كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 22985
تحميل: 5068

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22985 / تحميل: 5068
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الرهيبة؛ فذبح آل محمّد وأهل بيته ومَن والاهم، وأخذ بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا بعد أن مثّل بضحاياه شر تمثيل.

وقد ولي الحكم ثلاث سنوات؛ ففي السنة الأولى من حكمه قتل أولاد النبي وأحفاده، وبني عمومته ومَن والاهم بمذبحة كربلاء، وفي السنة الثانية استباح المدينة، وفضّ جيشه ألف عذراء، وقتل عشرة آلاف مسلم بيوم واحد وهو « يوم الحرة »، ختم أعناق الصحابة، وأخذ البيعة على أنهم خول وعبيد « لأمير المؤمنين » يتصرف بهم تصرف السيد بعبيده.

أمّا في السنة الثالثة فقد هدم الكعبة وأحرقها. وهذه اُمور قد أجمعت الأمة على صحة وقوعها وتوثيقها.

مَن هو والد يزيد وجدّه؟

معاوية هو والد يزيد، وصخر بن اُمية المكنى بأبي سفيان هو جد يزيد، وكلاهما طليق، ومن المؤلفة قلوبهم، وكلاهما من أئمة الكفر بإجماع الأمة؛ فالثابت بالإجماع أن الاثنين قد استسلما يوم فتح مكة، فأعلنا إسلامهما بعد أن أغلقت أمامهما كل الأبواب.

والثابت كذلك أن الرجلين قد قاوما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه بكل أساليب المقاومة، وحارباه بكل فنون الحرب، وكاداه بكل طرق الكيد طوال فترة 21 عاماً، وهي المدة الممتدة بين إعلان النبوة وفتح مكة.

وهذه حقائق لا ينكرها إلاّ تافه مريض؛ فأبو سفيان من أكابر تجّار مكة، وهو الوارث لمنصب قيادة البطون. وبعد موت أبي جهل صار أبو سفيان زعيم جبهة الشرك بلا منازع، فهل يعقل أن تتّحد بطون قريش الـ 23 ضد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه، وضد بني هاشم دون علمه وعلم أولاده حنظلة ويزيد ومعاوية وهم سادات مجتمع الكفر؟!

وهل يعقل أن تجري عمليات تعذيب المستضعفين قبل الهجرة دون علم وموافقة أبي سفيان وبنيه؟!

وهل يعقل أن تهدد بطون قريش بقتل محمّد دون علم أبي سفيان وموافقته؟!

ومَن يصدق بأن بطون قريش الـ 23 المتحدة قد أجمعت على حصار النبي وبني هاشم ومقاطعتهم ثلاث سنين في شعب أبي طالب دون علم قائدها أبي سفيان وموافقته؟!

٢١

وهل يعقل بأن تجري البطون اتصالات مع زعماء الطائف ليردوا النبي رداً مؤلماً دون علم أبي سفيان ومباركته؟! ومن يصدّق بأن بطون قريش قد أرسلت وفداً إلى النجاشي ليرد المهاجرين دون علم أبي سفيان وبنيه وموافقتهم؟! وهل يعقل أن تتآمر بطون قريش الـ 23 على قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة هجرته، وأن تختار منها مئة رجل ليضربوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ضربة رجل واحد دون علم أبي سفيان ومباركته؟!

ألم يخرج أولاد أبي سفيان لقتال النبي في بدر؟ ألم يُقتل بكره حنظلة هنالك؟ أليس هو قائد المشركين في أحد؟ ألم تخرج عائلة أبي سفيان كلها مع جيش المشركين في أحد؟ أليست زوجته هند هي التي بقرت بطن حمزة عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخرجت كبده لتأكله من كيدها وحقدها؟ أليس أبو سفيان هو الذي جمع الأحزاب وقادها، وأنسحب بها بعد الهزيمة؟ وأين كان بنوه؟

لقد أعلن أبو سفيان في داخل الكعبة كما يروي الواقدي، وهو الذي قال لوفد اليهود: إنّ أحب الناس إلينا مَن أعاننا على عداوة محمّد(1) ! هذه عقيدة أبي سفيان وعقيدة بنيه؛ كره بلا حدود، وحقد بلا حدود، وحسد بلا حدود.

كانت أفعال أبي سفيان وبنيه وبني عمومته واضحة في أذهان الجميع من سكان الجزيرة؛ المسلم والمشرك، واليهودي والنصراني، كانت جرائم أبي سفيان وبنيه جراحات دامية في قلب النبي وآله وبني هاشم، وفي قلوب الذين آمنوا، فمن الطبيعي أن يلعنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأن يدعوا عليهم لكشف حقيقتهم للأمة.

فلعنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعة مواطن(2) ، ولعنه رسول الله في الركعة الثانية من صلاة

____________________

(1) راجع المغازي للواقدي 2 / 442، وكتابنا المواجهة / 184.

(2) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي / 134.

٢٢

الصبح(1) .

وقال السيوطي: وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، والبيهقي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال يوم أحد: « اللّهمَّ إلعن أبا سفيان... »(2) .

ويروي نصر بن مزاحم عن البراء بن عازب، قال: أقبل أبو سفيان ومعه معاوية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللّهمَّ العن التابع والمتبوع، اللّهمَّ عليك بالأقيعس ». فقال البراء لأبيه: مَن الأقيعس؟ قال: معاوية(3) .

وأخرج نصر بن مزاحم، قال: نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي سفيان وهو راكب، ومعاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق، فلما نظر رسول الله إليهم قال: « اللّهمَّ العن القائد والسائق والراكب ». قلنا: أنت سمعت رسول الله؟ قال: نعم، وإلاّ فصمّتا اُذناي كما عميتا عيناي(4) .

وشاعت حقيقة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد لعن أبا سفيان وبنيه، قال الإمام عليعليه‌السلام في خطبة له يوم صفّين: «... طليق وابن طليق، وحزب من الأحزاب، لم يزل لله ولرسوله عدواً هو وأبوه حتّى دخلا في الإسلام مكرَهَين »(5) .

وقال مرة: « سيروا إلى بقية الأحزاب، قتلة المهاجرين والأنصار.. ». وقال مرة اُخرى: « إنّما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء، ومَن أسلم كرهاً، وكان لرسول الله حرباً »(7) .

وخاطب الإمام عليعليه‌السلام معاوية قائلاً: « وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لله ولرسوله »(8) .

قال أيوب الأنصاري لعليعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين، إن معاوية كهف المنافقين...

وكتب قيس بن سعد بن عبادة أمير الخزرج

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 1 / 36.

(2) الدر المنثور للسيوطي 2 / 71. وانظر صحيح البخاري 5 / 35 و 171، وكتابنا المواجهة / 66.

(3) وقعة صفّين لنصر بن مزاحم المنقري / 712.

(4) وقعة صفّين / 220، وآراء علماء المسلمين للسيد مرتضى الرضوي / 74 - 76.

(5) وقعة صفّين / 227، وتاريخ الطبري 6 / 4، وجمهرة الخطب 1 / 161، والغدير في الكتاب والسنة والأدب 10 / 191.

(6) وقعة صفّين / 105، وجمهرة الخطب 1 / 142.

(7) الإمامة والسياسة 1 / 113، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 37، 1 / 113.

(8) مقاتل الطالبيِّين / 29، وشرح ابن أبي الحديد 4 / 12، وجمهرة الرسائل 2 / 49.

(9) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 280.

٢٣

مخاطبا معاوية: فإنما أنت وثن وابن وثن، دخلت الإسلام كرهاً، وخرجت منه طوعاً، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك(1) .

وكتب له الإمام السبطعليه‌السلام : « وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله ولكتابه »(2) .

وكتب محمّد بن أبي بكر إلى معاوية: وأنت اللعين ابن اللعين، ثمَّ لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين الله، وتجهدان على إطفاء نور الله، وتجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتحالفان فيه القبائل، على ذلك مات أبوك، وعلى ذلك خلفته. والشاهد على ذلك من يأوي إليك من بقية الأحزاب، ورؤؤس النفاق والشقاق لرسول الله(3) .

ومع أن أبا سفيان وأولاده قد أسلموا مكرهين بعد أن اضطروا للاستسلام بعد حرب دامت بينهم وبين رسول الله وآله 23 عاماً، إلاّ أنّ إسلامهم لم يغير حقيقة مشاعرهم نحو آل النبي على الأقل؛ فهم يحقدون على آل محمّدعليهم‌السلام ، وقد بينت هند اُم معاوية طبيعة هذا الحقد عندما حاولت أكل كبد حمزة عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا آلت الاُمور إلى عثمان دخل أبو سفيان عليه يوماً بعدما ذهب بصره، فقال: أها هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال أبو سفيان: اللّهمَّ اجعل الأمر أمر جاهليّة، والملك ملك غاصبيّه، واجعل أوتاد الأرض لبني اُميّة(4) .

ورأى أبو سفيان الناس يوماً يتهافتون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال في نفسه: لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فكشف الله لرسوله ما حاك أبو سفيان في صدره، عندئذ ضرب الرسول في صدر أبي سفيان وقال له: « إذن يخزيك الله »(5) .

وعلى الرغم من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بسط سلطانه على العرب إلاّ أن أبا سفيان لم ييأس من النيل من رسول الله؛ فقد كمن لرسول الله ومعه أحد عشر فرداً بعد

____________________

(1) الغدير في الكتاب والسنة والأدب للعلامة الأميني 10 / 194.

(2) مقاتل الطالبيِّين / 22، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 12، وجمهرة الرسائل 2 / 49.

(3) راجع كتابنا المواجهة / 63 تجد التوثيق والمراجع لهذا النص وما سبقه.

(4) تاريخ ابن عساكر 6 / 407.

(5) راجع الإصابة لابن حجر 2 / 179 ترجمة « صخر بن حرب »، رقم 4066.

٢٤

عودته من غزوة تبوك لينفروا ناقة الرسول فيسقط عنها بالعقبة ويموت كما يروي علامة المعتزلة ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة(1) .

لقد وصلتنا مثل هذه الأنباء عن سيرة الرجلين على الرغم من أنّ الاُمويِّين قد حكموا ألف شهر، سيطروا خلالها على وسائل الإعلام ومناهج التربية والتعليم، فلو لم تكن حقيقة الرجل من الشيوع والعموم لما وصلتنا مثل هذه الأنباء.

صحيح أن سلطان الدولة التاريخيّة على المناهج التربوية والتعليمية واضح وله بصمات. خذ على سبيل المثال صحيح البخاري، فأهل السنة بعتبرونه بعد القرآن بالصحة، ومع هذا يروي في صحيحه(2) أنّ الرسول كان يقول إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة: « اللّهمَّ العن فلاناً وفلاناً وفلاناً بعدما يقول: سمع الله لمَن حمده ».

من المؤكد أن الرسول الكريم سمّى الفلانات الثلاثة بأسمائها الملعونة، ومن المؤكد أن البخاري يعرف أسماء الفلانات الثلاثة، لكنه استعاض عن كل اسم بكلمة فلان، فلو ذكر البخاري أسماء الفلانات الثلاثة لما صار لصحيحه أية قيمة، ولهاجت الغوغاء وماجت، ولَجنّ جنون الجموع المسلمة التي اُشربت ثقافة التاريخ والمناهج التربوية والتعليمية لدولة الخلافة التاريخية.

إلى أي بطن ينتمي يزيد؟

ينتمي يزيد وأبوه معاوية وجدّه صخر إلى البطن الأموي المشهور بحقده وحسده وكراهيته لبني هاشم عامة، ولآل محمّد وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام خاصة. ففي معركة بدر قتل أهل بيت النبوة أحد عشر رجلاً من بني اُميّة دفعة واحدة، منهم: حنظلة بن أبي سفيان شقيق معاوية وعم يزيد، وعتبة بن ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خال معاوية، وشيبة بن عتبة شقيق جد معاوية وعم اُمّه، والعاص بن سعيد، وعقبة بن معيط وهم القرابة القريبة لعثمان بن عفان بن أبي العاص بن اُميّة بن عبد شمس(3) ؛

____________________

(1) 2 / 102 - 103.

(2) 3 / 24.

(3) راجع المغازي للواقدي 1 / 147 - 148.

٢٥

لهذا كله امتزج الكره والحسد والحقد في قلوب الاُمويِّين ونفوسهم فانحرفوا انحرافاً مهلكاً.

وقد نبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمة إلى حقيقة المشاعر الأمويّة، فقال: « إنّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً، وإنّ أشد قومنا لنا بغضاً بنو اُميّة، وبنو المغيرة، وبنو مخزوم »(1) .

وعندما بيّن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آية( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً ) ، قال: « هما الأفجران من قريش؛ بنو اُميّة وبنو المغيرة؛ فأمّا بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأمّا بنو اُميّة فمتعوا إلى حين »(2) .

لقد عبّرت جويرية بنت أبي جهل عن الوضع النفسي لبطون قريش، فعندما صعد بلال على ظهر الكعبة وأذّن وسمعت الأذان، قالت بعفوية: قد لعمري رفع لك ذكرك؛ أمّا الصلاة فسنصلي. والله لا نحب مَن قتل الأحبة أبداً(3) .

لقد عاش البطن الأموي رهينا لسلسلة من العقد؛ لماذا يكون النبي من بني هاشم؟ كيف يثأرون من الهاشميِّين وبالذات آل محمّد وأهل بيته لقتلاهم في بدر؟ كيف يستعيدون حقهم بقيادة بطون قريش؟ وكيف يوفقون بين الإسلام وبين هذه العقد المميتة؟

____________________

(1) راجع المستدرك على الصحيحين 4 / 487، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال 6 / 50، وقال: أخرجه نعيم بن حماد في الفتن.

(2) راجع كنز العمال 1 / 253، وقال: أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في الجامع الصغير، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط، والحاكم، وصححه وقال: أخرجه ابن مردويه.

(3) راجع المغازي للواقدي 2 / 846.

٢٦

الفصل الثاني

أركان قيادة الفئتين

قلنا: إنّ الإمام الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام كان هو القائد الأعلى لمنتسبي الفئة الأولى التي تجمعت والتفت حوله، وقاتلت معه ببسالة خارقة حتّى اُبيدت وقتلت عن بكرة أبيها في كربلاء.

وقلنا أيضاً: إنّ « الخليفة » يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان أيضاً هو القائد الأعلى لمنتسبي الفئة الثانية « جيش الخلافة »، وأركان دولة الخلافة الذين نفّذوا أوامره بدقة، فقتلوا آل محمّد وأهل بيته وذوي قرباه ببرودة، صانعين مذبحة كربلاء، تلك المذبحة البشعة التي يترفع همج ما قبل التاريخ وعبدة الشيطان عن تلويث أيديهم بكلّياتها وتفاصيلها المخزية والمخجلة حقاً.

ما معنى أركان القيادتين؟

يقصد بأركان القيادتين تلك العناصر البشرية المهمة أو البارزة التي شاركت القيادتين بالتخطيط والتدبير والتنفيذ؛ فنفّذت الأولى أوامر الحسينعليه‌السلام بالدفاع المشروع عن الدين والنفس، ونفّذت الثانية أوامر يزيد بن معاوية، فأشبعت رغبته بالعنف والتنكيل بخصومه، وقتلهم وتعذيبهم أحياء وميّتين استجابة لأهوائه.

أركان قيادة الإمام الحسينعليه‌السلام

1 - الهاشميّون من ذرّية أبي طالب

لا خلاف بأن ذرّية أبي طالب قد خرجت مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهم شباب آل محمّد، وزهرة أهل بيت النبوة، وذوو قربى النبي، تخرجوا من مدرسة النبوة فكانوا فراقد متألقة، ونماذج بشرية لن تتكرر، وأفضل فتية على وجه الأرض، وشوقهم الفائق للجنة، وطلبهم الحثيث للموت، وسعيهم الدؤوب له، وصبرهم العجيب على مكاره السفر.

واستماتتهم بالدفاع عن شيخ آل محمّد يعكس طبيعة وفاء اُولئك الفتية، ونوعية

٢٧

إيمانهم، ومعدن أصالتهم.

لقد كانوا نماذج بشرية تفوق كل مجالات وآفاق التصور والتصديق؛ فكان اُولئك الفتية هم أبرز أركان قيادة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وضعهم بالصورة الكاملة قبل خروجه من المدينة المنورة، ووافقوه على كل ما فعل خطوة خطوة، ونفّذوا أوامره برضا خاطر؛ فما من أحد منهم إلاّ وقد قال للحسينعليه‌السلام : ائذن لي يابن رسول الله لأدافع عنك، واُقتل بين يديك.

وما من أحد منهم إلاّ وأثلج خاطر الحسينعليه‌السلام صولة وجولة، حتّى إذا ما قضي نحبه صار جرحاً غائراً في قلب الحسين، وانهدم ركنٌ عصي من أركان قيادته؛ ففتية آل محمّد كانوا هم ناصية أركان قيادة الحسينعليه‌السلام .

فلمّا وقعت الواقعة تقدّموا وقاتلوا بين يديه، وسقطوا فرقداً إثر فرقد حتّى خلت السماء تماماً من فراقدها، عندئذ كسر ظهر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأمتلأ قلبه بالجراح النازفة، واضطر الحسين أن يحمل قلبه المثخن بالجراح وأن يقاتل جيش الخلافة وحيداً بعد أن تهدّمت أركان قيادته.

إنّ الكواكب التي انتثرت وتساقطت تباعاً من سماء كربلاء أمام الحسينعليه‌السلام لهي ظاهرة قيادية كونية نادرة، وإن تعجب لأراك الدهر عجباً، فاعجب كيف بقي للحسين قلب! وكيف انصرف ليقاتل وحده جيشاً يزيدُ على عشرين ألف مقاتل بعد أن فقد أركان قيادته!

واعجب لنفسية أفراد هذا الجيش المرتزق الذي أصرّ على قتال الحسين وحيداً، وبعد حملات هذا الجيش وصولاته على الإمام الوحيد قتلوه، ولم يكتفوا بقتل الإمامعليه‌السلام إنّما مثّلوا به أشنع تمثيل، وبعد أن أكملوا المذبحة ذهبوا وصلّوا، وقالوا في صلاتهم كما أمرهم الله: « اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد »، وهم قبل قليل آبادوا آل محمّد وذبحوا شيخهم كما تُذبخ الأضاحي!

2 - أركان قيادة الإمام الحسينعليه‌السلام من غير بني هاشم

الذين أتبعوا الإمام الحسينعليه‌السلام من غير بني هاشم هم نخبة الاُمة الإسلاميّة، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الاُموي بقوله للجيش: أتدرون من تقاتلون؟! إنما تقاتلون فرسان العصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين(1) .

وقال عنهم الإمام عليعليه‌السلام : « ليس مثلهم إلاّ شهداء بدر »(2) .

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 435.

(2) راجع اُسد الغابة لابن الأثير 1 / 123 و 349، والإصابة لابن حجر 1 / 68، وكنز العمال 6 / 223، =

٢٨

فالذين اتّبعوا الإمام الحسينعليه‌السلام من غير بني هاشم واستشهدوا بين يديه في كربلاء كانوا على علم بما يجري، وبالدوافع الذاتية لقادة فريقي المواجهة؛ فهم يعرفون طبيعة الخلافة، وطبيعة نظام دولته، وطبيعة أركان هذه الدولة، وطبيعة الجيش « الإسلامي » الجرّار الذي يأتمر بأمر الخليفة، وطبيعة الحالة التي آلت إليها نفسية الأمة.

فمن غير المحتمل على الإطلاق أن يخاطر أي فرد من أغلبية الرعية بقطع « الأرزاق » أو الاُعطيات الشهرية التي يقدمها الخليفة لعبيده، أو يجاهر بعصيانه ليخسر دنياه، ويخسر حياته، ويهدم داره.

فالذين اتّبعوا الإمام الحسينعليه‌السلام ونالوا شرف الشهادة بين يديه نماذج بشرية عجيبة حقاً، حلّلت واقعها تحليلاً دقيقاً، وأصغت لنبيِّها وهو يأمرها بنصرة الإمام الحسينعليه‌السلام فاختارت ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة، وبأعصاب هادئة، وبرضا تام، وساروا إلى الموت بخطى ثابتة، كلما فرّ الموت من أمامهم لاحقوه بلا كلل ولا ملل.

لقد صار الموت مطلبهم وغايتهم ونشوتهم العظمى، ولم لا؟! فهم أنصار الحسين، والحسين مقتنع قناعة نهائية لا تقبل المراجعة أن الموت خير من الحياة تحت حكم الظالمين، بل إنه كان يرى الموت سعادة والحياة مع الظالمين برماً.

إنّ أنصار الحسين على خطه تماماً، رافقوه وتداولوا الأمر معه، ثمَّ نفّذوه بدقة وتفان. فلما وقعت الواقعة افتدوه، وافتدوا أهل بيت النبوة الكرام، وقاتلوا بين يديه حتّى قتلوا. لقد كانوا جبالاً حقيقية اندكت تباعاً بين يدَي الحسينعليه‌السلام .

أركان قيادة يزيد في كربلاء

قهر معاوية الاُمّة، وتملّك أمرها بالقوة والتغلب، ودانت له البلاد والعباد رغبة بما في يديه من مال ونفوذ، أو رهبة من بطشه وجبروته. ولكن معاوية بدهائه مدرك أن الجمر في كثير من المواقع ما زالت تحت الرماد. لقد حصر معاوية الخطر على ملكه بمصدرين، أحدهما: آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيت النبوة الذين لا ينفكون عن القول بأنهم أصحاب الحق الشرعيين بقيادة الاُمّة، وأنّ معاوية

____________________

= وقال: أخرجه البغوي وابن السكن والبارودي وابن مندة وابن عساكر، وذكره الطبري في ذخائر العقبى / 146، وقال: أخرجه الملا في سيرته. راجع فضائل الخمسة من الصحاح الستة / 347 و 348.

٢٩

وأمثاله غاصبون لهذا الحق.

وثاني هذين الخطرين: أهل المدينة المجمعون على أن معاوية طليق وابن طليق لا تحلّ له الخلافة، وأنّه غاصب لها. ولكن أهل المدينة منقسمون إلى شيع، تبع كل شيعة أحد غراس عمر بن الخطاب « أصحاب الشورى »، أو تبع ابنه في حالة وفاة أبيه.

خطة معاوية

لقد أغرق معاوية أهل المدينة بالأموال والعطايا، وسلّط كل شيعة على الاُخرى، فاستقامت له اُمور جميع الشيع إلى حين، وهكذا حيد معاوية هذا الخطر بسلاح المال.

وتفرغ بكل قوة الدولة لمواجهة مصدر الخطر الآخر المتمثل بآل محمّد، أهل بيت النبوة ومَن والاهم؛ ففرض على كل المسلمين أن يسبّوا علياً وأهل بيت النبوة في كلِّ صلاة، وبالعشي والإبكار، وأصدر سلسلة من مراسيمه الملكية تقضي بأن يُمحا من ديوان العطاء كلُّ من يوالي علياً وأهل بيته، ثمَّ تُهدم داره، ثمَّ يُقتل(1) .

ثمَّ ولى زياداً ابن أبيه على العراق لأنه كان يعرف شيعة أهل البيت؛ ففتك بهم فتكاً ذريعاً، وصفّاهم من دون رحمة(2) . وبكلِّ قوة الدولة قاد معاوية حملة اختلاق الأحاديث على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتمييع النصوص الشرعية المتعلقة بالخلافة من بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخلط الأوراق(3) ، وتوّج خطته بدس السم إلى الإمام الحسنعليه‌السلام وقتله(4) .

وهكذا هيّأ معاوية كل الظروف لتحويل الخلافة رسمياً إلى ملك، ولحصر هذا الملك في ذرّيته وفي البيت الاُموي، أشد البيوت عداء لله

____________________

(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 595 وما بعد.

(2) المصدر السابق نفسه.

(3) المصدر نفسه.

(4) قال ابن سعد في طبقاته: سمّه معاوية. وقال الواقدي مثل ذلك، راجع تاريخ ابن كثير 8 / 43، ومروج الذهب للمسعودي 2 / 50، ومقاتل الطالبيِّين لأبي الفرج الأصفهاني / 29، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 16 - 17، والاستيعاب لابن عبد البر 1 / 141، وتذكرة الخواص لابن الجوزي / 121، وترجمة الإمام الحسن من تاريخ دمشق لابن عساكر 4 / 228 - 241، الأحاديث 367 - 392، والإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 144، والعقد الفريد لابن عبد ربه 2 / 298، وتاريخ الخميس 2 / 394، والغدير للعلامة الأميني 11 / 26 - 39، وكتابنا المواجهة / 237 - 238.

٣٠

ولرسوله(1) .

وهكذا نجح معاوية بتحويل الدين رسمياً إلى مجرد طريق للملك، والمحافظة عليه، ونجح بتفريغ الإسلام سياسياً من محتواه، وصار الخليفة فعلياً مجرد رجل « ميكافيلي » لا همّ له إلاّ البقاء في ملكه، والمحافظة على هذا الملك بأي وسيلة كانت شرعية أو غيرها.

يزيد بن معاوية: وعملاً بنظام الملك والوراثة ورث يزيد بن معاوية عن أبيه مملكة مترامية الأطراف كانت بمثابة ضيعة كبرى لأبيه، وورث مع الأقاليم قيادة اُمّة هرمت شبابها وذلّت فاستذلت حتّى صارت الأغلبية الساحقة من جماعاتها وأفرادها بمثابة عبيد أو أقنان لمعاوية وورثته.

يزيد يكمل خطة والده

بعد أن حمل ولاة الأقاليم البيعة ليزيد، وبعد أن انتهت مراسيم تتويج الملك الجديد اُحيط الملك يزيد علماً بنقطتين هامتين:

أولاهما: إنّ شيخ آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، لم يبايع، وأنه قد خرج وأهل بيت النبوة من المدينة إلى مكّة تهرّباً من إعطاء البيعة، ومن المؤكد أنه سيلجأ إلى العراق وإلى الكوفة بالذات عاصمة دولة الخلافة في عهد أبيه عليعليه‌السلام .

وثانيهما: إنّ أهل المدينة وشيعها السياسية متلكِّئون بإعطاء البيعة، ويتأهبون للشغب.

عزم يزيد وإصراره

يزيد بطبيعته رجل جنس ولهو، ورجال الجنس واللهو بالضرورة يعشقون العنف. لقد قرر أن يضرب خصومه وبمنتهى الوحشية والقسوة، وأن يقطع دابر معارضيه وإلى الأبد؛ فبدأ من حيث انتهى أبوه، واستفاد من خبرة أبيه بالقمع

____________________

(1) راجع المستدرك على الصحيحين 4 / 487، ومجمع الزوائد 10 / 71، وكنز العمال 1 / 252 و 6 / 50 و 68، والسيوطي في الدر المنثور تفسير آية( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً ) .

٣١

والإرهاب، ومن اُولئك الذين نفذوا سياسة أبيه بهذين المجالين.

مَن ينفّذ المهمتين؟

مَن يبيد آل محمّد وأهل بيت النبوة، ومَن يقتل شيخهم؟ مَن يضع حداً نهائياً لتمرد أهل المدينة ويقصم ظهورهم إلى الأبد؟ هذا ما كان يشغل ذهن يزيد بن معاوية.

سرجون ومعاوية

استشار يزيد سرجون مولاه وكاتبه، ونديمه وأنيسه. وسرجون هذا نصراني دخل في خدمة معاوية(1) ، فقال سرجون ليزيد: عليك بعبيد الله بن زياد. قال يزيد: لا خير فيه. فقال سرجون: لو كان معاوية حيّاً وأشار عليك به أكنت توليه؟ قال يزيد: نعم. فقال سرجون: هذا عهد معاوية إليه بخاتمه، ولم يمنعني أن اُعلمك به إلاّ معرفتي ببغضك له(2) .

عندئذ قرّر يزيد اختيار عبيد الله بن زياد لإنجاز النقطة أو المهمة الأولى المتمثلة بقتل الإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وبوصية من أبيه كما يقول الدينوري في « الإمامة والسياسة ».

قرر يزيد اختيار مسلم بن عقبة لإنجاز النقطة أو المهمة الثانية المتمثلة بوضع حد نهائي لتمرد أهل المدينة. وما يعنينا هو المهمة الأولى التي أوكل تنفيذها لعبيد الله بن زياد.

لقد استجاب يزيد لنصيحة سرجون، ونفّذ العهد الذي كتبه معاوية حال حياته، فعزل بشير بن النعمان وعيّن بدلاً منه عبيد الله بن زياد ليتولى تنفيذ المهمة القذرة.

____________________

(1) راجع الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي 2 / 158.

(2) راجع تاريخ الطبري 2 / 99 - 201، والإسلام والحضارة العربية 2 / 158، ومقتل الحسين لعبد الرزاق الموسوي المقرم / 148.

٣٢

مرسوم التعيين

كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد قائلاً: أمّا بعد، فإن الممدوح مسبوب يوماً، وإن المسبوب يوماً ممدوح، وقد سُمي بك إلى غاية أنت فيها كما قال الأوّل:

رُفعتَ وجاوزت السحاب وفوقَه

فما لك إلاّ مرقبُ الشمس مقعدُ

وأمره بالاستعجال على الشخوص إلى الكوفة ليطلب ابن عقيل مندوب الحسينعليه‌السلام فيوثقه أو يقتله أو ينفيه(1) .

وتلاحظ أن يزيد قد بيّن لعبيد الله بأنه بالذات هو وحده المؤهّل للقيام بهذه المهمة، وأن يزيد قد أطلق يد قائده عبيد الله وأعطاه كافة الصلاحيات للتعامل مع مندوب الإمام الحسين مسلم بن عقيل.

وتشير المصادر إلى أن يزيد قد كتب لعبيد الله بن زياد رسالة اُخرى قال فيها: إنه قد بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به أنت من بين العمال، وعندها تُعتق، أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد(2) .

فأنت تلاحظ أن هذه الرسالة مليئة بالتحريض والتهديد، والتذكير بنعمة آل أبي سفيان على عبيد الله وأبيه زياد؛ فقد كان زياد عبداً من أبوين عبدين، وهما: عبيد وسمية، فمنَّ عليه معاوية وألحقه بالاُمويِّين؛ زاعماً أن أبا سفيان قد زنى بسمية سراً، وأنها حملت زياداً من تلك الزنية، وأن أبا سفيان هو الوالد الحقيقي لزياد وليس عبيداً كما كان شائعاً في المجتمع.

وعلاوة على « شرف » الإلحاق ولاّه معاوية العراقين يتصرف فيهما تصرف السيد مع عبيده، وها هو يزيد يتمّ نعمته على حفيد سمية فيوليه العراقين أيضاً. بمعنى أن

____________________

(1) مقتل الحسين - السيد المقرم / 148 - 149 دار الأضواء - بيروت.

(2) راجع تاريخ الإسلام للذهبي 2 / 344، وتاريخ ابن كثير 8 / 165.

٣٣

عبيد الله إن لم ينجح بالتصدي لشيخ آل محمّد وأهل بيت النبوة سيعود عبداً بلا حسب ولا نسب ولا مكانة.

وما يعنينا هو أن عبيد الله بن زياد عُيّن رئيساً لهيئة الأركان المكلّفة بأخذ البيعة من شيخ آل محمّد وأهل بيت النبوة وهم صاغرون، أو قتلهم والتمثيل بهم لوضع حد لخطرهم.

عمر بن سعد

لما جاء مسلم بن عقيل مندوب الحسين إلى الكوفة، ورأى عمر بن سعد بن أبي وقاص إقبال الناس عليه أحرق الحسد والكره قلبه، فكتب سراً إلى يزيد بن معاوية بذلك.

فمن الطبيعي أن يسر ذلك يزيد(1) ، ومن الطبيعي أن يطلب من عبيد الله تعيين عمر بن سعد بن أبي وقاص قائداً للقوات العسكرية المكلّفة بقتل شيخ آل محمّد وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ، ومن الطبيعي أيضاً أن يعده الخليفة وعبيد الله بن زياد بولاية الري إن هو نجح بالمهمة الموكولة إليه.

وهكذا كان، إذ عُين عمر بن سعد قائداً عاماً للقوات العسكرية المكلفة بقتال أهل بيت النبوة وقتلهم والتمثيل بهم، أمّا لماذا اختار عمر بن سعد بن أبي وقاص ليقود المرتزقة في كربلاء؟ فإننا لا نعلم على وجه التحديد، ربما لأنّ عمر كتب له بقدوم مسلم وإقبال الناس عليه، وربما لأنه يعرف أن عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكارهين لآل محمّد والحاقدين عليهم، وربما لإشعار الناس بأن أولاد سعد بن أبي وقاص معه؛ استغلالاً لسمعة سعد كأحد الذين رشّحهم عمر بن الخطاب للخلافة، وربما لضرب بطون قريش ببعضها حتّى يكون هو الحكم.

شمر بن ذي الجوشن

ومن أركان قيادة يزيد بن معاوية شمر بن ذي الجوشن، ويبدو أنه كان يتمتّع بمكانة خاصة عند عبيد الله، وفي قلوب أفراد عشيرته، وأنه كان وجيه هذه العشيرة، وقائد أفرادها في كربلاء، بدليل أن أكثر المؤرّخين يجمعون عند ذكر

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 99 - 201.

٣٤

قطع رؤوس الشهداء بأن هوازن جاءت بكذا رأس من رؤوس الشهداء مع صاحبهم شمر بن ذي الجوشن(1) ، ومن المؤكد أن ابن ذي الجوشن هذا كان قائداً للقوات الراجلة تحت إمرة سعد، ومن المؤكد أيضاً أن ابن ذي الجوشن هذا كان نائباً لعمر بن سعد بن أبي وقاص، فعندما كان عمر يفاوض الإمام الحسينعليه‌السلام كانت أوامر عبيد الله بن زياد أن قاتل أو سلّم الإمارة لشمر بن ذي الجوشن(2) .

ويبدو واضحاً للعيان أن شمر بن ذي الجوشن لا يكره محمداً وآل محمّد فحسب، بل يحقد عليهم حقداً، وعملاً بالمبدأ السائد « صارت النبوة طريقاً للملك »، فمن المؤكد أن شمراً هذا قد قرأ التاريخ وفهم تفاصيل معركة حُنين، والمواجهة بين قبيلته هوازن وبين النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) ، فامتلأت نفسه بالكره والحقد على محمّد وآله (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ ولأنه لا يستطيع أن يجهر بحقده على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد جهر بكراهيته وحقده على آل النبيعليهم‌السلام ، ولقد تجلى هذا الحقد بأبشع صوره في معركة الطفِّ.

وما يعنينا هو أنه كان الرجل الثالث في تلك القيادة المجرمة.

أركان القيادة الأقزام

وساعد الثلاثة في القيادة مجموعة من أركان القيادة الأقزام الذين لم تكن لهم مكانة الثلاثة الاُول، إلاّ أنهم لعبوا دوراً بارزاً في قيادة الجند الذين اشتركوا بمذبحة كربلاء، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الحصين بن نمير التميمي، وشبث بن ربعي، وكعب بن طلحة، وحجار بن أبجر، ونصر بن حرشة، ومضاير بن رهينة(4) .

ومن الذين قادوا قبائلهم: قيس بن الأشعث، وهلال بن الأعور، وغيهمة بن أبي زهير، والوليد بن عمرو...(5) .

____________________

(1) راجع على سبيل المثال تاريخ الطبري / 467 - 468، والأخبار الطوال للدينوري / 259.

(2) راجع تاريخ ابن الأثير 4 / 23، وتاريخ الطبري 6 / 236.

(3) يمكن الإطّلاع على تفاصيل هذه المواجهة في كتاب المغازي للواقدي 2 / 846، وراجع كتابنا المواجهة / 329.

(4) راجع ابن شهر آشوب 2 / 215.

(5) راجع الأخبار الطوال للدينوري / 259.

٣٥

القبائل التي اشتركت بالمذبحة

نذكر منها على سبيل المثال:

1 - كندة

2 - هوازن

3 - تميم

4 - بنو أسد

5 - مذحج(1)

6 - الأزد

7 - ثقيف(2)

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 467 - 468.

(2) الأخبار الطوال / 259.

٣٦

الفصل الثالث

عدد الفئتين

عدد فئة الإمام الحسينعليه‌السلام

لا نعرف بالتحديد وعلى وجه الدقة واليقين عدد الفئة الأولى التي كان يقودها الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء؛ لأن هذه الفئة مرّت بسلسلة من الظروف والأحوال أثّرت على عددها زيادة ونقصاناً حتّى استقرت نهائياً في العشر الأوائل من شهر محرم.

ولكن بالاستقراء العلمي للمصادر التاريخيّة، والمقاتل، وكتب الزيارات، وروايات الذين توثقت علاقاتهم بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا لهم شيعة، وبحصر الذين نجوا من مذبحة كربلاء، وبإعمال مناهج الاستقراء والاستدلال، والاستنباط والمقارنة، بهذا كله يمكن أن نقف على حقيقة العدد اليقيني.

عدد الناجين من المذبحة

تجمع كافة المصادر التي أشرنا إليها على أن كافة الذكور الذين تتكون منهم الفئة الأولى التي قادها الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء قد قتلوا عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم غير ستة؛ ثلاثة من بني هاشم وهم:

1 - الإمام علي بن الحسين، زين العابدينعليه‌السلام ، فقد كان طريح الفراش ولا يقوى على الحركة.

2 - الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

3 - عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقد كانا(*) طفلين(1) .

ونجا من المذبحة ثلاثة من أنصار الحسينعليه‌السلام من غير الهاشميِّين، وهم:

1 - الضحاك بن عبد الله المشرقي، عاهد الحسينعليه‌السلام بالقتال معه ما كان القتال

____________________

(*) إنّ هذا التعليل يمكن أن يرد على عمر ابن الإمام الحسنعليه‌السلام ، أمّا على أخيه الحسن المثنى فإنّه غير واردٍ؛ إذ الحسن هذا قد اشترك مع عمّه الحسينعليه‌السلام في المعركة إلاّ أنه جُرج حينها، فأخذه خاله أسماء بن خارجة - الذي كان مع الجيش الاُموي - وداواه فشُفي بعد ذلك.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(1) راجع على سبيل المثال تاريخ الطبري 5 / 466.

٣٧

نافعاً، فإن لم يجد مقاتلاً معه كان في حلٍّ من العهد. وقد انسحب هذا الرجل عندما لم يعد قتاله مجدياً.

2 - عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الإمام الحسينعليه‌السلام الذي قال لعمر بن سعد عندما وقع بين يديه: أنا عبدٌ مملوك. فتركه.

3 - المرفع بن ثمامة الأسدي، جاء وقومه بالمراحل الأخيرة من القتال، وهو يقاتل عندما لم يك القتال مجدياً، فأعطوه الأمان وأخذوه معهم(1) .

وقد أجمعت كافة المصادر على أنه عندما قُتل كافة أنصار الإمام الحسينعليه‌السلام من غير بني هاشم، وبعد أن قُتل ذكور آل محمّد وأهل بيت النبوة، ركب الحسينعليه‌السلام جواده، وامتشق حسامه، وأخذ يقاتل جيش الخليفة وحيداً، ولمّا عقروا جواده قاتل جيش الخلافة راجلاً، واستمر بالقتال وحيداً حتّى أثخنته الجراح وقُتل.

وبقتله، وبقطع رؤوس الشهداء، وبالدوس على جثثهم بسنابك الخيل، وأخذ ملابسهم التي كانوا يرتدونها غنائم للقتلة، وبالتمكن من بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذهن سبايا أخذت مذبحة كربلاء صورتها النهائية، بمعنى أن الإمام الحسينعليه‌السلام عملياً كان يدير القتال والعمليات العسكرية، ولم يقاتل قتالاً فعلياً إلاّ بعدما اُبيدت فئته وأصبح وحيداً أمام جيش القتلة.

رؤوس الشهداءعليهم‌السلام

يمكن أن نستدل على عدد الفئة التي كان يقودها الإمام الحسينعليه‌السلام بعدد رؤوس شهداء هذه الفئة التي حزّها وقطعها القتلة بعد قتل الشهداء؛ لينالوا بهذه الرؤوس الحظوة عند الخليفة وأركان دولة الخلافة، ويثبتوا رجولتهم وشجاعتهم لعل الخليفة يرضى منهم ويأمر لهم ببعض المال.

ويبدو أن هنالك أتفاقاً على عدد رؤوس الشهداء، قال الطبري بروايته عن شاهد عيان من جيش الخلافة: « فقطف رؤوس الباقين، فسرّح باثنين وسبعين رأساً »(2) .

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 389 و 418 و 444 و 445 و 454.

(2) راجع تاريخ الطبري 5 / 455 - 456.

٣٨

وقال الدينوري: « وحملت الرؤوس على أطراف الرماح، وكانت اثنين وسبعين رأساً »(1) .

وقال الشيخ المفيد: « وسرّح عمر بن سعد... برأس الحسين، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقُطعت، وكانوا اثنين وسبعين رأساً »(2) .

وقال المجلسي في بحار الأنوار: « إنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً »(3) .

عدد الشهداءعليهم‌السلام

يبدو أن عدداً من الشهداء لم تُقطع رؤوسهم؛ ومتابعة لاستقصائنا عن عدد الفئة الأولى التي كان يقودها الإمام الحسينعليه‌السلام نذكر طائفة من الروايات التي تحدثت عن عدد القتلى من فئة الإمام الحسينعليه‌السلام .

قال المسعودي: « وكان جميع من قتل مع الحسين في يوم عاشوراء بكربلاء سبعة وثمانين، منهم ابنه علي بن الحسين »(4) .

وقال الطبري في رواية له: « فقتل من أصحاب الحسين 72 رجلاً »(5) .

وقال الطبري في رواية اُخرى: « أقبل زحر بن قيس حتّى دخل على يزيد بن معاوية، فقال: ما وراءك، وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره؛ ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فأحطنا بهم حتّى أتينا على آخرهم »(6) .

عدد الفئة الأولى

قال الطبري في رواية له عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين، الإمام

____________________

(1) الأخبار الطوال / 259.

(2) الإرشاد / 243.

(3) بحار الأنوار 45 / 62.

(4) راجع مروج الذهب للمسعودي 3 / 71.

(5) راجع تاريخ الطبري 5 / 455.

(6) راجع تاريخ الطبري 5 / 459 - 460.

٣٩

الباقرعليه‌السلام ....: « فلمّا رأى ذلك عدل إلى كربلاء، فنزل وضرب ابنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارساً ومئة راجلاً »(1) .

وفي رواية ثانية للطبري: « وإنهم لقريب من مئة رجل، فيهم لصلب علي بن أبي طالب خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر... »(2) .

وروى الطبري أيضاً: « وعبأ الحسين أصحابه، وصلّى بهم الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً »(3) .

قال الدينوري: « وعبأ الحسين أيضاً أصحابه، وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً »(4) .

وقال اليعقوبي: « وكان الحسين في اثنين وستين أو اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته وأصحابه »(5) .

وقال الخوارزمي: « ولما أصبح الحسين عبأ أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً »(6) .

القول الفصل

قال الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في كتابه « أنصار الحسين »، والذي اعتمدنا عليه في هذه الناحية: « نلاحظ قبل أن نذكر تقديرنا الخاص في المسألة أن عدد أصحاب الحسين لم يكن ثابتاً في جميع المراحل، منذ الخروج من مكة إلى ما بعد ظهر اليوم العاشر من المحرم في كربلاء، وإنما كان العدد متقلّبا عند الخروج من مكة بالعدد الذي ذكره الخوارزمي « 82 »، ثمَّ ازداد العدد كثيراً في الطريق، ثمَّ تقلّص حتّى عاد إلى العدد الأوّل « 82 » رجلاً.

وربما يكون قد نقص

____________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 389.

(2) تاريخ الطبري 5 / 392 - 393.

(3) تاريخ الطبري 5 / 422 و436.

(4) الأخبار الطوال / 256.

(5) تاريخ اليعقوبي 2 / 230.

(6) مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي 2 / 4.

٤٠