كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 22988
تحميل: 5068

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22988 / تحميل: 5068
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويزيد بن معاوية ليس غريباً على البطون؛ فجدّه أبو سفيان هو الذي قاد البطون ووحّدها للوقوف ضد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لمحاربة محمّد، ومعاوية والد يزيد هو الذي قاد البطون ووحّدها لحرب عليعليه‌السلام . ثمَّ إن يزيد موتور، شأنه شأن كل واحد من أبناء البطون، وتشترك بطون قريش الـ 23 بكراهية آل محمّد والحقد عليهم، ورفضها المطلق لقيادتهم وإمامتهم وخلافتهم.

2 - ووقف المنافقون من أهل المدينة وممن حولها من الأعراب، ومن خبث من ذرّياتهم، ومنافقوا مكة ومَن حولها جميعاً مع يزيد بن معاوية، لا حباً بيزيد، ولا حباً ببطون قريش، ولكن كراهية وحقداً على محمّد وآل محمّد، وطمعاً بهدم أساسيات الدين بيد معتنقيه، وقد اعتقدوا أن الفرص قد لاحت لإبادة آل محمّدعليهم‌السلام إبادة تامة؛ لذلك أيدوا يزيد بن معاوية.

3 - ووقفت المرتزقة من الأعراب مع يزيد أيضاً، وقد وجدت ظاهرة الارتزاق جنباً إلى جنب مع ظاهرة النفاق، ومات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبقيت الظاهرتان، والمرتزقة قوم لا مبادئ لهم إلا مصالحهم، مهنتهم اقتناص الفرص، وتأييد المواقف، وترجيح الكفّات، والانقضاض على المغلوب، وهم على استعداد لمناصرة من يدفع لهم أكثر كائناً من كان. ولا فرق عندهم سواء أيّدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أم أيدوا الشيطان، فهم يدورون مع النفع العاجل حيث دار.

انظر إلى قول سنان بن أنس - قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام - لعمر بن سعد بن أبي وقاص عندما جاءه طالباً المكافأة على قتل الحسينعليه‌السلام :

اِملأ ركابي فضة أو ذهبا

إني قتلتُ السيد المحجبا

وخيرهم من يذكرون النسبا

قتلتُ خير الناس اُمّاً وأبا(1)

فاللعين يعرف الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويعرف مكانته العلية، ولكن ما يعني هذا التافه هو المال. أعطه المال وكلّفه بقتل نبي يقتله مع علمه بأنه نبي، أو كلّفه بقتل الشيطان يقتله إن رآه، وبأعصاب باردة، لا فرق عنده بين الاثنين.

لقد أدركت المرتزقة بأن الإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام سيُغلَبون، وأنّ يزيد

____________________

(1) مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام - السيد المقرم / 304، دار الأضواء - بيروت / 1979 م.

٦١

سينتصر وسيعطيهم بعض المال؛ لذلك أيّدوا يزيد بن معاوية.

4 - الأكثرية الساحقة من الأنصار وقفت مع يزيد بن معاوية؛ فقد بايعته أو قبلت به، أو تظاهرت بقبوله، فليس وارداً على الإطلاق أن تقف مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، وليس وارداً أن تعصي أمر يزيد بن معاوية.

فلو طلب منها يزيد أن تميل على الإمام الحسين وأهل بيت النبوة فتحرق عليهم بيوتهم وهم أحياء لأجابته أكثرية الأنصار إلى ذلك؛ فللأنصار تاريخ بالطاعة؛ فالسرية التي أرسلها الخليفة الأوّل وقادها الخليفة الثاني لحرق بيت فاطمة بنت محمّد على مَن فيه - وفيه علي، والحسن والحسين، وفاطمة بنت محمّد، وآل محمّد (صلوات الله عليهم جميعاً) - كانت من الأنصار(1) ؛ لذلك يمكنك القول وبكل ارتياح: إن أكثرية الأنصار كانت سيوفهم مع يزيد وتحت تصرفه، وكانوا عملياً من حزبه، ومن حزب خلفاء البطون، أو على الأقل ليسوا من حزب أهل بيت النبوة.

5 - المسلمون الجدد الذين دخلوا في الإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح كانوا بأكثريتهم الساحقة مع يزيد بن معاوية؛ لأنهم فهموا الإسلام على طريقة قادة البطون وأبنائها، وتلقّوا تعليمهم في مدارس البطون، وأكثريتهم لا يعرفون أهل بيت محمّد، ولا ذوي قرباه، ويجهلون تاريخهم الحافل بالأمجاد؛ لأن الخلفاء وأبناء بطون قريش الـ 23 تعمّدوا تجهيل الناس بذلك.

بل وأبعد من ذلك فإنّ أكثريتهم يعتقدون أن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قاتل مجرم « حاشاه »، وأنه وأهل بيت النبوة ينازعون الأمر أهله، وأنهم أعداء للدين، وإلاّ فلماذا فرض « الخليفة معاوية » سبه ولعنه على رعايا الدولة؟! ولماذا أصدر الخليفة معاوية أمراً بقتل كل من يوالي علياً وأهل بيته(2) ؟! لذلك وقفت الأكثرية الساحقة من المسلمين الجدد مع يزيد بن معاوية.

6 - ووقف مع يزيد بن معاوية أبناء وبطون وشيع الخمسة الذين عرفوا

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 2 / 443 - 444، وشرح نهج البلاغة 1 / 130 - 134 لتجد أسماء الأنصار الذين اشتركوا بعملية التحريق.

(2) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 / 595، تحقيق حسن تميم.

٦٢

« بأهل الشورى »، ويكفي أن تعلم بأن مذبحة كربلاء قد نُفّذت على يد عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان أبوه أحد الخمسة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لمنافسة علي بن أبي طالبعليه‌السلام صاحب الحق الشرعي بالإمامة من بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

7 - كذلك وقف مع يزيد بن معاوية أبناء الخلفاء الذين استولوا على مقاليد الاُمور من بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووقفت معهم أيضاً بطون الخلفاء وشيعهم، ويكفي أن تعلم بأن عبد الله بن عمر بن الخطاب كان من أكثر المتحمسين لبيعة يزيد بن معاوية، ومن أكثر المشجعين على هذه البيعة، وهو نفسه الذي امتنع عن مبايعة علي بن ابي طالبعليه‌السلام !

الأكثرية مع يزيد

مَن يصدّق أن أكثرية الاُمّة الإسلاميّة وقفت مع يزيد بن معاوية وضد الإمام الحسينعليه‌السلام ، والأقلية هي التي وقفت مع الإمام الحسين ضد يزيد بن معاوية! مَن يصدق ذلك! لقد تتبعنا كافة الشواهد، واستقرأنا حقيقة تلك الفترة فصدمتنا هذه الحقيقة المرة.

التاريخ الحافل بالمخازي

من يقرأ تاريخ الاُمم والشعوب يستنتج أن الأكثرية الساحقة من كلِّ اُمّة من اُمم الأرض، وكلّ شعب من شعوبها قد اتخذت دائماً مواقف مخجلة يصعب الدفاغ عنها؛ لأنها مكللة بالخزي والعار حقاً؛ فالأكثرية الساحقة من كل اُمّة من اُمم الأرض، وكلّ شعب من شعوبها وقفت وقفة رجل واحد مع طاغوتها ضد نبيها، معاندة له، ومكذبة به، ورافضة الحق الذي جاء به!

لقد ساق القرآن الكريم كماً هائلاً من الأمثلة على تلك المواقف المخجلة لتلك الأكثريات، قال تعالى:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ) (سورة ص / 12 - 14 ).

وبين القرآن الكريم بعض صفات الأكثرية في كلِّ اُمّة وشعب، وكشف حقيقة هذه الأكثرية بكم وكيف هائل من الآيات، فقال تعالى بهذا

٦٣

المجال( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) ( سورة البقرة / 243 )،( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ( سورة الأنعام / 116 )،( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يعلمون ) ( سورة الأعراف / 187 )،( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يؤمنون ) ( سورة هود / 17 )،( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) ( سورة الأسراء / 89 )،( مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُون ) ( آل عمران / 110 ).

فالأكثريّة الساحقة من الاُمّة المصرية وقفت مع فرعونها الذي فرض نفسه عليها بالقوة والقهر والغلبة، وتخلّت هذه الأكثريّة عن موسى وهارون وخذلتهما، ووافقت هذه الأكثريّة على الانخراط بالجيش الذي أعدّه فرعون لقتل موسى وهارون ومَن آمن معهما، وسارت الأكثريّة بالفعل لارتكاب مذبحة على شاكلة مذبحة كربلاء، ولكن المذبحة لم تحدث؛ لسبب لا يد لهذه الأكثريّة فيه.

والأكثريّة الساحقة من رعايا دولة نمرود وقفت مع نمرودها الطاغية وقفة رجل واحد ضد إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، واشتركت بجمع الحطب، وشهدت عملية إحراق إبراهيم، تلك العملية التي فشلت لسبب سماوي. لم تخجل تلك الأكثريّة عندما أجمعت كلها على مواجهة رجل واحد، وعندما اجتمعت لتتلذذ برؤية إبراهيم وهو يحترق!

ما هي مصلحة أكثريّة اُمّة فرعون واُمّة نمرود لتفعل ما فعلت؟ إنه لا مصلحة لاُمّة بقتل من يحاول إنقاذها بن براثن العبودية. وما ارتكبت كل اُمّة من الأمم السابقة مخازيها إلاّ مجاراة لطاغيتها، وابتغاء لمرضاته، وانسياقاً أهوج مع التيار تحت دعاوى الدفاع عن مصالحها الموهومة وقيمها الفاسدة.

المواقف المخجلة لماذا؟

الأكثريّة الساحقة من كلِّ اُمّة من اُمم الأرض ليست شيعة واحدة كما يتصور بعض القراء، أو حزباً واحداً، إنما تتكون تلك الأكثريّة من مجموعة كبيرة من الشيع أو الأحزاب التي تحالفت مع بعضها، ومع طاغوتها، وأقامت نظام الحكم الذي يقوده ويرمز لوحدته طاغوتها، وبالتالي فهي منتفعة من بقاء هذا النظام، وتعتقد أن لا مصلحة لها بتغييره؛ فهي تعتقد أن تغيير النظام يؤدي لضياع مكتسباتها

٦٤

وحصتها بالسلطة، ومنافعها الحاصلة والمأمولة.

وتنظر هذه الأكثريّة إلى النبي - أي نبي - أو المصلح - أي مصلح - على أساس أنه جاء ليسلبها مكتسباتها بدعاوى موهومة، وربما كانت هذه الأسباب وراء المواقف المخجلة لكل أكثريّة من أكثريات الأمم التي كذبت أنبياءها ورسلها، والمصلحين المشفقين عليها، ووقفت مع طاغيتها ضدهم، علاوة على حالة القسر الاجتماعي التي يخلقها الانسياق أو التوجه العام.

الأقليّة ومواجهة الأكثريّة

الذين آمنوا من كل اُمّة أقلية، حقاً أقلية لا يتجاوزون أصابع اليدين، فماذا عسى هذه الأقلية أن تفعل لمواجهة أكثريّة تتكون من الآلاف أو عشرات الآلاف أو مئات الآلاف؟

إنّ مواجهة مسلحة تسعى إليها القلة المؤمنة هي بمثابة انتحار حقيقي ستؤدي إلى قتل النبي وإبادة الذين آمنوا معه؛ لتخلو الساحة كلياً، وتبقى للأكثريّة المجرمة. من هنا ابتعد كل نبي من الأنبياء، وكل رسول من الرسل، وكل أقلية من الأقليات التي آمنت بكلِّ واحد منهم عن المواجهة المسلحة مع الأكثريّة الفاسدة.

وبالوقت نفسه الذي بقي فيه كل نبي متمسكاً بالإعلان عن عدم شرعية نظام الأكثريّة، وفساد قيم هذه الأكثريّة، مع الاستمرار بحملة الإصلاح، وأقتصر دور الأقلية على تصديق الرسول أو النبي، والإيمان به وموالاته، والسعي السري لنشر مبادئه لمن يتقبلها.

الله في مواجهة الأكثريّة

عندما وقفت الأكثريّة من كل اُمّة ضد نبيها ومَن معه، وكذبته وعزلته عزلاً اجتماعياً كاملاً، ونفرت منه، وقاومت دعوته لإصلاح الفساد المتفشي في أوساط تلك الأكثريّة، وحالت بينه وبين كشف الحقائق.

عندما فعلت كل ذلك فقد أجرمت حقاً، ولا بدّ من أن ينال المجرم عقابه العاجل؛ لذلك فإن الله سبحانه وتعالى تولى أمر مواجهتهم بوسائله وجنوده؛ فأهلك الأكثريّة الفاسدة من قوم نوح، وعاد، وفرعون، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، وبالطرق التي بيّنها

٦٥

القرآن الكريم تفصيلاً. وكانت عمليات الإهلاك تتم بعد تجاوزهم للمدى، وبعد اليأس من صلاحهم.

٦٦

الفصل الثاني

الموقف النهائي لأكثريّة الاُمّة الإسلاميّة من مذبحة كربلاء

الامتناع عن البيعة

أصل المذبحة ونواتها أن الإمام الحسينعليه‌السلام امتنع عن بيعة يزيد بن معاوية، وتبعاً لامتناعه امتنع آل محمّد وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ؛ لأن الإمام الحسين قد قدّر بأن بيعته ليزيد تتناقض تماماً مع الشرع، ومع الحقيقة، ومع معتقداته، وخط الكمال الإسلامي الذي يمثله.

وأن بيعته ليزيد ستكون بمثابة اعتراف بشرعية خلافة غير شرعية، وفتوى ضمنية بأهلية يزيد للخلافة وهو الرجل الذي يجاهر بفسقه ومجونه وحتّى بكفره. والإمام الحسينعليه‌السلام على علم يقيني بحقيقة الأوضاع كلها، وأنه لا طاقة له ولا لأهل بيته بالدخول بمواجهة مسلحة مع الخليفة وأركان دولته.

كان هم الإمام الحسينعليه‌السلام منصباً بالدرجة الأولى على العثور على مكان آمن يستطيع فيه أن يحافظ على نفسه وأهل بيت النبوة وعلى موقفه، وعلى فئة من الناس تجيره وتجير أهله وتجير موقفه، وتمكنه من بيان الأسباب التي دعته للامتناع عن بيعة يزيد؛ ليكون هذا البيان صرخة لإيقاظ النائمين، ومحاولة جدّية لإصلاح هذه الاُمّة. لقد حلل الإمام الحسين واقع الاُمّة تحليلاً دقيقاً.

الامتناع عن بيعة الخليفة حالة معروفة عند الاُمّة

1 - امتناع الإمام عليعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر

لقد امتنع علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر، الخليفة الأوّل، وقال له: « أنا أحقُّ منك بهذا الأمر »؛ وتبعاً لامتناع الإمام عليعليه‌السلام امتنع بنو هاشم كلهم عن البيعة، ولم يبايعوا إلاّ بعد ستة أشهر، وبعد أن بايع عليعليه‌السلام (1) .

____________________

(1) راجع تيسير الوصول 2 / 46، قال: ولا أحد من بني هاشم. وراجع تاريخ الطبري 2 / 448، وصحيح البخاري - كتاب « المغازي » - باب « غزوة خيبر » 3 / 38، وصحيح مسلم 1 / 72، وابن =

٦٧

2 - امتناع بعض كبار الصحابة عن بيعة أبي بكر

كان قسم كبير من كبار الصحابة يعتقدون أن علي بن أبي طالب هو أولى بالخلافة من أبي بكر؛ لذلك لم يبايعوا أبا بكر، نذكر منهم: فروة بن عمرو(1) ، وخالد بن سعيد الأموي، وقد أسلم قبل إسلام أبي بكر(2) ، والبراء بن عازب، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري(3) ... إلخ.

3 - في خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام

وعندما تولّى علي بن أبي طالب الخلافة، ووفق النمط الذي اخترعه قادة البطون امتنعت مجموعة من الناس عن بيعته، مثل: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة... إلخ.

ولم يكرههم الإمامعليه‌السلام على البيعة، بل غادر الإمام وجيشه المدينة وتركهم وأمثالهم دون التعرض لهم. ولم يزد الإمام عليعليه‌السلام بعد أن أقام الحجة عليهم على القول: « أمّا ابن عمر فضعيف، وأمّا سعد فحسود، وذنبي إلى محمّد بن مسلمة أني قتلت أخاه يوم خيبر »(4) « مرحب اليهودي ».

الامتناع عن البيعة والقتل

صحيح أن الخليفة الأوّل قد هدد الإمام علياًعليه‌السلام بالقتل إن لم يبايع(5) ، ولكنه لم يقتله بالرغم من أنه امتنع عن البيعة ستة أشهر كما وثّقنا قبل قليل، وصحيح أيضاً أن الخليفة الأوّل ومَن يأتمر بأوامره همّوا بإحراق بيت فاطمة بنت محمّد على من

____________________

= كثير 5 / 285 - 286، والاستيعاب لابن عبد البر 2 / 244، حيث قال: « إن الإمام علي لم يبايع إلاّ بعد موت فاطمة ». وفي اُسد الغابة 3 / 222 بترجمة أبي بكر، قال: « كانت بيعتهم بعد ستة أشهر على الأصح ». وقال اليعقوبي في 2 / 105 من تاريخه: « لم يبايع علي إلاّ بعد ستة أشهر ».

(1) الموفقيات / 590 للزبير بن بكار.

(2) المعارف لابن قتيبة / 128، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 13.

(3) تاريخ الخميس 1 / 188، والعقد الفريد لابن عبد ربه 3 / 64، وتاريخ أبي الفداء 1 / 156.

(4) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري 1 / 54.

(5) المصدر نفسه / 13.

٦٨

فيه، وفيه علي بن أبي طالب والهاشميّون، ونفر ممّن تعاطف معهم بسبب عدم مبايعتهم له(1) ، ولكنهم توقفوا عن عملية إحراق البيت بعد أن خرج الموالون لعلي وبايعوا. وصحيح أيضاً أن عمر بن الخطاب قد أصدر أمراً بقتل سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة؛ لامتناعه عن البيعة، ولكن الأمر لم ينفذ، ولم يُقتل سعد إلاّ في ما بعد، وخفية.

قتل سعد بن عبادة بسبب امتناعه عن البيعة

هنالك حادثة قتل بسبب الامتناع عن البيعة مكشوفة ولا يمكن إنكارها، وهي حادثة قتل سعد بن عبادة سيد الخزرج. وكان قتل سعد بعد صبر طويل، وبعد أن ضاق الخليفة عمر بن الخطاب ذرعاً بعناد سعد بن عبادة؛ إذ إن عمر بن الخطاب بوصفه نائباً للخليفة الأوّل قد أصدر أمراً لأتباعه في سقيفة بني ساعدة بقتل سعد بن عبادة؛ لامتناعه عن البيعة(2) ، ولكن لأسباب أمنية، وبناء على نصيحة أحد أصفياء دولة البطون رُئي عدم قتل سعد في حينها(3) ، ومات الخليفة الأوّل ولم يبايع سعد.

وآلت الخلافة إلى عمر بن الخطاب ولم يبايعه سعد أيضاً، وحدث حوار بالصدفة بين سعد وعمر بن الخطاب انتهى برحيل سعد عن المدينة إلى الشام(4) ، فأرسل عمر بن الخطاب في أثره رجلاً من الأنصار ليطلب البيعة منه، وأمره أن يقتله إن أبى البيعة، ولحق الرجل، وعرض عليه البيعة فأبى سعد، فرماه مبعوث عمر بسهم فقتله(5) .

وقيل: إن الذي أرسله عمر لقتل سعد هو

____________________

(1) العقد الفريد لابن عبد ربه 3 / 64، وتاريخ أبي الفداء 1 / 156، وأنساب الأشراف للبلاذري 1 / 586، وكنز العمال 3 / 140، والرياض النضرة للطبري 1 / 167، وتاريخ ابن شحنة / 113 بهامش الكامل لابن الأثير 11، ومروج الذهب للمسعودي 2 / 100، وتاريخ اليعقوبي 2 / 105، ومعالم المدرستين للعسكري 1 / 127.

(2) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 10.

(3) المصدر نفسه.

(4) راجع الرياض النضرة للطبري 1 / 168، والطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق 2 / 145، وابن عساكر بترجمة ابن سعد من التهذيب، وكنز العمال 3 / 134 حديث 2296، والسيرة الحلبية 3 / 367.

(5) راجع أنساب الأشراف للبلاذري 1 / 589، والعقد الفريد لابن عبد ربه 3 / 64 - 65.

٦٩

محمد بن مسلمة(1) ، وقتل سعد بطريقة سرية من دون إعلام(2) ، وقد قُتل سعد وهو جالس يتبول في نفق(3) .

إذا استثنينا حالة سعد بن عبادة الذي قُتل بالطريقة التي وصفناها باختصار قبل قليل، فإن الخلفاء الثلاثة الاُول من أبناء البطون نادراً ما قتلوا من يمتنع عن بيعتهم، إنما كان القتل عندهم إجراء احتياطياً، من قبيل: وآخر الدواء الكي.

وكانوا يتخذون سلسلة من الإجراءات بحق الممتنعين عن البيعة، فيعزلونهم اجتماعياً، وينفرون الناس منهم، ويحرمونهم من الحقوق المقررة لهم، ومن الوظائف العامة، ويضيقون عليهم أسباب المعيشة والرزق، ولا يستخدمونهم لأي أمر من الاُمور العامة.

هذه الإجراءات كانت كافية لعقاب الممتنعين عن البيعة، وحافزاً لهم لإعادة النظر بقرار الامتناع عن البيعة. وغالباً ما كانت هذه الإجراءات ناجحة؛ إذ تجعل مَن يمتنع عن البيعة عبرة لغيره، وتقتله ولكن ببطء، ودون حاجة لسلِّ السيف وإراقة الدماء وإحراج الخليفة وأركان دولته.

موقف الخليفتين

لم ينفّذ الخليفة الأوّل ونائبه تهديدهما بقتل الإمام علي إن لم يبايع، وأوقفوا مشروعهما بحرق البيت على مَن فيه بعد أن شرعوا بالحريق فعلاً. لقد اكتشف الخليفتان أن هنالك إجراءات تغني عن القتل وعن الإحراق، وأنه من غير اللائق بمكانتهما أن يحرقوا ابن عم صهرهما محمداً وطفليه، وابنته الزهراء، وأقاربه الهاشميِّين؛ لأن هذا سيسبب لهما ولمَن والاهما حرجاً بالغاً.

وهنالك من الوسائل ما يغنيهما عن القتل والإحراق، وينالا بها العافية؛ فاتخذ الخليفة ونائبه سلسلة من القرارات الاقتصاديّة التي مسّت الإمام علياًعليه‌السلام ، وأهل بيت النبوة خاصة والهاشميِّين عامة.

____________________

(1) راجع معالم المدرستين للسيد العسكري 1 / 133.

(2) العقد الفريد لابن عبد ربه 4 / 259 - 260.

(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق 2 / 145، وابن قتيبة في المعارف / 113.

٧٠

1 - لقد قرر الخليفة ونائبه حرمان أهل بيت النبوة من إرث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

2 - وقررا حرمان أهل بيت النبوة من المنح التي أعطاها لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومصادرة هذه المنح(2) .

3 - وقررا أيضاً حرمان أهل بيت النبوة والهاشميِّين من الخمس الوارد في القرآن الكريم، والمخصص لهم كحق ثابت(3) .

ولمّا ضجّ أهل بيت النبوة من قسوة هذه القرارات الموجعة وتساءلوا: كيف نعيش؟ وماذا نأكل؟ تبرع الخليفة ونائبه أن يعولوا وينفقوا على أهل بيت النبوة، ومن كان النبي ينفق عليهم(4) ، بمعنى أن الخليفة الأوّل والثاني استعاضا عن القتل والإحراق بوسائل أكثر تحضّراً وتهذيباً، وأنهما كانا حتّى على استعداد فعلي لتقديم الطعام والنفقة لمن امتنعوا عن البيعة.

كان الممتنعون عن البيعة آمنين على أرواحهم ودمائهم وأبنائهم، ولم يقل أحد إن القتل هو الوسيلة المألوفة للحصول على بيعة الرعية أو بيعة كبار الشخصيات.

أمر مستهجن

البيعة في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سواء للدخول في الدين أو القبول بولايته وقيادته

____________________

(1) راجع صحيح الترمذي 7 / 111، وتاريخ ابن الأثير 5 / 286، وكنز العمال 5 / 365، وطبقات ابن سعد 3 / 315 و 5 / 77، ومسند أحمد 1 / 4 ح 14 و 10 ح 60، وسنن أبي داود 3 / 50، وتاريخ ابن كثير 5 / 389، وتاريخ الذهبي 1 / 346، وشرح نهج البلاغة 4 / 81 نقلاً عن الجوهري في كتابه السقيفة.

(2) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي 2 / 34 - 35، وشرح نهج البلاغة 4 / 81 نقلاً عن الجوهري، وتاريخ الإسلام للذهبي 1 / 347، وكنز العمال 5 / 367، وراجع التفصيل في كتابنا المواجهة / 541.

(3) المصدر نفسه(*).

(4) راجع صحيح البخاري 2 / 200 باب « مناقب قرابة الرسول »، وسنن الترمذي 7 / 111، وسنن أبي داود 3 / 49 كتاب « الخراج »، وسنن النسائي 2 / 179، ومسند أحمد بن حنبل 1 / 6 - 9.

____________________

(*) هكذا ورد في الأصل، ولا نعلم هل أن مراد المؤلِّف هو المصادر السابقة كلّها أو خصوص كتابه الأخير المسمى المواجهة.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

٧١

كانت من الاُمور الرضائية البحتة؛ لأن البيعة عقد بين طرفين، ولا عقد دون الرضا التام؛ فلم يصدف بتاريخ النبوة المحمدية أن أجبر رسول الله أحداً من الناس ليبايعه للدخول في الدين أو القبول بولايته وقيادته.

إنّ كل الذين بايعوه على الدخول في الدين أو القبول بولايته وقيادته بايعوا بمحض اختيارهم ورضاهم التام من دون إكراه. تلك حقيقة مطلقة وثابتة لا يماري فيها إلاّ جاهل(1) .

وبعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله توصّل الخلفاء الثلاثة إلى قرار استبعاد القتل للحصول على بيعة القبول بقيادتهم، وجعل القتل وسيلة احتياطيّة، لا يصار إليها إلاّ عند الضرورة القصوى. واستعاض الخلفاء الثلاثة عن القتل بوسائل اُخرى، سقنا قبل قليل أمثلة منها.

ومن هنا فإن ملاحقة الإمام الحسينعليه‌السلام ومطاردته، والإصرار على ضرورة مبايعته ومن معه أو قتلهم أمر في غاية الغرابة والاستهجان، فلو ترك الإمام الحسينعليه‌السلام وشأنه لما جاء منه خطر يذكر على دولة بني اُميّة؛ لأن الأكثريّة الساحقة من الاُمّة كانت سادرة ولاهية عنه بدنياها.

معاوية أول مَن سنَّ القتل والإرهاب

للاستيلاء على منصب الخلافة وأخذ البيعة

حب القيادة والدفاع عنها

كانت قيادة بطون قريش في الجاهليّة لأبي سفيان بلا خلاف، وعندما أعلن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نبأ النبوة والرسالة أدرك أبو سفيان بأن قيادته في خطر، وأدركت بطون قريش الـ 23 أن الصيغة السياسية الجاهليّة القائمة على اقتسام مناصب الشرف بين البطون قد أصبحت في خطر أيضاً، وأن النبوة مؤامرة هاشميّة على أبي سفيان

____________________

(1) راجع محاسن التأويل للقاسمي 16 / 5776، وراجع صحيح البخاري كتاب البيوع، وصحيح مسلم كتاب الأقفية، والتفسير الحديث عن عزة دروزه 2 / 24 - 25 و 29 وج 15 / 5401 و 5416 من محاسن التأويل، وسيرة ابن [هشام] 1 / 432 و 433 و 441 و 446 و 449 لنرى بعض نماذج من بيعة المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٧٢

والاُمويِّين خاصة، وعلى بطون قريش الـ 23 عامة.

فشمّر أبو سفيان عن ساعده، ووحّد بطون قريش الـ 23، وشكّل منها وممن والاها من العرب جبهة قوية واحدة، وتولّى هو وأبناؤه الثلاثة: حنظلة ويزيد ومعاوية قيادة هذه الجبهة؛ لتقف وقفة رجل واحد ضد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضد البطن الهاشمي الذي احتضن النبي، وضد الدين الذي جاء به الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقاد الثلاثة موجات العداوة لمحمد ولبني هاشم، وللدين الذي جاء به محمّد طوال الفترة التي قضاها النبي في مكة قبل الهجرة والتي استمرت 15 عاماً. ولمّا علم الثلاثة بعزم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على الهجرة خططوا لقتل النبي، وشرعوا بالقتل بالفعل، ولكن المؤامرة فشلت لأسباب لا يد للثلاثة فيها.

الحقد الأسود وضرورة الثأر

لما استقر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في يثرب جيّش أبو سفيان وأولاده الثلاثة الجيوش، وخاضوا مع النبي حرباً دموية دامت ثماني سنوات؛ قتل خلالها حنظلة بن أبي سفيان، وعتبة جد معاوية، وشقيق عتبة عم هند اُم معاوية، والوليد خال معاوية، وبضعة عشر رجلاً من عمومة معاوية(1) ، وقرابة ستين رجلاً من صناديد بطون قريش الـ 23.

وأكثرهم قد قتل بيد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ابن عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيد حمزة عم النبي، فتأججت نيران الحقد في قلوب أبي سفيان وابنيه معاوية ويزيد، وأبناء بطون قريش الـ 23، واستقرت في قلوبهم نهائياً فكرة الثأر وهواجسه، ومبررات دوام العداء.

الإدمان على العنف والتسلّط

طوال 23 عاماً وأبو سفيان وأبناءه يزيد ومعاوية يقودون موجة العداء ضد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويؤذونه بكل وسائل الإيذاء، ويقاومونه بكل طرق المقاومة، ويحاربونه بكل فنون الحرب.

لقد اكتسب الثلاثة خبرة هائلة بتلك المجالات، ونشؤوا نشأة عدوانية حربية أساسها العنف، وصورت لهم فكرة الثأر من قتلة « الأحبة » ملايين

____________________

(1) راجع المغازي للواقدي 1 / 147 - 148، وكتابنا المواجهة / 165.

٧٣

الصور المليئة بالرعب والعنف، فأدمنت عائلة أبي سفيان على العنف والأذى؛ إنهم لا يرحمون ضحاياهم ومَن يقع بين أيديهم، ولا يتورعون عن استعمال أية وسيلة للتنكيل بخصومهم. قد يصبرون ولكنهم لا ينسون أبداً. إنهم يكرهون خصمهم حياً وميتاً.

خذ على سبيل المثال اُمّ معاوية هند بنت عتبة، وهي امرأة، والمرأة على الغالب ترمز للرحمة، وتجنح للموادعة، لكنّ هنداً لم تكتف بأن يخرج زوجها وأبناؤها لمعركة اُحد، بل أصرت على الخروج بنفسها، وحملت نساء البطون على الخروج لتشهد العنف والدم على الطبيعة.

لقد تيقنت من قتل حمزة عم النبي، لكنها لم تكتفِ بقتله، بل سارت بخطى ثابتة حتّى وقفت بجانب جثته، وبأعصاب باردة شقّت بطن حمزة وهو ميت واستخرجت كبده، وحاولت أن تأكله، ثمَّ قطعت أذنيه وأنفه ومثّلت به أشنع تمثيل. فإذا كانت المرأة منهم تفعل بضحيتها هكذا، فكيف يفعل أبو سفيان ومعاوية وذرّيتهم بضحاياهم؟!

هذه هي البيئة الدموية التي تربّى فيها يزيد بن معاوية، مهندس مذبحة كربلاء؛ فأبوه معاوية، وجده أبو سفيان، وجدته هند، لقد ورث العنف والتنكيل بخصومه كابراً عن كابر.

بعد 23 عاماً من قيادة أبي سفيان وابنيه يزيد ومعاوية لجبهة الشرك فوجئوا بجيوش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تدخل مكة دخول الفاتحين، فاستسلم الثلاثة، وباستسلام الثلاثة استسلمت جبهة الشرك كاملة. وتلفّظ أئمة الكفر وقادة الشرك الثلاثة بالشهادتين مكرهين، وتبعاً لهم تلفّظ أفراد وجماعات جبهة الشرك بالشهادتين، وتظاهروا جميعاً بالإسلام، وأبطنوا قناعات الشرك كاملة، وتركة صراع بينهم وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دام 23 عاماً مثلما أبطنوا فكرة الثأر.

الثلاثة ينقسمون إلى قسمين

بعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صمّمت قيادة البطون على صرف الأمر عن صاحب الحق الشرعي علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فوقفت بطون قريش الـ 23 ضد علي تماماً كما وقفت ضد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . واغتنم الثلاثة الفرصة؛ فوقف يزيد بن معاوية في صف البطون،

٧٤

وتظاهر أبو سفيان بالوقوف مع عليعليه‌السلام ، لا حبّاً بعلي؛ فعلي هو قاتل ابنه حنظلة والأكثريّة من قتلى بني اُميّة، ولكن رغبة بتسخين وضع ابنيه في الجهة المقابلة، وتجزيلاً لنصيبه من الغنيمة.

وعلى الفور تركت له قيادة البطون ما جمع من الصدقات، وولّت ابنه يزيد قائداً لجيوش الشام، وعينت ابنه الثاني معاوية نائباً لأخيه ليحل محله إذ مات، وهكذا رضي الثلاثة، وأيقنوا بأنهم قد وضعوا حجر الأساس للملك الأموي.

وما زالت ولاية معاوية تتوسع حتّى شملت سوريا كلها بحدودها الطبيعية، وتركه الخلفاء الثلاثة الاُول واليا على الشام عشرين عاماً، يجمع كما يشاء، ويدخر ما يشاء، ويعطي من يشاء، ويحرم من يشاء بلا حسيب ولا رقيب.

لقد كان ملكاً حقيقياً، وسلطة الخلافة عليه سلطة إسمية، وكأن تولية يزيد بن أبي سفيان ووراثة معاوية ليزيد أخيه وبقاءه واليا على الشام جزء من صفقة وحدة البطون ضد عليعليه‌السلام . كان عمر يحاسب كل ولاته على الكثير والقليل، ويعزلهم سريعاً، ولكن لا أحد في الدنيا يخبرنا متّى حاسبه، وعلى أي شيء، ولماذا لم يعزله؟! إنه يعد معاوية لأمر عظيم!

معاوية يطالب بخلافة المسلمين

آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام بالطريقة نفسها التي اخترعها قادة البطون، وكان عثمان الأموي قد قُتل لتوه، وكانت دولة الخلافة اُمويّة من جميع الوجوه، فلا تجد مصراً من الأمصار إلاّ وواليه اُموي أو من المخلصين لبني اُميّة.

لقد نجح عثمان قبل موته بجعل دولة الخلافة اُمويّة بالفعل، لو كان غير الإمام عليعليه‌السلام لسلّم فور تسلمه للخلافة، ولما حكم ستة أيام. وعلى كل فقد جاءت بيعة كل الأقاليم إلا ولاية الشام؛ فقد رفض معاوية بيعته متذرعاً بقتلة عثمان.

لقد كان بإمكانه أن ينصر عثمان وهو حي، ولكنه تخلّى عن عثمان كجزء من خطته الرامية إلى استيلائه على منصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر، وتحويلها إلى ملك يتوارثه الاُمويّون، واستعمال سيف الخلافة للتنكيل بخصوم بني اُميّة.

إنّ الفرصة مؤاتية له بالفعل ليحقق كامل أحلامه؛ فخزائن الشام مليئة بالأموال التي ادّخرها وأعدّها لهذه الغاية.

٧٥

من وسائل معاوية

خلال مدة ولاية معاوية على الشام بنى جيشاً منظّماً يدين له شخصياً بالطاعة العمياء، ولا يعرف هذا الجيش من الإسلام إلاّ القشور؛ فمعاوية نفسه لا يعرف الإسلام؛ فهو طليق ابن طليق، ومن المؤلفة قلوبهم، فكان هذا الجيش من أعظم وسائل معاوية التي استعملها للاستيلاء على منصب الخلافة وقهر أعدائه.

كان هذا الجيش بيد معاوية كالخاتم بالإصبع يحركه كيفما يشاء، فلو أمره معاوية أن يهدم الكعبة لهدمها عن طيب خاطر، وقد هدمها في زمن يزيد، وهدمها في زمن عبد الملك. ولو أمره معاوية أن يستبيح المدينة المنورة، فيقتل رجالها، وينهب أموالها لفعل، وقد فعل ذلك في زمن يزيد بن معاوية؛ إذ قتل عشرة آلاف بيوم واحد، واغتصب جيشه ألف عذارء.

وقد حارب معاوية بهذا الجيش أمير المؤمنين علياًعليه‌السلام ، وأرسل فرقة من هذا الجيش مع بسر بن أرطأة، وأمره أن يسير إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى صنعاء؛ فيقتل كلَّ من كان في طاعة عليعليه‌السلام ، وينهب أموال كلّ مَن ليس في طاعة معاوية، وأمره بأن ينشر الرعب أينما حل، وأن يخوف عباد الله ويأخذهم أخذاً أليماً.

ونفّذ بسر بن أرطأة أوامر مولاه معاوية بدقة، فكان يقتل الرجال والنساء والأطفال. لقد قتل طفلَي عبيد الله بن العباس، وعاد بسر إلى الشام بعد أن أخذ البيعة لمعاوية بالعنف والإرهاب.

الأنصاري واُمّ سلمة يصفان اُسلوب معاوية

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: قال جابر بن عبد الله الأنصاري: لما خفت بسراً وتواريت عنه، قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتّى يحضر جابر. فأتوني وقالوا: ننشدك لما انطلقت معنا فبايعت، فحقنت دماءنا ودماء قومك؛ فإنك إن لم تفعل قُتلت مقاتلينا، وسبيت ذرارينا.

فاستنظرتهم الليل، فلما أمسيت دخلت على اُمّ سلمة - إحدى زوجات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله - فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بني، انطلق فبايع؛ احقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي أن

٧٦

يذهب فيبايع، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة(1) .

قال ظافر القاسمي في كتابه « نظام الحكم في الشريعة والتاريخ »، بعد بحث دقيق ومستفيض: نعم، لقد حصل معاوية على البيعة بالتقتيل والتدمير والتحريق، وشتم أنصار الرسول(2) .

ولم يكتفِ معاوية بسلاح الإرهاب والقتل والتدمير، بل استعمل سلاح المال؛ فخلال ولايته على الشام التي دامت عشرين عاماً جمع من الأموال ما أمكنه جمعه؛ استعداداً لليوم الموعود. ولما جاء ذلك اليوم سخّرها في سبيل الملك بعد أن أخرجها عن مصارفها المشروعة التي أمر بها القرآن، واعتبر بيت مال المسلمين خزانة خاصة له يأمر بانفاق ما فيها حسب هواه(3) ، ويشتري بتلك الأموال ضمائر بعض الناس ودينهم وولاءهم.

ومن أساليب معاوية الوعد بالولاية مدى الحياة كما فعل مع عمرو بن العاص؛ إذ اتّفق معه أن يعطيه ولاية مصر له ولعقبه مقابل أن يبايعه خليفة ويقف معه ضد الخليفة الشرعي علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقبل عمرو وبايع معاوية ووقف معه، ولولا عمرو لانتهت قصة معاوية في صفّين، ولتغير مجرى التاريخ، وكما فعل مع قيس بن سعد الذي رفض عرض معاوية(4) .

ومن أساليب معاوية تزوير الكتب، ونشر الشائعات، ودس الوقيعة بين جماعة عليعليه‌السلام ، ولم يأل جهداً في هذا المضمار.

ومن أساليب معاوية وسننه أن رتّب عطاءً مخصوصاً اسمه رزق البيعة، يعطى للجند حينما يأتي الخليفة الجديد(5) .

____________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 157.

(2) راجع نظام الحكم لظافر القاسمي / 284.

(3) المصدر نفسه.

(4) راجع تاريخ الطبري 4 / 550.

(5) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي / 383.

٧٧

البيعة والخضوع التام

إذا بايع المسلم معاوية فلا تقفل دائرة الإرهاب، بل يتوجب على المسلم أن يكون بحالة تبعية وخضوع تامّين لمعاوية، فإذا أحس معاوية بأي تراخٍ بهذه التبعية وذلك الخضوع التامّين عندئذ يصدر أوامره بقتل هذا المتراخي بالتبعية والخضوع. وما فعله مع حجر بن عدي وأصحابه الصادقين، ومع عمرو بن الحمق، وهم من خيرة الصحابة، لهو خير دليل على ذلك.

التنكيل بعد الموت

لقد انتقل علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى جوار ربه، وآل الملك إلى معاوية بالقوة والقهر، وكان من المفترض أن يسدل معاوية الستار على تلك الفترة، ولكن معاوية أصدر سلسلة من مراسيمه الملكية فرض فيها على كل فرد من أفراد رعايا دولة الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالبعليه‌السلام على كلِّ منبر، وفي كل صلاة(1) !

وأبعد من ذلك فإن معاوية اعتبر محبة علي وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام من جرائم الخيانة العظمى، وأباح دم من يواليهم ويحبهم، وأمر ولاته بأن يقتلوا على الفور كلَّ من يحب علياً وأهل بيت النبوة، وأن يهدموا داره(2) .

الموت مصير المعارضين لمعاوية

لقد تنازل الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام عن الخلافة لمعاوية؛ بقياً منه على القلة المؤمنة حتّى لا يقتلها معاوية وتخلو الأرض من المؤمنين. ولزم الإمام الحسنعليه‌السلام بيته؛ ولأن معاوية قد أدرك بأن منيته قد دنت، وأن وجود الإمام الحسينعليه‌السلام على قيد الحياة من بعده قد يعيق مشاريعه الرامية إلى تحويل الخلافة إلى ملك، وحصر هذا الملك في بيت أبي سفيان خاصة، وفي البيت الأموي عامة، وتعويق الإمام

____________________

(1) راجع العقد الفريد لابن عبد ربه 4 / 366، وشرح نهج البلاغة 1 / 356، وج 2 / 220 وج 3 / 258 وج 4 / 56، واُسد الغابة لابن الأثير 3 / 144، وترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 3 / 127 ح 1449، ومعاوية بن أبي سفيان في الميزان للعقاد / 16.

(2) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد 3 / 595 - 596.

٧٨

الحسن لمشاريع معاوية، كل ذلك احتمال وارد؛ لذلك قرر معاوية أن يقتل الإمام الحسنعليه‌السلام ليزيحه من درب مشاريعه. وبالفعل استعان معاوية بشياطينه، ودس السم للإمام الحسنعليه‌السلام فقتله(1) ، وهو يعلم أنه ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي من الاُمّة.

لكن الإمام الحسنعليه‌السلام بالوقت نفسه هو ابن علي بن أبي طالب الذي قتل حنظلة شقيق معاوية؛ فقتلُ معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام يحقق له غايتين، أولهما: يمهد الطريق لمرور مشاريع معاوية، وثانيهما: الثأر لأخيه وجده وخاله وأبناء عمومته الذين قُتلوا في بدر، والأهم أنه يشبع روح معاوية المتعطشة للدم والعنف(2) .

معاوية يخرج المجرمين

إنّ الأكثريّة الساحقة من المجرمين العتاة الذين ظهروا في تاريخ دولة الخلافة، وأشاعوا الهلع والرعب في قلوب رعايا دولة الخلافة، وأمعنوا في عباد الله تقتيلاً وتشريداً، وتعذيباً ونهباً، وأذلوا من نجا من القتل إذلالاً لم يشهد التاريخ البشري له مثيلاً، وتركوا بصماتهم الملطّخة بالدم على كل شيء لامسوه، أكثرهم تخرّج من مدرسة معاوية، وتتلمذ على يديه، وتلقى أقسى وأبشع تعليماته بالعنف، ومنهم:

1 - بسر بن أرطأة

من السفاكين المجرمين العتاة، الذي لم ير في التاريخ البشري مثله شراسة. جهّز له معاوية جيشاً وطلب منه أن يسير من شمال الجزيرة إلى جنوبها؛ تبوك، المدينة، مكّة. والعودة في رحلة الشر التي بعثه بها معاوية ليحصل له على البيعة من أهل الجزيرة، وبالطريقة التي رواها الصحابي جابر بن

____________________

(1) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام لباقر شريف القرشي 2 / 278.

(2) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر / 134، وتاريخ ابن الأثير 8 / 48، ومروج الذهب للمسعودي 2 / 50، ومقاتل الطالبيِّين لأبي الفرج الأصفهاني / 29، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 11 - 17، والاستيعاب لابن عبد البر 1 / 141، وتذكرة الخواصّ لابن الجوزي / 121، وترجمة الإمام الحسنعليه‌السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر 4 / 228 - 241 الأحاديث 367 - 393، والعقد الفريد لابن عبد ربه 2 / 298، وتاريخ الخميس 2 / 294، وراجع الغدير للأميني 11 / 26 - 32، وكتابنا المواجهة / 638.

٧٩

عبد الله الأنصاري، والتي أيدتها اُمّ سلمة زوجة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي سقناها قبل قليل.

لقد بلغت الوحشية ببسر بن أرطأة وجيشه أن سمحوا لأنفسهم حتّى بقتل الأطفال الرضّع الأبرياء كما فعلوا بطفلي عبيد الله بن عباس(1) ، فمن يصدق أن عبداً تافهاً مثل بسر بن أرطأة يمكن أن يفعل هكذا أفعال دون أوامر صريحة من سيّده واُستاذه معاوية! لقد أمره معاوية وبكل صراحة بكل ما فعل.

ومما وصل إلينا من أوامر معاوية أنه خاطب بسر بن أرطأة قائلاً: وانهب أموال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا(2) . وأمره معاوية أن يقتل كل من كان في طاعة علي؛ فقتل خلقاً كثيراً، وقتل فيمن قتل ابنَي عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكانا غلامين صغيرين(3) .

2 - زياد بن عبيد، المعروف بـ « زياد ابن أبيه »

ولد من أبوين عبدين هما: عبيد وسمية. كان في خدمة الإمام عليعليه‌السلام ، ومن المتظاهرين بنصرته. وخلال وجود زياد مع جماعة علي بن أبي طالبعليه‌السلام تعرّف زياد وعرف المخلص منهم والمنافق.

كان معاوية بحاجة إلى رجل يعرف أصحاب عليعليه‌السلام معرفة دقيقة حتّى يتمكن منهم معاوية، ويبيدهم عن بكرة أبيهم، ويقضي على أي ناصر لعلي في الأرض.

وقدّر معاوية أن هذا الرجل بالذات زياد بن عبيد، أو زياد ابن أبيه، هو بغيته المطلوبة، واكتشف معاوية أن زياد هذا يخفي مواهب جرمية حبيسة، وإذا اُتيح لتلك المواهب أن تنطلق فقد يفوق زياد بسر بن أرطأة، ومسلم بن عقبة، وغيرهما من طاقم الإجرام؛ لذلك كله كاتبه معاوية وتودد إليه، وليجعل لزياد مصلحة في ملكه، ووعده بولاية العراق، وزعم معاوية لزياد أنه أخوه.

وتفصيل ذلك: يزعم معاوية أنّ أبا سفيان زنى يوماً بسمية اُم زياد، فحملت سمية من تلك الزنية، فزياد على هذا

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 139.

(2) المصدر نفسه.

(3) راجع تاريخ الطبري 6 / 157، والكامل لابن الأثير 4 / 209، وتاريخ ابن كثير 8 / 130، وتاريخ الإسلام للذهبي 2 / 344.

٨٠