14، وينابيع المودة / 401، والموسوعة / 288.

٢١٨

يأوي إليه وأهل بيته، فلو كان الإمام واثقاً أن المدينة هي المأوى الآمن، وأن أهلها سيمنعونه ويحمونه لما كانت هنالك ضرورة لرحلة الشهادة؛ فأهل المدينة أعرف بالإمام وبمكانته من غيرهم، ويعرفون أنه المظلوم وصاحب الحق الشرعي مثلما يعرفون تاريخ يزيد ومعاوية وأبي سفيان، وهو تاريخ أسود.

ومع هذا، ومع سبق الترصد والإصرار خذل أهل المدينة الإمام الحسينعليه‌السلام خذلاناً تاماً، وتجاهلوا خروج الإمامعليه‌السلام ، وتجاهلوا العهد والموثق الذي قطعوه على أنفسهم أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يحموه ويحموا أهله كما يحمون أنفسهم وذراريهم.

والخلاصة: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يغادر المدينة إلاّ بعدما كان موقناً بأن أهلها خاذلوه لا محالة، ومع هذا لم يغادر المدينة إلاّ بعدما أسمع حجته لرجالها ونسائها، ولشيوخها وشبابها، وبعدما أقام الحجة كاملة عليهم، وعلى أركان دولة الخلافة في المدينة المنورة. ولما تيقّن الإمامعليه‌السلام أنه قد فعل ذلك كله غادر المدينة متوجّها إلى مكّة، وكان ذلك في ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب من سنة ستّين للهجرة.

خرج الإمام الحسينعليه‌السلام ببنيه وإخوته وجلّ أهل بيت النبوة إلاّ محمّد بن الحنفيّة(1) من المدينة نهائياً إلى مكّة المكرمة، وهو يتلو قوله تعالى:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (القصص/21)(2) .

وفي رواية ثانية أن الإمامعليه‌السلام قد خرج من المدينة يريد مكّة بجميع أهله، وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان في سنة ستّين للهجرة، وهو يتلو الآية...(3) .

وأثناء مسيرته إلى مكّة لزم الطريق الأعظم، وأبى أن يحيد عنها، وقال لمسلم بن عقيل الذي أشار عليه بالعدول عن الطريق: « والله يابن عمي، لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكّة، أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى »(4) .

____________________

(1) الموسوعة / 299.

(2) تلاوته للآية في تاريخ الطبري 3 / 274، والكامل لابن الأثير 2 / 531، والعوالم 17 / 181، وأعيان الشيعة 1 / 888.

(3) اللهوف / 13، والفتوح لابن أعثم، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 181.

(4) مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 189، وينابيع المودة / 402، والموسوعة / 299، وتاريخ الطبري 3 / 276.

٢١٩

فالإمام الحسينعليه‌السلام لا يخفى خروجه على أحد؛ فهو يسلك الطريق العام علناً، بل هو يجهد نفسه ليعلم كل المسلمين بخروجه، ولتكون أسباب الخروج معروفة عند كل مسلم ومسلمة بمن فيهم يزيد وأركان دولته؛ لأن الإمامعليه‌السلام لا يطلب ملكاً كابن الزبير، ولا يتلبّد لملك كابن عمر، إنما هو صاحب حق، وصاحب رسالة معني من كل الوجوه بإبلاغ مضامين تلك الرسالة إلى كافة المكلّفين من حاكمين ومحكومين على السواء.

في مكّة المكرمة

لو أخذنا بالرواية الاُولى التي تقول: إن الإمام الحسينعليه‌السلام قد خرج من المدينة المنورة متوجهاً إلى مكّة المكرمة في اليوم الثالث من شهر شعبان، لقدّرنا أن الإمام قد وصل إلى مكّة المكرمة في منتصف شهر شعبان.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الإمام أدّى العمرة وخرج من مكّة قبل إتمام الحج؛ كراهية منه أن تستباح به حرمة البيت الحرام(1) ، فمعنى هذا أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد بقي في مكّة قرابة أربعة أشهر تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً.

هذه المدة الكافية أتاحت له فرصة للاجتماع مع أهل مكّة، ومع وفود الحجيج التي جاءت من مختلف البلاد الإسلاميّة، ومن الطبيعي أن يطلعهم الإمامعليه‌السلام على خروجه وعلى أسباب هذا الخروج، وأن يبيّن لهم حاجته إلى مأوى آمن يأوي إليه، وإلى قوم يمنعونه وأهل بيته بطريقة مهذّبة لا تخدش كبرياء الحق الذي يمثله.

ومن الطبيعي أن يتوافد المسلمون عليه للإسلام، وتقديم الاحترام لابن النبي الوحيد المتبقي على وجه الأرض، وطمعاً بالبركة، وتقرباً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن المؤكد أنهم أصغوا إليه، وأنه قد ملكهم بحديثه المميز؛ فقد أسر حديثه حتّى خصومه، وأخالهم قد استمعوا إليه بشغف بالغ، وعزّ عليهم ما يعانيه الإمام وأهل بيت النبوة في محنتهم تلك، وأخالهم قد ودّعوه وقبّلوا يده وعيونهم تفيض بالدمع، وألسنتهم ترجوه الدعاء لهم، ثمَّ اختفوا ليمارسوا عادات العبادات.

وهكذا أقام عليهم الحجة كاملة غير منقوصة، وشهدوا على أنفسهم من حيث لا يشعرون بأن ابن النبي وأهل بيت النبوة قد استنصروا فلم يُنصَروا، وطلبوا

____________________

(1) ابن نما / 89، وتاريخ الطبري 6 / 177، ومقتل الحسينعليه‌السلام للمقرم.

٢٢٠