كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 22983
تحميل: 5068

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22983 / تحميل: 5068
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الدعم فلم يُدعموا، واستحموا فلم يحمهم أحد، وبيّنوا الحق وطلبوا من المسلمين اتباعه فأعرض المسلمون عنهم، وهذا قمة ما هو مطلوب من الإمام؛ فالإمام ملزم ببذل عناية لا بتحقيق غاية، مكلف بأن يبيّن الحق ويقيم الحجة على الناس، لكنه ليس مكلفاً بأن يجبر الناس إجباراً على اتّباع الحق.

ويبدو مؤكداً أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد اجتمع في مكّة مع عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب(1) ، وقد حببا إليه البقاء والعودة معهما إلى المدينة، وخوّفاه من سيف يزيد بن معاوية وجنده، وقال له ابن عمر: ارجع إلى المدينة، وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً.

فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام : « هيهات يابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع وأنا كاره أو يقتلوني ». وقال له الإمام الحسينعليه‌السلام أيضاً: « اتقِ الله يا ابا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي ».

ثمّ أقبل الإمام الحسينعليه‌السلام على عبد الله بن العباس فقال: « يابن عباس، إنك ابن عمِّ والدي... فإني مستوطن بهذا الحرم ومقيم فيه أبداً ما رأيت أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم... واستعصمت بالكلمة التي قالها ابراهيمعليه‌السلام يوم اُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل ».

فبكى ابن عمر وابن عباس بكاءً شديداً، والحسين يبكي معهما ساعة، ثمَّ ودّعهما وعاد ابن عمر وابن عباس إلى المدينة(2) .

ويبدو واضحاً أن الإمامعليه‌السلام قد قابل عبد الله بن الزبير، ويبدو واضحاً أن ابن الزبير قد شجّع الإمام على الخروج من مكّة إلى الكوفة، ومن المؤكد أن الإمام يعرف ابن الزبير ومطامعه بدليل قول الإمامعليه‌السلام : « ها إنّ هذا ليس شيئاً يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر

____________________

(1) راجع تاريخ ابن عساكر ح645 و 646، وتهذيبه 4 / 329، وأنساب الأشراف ح21 / 163، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 192 - 193، والفتوح لابن أعثم 5 / 42 - 43، ومثير الأحزان / 29، وتاريخ الطبري 6 / 216.

(2) راجع الفتوح 5 / 26، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 19، ومثير الأحزان / 41، والموسوعة / 206 - 209.

٢٢١

معي شيء، وأن الناس لا يعدلوه بي، فَودّ أني خرجت منها لتخلو له »(1) . هذه نماذج من مقابلة الإمام لبعض ملأ القوم في مكّة.

ويبدو واضحاً أنّ عبد الله بن عباس مشفق وناصح، وصادق العاطفة نحو الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولكن شيخوخته وطعنه في السن إلى جانب مرضه وفقدانه لبصره قد منعاه من الخروج معه.

أمّا عبد الله بن عمر فهو يطمع بالخلافة ذات يوم، ولم لا؟ فهو ابن عمر الذي قاد بطون قريش الـ 23، وواجه النبي نفسه، وعيّن الخليفة الذي أراد، ثمَّ ورث دولة مستقرة بعد موت الخليفة الأوّل، وبقدرة قادر صار حبيب الجماهير وفاتنها.

لقد ورث ابن عمر تاريخاً، لكنه لا يريد أن يخرج كما خرج الإمام الحسينعليه‌السلام ، فلو خرج مع الإمام الحسينعليه‌السلام لكان خروجه لمصلحة غيره، ولدخل في مقامرة قد تنجح ويأخذ ثمرتها غيره، أو لا تنجح فيدفع ضريبة هو في غنى عنها، والأفضل له أن يصافح الخليفة وأركان دولته، وأن يجاملهم، بل ويساعدهم ويشجّع الناس على بيعتهم تحت شعار الدخول في الصلح ووحدة المسلمين، فيتجنب شر الخليفة وأركان دولته، وينال نصيباً وافراً مما في أيديهم، فيبقى هو العلم بوصفه ابن الخليفة، وهو الرقم الصحيح من رعية كلِّها أصفار أو كسور؛ لذلك اختار ابن عمر أن يكون دائماً مع الغالب!

وهو صاحب النظرية الشهيرة التي صارت في ما بعد مبدأً دستورياً من مبادئ دولة الخلافة «نحن مع مَن غلب»(2) ، ومع هذا فإن ابن عمر لم يقطع صلته بالمعارضة؛ فهو يبكي أمام الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويوحي له بأنه متعاطف معه ومشفق عليه، ويرى ما لم يره الإمام، ويتمنى على الإمام أن يدخل في صلح يزيد وأن يبايع يزيد، وأن يعود إلى المدينة ليصبح مطيعاً كرعية يزيد!

من الطبيعي أنّ يزيد وأركان دولته سيسمعون بكلِّ ما قاله عبد الله بن عمر، وسيرتاحون لموقفه، ويغدقون عليه الصلات والعطايا باعتباره حكيماً من حكماء دولة الخلافة، وهكذا يقنع عبد الله بن عمر نفسه بأنّه مع

____________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 294، والكامل لابن الأثير 2 / 546، والبداية والنهاية 8 / 172، وأعيان الشيعة 1 / 593، ووقعة الطف / 148، والموسوعة / 319.

(2) راجع الأحكام السلطانيّة لقاضي القضاة أبي يعلى، المتوفّى سنة 458 هـ / 7 - 8 و 20 - 23.

٢٢٢

الجميع، وأنه حبيب الجميع، وليس من المستبعد أن يعهد له أحد الخلفاء في ما بعد بالخلافة.

وحتّى تأتي تلك اللحظات السعيدة يعيش ابن عمر آمناً مرفّهاً ونجماً متألّقاً، وعالماً مشهوراً من علماء دولة الخلافة؛ يفتي بضرورة البيعة، ويفتي بالصلاة خلف كلِّ بر وفاجر، وتقديم الطاعة لمَن غلب كائناً مَن كان... إلخ.

أمّا عبد الله بن الزبير، فقد صدق عمر بن الخطاب عندما وضع الزبير بوزن الإمام عليعليه‌السلام ، ووضع أبناء أصحاب الشورى بوزن أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو في قرارة نفسه يعتقد أنّ أباه أولى بالخلافة من عليعليه‌السلام ، وأنه أولى بالخلافة من أولاد عليعليه‌السلام ، ولكن حجمه ووزنه يقصران به عن منافسة الإمامعليه‌السلام .

لكنه يتمنى كبقية أبناء الخمسة الذين اختارهم عمر لمنافسة الإمام عليعليه‌السلام ، واختار ابناءهم لمنافسة أبناء الإمام عليعليه‌السلام . نعم، يتمنّى أن تبتلع الأرض ذرّية الرسول ليخلو له وجه الخلافة، وليتألق في غيابهم كما يحلو له.

فلو أن الثلاثة وقفوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام ونصروه، لخلقوا تياراً هائلاً من التأييد للإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة، ولوقف مَن تبقّى من الصحابة وأبناء الصحابة وقفة واحدة خلف الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولكان عسيراً على يزيد وأركان دولته أن يفعلوا ما فعلوا بعباد الله، لكن لكل واحد من الثلاثة ملف خاص، وحسابه الخاص به.

قصة الأمان والرغبة بإدانة الإمام الحسينعليه‌السلام

تتحدث بعض الروايات أن عبد الله بن جعفر قد كتب إلى الإمام الحسينعليه‌السلام كتاباً جاء فيه: أمّا بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي؛ فإني مشفق عليك... وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض؛ فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين...

وأنّه قد طلب من عمرو بن سعيد بن العاص عامل يزيد على مكّة أن يكتب أماناً للحسين، وأن يمنّيه البر والصلة، ويبعثه إليه... وبالفعل كتب عمرو بن سعيد بن العاص الأمان للحسينعليه‌السلام ، إلاّ أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد رفض هذا الأمان(1) .

ونصحه الحكماء كعبد الله بن

____________________

(1) تاريخ ابن عساكر ح 653، وتقريب التهذيب 2 / 601، وتاريخ الطبري 6 / 219، وكامل ابن الأثير 4 / 17، والبداية والنهاية لابن الأثير 2 / 163.

٢٢٣

عمر(1) ، وعبد الله بن العباس(2) ، وعبد الله العدوي(3) ، والواقدي، وزرارة(4) ، وحتّى الحكيمات المسلمات كعمرة بنت عبد الرحمن كتبن إليه يعظمن ما يريد الإمام أن يصنعه، ويأمرنه بالطاعة ولزوم الجماعة، ويخبرنه أنه يساق إلى مصرعه(5) .

ويروي الرواة أنّ ابن عمر كان يقول: غلبنا حسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس؛ فإنّ الجماعة خير(6) .

ويروي بعض المؤرّخين أنّ عبد الله بن عمر قال للإمام الحسينعليه‌السلام : لا تخرج؛ فإنّ رسول الله خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنّك بضعة منه، فلا تعاطها - يعني الدنيا -... فاعتنقه وودّعه...(7) .

وحتّى مروان بن الحكم بن العاص الملعون ابن الملعون على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينصح الإمام الحسينعليه‌السلام قائلاً: يا أبا عبد الله، إنّي ناصح فأطعني تُرشد وتُسدد.

فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام : « وما ذلك؟ قل حتّى أسمع ».

فيقول له مروان: إني آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد؛ فإنه خير لك في دينك ودنياك(8) !

ويذهب بعض من المؤرّخين إلى أن الإمام الحسينعليه‌السلام قد خرج من المدينة متوجّهاً إلى العراق...

فطاعة الخليفة وفق هذه الثقافة فرض على كلِّ مسلم ومسلمة؛ لأنه قد خُلق ليُطاع، والقبول بأفعال الخليفة واجب على كلِّ مسلم ومسلمة، ومعصية الخليفة جرم بحق الله وبحق رسوله قبل أن يكون جرماً بحقِّ الخليفة، والخارج على الخليفة هو شاق لعصا الطاعة، وخارج على الجماعة قبل أن يكون خارجاً

____________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 249، والفتوح لابن أعثم 5 / 72.

(2) الفتوح لابن أعثم 5 / 26، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 19.

(3) أنساب الأشراف 3 / 155.

(4) دلائل الإمامة / 74، ومثير الأحزان / 39، وبحار الأنوار 44 / 364.

(5) تاريخ ابن عساكر ح 653 وما بعده، وتقريب التهذيب 2 / 607.

(6) راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 531، والبداية والنهاية 8 / 158.

(7) تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 200.

(8) راجع الفتوح لابن أعثم 5 / 17، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 184.

٢٢٤

على الخليفة، وبالتالي فإنّ الخروج على الخليفة حرام (بإجماع المسلمين)، وجريمة من جرائم الخيانة العظمى بغض النظر عن شخصية الخارج؛ لأنّ الخروج على الخليفة مهما كان دينه أو خلقه أو أفعاله حرام بإجماع أهل القبلة!

تلك هي الثقافة الفاسدة لدولة الخلافة، فالإمام الحسينعليه‌السلام بالنسبة لقواميس هذه الثقافة خارج على الطاعة، مفارق للجماعة، ومتولٍّ لغير ما تولّى المؤمنون، ولكن نظراً لمكانة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقربه من رسول الله يتمايل إعلام دولة الخلافة وعلماء الخلفاء، ويسلكون الطرق الملتوية لإفهام العامة بذلك، وبطرق غير مباشرة.

هم لا يقولون بصراحة ذلك عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولكنهم يصرحون بذلك عبر أساليب ملتوية، وبطرق غير مباشرة. قال يزيد بن معاوية لعلي بن الحسينعليه‌السلام بعد مذبحة كربلاء: أبوك - يعني الإمام الحسينعليه‌السلام - الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. (كما قال الطبري ذلك في تاريخه).

فيزيد موقن وفق ثقافة دولة الخلافة أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد جهل حقّ يزيد بالطاعة، ونازعه سلطانه الذي أعطاه الله له، وبالتالي فإنّ العقوبة من جنس العمل وحجمه.

فالمؤرّخون يتبنّون النظرية الرسميّة لدولة الخلافة، والفتاوى الرسميّة لعلماء دولة الخلافة المتعلقة بقضية الخروج، ولكنهم يتمايلون لإيصال مضامين هذه النظرية بطرق غير مباشرة. ومن وسائلهم الاختلاق وخلط الأوراق، وخلط المتناقضات خلطاً يتعذر معه الوقوف على الحقائق الموضوعية المجردة.

ثمّ كيف يبرّر علماء دولة الخلافة ومؤرّخوها خذلان «حكماء القوم» ومَن تبقّى من المهاجرين والأنصار للإمام الحسينعليه‌السلام ، وسماحهم بحدوث المذبحة وبالصورة البشعة التي حدثت بها؟! بل وكيف تتفق واقعة المذبحة مع تفاصيل نظرية عدالة كلِّ الصحابة التي اخترعها معاوية وأركان دولة الخلافة؟!

لقد رأوا أنه من الأنسب تخطئة الإمام الحسين وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام على تخطئة حكماء القوم وأبناء المهاجرين والأنصار. وليضفوا على أنفسهم رداء الحياد والموضوعية أطالوا الطريق، والتفّوا حول الحقائق؛ طمعاً بطمسها وتزويرها أو التشكيك بها.

ثمّ هل يعقل أن تسمح دولة الخلافة للمؤرّخين والعلماء بتأريخ أو بفتاوى تدينها؟! فالدولة في كل عصر هي الرقيب الصارم على المطبوعات والنشر

٢٢٥

والفتاوى، وصاحبة السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام.

ثمَّ كيف تبرّر دولة الخلافة وأشياعها عملاً ببشاعة مذبحة كربلاء أمام الاُمم الاُخرى، ومعتنقي الرسالات الاُخرى؟! فرأت أنّ التضحية بالإمام الحسين وبأهل بيت النبوةعليهم‌السلام أولى من التضحية بالخليفة وأركان دولته وطواقم مؤيديه؛ لهذا كلّه دسّوا من الروايات ما اعتقدوا بأنها تدين الإمامعليه‌السلام وتشوه نهضته المباركة.

ولست أدري بأي منطق صارت نصائح «حكماء القوم»، وفتاوى علماء دولة الخلافة، وخزعبلات أعلامها صواباً، وصارت تصريحات الإمام الحسينعليه‌السلام وفتاويه خطأً؟!

ومَن الذي شهد لهم بذلك؟ فلماذا لا يكون الإمام مصيباً وهم مخطئون مثلاً؟ ثمَّ مَن هو الأولى بالاتّباع؛ الإمام الحسينعليه‌السلام ، أم حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة؟!

فهل حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة هم الثقل الأصغر؟! وهل هم أهل بيت النبوة المشهودة لهم بالطهارة؟! وهل هم آل محمّد، أو ذوو القربى؟! بل هل هم الأعلم؟! فكل علم يدعونه ينتهي إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأيّهما أولى بعلم الرسول وصوابه؛ ابنه المقيم وإيّاه تحت سقف واحد، والمُعدّ للإمامة إلهيّاً، أم اُولئك الذين لم يروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ لماماً؟!

فهل يعقل أن يعلم «حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة»، ويجهل إمام أهل بيت النبوة؟! هذا أمر لا يكون بالفعل.

وهل المطلوب حتّى يكون الإمامعليه‌السلام مصيباً أن يسلّم عنقه ليزيد حتّى يبايع أو يُقتل؟!

إنّ أوامره واضحة: «خذ البيعة من الحسين، وإن أبى فاضرب عنقه»(1) ، أو «خذه أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايع»(2) .

فإذا كنّا لا نرى استهجاناً في حكماء القوم وعلماء دولة الخلافة ليزيد بن معاوية، أو لغيره من أئمة الجور ومن فراعنة الاُمّة، فلا يمكن لعاقل أن يصدّق أنّ رجلاً بعظمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وبيقينه

____________________

(1) مثير الأحزان / 14 - 15، واللهوف / 9 - 10، والفتوح لابن أعثم 5 / 10، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 180 - 185.

(2) تاريخ الطبري 6 / 188، باب «خلافة يزيد بن معاوية».

٢٢٦

من ربه، وفئة بعظمة أهل بيت النبوة يمكنها أن تبايع رجلاً منحرفاً فاسداً كيزيد بن معاوية. فلا أنا ولا أنت ولا أي إنسان لديه إحساس بالكرامة وبالانتماء لدين الإسلام يقبل ذلك.

وقد جرت العادة في عالم الإجرام أن يتنصّل المجرمون من جرائمهم، فيحمّلون الضحية وزر الجريمة، أو يطمسون الأدلة التي تثبت الجريمة، أو يقلبون الحقائق أو يزوّرونها في غياب الضحية، لكن القتلة الذين نفّذوا فصول الجريمة فصلاً فصلاً يعرفون وقائعها، ويعيشون حياتهم ملاحقين بالأشباح، غارقين بالدمويّة.

أمان عمرو بن سعيد بن العاص

قال الواقدي في مغازيه: إنّ عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص: إنّي لأراك معرضاً، تظن أنّي قتلتُ أباك، والله ما قتلته(1) .

فعمر بن الخطاب بهذه الطريقة الذكية يريد أن يذكّر سعيد بن العاص بأنّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام هو قاتل أبيه، وعمرو هذا هو ابن سعيد. ومعنى ذلك أن والد الإمام الحسينعليه‌السلام قد قتل جد عمرو بن سعيد، وقتل أعمام عمرو، فكيف ينسى عمرو قاتل جدّه وأعمامه، وكيف يتجاهل ذلك وهو الموتور ابن الموتور، وكيف يتحول من حاقد على علي بن أبي طالب وذرّيته إلى محبٍّ ومشفق عليهم، يتبرع بإعطاء صكوك الأمان لهم؟!

عندما قُتل الحسينعليه‌السلام أرسل ابن زياد عبدَ الملك بن الحارث السلمي، فقال له: انطلق حتّى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص فبشّره بمقتل الحسين. وإنّ عمرو هذا أمير المدينة يومئذ.

قال عبد الملك: فدخلت على عمرو بن سعيد، فقال: ما وراءك؟

فقلت: ما سرّ الأمير؛ قُتل الحسين بن علي.

فقال: نادِ بقتله.

فناديت، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين، فقال عمرو بن سعيد ضاحكاً:

عجّت نساءُ بني زيادٍ عجةً

كعجيج نسوتِنا غداةَ الأرنبِ

____________________

(1) راجع مغازي الواقدي 1 / 92، وكتابنا الموجهة / 169 - 171.

٢٢٧

ثمَّ قال: هذه واعية بواعية عثمان بن عفان. هذا ما رواه الطبري في تاريخه عن عوانة بن الحكم.

وقال أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني»: بعد خروج الحسين أمر عمرو بن سعيد بن العاص صاحب شرطته على المدينة أن يهدم دور بني هاشم، ففعل، وبلغ منهم كل مبلغ(1) .

لست أدري، كيف نوفّق بين أفعال عمرو بن سعيد وحقده وبين إشاعة إعطائه الأمان للإمام الحسينعليه‌السلام ، ورفض الإمام لهذا الأمان؟! إلاّ إذا اعتبرنا أن عمرو بن سعيد قد أعطى كتاب الأمان كخدعة ليلقي القبض على الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعمرو هذا مؤهل لذلك، والإمام الحسين أهل لأن يكشف مثل هذه الخدع.

ثمَّ إنّ يزيد بن معاوية وهو رأس الدولة وفرعونها يأمر واليه على المدينة بأن يأخذ البيعة من الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإن أبى أن يضرب عنقه، فهل يملك عمرو بن سعيد أن يتجاهل أوامر الذي عيّنه أميراً وأن يعطي الأمان للحسين؟!

يبدو أن أركان الخلافة لا يتقنون الكذب! ثمَّ إنّ أولاد عبد الله بن جعفر خرجوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام بمحض اختيارهم، ومباركة أبيهم وعلمه، واستشهدوا معه.

ويروي الطبري في تاريخه أنه لما بلغ عبد الله بن جعفر مقتل ابنيه مع الحسينعليه‌السلام دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه، فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين! فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثمَّ قال: يابن اللخناء! أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتّى اُقتل معه. والله إنه لما يسخي بنفسي عنهما، ويهوّن عليّ المصاب بهما أنهما اُصيبا مع أخي وابن عمي، مواسين له، صابرين معه.

ثمَّ أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزّ عليّ بمصرع الحسين أن لا يكن آست حسيناً يدي فقد آساه ولَدَي.

هذه طبيعة عبد الله بن جعفر، وطبيعة محبته للإمام، فهل يمكن لمثل هذا الرجل أن يقع في ألاعيب عمرو بن سعيد بن العاص، وأن يغفل عن مكر يزيد وبني اُميّة ثانية؟! يبدو أن أركان دولة الخلافة لا يتقنون حتّى صنع الكذب

____________________

(1) الأغاني 4 / 155.

٢٢٨

وإحكامه؛ فغايتهم إدانة الضحية، ووضع أكاليل الغار على المجرم، وتتويجه بالزور والبهتان فاتحاً مع الماجدين.

الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة، والعراق في مخاض

لأن العراق كان مركز الخلافة في عهد الإمام عليعليه‌السلام ، فقد صار محطة لمن هبّ ودب من الناس. كان أهل العراق مع الإمام عليعليه‌السلام ، وكان أهل الشام مع معاوية، وانتهت الحرب عملياً بهزيمة معسكر الإمام وانتصار معسكر معاوية.

ومع أن أهل العراق قد عجلوا بهزيمة معسكرهم، وساعدوا معاوية طمعاً بأمواله، إلاّ أن معاوية عاملهم معاملة المهزومين، وتصرّف معهم تصرف الفاتح؛ فقتل أخيارهم، وأبقى شرارهم، وهدم دورهم، وأذلهم أيّما إذلال. وقارنوا بين حكم الإمامعليه‌السلام وحكم معاوية، ونظام الإمامعليه‌السلام ونظام معاوية، وولاة الإمامعليه‌السلام وولاة معاوية، وعرفوا الفروق النوعية بين الرجلين وبين النظامين، فندموا ولات حين مندم.

وكان معاوية قد ملكهم بالفعل، وملك أموالهم وذرّياتهم، وحكمهم حكماً جبرياً، وأدركوا أنه لا يقوى أحد على معاوية إلاّ الله، وأنه لا خلاص منه إلاّ بانتهاء أجله. فلما مات معاوية رقصت قلوب العراقيّين فرحاً، ولكن على استحياء وبخفية؛ لأن معاوية ألقى الرعب في قلوبهم؛ فهم يخافونه بحياته، وبموته يخافون صورته، ويخافون شبحه، ومع هذا لمّا هلك معاوية غالب العراقيون خوفهم وكتبوا إلى الإمام الحسينعليه‌السلام مجموعة من الكتب.

كتب الشيعة

اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فخطبهم قائلاً: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه؛ فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تضرّوا الرجل من نفسه.

فقالوا: لا بل نقاتل عدوه، ونقتل أنفسنا دونه.

قال: فاكتبوا إليه.

فكتبوا إليه الرسالة التالية: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي، من سليمان بن صرد، والمسيب

٢٢٩

ابن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلام عليك. أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزها، وغصبها فيأها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمَّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق.

وأرسلوا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني، وعبد الله بن وأل التميمي، وبالفعل سلّما الكتاب للإمام الحسين في العاشر من شهر رمضان، وبعد يومين أرسلوا قيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي، وعمارة بن عبيدة السلولي فحملوا معهم قرابة 150 صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة، وبعد يومين آخرين أرسلوا هاني بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا: أمّا بعد، فحي هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل.

وكتب شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن يزيد، وعزرة بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر التميمي: أمّا بعد، فقد أخضرّ الجنان، وأينعت الثمار، وطم الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة(1) .

فجمع الحسينعليه‌السلام رسل أهل الكوفة وقال لهم: « إنّ رسول الله أمرني بأمر وأنا ماضٍ له... »(2) .

وكتب رسالة إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين... إلى أن قال: « وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم... فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمي وبايعوه وانصروه، ولا تخذلوه... »(3) .

____________________

(1) وقعة الطف / 89.

(2) الفتوح لابن أعثم 5 / 33، ومثير الأحزان / 26، وأعيان الشيعة 1 / 881.

(3) الفتوح لابن أعثم 5 / 35، ومقتل الخوارزمي 1 / 995، وراجع تاريخ الطبري 3 / 278.

٢٣٠

وكتب الإمام الحسينعليه‌السلام إلى رؤوس الأخماس بالبصرة، وإلى أشرافها؛ مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد الله بن معمر كتاباً جاء فيه: « أمّا بعد، فإن الله اصطفى محمداً على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثمَّ قبضه إليه... وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه، وورثته وأحق الناس بمقامه، فاستأثر علينا قومنا بذلك، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه؛ فإن السنة قد اُميتت، وإن البدعة قد اُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد »(1) .

النتائج

أقبلت الشيعة على مسلم بن عقيل يبايعونه حتّى أحصى ديوانه 18 ألفاً(2) ، وقيل: 25 ألفاً، وكتب مسلم بن عقيل إلى الإمامعليه‌السلام : أمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله:

1 - وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي؛ فإنّ الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى. والسّلام(3) .

2 - جمع يزيد بن مسعود بني تميم، وبني حنظلة، وبني سعد وقال لهم: إنّ معاوية مات، فأهون به والله هالكاً ومفقوداً، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم... إلى أن قال: وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور، ورأس الفجور، يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضاً منهم؛ قصر حلم، وقلة علم، ولا يعرف من الحق موطئ قدمه، فاُقسم بالله

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 3 / 280، ومثير الأحزان / 27، وبحار الأنوار 44 / 340، وأعيان الشيعة 1 / 590، ووقعة الطفِّ / 107، والموسوعة.

(2) تاريخ الطبري 6 / 199، و6 / 211، و6 / 224، وبحار الأنوار 10 / 185.

(3) راجع تاريخ الطبري 6 / 212.

٢٣١

قسماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين.

وهذا الحسين بن علي ابن بنت رسول الله، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يُوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه، وقدمه وقرابته؛ يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعية، وإمام قومه، وجبت لله به الحجة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، ولا تسكعوا في وهدة الباطل؛ فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن بنت رسول الله ونصرته.

وكتب إلى إلى الإمام الحسينعليه‌السلام كتاباً جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه، ودعوتني له من الأخذ بخطي من طاعتك، والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرض قط من عامل عليها بخير، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حجة الله على خلقه، ووديعته في أرضه؛ تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها.

فاقدم سعدت بأسعد طائر؛ فقد ذلّت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشد تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها وكظها، وقد ذلّت لك رقاب بني سعد، وغسلت درن صدورهم بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع(1) .

فلما قرأ الإمام الحسينعليه‌السلام الكتاب سُرّ سروراً عظيماً، وقال: « آمنك الله يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش ».

أمّا المنذر بن جارود فإنه جاء بالكتاب وبالرسول إلى عبيد الله بن زياد؛ لأن المنذر خشي أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله.

تصميم الإمام الحسينعليه‌السلام على الخروج إلى العراق

لما وصلت كتب أهل الكوفة مع رسلهم، وكتاب يزيد بن مسعود من البصرة، أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل لأخذ البيعة من القوم، فلما جاءه كتاب مسلم صمّم الإمامعليه‌السلام على المسير إلى العراق؛ لأنه كان قد وعد أهل العراق بالقدوم

____________________

(1) مثير الأحزان / 13، واللهوف / 21.

٢٣٢

إليهم إن هم بايعوا رسوله مسلم بن عقيل، وما الذي يمنع من مسيرته طالما أنّ أهل الكوفة قد أعطوه البيعة، وطالما أنّ له طائفة كبيرة من الأنصار والمؤيدين في البصرة؛ فالكوفة والبصرة عملياً هما العراق في تلك الأيام.

من مكّة إلى العراق

مكث الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة أربعة أشهر استطاع خلالها أن يبسط قضيته العادلة أمام الخاصة والعامة من سكان مكّة ومن حولها، وأن يقيم الحجة عليهم، وشهد أهل مكّة ومَن حولها على أنفسهم من حيث لا يشعرون، وخلال هذه الفترة التقى الإمام الحسينعليه‌السلام مع زوار بيت الله الحرام من معتمرين وحجاج، فأحاطهم علماً بواقعه وطموحاته الشرعيّة وحاجته منهم.

واستجاب الإمامعليه‌السلام لمنطق الاُمور؛ فطاف وسعى، وأحل إحرامه وجعل حجه عمرة؛ لأنه لم يتمكّن من إتمام الحج مخافة أن يُقبض عليه(1) .

وبعد ذلك جمع الإمام أهل بيته وأصحابه، وخطب فيهم قائلاً: « الحمد لله، ما شاء الله، ولا قوة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله. خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات... لا محيص عن يوم خُط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين... »(2) .

وبعد ذلك أمر أهله وأصحابه بالاستعداد للمسير إلى العراق حسب القراءة الموضوعية؛ فإنّ الإمامعليه‌السلام سيقدم على جند مجندة له، وإنّ أكثريّة أهل العراق معه، وحسب هذا الظاهر فما كان ينبغي للإمام أن يكون بهذه الحالة من التشاؤم؛ فهو يركز تركيزاً عجيباً على فكرة الموت، وحتمية الموت، وأنه قدرٌ خُط بالقلم.

ويبدي آلام حنينه وأشواقه إلى لقاء الخالدين من أسلافه، بل وأبعد من ذلك فإنه

____________________

(1) مثير الأحزان / 38.

(2) مثير الأحزان / 41، واللهوف / 26، وكشف الغمة 2 / 29، وبحار الأنوار 44 / 366، والعوالم 17 / 216، وأعيان الشيعة 1 / 593، والموسوعة / 328.

٢٣٣

يضع لقطة فنّية أمام مستمعيه، فيصوّر نفسه مقتولاً، ويتصور الذئاب تتسابق إلى جثمانه الطاهر فتقطّعه لتطعم صغارها والجياع من عائلتها.

ويتبرم الإمام من الحياة، ويخرج بقناعة ويقين أنّ الموت خير من الحياة؛ فالإمام يتعامل مع خطين:

1 - خط الظاهر الذي يعرفه الناس كلهم. ففي هذا الخط خطة من العناية والسعي، وكأنه الخط الوحيد.

2 - وخط الحقيقة والباطن، ويمثّل مآلات الاُمور، ومنتهيات حركات المخلوقات، إنه يرى بعين البصر والبصيرة، وينبئ بوقوع الحوادث قبل وقوعها، فتأتي الحادثات في ما بعد بالصورة والكيفية التي أخبر بها الإمامعليه‌السلام .

إنه يتحدث عن اُمور لم تقع أو ستقع بعد سنين بالثقة واليقين الذي يتحدث به عن اُمور وقعت قبل دقيقة، إنه بفضل الله ومنّته سابق لحركة الموجودات، ومحيط بمآلاتها تماماً؛ فبالوقت الذي كان فيه أصحابه سعداء برسل الكوفة وكتبها، وبأخبار بني تميم وبني سعد وبني مرة في البصرة، أثار مسألة الموت، وصوّر أدق اُمورها أمام سامعيه، ثمَّ عرض لقطة خاصة به وهو مقتول، وجثته متروكة بالعراء، وذئاب البرية تحوم حولها لتسد سغبها.

وما يعنينا بالدرجة الأولى هنا أن الإمام أصدر أوامره بالتأهب للمسير إلى العراق، فتأهّب أهل بيته وأصحابه، وهموا بالمسير إلى العراق، وكان ذلك يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة، فاعترضه رسل الوالي، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط، وامتنع الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه عنهم امتناعاً قوياً، ومضى وأصحابه سائرين إلى العراق.

وتقول روايات دولة الخلافة: إنّ رسل الوالي نادوه: يا حسين، ألا تتقي الله؛ تخرج من الجماعة، وتفرق بين هذه الاُمّة!

وتقول هذه الروايات نفسها: إنّ حسيناً تأوّل قوله تعالى:( لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) (1) (يونس / 41 ).

فالرواية تصف جماعة الوالي بأنهم رسل، بالوقت الذي تؤكد فيه تدافع الفريقين وتضاربهم بالسياط، وتؤكد امتناع الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه امتناعاً قوياً، ولكن الرواية لا تبيّن لي عدد اُولئك الرسل، وهل من صلاحية الرسل أن يمنعوا بالقوة تحرك من

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 217 - 218، وتاريخ ابن الأثير 8 / 166، وأنساب الأشراف / 164.

٢٣٤

اُرسلوا إليه؟

ثمَّ أظهرت الرواية الرسل بصورة ( الحكماء ) المشفقين على الجماعة والاُمّة، وبالوقت نفسه الذي أظهرت فيه الإمامعليه‌السلام بصورة الخارج على الجماعة والمفرق للاُمّة!

الخروج من مكّة إلى العراق

يبدو واضحاً أن دولة الخلافة كانت تتابع بكلِّ اهتمام كامل اجتماعات وتحركات وتصريحات الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويبدو واضحاً أن تلك الدولة قد ضاقت ذرعاً بالحسين واجتماعاته وتصريحاته، وأنها قد صممت نهائياً على الفتك به فتكاً يجعله عبرة لمَن يعتبر، ولكنها تريده فتكاً بأقلّ التكاليف الممكنة، ودون أن يكون له تأثير يذكر على أمنها وانقياد رعيتها.

ويبدو واضحاً بأن أنباء تحركات وتصريحات الإمامعليه‌السلام واجتماعاته كانت تنقل إلى يزيد بن معاوية بصورة مستمرة، وبالتالي فإن قرار الفتك بالإمام الحسينعليه‌السلام لا ينبغي عقلاً أن يصدر إلاّ من أعلى مرجع في الدولة وهو الخليفة؛ فالإمام الحسين ليس من عامة الناس، إنّما هو العالم في زمانه؛ فهو معروف أكثر من الخليفة يزيد، وأكثر من معاوية والد يزيد.

ثمَّ إنّ آل معاوية ليسوا مجرد جماعة من الناس، بل هم جزء بارز من الدين، ومعلوم بالضرورة لكل مسلم ومسلمة، وليس من المستبعد أنّ يزيد قد فكّر بردة فعل هائلة من المسلمين في حالة الفتك بالإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ؛ لذلك ركزت وسائل إعلام الدولة لإظهار الإمام الحسين وأهل بيته بمظهر الخارجين على الجماعة، والشاقين لعصا الطاعة، والمفرّقين لوحدة الاُمّة كما رأينا قبل قليل.

مثلما ركّزت وسائل الإعلام على سعة صدر الخليفة وأركان دولته وتحملهم لعدوانية الحسين وأهل بيته، وبذلهم كلما وسعهم من حلم ونصيحة، ولكن الحسين ماضٍ قدماً بأعماله التي تشكّل جرائم بحق الاُمّة وبحق الدين قبل أن تشكّل جريمة بحق الخليفة الذي يمثل الاُمّة والدين معاً.

ويبدو واضحاً أن الجماهير الغارقة بالهوان والذل وقعت ضحية لهذا الإعلام المضلل الفاسد، وأن الخليفة قد أمن ردة فعل المسلمين في ما لو أراد قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإبادة أهل بيت النبوة إبادة كاملة؛ ومن هنا وبعد أن أصدر يزيد مرسوماً ملكياً عيّن بموجبه قريبه الموتور عمرو بن

٢٣٥

سعيد بن العاص أميراً على الحاج، وولاه أمر موسم الحج، وأمره بأن يفتك بالإمام الحسين أينما وجد(1) .

ولأن الإمام الحسينعليه‌السلام يكره كراهية مطلقة أن تستباح به حرمة البيت(2) ، فقد طاف وسعى، وأحلّ من إحرامه وجعل حجه عمرة؛ لأنه لم يتمكّن من إتمام الحج مخافة أن يُقبض عليه، وأن يضطرّ لمواجهة يزيد وأتباعه وقتالهم بمنطقة الحرم.

ثمَّ إن كتاب مسلم بن عقيل قد وصل إليه يدعوه للقدوم، وهو مكلّف حسب تسلسل الأحداث ومنطق الظاهر أن يذهب إلى العراق؛ ومن هنا أصدر أوامره بالتأهب للرحيل، وخطب في أهل بيته وأصحابه قبل بدء المسير، ثمَّ نجح بالتخلص من عسكر عمرو بن سعيد بن العاص كما أسلفنا(3) .

من مكّة إلى كربلاء

في الثامن من ذي الحجة عام 60 للهجرة تحرك ركب الإمام من مكّة متوجها إلى العراق، فوصل إلى كربلاء باليوم الثاني من شهر محرم.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ طلائع جيش بني اُميّة كانت تتربص به في منطقة شراف، وأنها أعاقت حركته خلال مسيرته من شراف إلى كربلاء. وإذا أخذنا بعين الاعتبار وسائل النقل، ووجود نساء وأطفال في ركب الحسينعليه‌السلام ، فإن المدة التي استغرقتها رحلة الشهادة من مكّة إلى كربلاء تكاد أن تكون فريدة، خاصة وأن الإمام الحسينعليه‌السلام قد حرص على إقامة الحجة، وتوضيح أهدافه لكل من وجده في طريقه إلى العراق.

____________________

(1) المنتخب / 3 و 4، ومقتل المقرم.

(2) مثير الأحزان / 28.

(3) راجع تاريخ الطبري 6 / 217 - 218، وتاريخ ابن الأثير 8 / 166، وأنساب الأشراف / 164.

٢٣٦

الفصل الخامس

محطّات رحلة الشهادة من مكّة إلى كربلاء

خرج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة قاصداً العراق، والكوفة بالذات، إلاّ أنه لم يتمكّن من دخول الكوفة، إنما وصل إلى كربلاء، وحُصر فيها حتّى تمت المذبحة.

وخلال رحلة الشهادة من مكّة إلى كربلاء توقّف الإمام الحسينعليه‌السلام في عدة أماكن «محطات»؛ إمّا للراحة، أو للتزود بالماء، أو للقيام بواجب إقامة الحجة، أو لاستقطاب الأعوان.

وقد توقّف الإمام في ثلاث عشرة محطة، كان خلالها حر الحركة والتوقف، لا يخشى إلاّ الدرك من خلفه. وفي المحطة الثالثة عشر وجد بانتظاره طليعة الجيش الاُموي، فسايرته تلك الطليعة، وما زالت تماشيه حتّى لا يحيد حتّى حصرته في منطقة كربلاء؛ حيث حطت رحاله، وسفكت دماؤه.

وسنستعرض سريعاً المحطات التي توقّف عندها ركب الإمامعليه‌السلام ، ونبرز التصريحات التي أدلى بها الإمام، وبعد ذلك سنستعرض المحطات التي توقّف عندها الإمام أثناء مسايرة طليعة جيش الفرعون له.

المحطات الستة عشر

الاُولى: التنعيم

عندما خرج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة مرّ بمنطقة التنعيم(1) ، وفي تلك المنطقة وجد الإمام بالصدفة عيراً تحمل حللاً مرسلة من والي اليمن إلى يزيد بن معاوية، فقال الإمام لأصحاب الإبل: « مَن أحبّ منكم أن ينصرف معنا إلى العراق وفيناه كراءه وأحسنّا صحبته، ومَن أحبّ المفارقة أعطيناه من الكراء على ما قطع من

____________________

(1) منطقة تقع على بعد فرسخين من مكّة، راجع معجم البلدان 2 / 446، وسمّيت بالتنعيم لوجود جبل على يمينها يسمّى نعيم، وآخر من شماله اسمه ناعم، ومرور وادي بقربها يسمى نعمان.

٢٣٧

الأرض ». ففارقه بعضهم ومضى معه مَن أحب صحبته(1) .

الثانية: الصفاح

وسار الإمامعليه‌السلام من منطقة التنعيم حتّى انتهى إلى منطقة الصفاح(2) ، وفي هذه المنطقة لقي الإمام الحسينعليه‌السلام الفرزدق الشاعر المعروف، فسأله عن خبر الناس، فقال الفرزدق: قلوبهم معك، والسيوف مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء.

فقال الإمامعليه‌السلام : « صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربنا في شأن؛ إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجال فلم يعتد مَن كان الحق نيّته، والتقوى سريرته ». وسأله الفرزدق عن نذور ومناسك، وافترقا(3) .

الثالثة: ذات عِرق

اندفع الإمامعليه‌السلام من الصفاح ولم يتوقف إلاّ عند ذات عرق(4) ، فلقي فيها بشر بن غالب الأسدي وسأله عن أهل الكوفة، فقال له بشر: السيوف مع بني اُميّة، والقلوب معك.

فقال الإمامعليه‌السلام : « صدقت »(5) .

وسأل الإمامعليه‌السلام : ما أنزلك في هذه الأرض القفراء والتي ليس فيها ريف ولا متعة؟

فأجاب الإمامعليه‌السلام : « إنّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي، فإن فعلوا ذلك ولم يدعوا لله محرماً إلاّ انتهكوه بعث الله إليهم مَن يقتلهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام الأمة ».

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 218، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 220، والبداية والنهاية لابن الأثير 8 / 166، ومثير الأحزان / 21، والإرشاد للشيخ المفيد، وراجع مقتل الحسين للمقرم / 202.

(2) الصفاح في معجم البلدان: مكان بين حنين وأنصاب الحرم على يسار الداخل إلى مكّة.

(3) راجع تاريخ الطبري 6 / 218، وابن الأثير 4 / 16، والإرشاد للمفيد / 201، وابن كثير 8 / 168، وأنساب الأشراف / 165 - 166، وفي تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 338 إنّ الإمام التقى الفرزدق في ذات عرق.

(4) بين ذات عرق ومكة مرحلتان، وذات عرق هي ميقات أهل المشرق. (البحر الرائق لابن نجيم 2 / 317).

(5) البداية والنهاية لابن الأثير 8 / 169، ومقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم / 205.

٢٣٨

وقال الأسدي: يابن رسول الله، أخبرني عن قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (الإسراء / 71)، فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : « يا أخا بني أسد، هم إمامان؛ إمام هدى دعا إلى الهدى، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة، فهدى من أجابه إلى الجنّة، ومن أجابه إلى الضلالة دخل النار »(1) .

وفي رواية الصدوق بإسناده إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: « وإمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة فهدى من أجابه إلى النار، وهو قوله عز وجل:( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) ( الشورى /7 ) »(2) .

الرابعة: الحاجز

سار الإمامعليه‌السلام من ذات عرق حتّى وصل إلى الحاجز(3) ، وفي الحاجز كتب الإمام رسالة إلى أهل الكوفة موجهة من الحسين إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين في الكوفة؛ جواباً على كتاب مسلم بن عقيل، وجاء فيها: « أمّا بعد، فقد ورد كتاب مسلم بن عقيل يخبرني باجتماعكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، ويثيبكم على ذلك أعظم الأجر. وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا؛ فإني قادم عليكم في أيامي هذه »(4) .

ثمّ طوى الكتاب وأرسله مع قيس بن مسهر الصيداوي، وفي الطريق لقيه الحصين بن تميم فأرسله إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد إلى القصر وسب الكذاب ابن الكذاب، يعني الإمام الحسينعليه‌السلام .

فصعد رسول الحسينعليه‌السلام ، ثمَّ قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه. ثمَّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم 5 / 77، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 221، ومثير الأحزان / 42، واللهوف / 30، وبحار الأنوار 44 / 367، والعوالم 17 / 217.

(2) راجع أمالي الصدوق / 131، والموسوعة / 338.

(3) مكان على طريق أهل العراق لمكة، وهو منزل لأهل البصرة إن أرادوا المدينة، وفيه يجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة. راجع معجم البلدان 4 / 290 و 2 / 269، وتاج العروس.

(4) الأخبار الطوال للدينوري / 245.

٢٣٩

أبي طالبعليه‌السلام ، فأمر عبيد الله أن يُرمى به من فوق القصر، ورُمي بالفعل وتقطّع ومات(1) ، ولكن بعد أن بلّغ رسالة الحسينعليه‌السلام ، وأقام الحجة على الناس هنالك.

الخامسة: ماء من مياه العرب

تحرك الإمام الحسينعليه‌السلام من الحاجز متابعاً سيره نحو الكوفة، وانتهى به المسير إلى ماء من مياه العرب. وتتحدّث الروايات بأنّ عبد الله بن المطيع كان هناك، وأنّه قد فوجئ برؤية الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقام إليه وقال له: بأبي أنت واُمّي يابن رسول الله! ما أقدمك؟

واحتمله فأنزله، فقال له الإمامعليه‌السلام : « كان من موت معاوية ما بلغك، وكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم ».

فيقول ابن مطيع: اُذكّرك الله يابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، اُنشدك الله في حرمة قريش، اُنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلونك، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً. والله، إنها لحرمة الإسلام تُنتهك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأتِ الكوفة، ولا تعرّض نفسك لبني اُميّة.

وتنتهي الرواية بالجملة التقليدية التي اعتاد الطبري وابن الأثير على ترديدها: فأبى الحسين إلاّ أن يمضي(2) .

انظر بربِّك إلى حوار بشير بن غالب الأسدي مع الإمام، وانظر إلى العدوي كيف يعتبر الإمام الحسينعليه‌السلام حرمة الإسلام، وحرمة قريش، وحرمة العرب، ومع أنه موقن بأن هذه الحرمات ستنتهك، ومع هذا يكتفي بوعظ الإمام الحسينعليه‌السلام وإرشاده، وعلى الإمام الحسينعليه‌السلام أن يسمع توجيهاته!

روى الفرزدق أنه بعدما تحدّث مع الإمام الحسينعليه‌السلام قال: ثمَّ مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم، وهيبته حسنة، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن

____________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 301، والإرشاد للمفيد / 220، ومثير الأحزان / 42، والبداية والنهاية لابن الأثير 8 / 181، وبحار الأنوار 44 / 369، والعوالم 17 / 219، وينابيع المودة / 409، ووقعة الطفِّ / 159، والأخبار الطوال / 145.

(2) راجع تاريخ الطبري 3 / 301، والإرشاد للمفيد / 221، وبحار الأنوار 44 / 370، والعوالم 17 / 221، وأعيان الشيعة 1 / 594، ووقعة الطفِّ / 160، والأخبار الطوال / 246.

٢٤٠