كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 22994
تحميل: 5070

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22994 / تحميل: 5070
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأساس هو ابن صخر، وهو أخو معاوية. وأعلن معاوية مضامين هذا الزعم، وادّعى بأن زياداً أخاه وابن أبي سفيان بالفعل. وصدّق زياد هذه المزاعم، أو تظاهر بالتصديق، واُلحق بخدمة معاوية.

وبدأت مهمة زياد بقتل كل من أحب علياً وأولادهعليهم‌السلام ؛ فتفقدهم زياد «ابن أبي سفيان» واحداً واحداً فقتلهم عن بكرة أبيهم(1) ، وروع أهل العراق وأذلّهم حتّى صاروا أذل من العبيد. وتنكر أهل العراق لعليعليه‌السلام وتبرؤوا منه لينجوا بأنفسهم. ولم يخفِ معاوية الحقيقة، لقد أصدر سلسلة من المراسيم أباح فيها لزياد ولغيره قتل كل من أحب علياًعليه‌السلام أو والاه، وهدم داره.

3 - مسلم بن عقبة

من أصفياء معاوية، وموضع ثقته، وهو من أعظم المجرمين الذين اصطفاهم معاوية لنفسه، وأعدّهم للعظيم من اُموره. أدرك معاوية أنه هالك وميت لا محالة، وأنّ أهل المدينة سيتمرّدون ويثورون على ابنه وخليفته من بعده يزيد بن معاوية. ومساعدة لابنه، واستمراراً لمخططه الرامي إلى تفريغ الأرض من المؤمنين الصادقين أوصى معاوية ابنه يزيد قائلاً: إن رابك منهم ريب، أو انتقض عليك منهم أحد، فعليك بأعور بني مرة مسلم بن عقبة(2) .

ولمّا ثار أهل المدينة بعد موت معاوية دعاه يزيد، وكان مسلم مريضاً منهوكاً، فعرض عليه قيادة الجيش بناء على وصية أبيه، ولما رأى حاله قال له يزيد: إن شئت أعفيتك.

فجن جنون المجرم وقال ليزيد: نشدتك الله أن لا تحرمني أجراً ساقه الله إليَّ!

من أفعال مسلم بن عقبة

قال الطبري: « وأباح مسلم المدينة ثلاثاً، يقتلون الناس ويأخذون الأموال»(3) .

____________________

(1) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد - تحقيق حسن تميم 3 / 595.

(2) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري 1 / 209.

(3) تاريخ الطبري 7 / 11، وابن الأثير 3 / 47، وابن كثير 8 / 220.

٨١

قال اليعقوبي: « فلم يبق فيها كثير أحد إلاّ قتل. وأباح حرم رسول الله حتّى ولدت الأبكار لا يُعرف من أولدهن »(1) .

قال ابن كثير: « قُتل يوم الحرة سبعمئة رجل من حملة القرآن، وكان قتل بشر كثيراً حتّى كاد لا يفلت أحد من أهلها »(2) .

وروي عن هشام قال: « ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج »(3) .

وروي عن الزهري أنه قال: « كان القتلى سبعمئة من وجوه المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر أو عبد وغيرهم عشرة آلاف »(4) .

وقال السيوطي: « وكانت وقعة الحرة بباب طيبة، قُتل فيها خلق كثير من الصحابة، ونهبت المدينة، واُفتض فيها ألف بكر »(5) .

قال الدينوري والذهبي: قال: رأيت أبا سعيد الخدري ولحيته بيضاء، وقد خفّ جانبها وبقي وسطها، فقلت: يا أبا سعيد، مال لحيتك؟

فقال: هذا فعل ظلمة أهل الشام يوم الحرة؛ دخلوا على بيتي، فانتهبوا ما فيه حتّى أخذوا قدحي الذي كنت أشرب فيها الماء، ثمَّ خرجوا، ودخل عليَّ بعدهم عشرة نفر وأنا قائم اُصلي، فطلبوا البيت فلم يجدوا فيه شيئاً، فأسفوا لذلك، فاحتملوني من مصلاي وضربوا بي الأرض، وأقبل كل رجل منهم على ما يليه من لحيتي فنتفه، فما ترى منها خفيفاً فهو موضع النتف، وما تراه عافاً فهو ما وقع في التراب فلم يصلوا إليه، وسأدعها كما ترى حتّى اُوافي ربي(6) .

____________________

(1) راجع تاريخ اليعقوبي 6 / 251.

(2) تاريخ ابن كثير 6 / 234.

(3) المصدر نفسه 8 / 22.

(4) المصدر نفسه.

(5) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي / 209، وراجع تاريخ الخميس 2 / 302.

(6) راجع الأخبار الطوال للدينوري / 269، وتاريخ الإسلام للذهبي 2 / 357.

٨٢

هذه بعض أفعال مسلم بن عقبة الذي ادخره معاوية لذلك اليوم، وأوصى ابنه يزيد بأن يسلمه قيادة الجيش، وهذه أفعال جيش « الإسلام » الذي بناه معاوية، فهل يعقل أن يتصرف تافه مثل مسلم بن عقبة هذه التصرفات التي لم يعرف بشاعتها التاريخ دون علم ومباركة سيده ومولاه وصفيه؟!

يزيد يأمر بمذبحة المدينة

كتب مسلم بن عقبة بعد مذبحة الحرة رسالة إلى « أمير المؤمنين يزيد بن معاوية » جاء فيها: فما صليت الظهر إلاّ في مسجدهم بعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم. وأوقعنا بهم السيوف، وقتلنا من أشرف لنا منهم، وأتبعنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناها ثلاثة كما قال أمير المؤمنين(1) !

قال الطبري: إن يزيد بن معاوية أمر مسلم بن عقبة قائلاً: ادع القوم ثلاثاً، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً، فما فيها من مال أو ورقة أو سلاح أو طعام فهو للجند...

وقال المسعودي: أمره يزيد... وإذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف، ولا تبقِ عليهم، وانتهبهم ثلاثاً، وأجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم...(2) .

بعد أن نفذ صفي معاوية وموضع ثقته مسلم بن عقبة وجيشه البطل أوامر الملك، ونفذوا المذبحة الرهيبة في مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمر مسلم بن عقبة القلة الذليلة من أهل المدينة التي نجت من المذبحة بأن تبايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية.

قال الطبري وغيره: فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء(3) .

____________________

(1) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري 1 / 218.

(2) راجع التنبيه والإشراف للمسعودي / 263، ومروج الذهب 3 / 68 - 69.

(3) راجع تاريخ الطبري 7 / 13.

٨٣

قال المسعوي: « وبايع من بقي من أهل المدينة على أنهم قن ليزيد »(1) .

قال الدينوري: « فلما كان اليوم الرابع جلس مسلم بن عقبة فدعاهم للبيعة، فكان أول من أتاه يزيد بن عبد الله، وجدته اُمّ سلمة زوج النبي، فقال له مسلم: بايعني. قال: اُبايعك على كتاب الله وسنة نبيه. فقال مسلم: بل بايع على أنك فيء لأمير المؤمنين يفعل في أموالكم وذراريكم ما يشاء. فأبى أن يبايع على ذلك، فضُربت عنقه »(2) .

واُتي بيزيد بن وهب بن زمعة، فقال له مسلم: بايع. فقال: اُبايعك على سنة عمر. فقال مسلم: اقتلوه. فقُتل(3) .

بيعة الحسينعليه‌السلام ودور معاوية بمذبحة كربلاء

نجح معاوية بن أبي سفيان بالاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة، وبقهر يفوق التصور، وبأساليبه المتعددة التي أشاعت الرعب في قلوب المسلمين، وأدت لإبادة الأكثريّة الساحقة من القلة المؤمنة التي حاربته وأباه على الشرك 23 عاماً، وقامت دولة النبوة على أكتافها. وبنجاح أساليب معاوية أرسى قواعد باستخدام العنف بالتعامل مع الرعية، وإخضاعها بالقوة والإرهاب.

بعد هذا النجاح الساحق قرر معاوية أن يمضي قدماً في مخططه، وأن يحوّل الخلافة إلى ملك على شاكلة ملك كسرى وقيصر، ولكن بجبة ولحية إسلاميّة؛ على اعتبار أن الإسلام هو طريق الملك، وإنه دين أغلبية الرعية. وقرر معاوية أن يحصر هذا الملك في بيت أبي سفيان خاصة، والبطن الأموي عامة؛ لذلك اختار ابنه يزيد بن معاوية ليكون ولياً لعهده، وخليفة من بعده.

صحيح أن معاوية قد أباد القلة المؤمنة ولم ينجُ منها إلاّ القليل، وصحيح أيضاً أن معاوية قد أرهب الرعية وأذلّها حتّى صارت أذلّ من الذليل، ولكن قراره باختيار يزيد غير معقول وغير منطقي؛

____________________

(1) التنبيه والإشراف / 264، ومروج الذهب 3 / 71 للمسعودي.

(2) تاريخ الطبري 7 / 11 - 12.

(3) الأخبار الطوال للدينوري / 265.

٨٤

فيزيد يجهر بعصيانه وحتّى بكفره، وبتركه للصلاة، وبإدمانه على الزنى، وتلك اُمور يصعب على الرعية الذليلة استيعابها وهضمها. وبأساليب معاوية نجح بتنصيب يزيد، وحصل على موافقة الرعية. ويبدو أن ثلاثة قد تمنعوا عليه أحدهم الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام (1) ؛ وكاُسلوب من أساليب معاوية تجاهلهم، وأوحى لأهل الشام خاصة وللرعية عامة أن الكل قد قبل بيزيد ولياً للعهد، وخليفة من بعد معاوية(2) .

ومن المؤكّد أن الابن وأباه قد اتفقا على كليات وتفاصيل مؤامرة قتل الحسينعليه‌السلام ، لا طمعاً ببيعته؛ فإنما هو مجرد رجل، ولكن رغبة بقتل الحسينعليه‌السلام ؛ لأن مجرد وجود الحسين يشكّل خطراً على دولة يزيد.

وتقدير معاوية وأركان دولته أن الحسين إن بقي حياً سيكون بمثابة مركز تجمّع لمعارضي الملك الأموي، ولا مجال لمقارنة يزيد بن معاوية بالحسين شرفاً وعلماً وتاريخاً ومنزلة؛ وعلى هذا الأساس تمّ التركيز على ضرورة مبايعة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ليكون رفض الحسين لمبايعة يزيد مبرراً لقتله؛ لأن الحسين برأي معاوية ويزيد وأركان الدولة هو أخطر خصومهم.

لذلك كانت أول مشاريع يزيد بن معاوية أن أمر واليه على المدينة أن يأخذ بيعة الحسين، وأمره أن يضرب عنق الحسين إن هو امتنع عن البيعة كما رأينا قبل قليل، ولكن الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد خرج من المدينة؛ فراراً بدينه وأهل بيته وموقفه.

تقدير معاوية للموقف

قدّر معاوية وأركان دولته أن الإمام الحسين لن يبايع يزيد، ولن يقبل به خليفة حتّى لو قطعه إرباً إرباً، وقدّر أيضاً أن الأكثريّة من آل محمّد وأهل بيت النبوة لن يبايعوا حتّى يبايع الحسين، وقدّر أيضاً بأن الحسين سيكتشف أنه ليس له في المدينة من يحميه ويحمي أهل بيت النبوة، وأن والي المدينة سيقتله ويقتل أهل بيت النبوة إن بقي في المدينة، ولن يجد فيها من يدافع عنه بيد ولا بلسان؛

____________________

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة / 189 - 190.

(2) المصدر نفسه.

٨٥

فهو لن يكون أعظم من أبيهعليه‌السلام ، ولا له المكانة المقدّسة نفسها التي كانت لاُمّه، ومع هذا هُدّد أبوه بالقتل، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على مَن فيه، وصادرت السلطة تركة الرسول، وحرمت ورثته من إرثهم، وحرمت ذوي قربى النبي من سهمهم، ولم يجد أهل بيت النبوة في المدينة رجلاً واحداً يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر؛ لذلك توصّل معاوية وأركان دولته إلى نتيجة مفادها بأن الحسينعليه‌السلام سيغادر المدينة هو وأهله، وعلى الأغلب إلى مكّة من حيث المبدأ.

وقدّر معاوية أن مغادرة الحسين للمدينة أمر ترغبه سلطة الخلافة؛ لأن أهل المدينة يعرفون الحسين معرفة عميقة، ويعرفون قربه للنبي ومكانته العلمية. صحيح أنهم لن يحرّكوا ساكناً إن قُتل الإمام الحسين وأهل بيته أمامهم، ولن يأمروا بمعروف أو ينهوا عن المنكر عملياً، لكن قتل رجل وأهل بيته بحجم الحسين وأهل بيت النبوة أمام معارفهم سيثير شيئاً من مشاعر استياء أهل المدينة؛ لذلك كان خروج الإمام الحسينعليه‌السلام خطوة تمنّتها السلطة.

ولو أرادت دولة الخلافة أن تلحق بالإمام الحسينعليه‌السلام للحقته بكل سهولة؛ لأن الحسين قد أصر على سلوك الطريق التي يسلكها الناس عامة عند ذهابهم إلى مكّة. وعندما نصحه ابن عمه مسلم بن عقيل أن يعدل عن الطريق رفض الحسين ذلك قائلاً: « والله يابن عمي، لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكّة، أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى »(1) .

وقال الطبري: إنّ الحسين قد رد على من اقترح عليه مجانبة الطريق قائلاً: « والله لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو أحب إليه »(2) . وهكذا ذكر الشيخ المفيد(3) .

وفي رواية أنّ الحسين خرج من المدينة وركب الجادة العظمى، فقال له أهل بيته: لو سلكت الطريق الأفرع لكان أصح.

فقال الحسينعليه‌السلام : « أتخافون الطلب؟ ».

قالوا: أجل.

فقال الحسينعليه‌السلام : « لن أحيد الطريق حذر الموت »(4) .

____________________

(1) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي 5 / 24، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 189، وينابيع المودة 2 / 4 إلى قوله أبداً.

(2) راجع تاريخ الطبري 3 / 276.

(3) راجع الإرشاد للشيخ المفيد 2 / 2.

(4) راجع مقتل الحسين لأبي مخنف / 25، وينابيع المودة 2 / 4.

٨٦

بمعنى أن دولة الخلافة كانت تعلم بخروج الحسين، وكان بإمكانها اللحوق به؛ فهو يسير على الطريق العام، ولكنها لم تلحق به لأن خروجه من المدينة كان جزءاً من خطتها لقتله بعيداً عمن يعرفونه معرفة حقيقية.

وقدّر معاوية وأركان دولته أن الحسين سيصل إلى مكّة بالضرورة، ولا خطر على دولة معاوية من وصول الحسين إلى مكّة؛ لأن أكثريّة سكانها من أبناء بطون قريش الـ 23 ومواليهم وأحابيشهم، وهي الأكثريّة نفسها التي كانت مشركة، واضطرت مكرهة لإعلان إسلامها، وهي تعرف تاريخ الصراع وحصيلته، وهي موتورة، ومن المحال أن تقف مع الإمام الحسينعليه‌السلام .

ووصل الحسينعليه‌السلام بالفعل إلى مكّة. صحيح أن مكّة لن تقف معه، ولكن وجود الحسين في مكّة ومعرفة وفود الحجيج سنوياً بوجوده يشكّل خطراً؛ لذلك يتوجّب إبعاده عن مكّة حسب خطة معاوية، وبالتالي يجب قتله وأهل بيته في مكان ناءٍ بعيداً عن معارفه الذين يعرفونه معرفة حقيقية، والذين يعرفونه معرفة سطحية.

وليس من المستبعد بأن معاوية الذي يشرف على مخابرات دولة عظمى، وتأتيه كل أنبائها، على علم بأن الحسين وأهل بيت النبوة سيُقتلون في كربلاء؛ وطمعاً بأن يقتلوا في كربلاء رتّب مع ابنه وأركان دولته جر الحسين وأهل بيته من مكّة إلى كربلاء.

لقد كان أمير دولة البطون على مكّة على علم بوجود الحسينعليه‌السلام ، وعلى علم بامتناع الحسين عن المبايعة، وعلى علم بمشاعر أكثريّة سكان مكّة نحو الحسين. كان بإمكانه أن يجهّز جيشاً قوامه ألف مقاتل بمدة لا تتجاوز يومين، وكان بإمكانه أن يقتل الحسين وأهل بيت النبوة، ولكنه لم يفعل، ولم يتعرض للحسين إلاّ تعرضاً بسيطاً.

قال الطبري، وابن الأثير، وابن كثير، والبلاذري: فاعترضته رسل الوالي من قبل يزيد عمرو بن سعيد، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(1) .

ودليل آخر على صحة ما ذهبنا إليه أن الإمام الحسينعليه‌السلام عندما خرج من

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 217 - 218، وابن الأثير 4 / 17، وابن كثير 8 / 166، وأنساب الأشراف / 164.

٨٧

المدينة ردّد قول الله تعالى عن موسى:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (سورة القصص / 21 )(1) .

ولما وصل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكّة قرأ:( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل ) (سورة القصص / 22 )(2) .

ولما سأل عبد الله بن مطيع الإمام الحسينعليه‌السلام قائلاً: جعلت فداك! أين تريد؟

فقال الحسينعليه‌السلام : « أما الآن فمكّة، وأمّا بعد فإني أستخير الله »(3) .

فحال الحسينعليه‌السلام عندما اضطر للخروج من المدينة كحال موسى الذي اضطر لمغادرة عاصمة ملك فرعون، وكانت حال الحسين عندما وصل إلى مكّة كحال موسى عندما وصل إلى مدين؛ فموسى ينتظر التوجيه الإلهي، وليس عنده علم عن المكان الآخر أو المرحلة اللاحقة، كذلك فإن الحسين خرج من المدينة إلى مكّة « مدين » وليس لديه علم عن المكان الآخر أو المرحلة، وإنه سينتظر التوجيه الإلهي.

مكيدة الرسائل والكتب

دولة الخلافة يمكنها أن تقتل الإمام الحسين وأهل بيته في المدينة المنورة، وهي واثقة أنه لن يعيقها أحد؛ فلدى دولة الخلافة القوة والقدرة على إبادة كل سكان المدينة.

وعندما خرج الإمام الحسين كان بإمكان دولة الخلافة أن ترسل قوة ضاربة على خيول سريعة مطهّمة وتلحق بالإمام الحسين قبل وصوله إلى مكّة، فتقتله وأولاده وأهل بيته شر قتلة؛ فالإمام الحسينعليه‌السلام كان يسير على الطريق العام إلى مكّة، ورفض رفضاً قاطعاً الخروج عن الطريق.

وعندما وصل الإمام الحسين وأهل بيت النبوة إلى مكّة كان بإمكان دولة الخلافة أن تتلقاه وأهل بيته بقوة ضاربة، وأن تقطعهم إرباً إرباً؛ فالخليفة يزيد له والٍ وجيش في المدينة، وله والٍ وجيش في مكّة، وله عيون وجواسيس على طول

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 3 / 273، والكامل لابن الأثير 2 / 521، وينابيع المودة 2 / 4، وأعيان الشيعة 1 / 588.

(2) الإرشاد للشيخ المفيد 2 / 4، وبحار الأنوار 44 / 332، والعوالم 17 / 181، والكامل لابن الأثير 2 / 531، وتاريخ الطبري 3 / 272، وأعيان الشيعة 5 / 25.

(3) راجع تاريخ الطبري 6 / 196 - 197.

٨٨

الطريق المؤدية من مكّة إلى المدينة، ولكن لا والي المدينة لحق بالحسين، ولا والي مكّة وضع حداً لمسيرة الحسين؛ لأن هنالك خطة عامة لاستدراج الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره القلة إلى كربلاء، وأن هذه الخطة قد رسمت في زمن معاوية، وبحضور ابنه وأركان دولته.

لقد تستّرت دولة الخلافة لأسباب أمنية على نبأ هلاك معاوية، ولكن انتشر النبأ. فلما دعي الحسينعليه‌السلام إلى مجلس والي المدينة قال: « قد ظننت أن طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر »(1) .

فرتبت مخابرات دولة معاوية بالاتفاق المسبق مع معاوية وابنه وأركان دولته لتزوير مجموعة من الكتب على ألسنة علية القوم في الكوفة تدعو الحسينعليه‌السلام للشخوص من مكّة إلى العراق؛ فمعاوية وجهاز دولته مهرة بتزوير الكتب، وليس من المستبعد أن تكون دولة الخلافة قد اتفقت مع مَن تراهم وجوه المجتمع ليكتبوا للحسين ثمَّ يتنكرون له في ما بعد، وينكرون أنهم كتبوا.

وليس من المستبعد أيضاً أن يكون بعض الصادقين من موالي أهل بيت النبوة في الكوفة قد كتبوا للحسينعليه‌السلام ، ثمَّ اكتشفوا في ما بعد أن كثيراً من أهل الكوفة قد كتب، وأن موضوع الكتب والرسائل مجرد مكيدة من مكائد الدولة؛ فغزا الرعب قلوب بعض الموالين، وأضمرت أن تتنكر للكتابة وهي واثقة بأن الرسائل قد وصلت للحسينعليه‌السلام ، ومن المحال أن يشي بها الحسين.

وليس من المستبعد أن بعض مَن كتب عندما عرف بمكيدة الكتب والرسائل، وأن وراءها الدولة ادّعى بأنه إنما كتب استجابة لتوجهات الدولة، وعملاً بتوجيهها.

وليس من المستبعد أن بعضهم قد ادّعى ولاء للخليفة، وحاول أن يقوم ببعض الأعمال الشائنة إثباتاً لهذا الولاء.

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 3 / 270، والكامل لابن الأثير 2 / 529، والبداية والنهاية 8 / 157، وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي 5 / 11، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 182.

٨٩

وصول الكتب إلى الحسينعليه‌السلام في مكّة

من المؤكّد أن موالي أهل بيت النبوة في الكوفة قد اجتمعوا عندما سمعوا بهلاك معاوية، وأنهم قد رأوا الفرصة مناسبة للتخلص من طغيان بني اُميّة بعد هلاك الطاغية على حدِّ تعبير الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن المؤكد أنهم قد كتبوا للحسين كتاباً يدعونه للقدوم إليهم، وهم لا يعرفون أن دولة الخلافة كانت تقود حملة كتابة الرسائل والكتب.

كذلك فإن شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمر المعروفين بولائهم للخليفة قد كتبوا أيضاً للإمام الحسينعليه‌السلام يدعونه للقدوم إلى الكوفة.

فأولياؤه كتبوا إليه، وأولياء معاوية كتبوا إليه أيضاً، وهم سادة مجتمع الكوفة؛ فقدّر الإمام أن الجميع قد اكتووا بظلم الظالمين، وأن موت معاوية أعطاهم الفرصة للخروج من الظلم الذي يمثله معاوية وبطانته إلى العدل الذي يمثله أهل بيت النبوة. وقرر الإمام الحسينعليه‌السلام أن يبعث مسلم بن عقيل، وأن يتوجّه بالفعل إلى الكوفة. وبالفعل توجّه إلى الكوفة.

اكتشاف المكيدة

توجّه الإمام وأهل بيت النبوة ومَن والاهم إلى العراق لمّا وصلتهم الرسائل والكتب، وتأملوا أن يجدوا في العراق قوماً يجيرونهم، أو قوة تحميهم. وفي ما بعد اكتشف الإمام الحسينعليه‌السلام مكيدة الكتب والرسائل، فقال لأصحابه في كربلاء: «.... إنما القوم يطلبونني، وقد وجدوني، وما كانت كتب من كتب إلي - فيما أظن - إلاّ مكيدة لي، وتقرباً إلى ابن معاوية بي »(1) .

لقد وصل رسول الإمام الحسينعليه‌السلام قبله ليمهد لوصوله(2) ، وبمدة وجيزة

____________________

(1) راجع أنساب الأشراف للبلاذري 3 / 185، وموسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام / 397.

(2) راجع تاريخ الطبري 6 / 198.

٩٠

وخيالية بايعه ثمانية عشر ألفاً(1) ، فكتب مسلم إلى الإمام يطلب منه الإسراع بالقدوم، مؤكّداً له أن الناس كلهم معه(2) . وفي رواية « بايع مسلم بن عقيل خمسة وعشرون ألفاً، وفي رواية اُخرى أربعون ألفاً »(3) .

ولما بدأت ملامح المعركة، وجاء ابن زياد، تخلّى الناس كلهم عن مسلم بن عقيل، ولم يجد من الأربعين ألفاً رجلاً واحداً يأويه أو يدلّه على الدرب إلاّ هاني بن عروة، وبسرعة تمّ إلقاء القبض على مسلم وهاني بن عروة؛ فقطع الوالي الجديد رأسيهما وأرسل الرأسين إلى الخليفة يزيد بن معاوية(4) .

فليس معقولاً أن يبايع أربعون ألفاً اليوم ويتنكروا غداً لبيعتهم فلا يثبت أحد منهم على الإطلاق! والمعقول الوحيد أن البيعة قد كانت بالاتفاق مع دولة الخلافة مقابل جعل للمبايعين، وإنّ تنصّل المبايعين من بيعتهم قد تمَّ أيضاً بالاتفاق مع دولة الخلافة، وهو ما يعرف بلغة المخابرات المعاصرة بالاختراق؛ حيث ينظم إلى التنظيم المراد اختراقه مجموعة من العيون تتظاهر بعضويتها لهذا التنظيم، وتنقل ما تسمعه، أو تتدخل بمشاريعه.

لقد اكتشف أهل الكوفة مكيدة الكتب والرسائل التي أرسلت للإمام الحسينعليه‌السلام ، وأنها من تدبير الدولة لغايات استدراج الإمام إلى المكان الذي تريده. ثمَّ إنه لن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن عدم موالاته لدولة الخلافة؛ لأن هذا الإعلان يؤدي لقطع العطاء، ويؤدي للموت أيضاً.

ولن يجرؤ أحد منهم على الإعلان عن ولائه لعلي بن أبي طالب أو لأحد من أهل بيتهعليهم‌السلام ؛ لأن عقوبة هذا الإعلان هي الموت، وهدم الدار، وهذه العقوبة كانت سارية قبل قدوم مسلم وبعد موته؛ مما يؤكد أن فكرة البيعة أيضاً كانت من تدابير دولة الخلافة.

إنّ أهل الكوفة أقل وأذل من أن يجرؤوا على البيعة وعلى تحدي سلطة

____________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 211، ومثير الأحزان / 21، واللهوف / 10، وموسوعة كلمات الحسين / 53.

(2) راجع تاريخ الطبري 6 / 211.

(3) راجع تاريخ ابن عساكر ح 649.

(4) راجع تاريخ الطبري 6 / 199 - 215، والإرشاد / 199 - 200.

٩١

الخلافة بعد سني حكم معاوية التي أذلتهم وأرهقتهم، واجتثت من نفوسهم كل نخوة وشرف ودين. وما يعنينا أن الإمام الحسينعليه‌السلام وجد نفسه في كربلاء في مقابلة جيش الخلافة البالغ عدده ثلاثون ألف مقاتل.

المطلوب رأس الإمام ورؤوس أهل بيت النبوةعليهم‌السلام

عندما خرج الإمام الحسين من مكّة متوجهاً إلى العراق بعد وصول الكتب والرسائل لم تعد دولة الخلافة مهتمة ببيعته أو بيعة الذين معه، فحتّى لو أعطى الإمام الحسينعليه‌السلام البيعة - وهذا مستحيل - فإنها لن تقبل منه ذلك قبل أن تذلّه إذلالاً لم يذله أحد قط. فالبيعة لا تعني دولة الخلافة، إنما يعنيها بالدرجة الأولى والأخيرة قتل الحسين، وإبادة أهل بيت النبوة إبادة تامة حتّى يختفي خطرهم إلى الأبد.

وقد عبّر عبيد الله بن زياد عن ذلك خير تعبير؛ فقد كتب له عمر بن سعد رسالة جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسول فسألته عما أمامه، وما يطلب ويسأل، فقال: كتب إليَّ أهل هذه البلاد، وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت؛ فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم.

فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال:

الآن إذ علقت مخالبُنا به

يرجو النجاة ولاتَ حين مناصِ(1)

فعبيد الله يعترف أن لدولة الخلافة مخالب كالوحوش تماماً، وأن الحسين وأهل بيت النبوة قد وقعوا في مخالبها بالفعل، وأن هذه المخالب قد علقت به بالفعل، وأن نجاة الحسين بهذه الحالة مستحيلة، ومع هذا فأنه كتب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فقد بلغني كتابه وفهمت ما ذكرت، فأعرض على الحسين أن يبايع

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 232 - 270، وابن الأثير / 19 - 38، وابن كثير 8 / 172 - 198، والأخبار الطوال للدينوري / 253 - 261، وأنساب الأشراف / 176 - 227، والإرشاد للمفيد / 210 - 236 لتقف على تفاصيل نزول الحسينعليه‌السلام ومفاوضاته مع عمر بن سعد.

٩٢

ليزيد بن معاوية هو وأصحابه، فإن فعل ذلك رأينا رأينا، والسّلام.

فالبيعة لا تنهي المشكلة، ولا تضمن عودة الإمام الحسينعليه‌السلام ، إنما يتبعها ما هو أمرّ من العلقم؛ وذلك بأن يرى ابن مرجانة رأيه في ابن محمّد وأهل بيت النبوة.

عودة لما كنّا بصدده

قلنا في الفصل الأوّل من هذا الباب: إنّ القسم الأعظم والأكثر وقف مع الخليفة يزيد بن معاوية ضد الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقلنا: إنّ هذا القسم مكوّن من بطون قريش الـ 23 ومَن والاها من العرب، وهي الفئة نفسها التي وقفت ضد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقاومته وحاربته 23 عاماً حتّى اُحيط بها، فاستسلمت وتظاهرت بالإسلام، وبإسلامها شكلت أكثريّة الاُمّة الإسلاميّة.

وبالإضافة إلى المنافقين، والمرتزقة من الأعراب، وأبناء وعشائر وشيع الخمسة الذين سمّاهم عمر للشورى، بالإضافة إلى مسلمة الفتح الذين دخلوا في الإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح، وخضعوا للبرامج التربوية والتعليمية التي وضعها الخلفاء وأولياؤهم.

حجتهم في ذلك أن يزيد بن معاوية هو الخليفة والمالك الفعلي لمقاليد الاُمور، ومن بيده المال والجاه والنفوذ، وقيادة البلاد والعباد الفعلية، وبالتالي ما كان ينبغي على الإمام الحسينعليه‌السلام الامتناع عن بيعته أو الخروج عليه.

قال النووي في شرحه على مسلم: وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل الخليفة بالفسق والظلم وتعطيل الحدود، ولا يُخلع، ولا يجوز الخروج عليه...(1) !

وقال أيضاً: وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين(2) !

قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه التمهيد: قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال،

____________________

(1) راجع صحيح مسلم شرح النووي 12 / 229، وسنن البيهقي 8 / 158 - 159.

(2) المصدر نفسه.

٩٣

وضرب الأبدان، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه(1) .

وقد استندت هذه الفتاوى على سلسلة من الأحاديث التي رواها أولياء الخلفاء ونسبوها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

القرار النهائي

بعد التداول والإثبات، وتقليب الاُمور على وجوهها المختلفة، قرر « خليفة رسول الله » يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أن يقتل الإمام الحسين ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يقتل آل محمّد، وأهل بيت النبوة، وذوي قربى النبي، وأن يقتل معهم كل مَن والاهم ووقف معهم من المسلمين.

وقرر أن يمثّل بهم أشنع تمثيل بعد القتل، وأن يقطع رؤوسهم لتحمل في البلاد، وليراها العباد، وقرر أيضاً أن يبيح لجيشه الإسلامي أن ينهب أموالهم بما فيه ملابس القتلى، وأن يسوق نساءهم حفايا وعلى الأقتاب من الكوفة إلى دمشق عاصمة ملكه السعيد، وقرّر تكليف أركان دولة الخلافة بتنفيذ هذه القرارات في كربلاء بأسرع وقت ممكن، بجرم امتناعهم عن البيعة وخروجهم على خليفة المسلمين.

أركان دولة الخلافة ينفذون قرارات الخليفة حرفياً

1 - فقد قتلوا الإمام الحسينعليه‌السلام أشنع قتلة، وقطعوا رأسه، وبعد قتله أخذوا سراويله، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وأخذ رجل سيفه، وأخذ آخر نعليه... ولا خلاف بين أحد من المؤرّخين على هذه الوقائع.

2 - قتلوا آل محمّد، وأهل بيت النبوة، وذوي قربى النبي، ولم ينجُ منهم إلاّ علي بن الحسين « زين العابدينعليه‌السلام »؛ فقد كان مريضاً، طريح الفراش، ولا يقوى على الحركة. والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وعمرو بن الحسن بن

____________________

(1) راجع التمهيد - باب « ذكر ما يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته ».

٩٤

علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكانا طفلين صغيرين(*) ، ولم يشاهدهما القتلة، ولم ينتبهوا لهما إلاّ بعد انتهاء المجزرة(1) .

3 - وقتلوا كافة الذين وقفوا مع الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام من غير بني هاشم، ولم ينجُ منهم إلاّ ثلاثة وبالصدفة، وهم: عبد الله المشرقي(2) ، وعقبة بن سمعان(3) ، والمرقع بن ثمامة الأسدي(4) .

4 - وقتلوا حتّى الأطفال؛ فقد قتلوا الطفل علي بن الحسين(5) ، والطفل أبا بكر بن الحسين، وغلاما من آل الحسين، وطفلاً للإمام الحسن(6) .

5 - وقتلوا حتّى النساء كأم وهب بن عبد(7) .

6 - وانتهبوا كلَّ شيء، قال أبو مخنف: ومال الناس على الدرس والحلل والإبل فانتهبوها، ومال وحال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، وإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تغلب عليه فيذهب بها منها(8) .

7 - وكان القتلة قبل قتل الجميع قد منعوا الماء عن الإمام الحسين ومن معهعليهم‌السلام ، حيث كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: أما بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة(9) .

القرار النهائي للأكثريّة الساحقة

بطون قريش الـ 23، والمنافقون، والمرتزقة من الأعراب، وأبناء بطون

____________________

(*) قد مرّ التعليق على هذه الفقرة في هامش الصفحة 37 من هذا الكتاب.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 469 على سبيل المثال.

(2) راجع تاريخ الطبري 5 / 18 و 444 و 445.

(3) تاريخ الطبري 5 / 454.

(4) المصدر نفسه.

(5) مقتل الخوارزمي 2 / 32، وتاريخ الطبري 2 / 360، وتاريخ ابن كثير 8 / 188.

(6) راجع تاريخ الطبري 2 / 363 « غلامان من أهله ».

(7) راجع تاريخ الطبري 5 / 429 - 430 و 436 و 438، وانظر الطريقة الوحشية التي قتلت فيها تلك السيدة.

(8) راجع معالم المدرستين 3 / 136 للعسكري.

(9) راجع معالم المدرستين 3 / 84 نقلاً عن الطبري.

٩٥

وشيع الخمسة الذين رشّحهم عمر للخلافة وسماهم أهل الشورى.

والمسلمون الجدد الذين دخلوا بالإسلام على يد جيش الخلفاء الفاتح أيّدوا قرارات الخليفة يزيد بن معاوية مثلما أيّدوا تنفيذ أركان دولة الخلافة لهذه القرارات، وباركوا مذبحة كربلاء التي ارتكبها جيش الخلافة، وباركوا قتل الإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ونهب أموالهم، وقتل أطفالهم، وحرمانهم من الماء، والتمثيل بهم بعد موتهم؛ وذلك لأن عقيدة هذه الأكثريّة تحرم الخروج على الخليفة، ولا تجوّز عدم بيعته(1) .

إنّهم وإن لم يصرّحوا فهم ضمنياً يرون أن امتناع الإمام الحسينعليه‌السلام وذوي قرباه « غير جائز »، ويرون أن خروجهم على يزيد بن معاوية « حرام »(2) وفق المفهوم الديني لهذه الأكثريّة. ذلك المفهوم الذي لم ينزل به الله سلطاناً، إنما هو من تعاليم مدارس الخلفاء الذين قصروا مهمة الدين على أنه طريق ملك، ومنهج للمحافظة على هذا الملك.

تلك المدارس خصّصت المنافقين للإفتاء والمرجعية وجعلتهم سادة، وخيّرت آل محمّد بين القبول بفتاوى ومرجعية المنافقين أو الموت، فاختاروا الموت عن طيب خاطر.

والأكثريّة الساحقة من الاُمّة الإسلاميّة كانت بين مؤيّد ومنفّذ؛ فجيوش الخلفاء مع الخليفة بما فيه الجيش الذي نفّذ مذبحة كربلاء، ولم يدع أحد للآن أن تلك الجيوش ليست من الاُمّة الإسلاميّة.

والذين لم ينخرطوا بجيش الخليفة كانوا تحت السلاح، فلو لزم الأمر لجنّدهم الخليفة كلهم؛ فهم يتقاضون منه عطاءهم الشهري، ومَن يوالي غيرهم أو يطع غيره فلا عطاء له. لم يأمره أحد بمعروف، ولم ينههه أحد عن منكر.

لقد اعتبرت الأكثريّة التي أشرنا إليها قتل ابن النبي وأهل بيت النبي ومَن والاهم فتحاً مبيناً؛ إذ مَن يدلني على رجل وأحد من الأكثريّة التي وقفت مع الخليفة أنه قال له: هذا منكر يا أمير المؤمنين، ما كان ينبغي لك قتل ابن النبي وإبادة أهل بيت النبوة لأي سبب؟ كانت الأكثريّة تبارك لأمير المؤمنين « بنصر الله والفتح ».

____________________

(1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 229، وسنن البيهقي 8 / 158 - 159، والتمهيد للباقلاني - باب « ذكر ما يوجب خلع الإمام ».

(2) المصدر نفسه.

٩٦

متى ندمت هذه الأكثريّة؟ لقد ندمت فقط عندما ندم الخليفة، واكتشفت أنها أجرمت بحق الله وبحق رسوله عندما اكتشف الخليفة فظاعة جرمه.

خرج علي بن الحسينعليه‌السلام ذات يوم، فجعل يمشي في أسواق دمشق، واستقبله المنهال بن عمرو الصحابي، فقال له: كيف أمسيت يابن رسول الله؟

قال: « أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون؛ يذبّحون أبناءهم، ويسحيون نساءهم. يا منهال، أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منهم، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً منها، وأمسينا أهل بيت محمّد ونحن مغصوبون مظلومون، مقهورون مقتولون، مبتورون مطرودون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون »(1) .

تماماً كما فعلت الأكثريّة الساحقة من مجتمع فرعون بموسى وبني إسرائيل فعلت الأكثريّة الساحقة من مجتمع يزيد بن معاوية بالحسين وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام .

____________________

(1) راجع كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي 5 / 247 - 249، ومقتل الخوارزمي 2 / 69 - 71.

٩٧

٩٨

الفصل الثالث

الأقلّية التي وقفت مع الإمام الحسينعليه‌السلام أو تعاطفت معه

ما من اُمّة من الاُمم السابقة لاُمّة محمّد إلاّ ووقفت أكثريتها الساحقة مع طاغيتها وضد نبيها، والأقلّية القليلة من كل اُمّة من الأمم القبلية هي التي اختارت بمحض إرادتها أن تقف مع نبيها.

ولم يكن النبي بدعاً مع الرسل؛ إذ وقفت معه الأقلّية القليلة، ووقفت ضده الأكثريّة الساحقة من العرب، وحتّى عندما فرض سلطانه على العرب وحوّلهم من دين إلى دين، وقبيل وفاته لمّت الأكثريّة شملها، ووقفت ضده وهوعلى فراش الموت، وحالت بينه وبين كتابة ما أراد كما بيّنا.

بمعنى إن مواقف الأكثريّة والأقلّية من كل اُمّة هي حالة من التواصل والامتداد الطبيعي لموقف الأكثريّة والأقلّية من كل اُمّة من الأمم السابقة؛ فالأكثريّة تقف مع مصالحها المرتبطة بنظام المجتمع السائد في زمنها، والأقلّية تقف دائماً مع مبادئها.

ويبدو واضحاً أن موقف الأكثريّة والأقلّية ظاهرة من ظواهر الاجتماع البشري الثابتة؛ فأقدم الأمم اُمّة نوح، وأحدث الاُمم اُمّة محمّد، فكل اُمّة من الاُمم الواقعة ما بين الاُمّة الأقدم والأحدث وقفت أكثريتها مع الباطل أو ما نسميه: مصالحها، ووقفت أقليتها مع الحق أو ما نسميه: المبادئ.

فأكثريّة الاُمّة الإسلاميّة التي وقفت مع يزيد بن معاوية وأركان دولته حفظاً لمصالحها هي امتداد وتواصل طبيعي لموقف الأكثريّة من كل اُمّة من الاُمم السابقة التي اختارت الوقوف إلى جانب طاغوتها ونظامه السائد ضد النبي أو المصلح الذي جاء لإنقاذها.

والأقلّية من الاُمّة الإسلاميّة التي اختارت الوقوف إلى جانب الإمام الحسينعليه‌السلام ضد يزيد بن معاوية وأركان دولته هي أيضاً حالة من التواصل والامتداد الطبيعي لأقلّيات الاُمم السابقة التي اختارت الوقوف مع أنبيائها ومبادئهم.

٩٩

التعتيم الرسمي

السلطة - أي سلطة - بما فيها دولة الخلافة كانت وما تزال تملك السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام، وتملك سيطرة فعلية غير معلنة على كتابة التاريخ؛ فهي التي تقدر عملياً ما ينبغي أن يكتب وما لا ينبغي، وما ينبغي أن ينشر ويعلم به العامة وما لا ينبغي فيبقى سراً، ويظل العلم بتفاصيله حصراً على السلطة وأركان دولتها.

وكان إعلام الدول من القدرة بحيث أنه يستطيع أن يصوّر الأسود بصورة الأبيض، وأن يقدم الأسود بصورة الأبيض، وأن يبرز الباطل لرعايا الدولة على أساس أنه الحق المبين، وأن يصوّر أركانه ودعاته على أساس أنهم النماذج البشرية الفذة التي اختارتها قوى غيبية ومقدسة خاصة لقيادة المجتمع وتوجيهه مثلما كانت له القدرة على تقديم الحق لرعايا الدولة بصورة الباطل الزهوق، وتقديم دعاته باحتقار بالغ وتصويرهم بصور الحثالة أو الأراذل الذين خرجوا على مجتمعهم الموحد، وحاولوا أن يشقوا صفوفه، وأن يفرقوا جمعه.

إنه إعلام قذر، مسلح بالكفر الصراح، لا يجد حرجاً ولا غضاضة من استعمال أيّة وسيلة لإقناع الجميع بما خطط له وأراد. وغني عن البيان أنّ السلطة أو الدولة في كل اُمّة تملكها أو تدعي ملكيتها الأكثريّة في هذه الاُمّة أو تلك؛ لذلك فإن إعلام كل دولة مسخّر ليكون الناطق الرسمي باسم تلك الأكثريّة. والتاريخ المكتوب لكل اُمّة ما هو إلاّ تسجيل لانتصاراتها وإنجازاتها وقدرتها على سحق الأقلّية وازدرائها.

ومن هنا، وهذا هو السر في عدم معرفتنا بأشخاص الأقليات من كل اُمّة، وسيرهم الشخصية، وتفاصيل الموقف المشرف الذي اتّخذه كلّ فرد من أفراد تلك الأقليات؛ لأن تاريخ الاُمم وإعلامه تعمّد التعتيم على كافة جوانب العزِّ والعظمة التي تميّز بها كلُّ فرد من أفراد تلك الأقلّيات.

لقد حوّل إعلام الدول عز الأقلّية إلى هوان، وكبرياءها إلى ذل، وحصافتها إلى جنون، وعزمها على التغيير إلى عبث بوحدة المجتمع، ومحاولة لبعثرة جمعه.

١٠٠