كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 22996
تحميل: 5070

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22996 / تحميل: 5070
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحرّ حتّى نزل حذاء الحسين في ألف فارس، ثمَّ كتب إلى ابن زياد بنزول الحسين في كربلاء(1) .

وفي رواية: قال زهير: سر بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها؛ فإنها حصينة، وهي على شاطئ الفرات... فقال الإمامعليه‌السلام : « وما هي؟ ».

قالوا: هي العقر.

فقال: « اللّهمَّ إني أعوذ بك من العقر »(2) .

وتذكّر الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقال: « ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا معه، فوقف فسأل عنه، فاُخبر باسمه، فقال: ها هنا محط ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم، فسُئل عن ذلك، فقال: ثقلٌ لآل محمّد ينزلون ها هنا ».

وقبض قبضة منها فشمّها وقال: « هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله إنّني اُقتل فيها ».

وقال الإمامعليه‌السلام لأصحابه: « أرض كرب وبلاء ». ثمَّ قال: « قفوا ولا ترحلوا منها، فها هنا والله مناخ ركابنا، وها هنا والله سفك دمائنا، وها هنا والله هتك حريمنا، وها هنا والله قتل رجالنا، وها هنا والله ذبح أطفالنا، وها هنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله، ولا خلف لقوله »(3) .

كتاب ابن زياد إلى الإمام الحسينعليه‌السلام

كتب ابن زياد إلى الإمام الحسينعليه‌السلام كتاباً قد جاء فيه: أمّا بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسّد الوثير، ولا أشبع من الخمير أو اُلحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية. والسلام.

فلما ورد الكتاب على الإمام الحسينعليه‌السلام وقرأه رماه من يده، ثمَّ قال: « لا يُفلح قوم آثروا مرضاة أنفسهم على مرضاة الخالق ».

فقال الرسول: جواب الكتاب أبا عبد الله.

فقال الإمامعليه‌السلام : « ما له عندي

____________________

(1) مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 234، وبحار الأنوار 44 / 383، والعوالم 17 / 224.

(2) الكامل لابن الأثير 2 / 552، ووقعة الطفّ / 179، والأخبار الطوال / 252.

(3) الدمعة الساكبة 4 / 256، وناسخ التواريخ 2 / 168، وذريعة النجاة / 67، وراجع ينابيع المودة / 406، وإثبات الهداة 5 / 202.

٢٦١

جواب؛ لأنّه قد حقّت عليه كلمة العذاب ». فرجع الرسول إليه فأخبره بذلك، فغضب أشد الغضب(1) .

المحطة الأخيرة من رحلة الشهادة

عندما وصل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء انتهت رحلة الشهادة تماماً، وكانت كربلاء هي المحطة الأخيرة من محطات رحلة الشهادة؛ لذلك لزمها الإمامعليه‌السلام واستقر بها، ولم تعد له الرغبة بالتنقل والرحيل.

لقد كانت نهاية رحلة الشهادة، وآخر محطّة من محطّات تلك الرحلة الطويلة المضنية. لقد حطّت الرحال نهائياً في كربلاء، كأن الرواحل قد اُقعدت؛ فالكرة الأرضيّة على رحابتها بقعتان: البقعة التي ولد فيها الإمامعليه‌السلام ، والبقعة التي تجشّم الرحلة للوصول إليها لتكون مستقره النهائي ومضجعه.

لمّا نزل الإمامعليه‌السلام في كربلاء كتب إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة وجماعة من بني هاشم: « أمّا بعد، فكأن الدنيا لم تكن، وكأن الآخرة لم تزل »(2) .

لقد تمّت كلمة ربك على الوجه الذي أراد، فخرج الإمام وأهل بيت النبوة والصحب الصادقون من بيوتهم، وقطعوا كامل محطات رحلة الشهادة، وبرزوا إلى مضاجعهم. إنّ القضاء يخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ويتشكّل أو يأخذ شكله في عالم الشهادة، ولكن بالتصوير الفني البطيء.

____________________

(1) الفتوح 5 / 85، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 229، وبحار الأنوار 46 / 382، والعوالم 17 / 234.

(2) كامل الزيارات لابن قولويه / 75 باب 23، وراجع الأغاني 8 / 105.

٢٦٢

الباب الرابع

استعدادات الخليفة وأركان دولته لمواجهة الإمامعليه‌السلام

الفصل الأوّل: المواجهة

الفصل الثاني: خطط الخليفة لقتل الإمام الحسينعليه‌السلام وإبادة أهل بيت النبوةعليهم‌السلام

الفصل الثالث: الإمامعليه‌السلام يقيم الحجة على جيش الخلافة

الفصل الرابع: الإمامعليه‌السلام يأذن لأصحابه بالانصراف وتركه وحيداً

الفصل الخامس: الاستعدادات النهائية واتخاذ المواقع القتاليّة

الفصل السادس: مصرع الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام

٢٦٣

٢٦٤

الفصل الأوّل

المواجهة

يقين الخليفة وأركان دولته

كان الخليفة يزيد بن معاوية موقناً بأن الإمام الحسينعليه‌السلام هو أخطر خصومه على الإطلاق؛ فالطليعة المؤمنة موقنة بأن رسول الله قد عهد إليه بالإمامة من بعد أخيه الحسنعليه‌السلام ، وكلّ المسلمين يعلمون علم اليقين أن الحسين هو ابن علي، وابن فاطمة الزهراء، وحفيد النبي وحبيبه، وكلّ المسلمين يعلمون علم اليقين أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو عميد آل محمّد، وأهل بيته، وذوي قرباه؛ فهو السنام الذي لا يعلو عليه أحد؛ فهو نسب وشرف ودين، وسجلّ حافل بالأمجاد لا يدانيه بهذه الأمجاد مسلم قط، وهو المؤهّل الوحيد في زمانه لإمامة المسلمين وخلافة النبي الشرعيّة.

وابن معاوية يعلم علم اليقين أنّ أمجاده، وأمجاد أبيه معاوية، وجده أبي سفيان مرتبطة بتاريخ الشرك، ومستمدة من الدفاع عن الشرك، ومن قيادتهم لجبهة الشرك، ومن شهرتهم بعداوتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولدينه طوال 23 عاماً، وهي أفعال لم تعد أمجاداً في العرف الإسلامي، بل فضائح ومخازٍ يتستر منها أصحابها، ويفرون من ذكرها.

وابن معاوية يعلم علم اليقين أنّ مؤهله الوحيد، ومؤهل والده من قبله للخلافة هو القوة والقهر والغلبة، وهي مؤهلات لا تصلح للدخول في حوار منطقي وشرعي مع الخصوم. واليقين الوحيد الذي استقر في قلب يزيد بن معاوية هو أن أباه معاوية قد نجح بهزيمة الشرعيّة، وبهزيمة جوهر الإسلام، ونجح في قهر الاُمّة، ونجح في التآمر عليها دون رضاها، ونجح بإقامة ملك اُموي، وبعد موت معاوية صار ابنه يزيد هو الوارث الوحيد لهذا الملك العريض الذي أسسه وبناه والده معاوية.

إمكانيات الخليفة وأركان دولته

قبل أن يهلك معاوية سلّم ابنه يزيد مفاتيح خزائن أموال الدولة ليتصرّف بها كأنها أمواله الخاصة، وليستعين بها على تثبيت ملكه، وتأليف قلوب الرعية

٢٦٥

من حوله، وليجعلها أحد الأسلحة التي يحارب بها خصومه.

وقبل أن يهلك معاوية أيضاً سلّم ابنه قيادة جيوش مدربة على طاعته، وتتقاضى رواتبها من خزانته، وأوصاها معاوية أن طاعة ابنه كطاعته؛ فبالطاعة تدوم الرواتب والمعايش والمنافع، وإن انعدمت الطاعة تزول النعم كلها، وفوق ذلك يتعرض العاصي للقتل.

وقبل أن يهلك معاوية أيضاً أخذ البيعة لابنه من كافة عماله على أقاليم مملكته بعد أن اختارهم من خاصته ومن الموالين للعرش الاُموي، وقبل أن يهلك معاوية استقرّت القوانين التي أوجدها، وهي أن العطاء والرزق الشهري سيصل باستمرار لكلِّ رعايا الدولة المخلصين للخليفة، والمطيعين له، والقابلين بأعماله، والمعادين لأعدائه.

فإذا ثبت ولو بالظنّ أن أحد أفراد الرعية غير مخلص للخليفة، أو غير مطيع له، أو غير قابل بأعماله، أو موالٍ لأعدائه، فلا رزق له ولا عطاء، ولا مكان له في أعمال الدولة أو إدارتها أو جيشها، وبالتالي فهو عضو فاسد في المجتمع يجب أن يُقتل وأن تُهدم داره حتّى لا ينشر عدوى العصيان؛ فهو مريض معدٍ (1) .

وقبل أن يهلك معاوية عرّف ابنه على أقطاب إعلام دولته الذين اصطفاهم لنفسه، وخرّجهم من مدرسته، فصارت لهم القدرة على جعل الحق يبدو بصورة الباطل، وجعل الباطل يبدو بصورة الحق، مثلما مهروا بتحريف الكلم عن مواضعه، والمهارة على قلب الألوان وتبديلها، فلهم القدرة على جعل الأبيض أسودَ، وتحويل الأسود إلى أبيض.

والخلاصة: إنّ يزيد بن معاوية ورث دولة مستقرة، وأُمّة ذليلة خاضعة، وديناً سياسياً لا يحمل من الإسلام إلاّ اسمه وقشوره، وورث إمكانيات وطاقات دولة عظمى، بل من أعظم دول العصر في زمانها من حيث إمكانياتها وطاقاتها،

____________________

(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 595 - 596، تحقيق حسن تميم، واقرأ نص المراسيم الملكية التي أصدرها معاوية وعمّمها على كافة عمال أقاليمه ليعملوا بها، وليعتبروها قانوناً يعلو فوق أي قانون.

٢٦٦

وورث الآلية أو المكنة التي تساعده وبكلِّ يسر على تسخير كلِّ موارد الدولة وطاقاتها لتثبيت دعائم عرشه ودوام ملكه، وسحق خصومه سحقاً لا رحمة فيه. بهذا المناخ المملوء بالرهبة والرعب، والإرهاب والذل امتنع الإمام الحسينعليه‌السلام عن البيعة وخرج.

وتوالت خطبه وتصريحاته المملوءة بأنقى الأفكار الدينية وأنبل المشاعر الإسلاميّة، وأعلن الإمامعليه‌السلام عدم شرعية خلافة يزيد، وبطلانها، وبطلان كافة الفتاوى الصادرة عن علماء دولة الخلافة، وفساد إعلام تلك الدولة، وتهدم الأساس الذي قامت عليه، وعدم شرعيته كما أسلفنا.

واستمع المسلمون إلى كل ما صدر عن الإمامعليه‌السلام من خطب وتصريحات، وهم بين مصدق ومَن يكذب، وفركوا أعينهم، وتأكدوا أنها مفتوحة، وأنهم ليسوا بحلم! لقد جنّ جنونهم بالفعل؛ فمَن يجرؤ على انتقاد الخليفة، ومَن يجرؤ على عصيانه أو الامتناع عن طاعته، ومَن يجرؤ على المخاطرة برزقه وعطائه الشهري، ومَن يجرؤ على انتهاك هيبة الخليفة وجلاله، بل ومَن يجرؤ على المغامرة بمستقبله وحياته، وحياة من يحبهم، ومَن يجرؤ على مواجهة الخليفة وأركان دولته؟! إن هذا لأمر عجاب!

لقد تصور المسلمون لطول الذل وعمقه أن الخليفة قد خُلق ليُطاع، ووجدت أعماله ليقبل الناس بها، بل لقد وُجد الناس أنفسهم خصيصاً لطاعته، وها هو ابن النبي الإمام الحسينعليه‌السلام يخرج فجأة ليعلن بطلان كل شيء، وفساد كل الاعتقادات السابقة، ويدعو إلى مراجعة ذاتية شاملة.

والمثير حقاً أن يشارك الإمام الحسينعليه‌السلام بكل هذا أهل بيت النبوة، وآل محمّد، وذوي قرباه، فهل يعقل أن يكون الخليفة مخطئاً؟! وكيف يكون مخطئاً وعنده مفاتيح ملك دولة الخلافة، وتحت إمرته كلّ رعايا الدولة؛ يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه؟! الخليفة الذي قدّمته وسائل إعلام دولته كقدّيس، وكخليفة لرسول الله، بل وكخليفة لله تعالى نفسه؟! إنّ هذا أمر لا يصدق!

ومن جهة اُخرى فهل يعقل أن يخطأ الإمام الحسينعليه‌السلام ؟! فالصفوة الباقية من الصحابة تؤكّد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عهد إليه بالإمامة من بعد أخيه الحسنعليه‌السلام ، وكل الناس يعرفون أنه ابن فاطمة الزهراء ابنة النبي، وأنه حفيد النبي، وعميد الآل والأهل وذوي القربى.

كيف يخطأ مَن جعله الله ثقلاً ملازما للقرآن؟! وإن أخطأ فهل يعقل أن

٢٦٧

يخطأ آل محمّد والناس يذكرونهم في الصلاة؟! وهل يعقل أن يخطأ أهل البيت الذين شهد الله لهم بالطهارة، وهم أهل المباهلة؟! وهل يعقل أن يجمع على الخطأ أيضاً ذوو القربى الذين أوجب الله على كلِّ مسلم مودتهم؟!

إنّ الشرعيّة الإلهية ورموزها تتواجه إعلامياً مع واقعية دولة الخلافة ورموزها. الشرعيّة الإلهية ورموزها لا يملكون إلاّ الحجة، والواقعية لا تملك الحجة، ولكنها تملك القوة والنفوذ والسلطان والإعلام.

فمن يغلب من؟ كيف يفعل الخليفة وأركان دولته بابن النبي وآل النبي وأهل بيت النبي وذوي قرباه؟ وهل لابن النبي وآله الطاقة والقدرة على مواجهة الخليفة وأركان دولته؟ تلك نماذج لفيض الأسئلة التي طرحتها انتفاضة الإمام وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام .

الجموع الذليلة تنتظر رد فعل الخليفة، وتتوقع المواجهة، وهي بشوق بالغ لتتفرّج على هذه المواجهة، ولترى مَن هو الفائز بهذه المواجهة غير المتكافئة، وليس مهمّاً عندها على مَن تدور الدائرة؛ فالجماهير مهيّأة نفسياً لتصفّق للغالب كائناً مَن كان، ولتنهب المغلوب وتأكله كائناً من كان، وهي بتربيتها الذليلة مؤهّلة لإرجاء حساباتها، ولترشيح الخليفة وأركان دولته للغلبة.

إنّ الجماهير الذليلة ليست في عجلة من أمرها لتتفرّج أولاً على المواجهة؛ فالإمام الحسين يخطب ودّها ولكن بالحجة، ومن المحزن حقاً أنه لا يدفع لها مالاً ولا يعدها إلاّ بالجنة ورضوان الله ورسوله، وهذه مكافآت لا تشبع البطون ولا الفروج، ولا تملأ الجيوب. والخليفة يطلب ودّها أيضاً، ويدفع بلا حساب؛ فيشبع بطونها، ويملأ جيوبها من (أمواله) الطائلة التي (لا تنفذ)، وحبيب الجماهير من ينفعها في الدنيا.

والسؤال الكبير الذي بقي مطروحاً بإلحاح هو: ما هو رد فعل الخليفة على امتناع الحسين عن البيعة، وعلى خروجه، وعلى تصريحاته الملتهبة التي هتكت هيبة دولة الخلافة، وشكّلت سابقة خطيرة من رعاياها؟

٢٦٨

قرار الخليفة بقتل الإمامعليه‌السلام وإبادة أهل بيت النبوة

عندما تيقّن ابن معاوية من امتناع الحسين عن البيعة، وبخروجه بأهل بيته ومَن والاه، قرّر الخليفة قراراً نهائياً لا رجعة فيه بأن يقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأن يبيد أهل بيت النبوة إبادة كاملة، وأن يبطش بهم بطشة كبرى لا تقوم لهم قائمة من بعدها.

ما هو دليلنا على هذا القرار؟

1 - كتاب عبيد الله بن زياد للإمام الحسينعليه‌السلام ، وجاء فيه: أمّا بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك في كربلاء، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسد الوثير، ولا أشبع من الخمير أو اُلحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية. والسّلام(1) .

2 - كتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، وجاء فيه: أمّا بعد، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شفيعاً. انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنهم لذلك مستحقون. فإن قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره؛ فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم...(2) .

3 - كتاب عبيد الله بن زياد للحر قائد طليعة جيش الخليفة، إذ جاء فيه: أمّا بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا، ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلاّ بالعراء، وعلى غير ماء...(3) .

____________________

(1) الفتوح 5 / 95، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 239، وبحار الأنوار 10 / 189، والعوالم / 76، ومقتل المقرّم / 236، والموسوعة / 276.

(2) راجع تاريخ ابن الأثير 2 / 23، وتاريخ الطبري 6 / 236، ومعالم المدرستين 3 / 89 كما نقلها عن الطبري 6 / 225، وابن الأثير 4 / 27، والدينوري / 247 باختصار، وابن كثير 8 / 168 وما بعد.

(3) راجع تاريخ الطبري 3 / 309، والإرشاد / 226، والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 96، وباختصار في الكامل لابن الأثير 2 / 552، وبحار الأنوار 44 / 38، و17 / 230، والأخبار الطوال / 252، وينابيع المودة للقندوري 2 / 407، والموسوعة / 372 وما بعدها، ومقتل الحسين للمقرّم / 228.

٢٦٩

4 - كتاب عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد الذي يأمره فيه بما يلي: أمّا بعد، فحُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة...(1) . فهل يتجرأ عبد تافه سليل عُبيد على مثل هذه الأفعال والتصريحات ما لم يكن مفوّضاً بالفعل تفويضاً كاملاً من سيده يزيد بن معاوية؟!

لقد أطلق يزيد يد عبيد الله بن زياد في العراق وجعل منه طاغوتاً مستكبراً، يحكم حكماً مطلقاً، ويسخّر كل موارد العراق وطاقاته وإمكاناته لغاية قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإبادة أهل بيت النبوة، وهذا أمر من الوضوح بحيث أنه لا يحتاج إلى إثبات.

5 - ثمَّ انظر إلى كتاب يزيد بن معاوية إلى واليه على المدينة فيه - وبالحرف - بأخذ البيعة على أهل المدينة عامة وخاصة على الحسين، ويقول في الكتاب: «فإن أبى عليك فاضرب عنقه»(2) . لقد أصدر هذا المرسوم الملكي قبل أن يمتنع الإمام الحسينعليه‌السلام عن البيعة، وقبل أن يخرج، وقبل أن يدلي بتصريحاته التي فضحت الخليفة ونظامه.

وقال الطبري: إن يزيد قد كتب إلى واليه على المدينة: أمّا بعد، فخذ حسيناً و... أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا. والسّلام(3) . فإذا كان يزيد بن معاوية يأمر بقتل الحسين إن امتنع عن البيعة، وقبل أن يمتنع، فمن باب أولى أن يأمر بقتله إذا امتنع بالفعل، وخرج عليه بالفعل، وخرج بما صرّح به بالفعل.

وإذا أمر بقتل الإمام الحسينعليه‌السلام وهو عميد أهل بيت النبوة وآل محمّد وذوي قرباه، فأهون عليه الأمر بقتل مَن سواه ممن هم دونه.

6 - وبعد أن تمّت المذبحة بالصورة المأساوية البشعة، لم يوجه الخليفة

____________________

(1) برواية الطبري عن حميد بن مسلم، راجع معالم المدرستين 3 / 84، وتاريخ الطبري 3 / 311، والإرشاد / 228، والكامل لابن الأثير 2 / 552، وبحار الأنوار 44 / 389، والعوالم 17 / 240.

(2) مثير الأحزان لابن نما / 14 - 15، واللهوف في قتلى الطفوف / 9 - 10، والفتوح لابن أعثم الكوفي 5 / 10، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 180 - 185.

(3) تاريخ الطبري - باب «خلافة يزيد بن معاوية » 6 / 188.

٢٧٠

كلمة لوم واحدة لعبيد الله بن زياد، بل عبّر له عن كل شكره ومننه، وسلّمه ولاية كل العراق، وكافأه بألف ألف درهم؛ فبنى عبيد الله لنفسه قصرين بهذه الأموال يشتي بأحدهما، ويصيف بالآخر، وعلا أمر هذا العبد وانتشر ذكره، ومدحه الشعراء طمعاً برضاه(1) .

7 - بل وأبعد من ذلك فإن عبيد الله بن زياد صار صاحب السر والأمانة عند يزيد، وصار نديمه، وأعلن أمام أركان دولته قائلاً لعبيد الله: «لقد وجبت محبتكم يا بني زياد على آل أبي سفيان». وترجم هذه المشاعر الحميمة شعراً عندما كان يشرب الخمر مع ابن العبيد عبيد الله بن زياد، فقال:

اسقني شربةً تروّي عظامي

ثمَّ ملْ فاسقِ مثلها ابنَ زيادِ

صاحبَ السر والأمانة عندي

ولـتسديد مـغنمي وجهادي

ثم أمر مغنّيه فغنوا به(2) .

قال السبط ابن الجوزي: استدعى يزيد بن زياد واليه وأعطاه أموالاً كثيرة وتحفاً عظيمة، وقرّب مجلسه، ورفع منزلته، وأدخله على نسائه، وسكر ليله وقال للمغني: غنِّ. ثمَّ قال يزيد على البداهة: اسقني شربة تروي...(3) .

8 - وبعد أن انتهت المذبحة بالصورة الرهيبة التي نُفّذت بها، وبعد أن قُطع رأس الحسين ورؤوس الشهداءعليهم‌السلام ، ووُضعت بين يدي يزيد، كانت مشاعره بالزهو والسعادة والانتصار واضحة.

قال الطبري: لمّا وُضعت الرؤوس بين يدي يزيد؛ رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه، قال يزيد:

نـفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ

علينا وهم كانوا أعقَّ واظلما

فقال يحيى بن الحكم أخو مروان:

لـهامٌ بـجنب الـطفِّ أدنـى قرابةً

من ابن زيادِ العبدِ ذي الحسبِ الوغلِ

____________________

(1) راجع الفتوح لابن أعثم 5 / 252.

(2) راجع مروج الذهب للمسعودي 3 / 67.

(3) تذكرة خواص الاُمّة للسبط ابن الجوزي / 164.

٢٧١

سـميةُ أمـسى نسلُها عددَ الحصى

وليس لآل المصطفى اليومَ من نسلِ

فضرب يزيد في صدر يحيى وقال: اسكت.

وفي تاريخ الطبري قال يزيد لعلي بن الحسين: أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت(1) .

ولمّا جاءت رؤوس الشهداء كان يزيد في منظرة على رُبى جيرون، فأنشد لنفسه:

لـما بـدت تلك الحمولُ وأشرقت

تـلك الـشموسُ على رُبا جيرونِ

نعب الغراب فقلت صـح أو لا تصحْ

فـلقد قضيتُ من الغريم ديوني(2)

9 - ثمَّ إنّ عاصمة دولة الخلافة قد تزيّنت وأظهرت مظاهر العيد والانتصار يوم علمت بمقتل الإمام الحسين وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ، ويوم قدمت رؤوس الشهداء من العراق إلى الشام، كل ذلك بأوامر وتعليمات من الخليفة يزيد.

____________________

(1) راجع معالم المدرستين 3 / 158، وتذكرة الخواصّ / 149، واللهوف / 79، ومثير الأحزان / 78.

(2) تذكرة الخواصّ للسبط ابن الجوزي 2 / 148.

٢٧٢

الفصل الثاني

خطط الخليفة وعبيد الله بن زياد لقتل الإمام الحسينعليه‌السلام

وإبادة أهل بيت النبوة

لمّا تأكّد الخليفة وعبيد الله بن زياد أن الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيت النبوة والقلة التي والتهم ساروا من مكّة في طريقهم إلى العراق، وضع الخليفة بالتشاور مع عبيد الله بن زياد مجموعة من الخطط العسكرية المتكاملة والتي قدّروا أنها بالنتيجة ستؤدي إلى مقتل الحسين وإبادة أهل بيت النبوة والقلة التي والتهم، وتعذيبهم قبل القتل، والتمثيل بهم بعد القتل.

الخطة الاُولى

1 - قرّر عبيد الله بن زياد إرسال ألف فارس من المعروفين بموالاتهم المطلقة للنظام الاُموي، ويبدو أنهم بأكثريتهم من جيش الشام الذي دربه معاوية على الطاعة العمياء، وجهّله جهلاً مطبقاً باُمور الدين، وأسند قيادة هذه القوة إلى فارس شهير وهو الحر بن يزيد الرياحي(1) .

ومهمة هذه القوة العسكرية أن تتحرك، وأن تلاقي الإمام الحسينعليه‌السلام قبل أن يصل إلى العراق، وتراقب حركاته وسكناته، وأن تمنعه من دخول الكوفة، وتمنعه من الرجوع إلى المدينة(2) .

وبالفعل تحرّكت هذه القوة، ووجدها الإمام الحسينعليه‌السلام في منطقة بانتظاره، وأينما تحرك الإمام كانت تسايره وتتحرك قبالته في الجانب الآخر من الطريق. ورافقت هذه القوة الإمام من

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 3 / 305، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 229، والبداية والنهاية لابن كثير 8 / 186، وبحار الأنوار 44 / 375، وأعيان الشيعة 1 / 597، ووقعة الطف / 167، والأخبار الطوال / 248، والفتوح لابن أعثم 5 / 85، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 230، واللهوف / 33.

(2) الإرشاد للمفيد / 225، وتاريخ الطبري 3 / 306، والعوالم 17 / 228، والموسوعة / 359.

٢٧٣

منطقة شراف حتّى أوصلته إلى كربلاء، وأجبرته على النزول فيها.

ومن مهمات هذه القوة أن تمنع أي واحد من أهل العراق من الانضمام إلى الحسينعليه‌السلام ، بحيث يبقى الإمام وحده مع الذين جاؤوا من الحجاز(1) .

وبقيت هذه القوة قبالة الإمام الحسينعليه‌السلام وأهله وأصحابه كطليعة لجيش الفرعون، حتّى إذا تلاحقت فيالق الجيش «الإسلامي» واجتمعت على صعيد واحد، اشتركت هذه القوة مع بقية الجيش الإسلامي بقتال الإمام وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام .

الخطة الثانية

وكانت خطة يزيد وعبيد الله بن زياد أن يعذّبوا الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيت النبوة ومن والاهم قبل أن يقتلوهم، وأعظم عذاب هو أن يحرموهم من الماء، وأن يمنعوه عنهم وعن أطفالهم ونسائهم حتّى يشرفوا على الموت من العطش، عندئذ يسهل على جيش بني اُميّة أن يبطش بطشته الكبرى بابن النبي وأهل بيت النبوة.

وبالفعل كتب عبيد الله بن زياد كتاباً إلى عمر بن سعد: أمّا بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة...

وعلى الفور أرسل عمر بن سعد بن أبي وقاص قوة عسكرية قوامها خمسمئة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيت النبوة وأطفالهم ونسائهم وبين الماء، وكانت تلك القوة بقيادة بطل «إسلامي» اسمه عمرو بن الحجاج، وقد استماتت تلك القوة بالفعل للحيلولة بين الإمام وصحبه وبين الماء، ونفذت بمنتهى الدقة أمر القيادة العليا(2) .

ولقد خاض العباس بن علي ملحمة حقيقية حتّى ملأ بعض

____________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 307، والكامل لابن الأثير 2 / 553، والبداية والنهاية لابن كثير 8 / 187، وأعيان الشيعة1 / 597 مع اختلاف واختصار في الثلاثة الأخيرة، ووقعة الطفِّ / 173، والموسوعة / 362.

(2) راجع تاريخ الطبري 3 / 311، والإرشاد / 228، والكامل لابن الأثير 2 / 556، وبحار الأنوار 44 / 389، والعوالم 17 / 240، ودلائل الإمامة / 78، والدمعة الساكبة 4 / 344، وتاريخ الطبري 3 / 313، واللهوف / 38، والعوالم 17 / 239، والأخبار الطوال / 255، ووقعة الطفِّ / 191.

٢٧٤

القرب. ولقد ركّز عبيد الله بن زياد تركيزاً خاصاً على هذه الناحية.

الخطة الثالثة

خصص عبيد الله بن زياد خمسمئة فارس وأعطى قيادتهم لزجر بن قيس الجعفي، ومهمة هذه القوة أن تقيم بجسر الصراة لمنع مَن يخرج من أهل الكوفة يريد الحسينعليه‌السلام .

فمر ابن عامر بن أبي سلامة بن عبد الله بن عرار الدلاتي، فقال له زجر: قد عرفت حيث تريد فارجع. فحمل عليه وعلى أصحابه فهزمهم، ومضى وليس أحد منهم يطمع في الدنو منه حتّى وصل كربلاء، وانضم إلى الحسينعليه‌السلام وقاتل معه حتّى قُتل بين يديه(1) .

الخطة الرابعة

جمع ابن زياد الناس في جامع الكوفة، فقال: إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبون، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه؛ حسن السيرة، محمود الطريقة، محسناً إلى الرعية، يُعطي العطاء في حقه... يكرم العباد ويُغنيهم بالأموال، وقد زادكم في أرزاقكم مئة مئة، وأمرني أن اُوفّرها عليكم، وأخرجكم إلى حرب عدوه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا. ونزل ووفّر العطاء بالفعل، وهكذا دخل سلاح المال المعركة، وهو سلاح أجاد معاوية استعماله، وورث هذه الإجادة يزيد ابنه.

لقد عرف معاوية وابنه نقطة الضعف عند بعض النفوس الضعيفة؛ فهذا يزيد يعطي عشرة آلاف، فماذا يعطي الحسينعليه‌السلام ؟ فلو أن الحسين أعطاهم عشرة آلاف ونصف درهم لباعوا يزيد، وباعوا عبيد الله بن زياد بنصف الدرهم، ولكن الإمام الحسينعليه‌السلام لا يتعامل مع المرتزقة، ولا يتّخذهم عضداً له.

ومن جهة اُخرى فإنه لا يملك المال، ولو ملك المال بالفعل لشعر أن هذه الأموال للمسلمين، وفيها حق الفقراء والمساكين وابن السبيل، وأنه ليس من حقّه أن يخرج هذه الأموال عن مصارفها الشرعيّة، وأن يخصصها لتثبيت ملك، ولترفّع الإمامعليه‌السلام عن فعل ذلك.

لكنّ الاُمويِّين لا يعرفون هذه اللغة؛ فكافة أموال

____________________

(1) الإكليل للهمداني 10 / 87 و 101، ومقتل الحسين للمقرّم / 240.

٢٧٥

الدولة عندهم هي ملك للخليفة، ومفاتيح خزائنها في يده، ينفق منها ما يشاء لمن يشاء بغير حسيب ولا رقيب، وهكذا فعل الفراعنة والجبابرة في الأرض طوال التاريخ البشري.

الخطة الخامسة

بعدما وفّر عبيد الله بن زياد العطاء وزاد مئة مئة أمر أهل الكوفة قائلاً: لا يبقين رجل من العرفاء، والمناكب، والتجار، والسكان إلاّ خرج فعسكر معي. وأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن العسكر برئت منه الذمة(1) .

فقدم النخيلة في جمع مَن معه، وبدأت الرعايا الذليلة بالالتحاق في معسكر الهوان، وطافت الخيل بالكوفة لتتأكد من خروج أهلها، فوجدوا رجلاً من همدان فقتلوه(2) ، ولم يبقَ بالكوفة محتلم إلاّ خرج إلى المعسكر بالنخيلة.

الخطة السادسة

دعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي، ومحمد بن الأشعث بن قيس، والقعقاع بن سويد بن عبد الرحمن المنقري، وأسماء بن خارج الفزاري وقال لهم: طوفوا في الناس فمروهم بالطاعة والاستقامة، وخوّفوهم عواقب الاُمور والفتنة والمعصية، وحثّوهم على العسكرة.

فخرجوا وداروا بالكوفة، وبعد ذلك لحقوا به إلاّ كثير بن شهاب؛ فإنه كان مبالغاً يدور بالكوفة، ويأمر الناس «بالجماعة»، ويحذّرهم الفتنة، ويخذّل عن الحسين.

قال البلاذري في «أنساب الأشراف»: وضع ابن زياد المناظر على الكوفة لئلاّ يجوز أحد من العسكر؛ مخافة لأن يلحق بالحسين، ورتّب المسالح حولها، وجعل على حرس الكوفة زجر بن قيس الجعفي(3) .

____________________

(1) راجع أنساب الأشراف للبلاذري ح33 - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومعالم المدرستين للعسكري 3 / 81 - 82.

(2) راجع المرجع السابق.

(3) راجع معالم المدرستين للعسكري 3 / 81 - 83 نقلاً عن أنساب الأشراف. «المناظر: جمع منظرة، القوم يصعدون إلى أعلى الأماكن ينظرون ويراقبون. والمسالح: جمع مسلحة، قوم ذوو السلاح يحرسون ويراقبون».

٢٧٦

الخطة السابعة

كان عمر بن سعد قد تأمّر على أربعة آلاف في مهمة تتعلق بخروج الديلم، فلما كان من أمر الحسين ما كان طلب منه عبيد الله بن زياد أن يتوجّه إلى الحسينعليه‌السلام :

1 - بجيشه؛ لأن قتال الإمام الحسينعليه‌السلام أولى من قتال أهل الديلم الخارجين على الخليفة.

2 - وسرّح ابن زياد أيضاً حصين بن تميم في أربعة آلاف، وأمره أن يلحق بعمر بن سعد.

3 - ووجّه حجار بن أبجر العجلي في ألف.

4 - ووجّه شبث بن ربعي في ألف أيضاً.

5 - ووجّه يزيد بن يزيد بن رويم في ألف أو أقل(1) .

6 - ومضاير بن رهينة المازني في ثلاثة آلاف(2) .

7 - ونصر بن حرشة في ألفين.

وتكامل عند ابن سعد لست خلون من المحرم عشرون ألفاً، ولم يزل ابن زياد يرسل العشرين والثلاثين والخمسين غدوة وضحوة، ونصف النهار وعشية من النخيلة يمدّ بهم عمر بن سعد حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً.

وروى الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّ الحسينعليه‌السلام دخل على أخيه الحسنعليه‌السلام في مرضه الذي استشهد فيه، فلما رأى ما به بكى، فقال له الإمام

____________________

(1) راجع معالم المدرستين للعسكري 3 / 81 - 82 كما نقلها عن الطبري، وراجع تاريخ الطبري 6 / 233 - 270، وتاريخ ابن الأثير / 19 - 38، وابن كثير 8 / 172 - 198، والأخبار الطوال للدينوري / 253 - 261، وأنساب الأشراف للبلاذري / 176 - 227، والإرشاد للمفيد / 210 - 236، وأعلام الورى / 231 وما بعدها.

(2) اللهوف، ومقتل الحسين للمقرّم / 242.

٢٧٧

الحسنعليه‌السلام : « ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ ».

فقالعليه‌السلام : « أبكي لما صُنع بك ».

فقال الحسنعليه‌السلام : « إنّ الذي اُوتي إليَّ سمٌّ اُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، وقد ازدلفت إليك ثلاثون ألفاً يدعون أنهم من اُمّة جدنا محمّد، وينتحلون دين الإسلام؛ فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة، وتمطر السماء دماً، ويبكي عليك كلُّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار »(1) .

وكتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد: إني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا تُمسِ ولا تُصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية. وكان يستحثه على الحرب لست خلون من محرم.

الإمام الحسينعليه‌السلام وجهاً لوجه مع جيش دولة عظمى

كانت دولة الخلافة دولة عظمى بالفعل؛ فقد هزمت الدولتين العظيمتين في زمانها: فارس في الشرق، وروما في الغرب، وحلّت محلهما، واستولت على كافة مكتسباتهما.

وكان مجتمع الخلافة مجتمعاً عسكرياً، بمعنى أن الالتحاق بجيش الخلافة هو المهنة المألوفة لغالبية رعايا دولة الخلافة، وهي مصدر رزق هذه الغالبية.

ومن المفارقات أنّ أهل العراق كانوا يمثّلون الشرعيّة الإلهيّة ويدافعون عنها، وفي سبيل الدفاع عن هذه الشرعيّة دخلوا مع أهل الشام بحرب دموية مريرة، وانتهت هذه الحرب بهزيمة الشرعيّة، وبهزيمة أهل العراق، وبانتصار القوة والواقع، وبتتويج معاوية ملكاً على المسلمين كثمرة طبيعية لانتصار القوة وهزيمة الشرعيّة.

وعلى الرغم من الهزيمة الساحقة التي حلّت بأهل العراق وقلبت كامل المعادلة، إلاّ أن هذا البلد كان مصدر إزعاج دائم للخليفة الاُموي؛ مما اضطّره أن يختار عامل العراق دائماً من المجرمين العتاة؛ كابن زياد، وعبيد الله، والحجاج...

ومما فرض على العراق وضع فرقة مسلّحة كبيرة من جيش الشام

____________________

(1) أمالي الصدوق / 71 مجلس 30، وفي هامش تذكرة الخواصّ أنهم مئة ألف، راجع مقتل الحسين للمقرم / 242 - 243.

٢٧٨

تحت إمرة ذلك العامل الطاغية ليضمن السيطرة على بلاد العراق، وليؤمّن طاعة أهل العراق له وخضوعهم لحكمه.

وجيش الشام درّبه معاوية على الطاعة العمياء، وجهّله باُمور الدين تجهيلاً كاملاً، فصار جيشه لا يعرف من الدين إلاّ الخليفة وطاعة الخليفة؛ فطاعة الخليفة هي طاعة الله وطاعة الرسول والتزام بأحكام الدين، ومعصية الخليفة هي معصية لله ومعصية للرسول وخروج عن أحكام الدين.

وانتشرت هذه العقيدة العسكرية الغريبة في مجتمع دولة الخلافة، وترسّخت بانتصار معاوية وبانتصار جيش الشام.

ركب الإمامعليه‌السلام في كربلاء

كان في العراق فرقة كبيرة من جيش الشام، وهذا معلوم بالضرورة، وكانت العقيدة العسكرية التي رسخها معاوية هي المسيطرة، وبلوغها كان هدفاً لعشّاق العسكرية ومنتسبي جيش الخلافة.

واستطاع عبيد الله بن زياد بدعم الخليفة وتأييده أن يضع كافة طاقات وإمكانات دولة الخلافة تحت تصرفه؛ لإنجاز المهمة الخطيرة الموكولة والمتمثّلة بقتل الإمامعليه‌السلام ، وإبادة أهل بيت النبوة إبادة تامة للقضاء على خطرهم الدائم الذي يحدق بالملك الاُموي.

وفي هذا السياق استطاع عبيد الله أن يجنّد كل القادرين على حمل السلاح من العراقيّين، وأن يحشرهم مع فرقة جيش الشام الموجودة في العراق، فجمع جيشاً قوامه ثلاثون ألف مقاتل تدعمه طاقات وإمكانات وموارد دولة الخلافة، ومشرّب بكل علوم وفنون وعقائد عسكرية الخلافة. ومهمة هذا الجيش محصورة بنقطة واحدة «قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وإبادة أهل بيت النبوة».

وليجعل الخليفة وأركان دولته لهذا الجيش مصلحة في تلك الحرب القذرة أعطى كلَّ فرد من أفراد هذا الجيش مئة مئة، وهذا مبلغ ضخم في المقاييس الاقتصاديّة لذلك العصر. ومقابل هذا المبلغ لا يجد أي عنصر من عناصر ذلك الجيش غضاضة ولا حرج لو قتل النبيَّ نفسَه.

ثمَّ إنّ هنالك فوائد مؤكدة اُخرى؛ حيث ستتاح الفرصة لهذا الجيش بنهب رحل الإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وذلك الجيش قد تعوّد أن ينهب المهزوم، وأن يأكل المغلوب كائناً مَن كان ولو كان النبيَّ نفسَه.

ووفق المعتقدات التي غرسها معاوية

٢٧٩

في ذلك الجيش فلا مانع لدى أي فرد من أفراده بأن يقدم على جثّة أي قتيل فينزع عنه ثوبه الملطّخ بالدم، ويحمله كغنيمة ليغسله في ما بعد ويلبسه، أو يبيعه فينتفع بثمنه. وقد حدث هذا بالفعل.

وقد يهبط الجندي إلى أدنى المستويات فيأخذ حذاء المقتول «نعله»، قال أبو مخنف: وسُلب الحسين ما كان عليه؛ فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له: الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم.

وقال أبو مخنف: وجاء الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها(1) .

جاء أحد عسكر الخليفة إلى فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي، فقالت له: ما لك؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله؟ قالت له: دعني! قال الجندي: أخاف أن يأخذه غيري(2) !

هذه طبيعة دين فرعون المسلمين وجنوده، وتلك عقيدتهم العسكرية، وهذه هي أخلاق «الجيش الإسلامي» الذي واجه الإمام الحسينعليه‌السلام وحاربه في كربلاء.

ولأجل قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإبادة أهل بيت النبوة جمع عبيد الله ثلاثين ألف مقاتل وسيّرهم إلى كربلاء بعد أن عيّن عمر بن سعد بن أبي وقاص قائداً لهذا الجيش، وعيّن شمر بن ذي الجوشن مساعداً له.

ووصل «الجيش الإسلامي» إلى كربلاء، وعلى رمالها ألقى عصاه، واتّخذ مواضعه القتالية، ورفعوا درجة استعدادهم إلى الدرجة القصوى، وانتظروا بفارغ الصبر أوامر دولة الخلافة ليبدؤوا القتال، وينفّذوا المهمة القذرة.

____________________

(1) راجع معالم المدرستين 3 / 136، وراجع الكامل لابن الأثير 4 / 52 «انتهبوا ما في الخيام»، وتاريخ الطبري 6 / 160، ومثير الأحزان / 40.

(2) راجع سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 204.

٢٨٠