المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم50%

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 63

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم
  • البداية
  • السابق
  • 63 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53460 / تحميل: 7335
الحجم الحجم الحجم
المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم

المواكب الحسينية وتوحيد المسيرات العزائية في العالم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المواكب الحسينيّة

وتوحيد المسيرات العزائيّة في العالم

تأليف: الشيخ مكّي فاضل حسن

١

الإهداء

إلى مَنْ تحمّل العناء في تربيتنا ونشأتنا وعشنا في ظله، والذي كان برغم عوزه وقلّة يده ما كان يردّ لنا طلباً نطلبه يوم كنّا صغاراً؛ فبذل الكثير من أجلنا، وتحنّن علينا بعطفه ونحن كباراً، وما لاقاه من الظلم والإهانات من أجلنا ونحن في بلاد الغربة والمهجر. إلى روح المرحوم الوالد الغالي أهدي هذا الكُتيب والمجهود الطيب؛ خدمة لسيد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام .

وأسأل الله أن تشملنا وإيّاه شفاعته، ويجعلنا من المرحومين بهم في الدنيا والآخرة.

٢

مقدّمة المؤلّف

« السّلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، ورحمة الله وبركاته »

منذ أن فتحت عيني على الحياة وأنا أنظر إلى مواكب عزاء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، والناس في هذه المسيرات العزائيّة الولائيّة الخالدة قد تجلببوا بالسواد، وأراهم ما بين لاطم على صدره بيده، وما بين مَنْ يضرب على ظهره بالزنجيل، وما بين مَنْ يطبر جبهته ويدميها. هذه الأصناف من المشاهد انطبعت في ذهني وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي.

وبعد أن اشتد عودي ووقفت على رجلي أخذت أعزّي مع المعزّين، وألطم مع اللاطمين بشكل تلقائي وعفوي وفطري. هذا الاندفاع العاطفي الحماسي الوديع ولو كان على غير دراية إلاّ أنّه منحني عشق الحسينعليه‌السلام ، ورضعت حبّه وولاءه منذ نعومة أظافري، فأصبحت المسيرات العزائيّة المقدّسة لها قدسية خاصة في نفسي، ولا أسمح لأيّ مخلوق كائن مَنْ كان أن يمسّ بالإضرار بها وبقدسيتها.

مكّي فاضل حسن الدمستاني

البحرين - الدمستان

٢٠ / ٧ / ٢٠٠٧ م

٣

هدف المواكب الحسينيّة

الموكب الحسيني هو عبارة عن التحرّك الجماهيري للأمّة بقيادة الإمام المعصوم أو نائبه في عصر الغيبة الكبرى من أجل تحقيق أهداف ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام . ولا زالت تراودني في الذاكرة هذه الحقيقة الذهبية من الذكريات، حيث إنّي مع التدرّج في مدارج الحياة، والتقدّم في العمر، وحضوري إلى مجالس العزاء التي تُقام في مآتم منطقتنا أدركت ثلاثة أهداف لاستمرارية وبقاء هذه المواكب الخالدة:

أوّلاً: الهيبة المميّزة في النفوس

إنّ العزاء على أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام له هيبته المميّزة في النفوس، وهذه الهيبة جعلٌ خاص من الله تعالى خصها لاستمرارية العزاء الحسيني إلى يوم الدين، لا تفقد هذه المواكب هيبتها ولو حاول البعض من أصحاب النفوس الدنيئة والساقطة والحاقدة على المعزّين أن توقف المسيرات الحسينيّة عن طريق التشويه والعنف والإرهاب.

ولقد استمد شيعة أهل البيتعليهم‌السلام هيبتهم من هيبة عزاء الموكب الحسيني؛ لأنّ في هذه المواكب المقدّسة حشود ولائيّة وهي غاضبة على الظلم، وترفض الظالمين في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ جيل من الأجيال، وترفع باستمرار هذا الشعار(يا مظلوم يا حسين)، (يا لثارات الحسين) .

ثانياً: العزاء الحسيني يذوّب الكبرياء من النفوس

في أثناء السير على الأقدام في المسيرات العزائيّة تجد المشاركة الفعلية بين القوي والضعيف، وبين الغني والفقير، لا فرق بينهما في هذا المشهد الذي ليس له نظير إلاّ في حج بيت الله الحرام، وبعد الانتهاء من العزاء الكل يجلس على مائدة الإمام الحسينعليه‌السلام لأخذ البركة من ذلك الطعام الذي يعدّ في الواقع والحقيقة دواء لكلّ داء. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عظمة نفوس المعزّين الذين ذوّبوا الكبرياء والطغيان من النفوس، وذابت بينهم الفوارق المادية.

٤

ثالثاً: مظلوميّة الإمام الحسينعليه‌السلام وتأثيرها العاطفي على النفوس

إنّ تصوّر مأساة واقعة الطفّ وما جرى على الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته من بعده تشعل جمر اللوعة والحرارة في قلوب الموالين والمعزّين؛ ممّا تدفعهم وبقوّة لإحياء المسيرات الرثائيّة العزائيّة بكلّ صمود وتحدي، ومهما كلّف الثمن من تضحيات، كل ذلك يعد رخيصاً لما قدّمه سيد الشهداءعليه‌السلام .

فكلّما نقدّمه ونبذله من عاطفة جياشة ودموع مالحة غزيرة إنّما تعني عن تعبير لتلك العاطفة الحارة التي عبر عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال:“ إنّ لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً “ . أسأل المولى جلّ ثناؤه أن يجعل هذه الحرارة ووهج هذه العاطفة في قلوبنا؛ لكي تشملنا ألطاف الحسينعليه‌السلام ورحمته وشفاعته.

المنشأ التأريخي للمواكب العزائيّة

منذ استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام أُصيب الشيعة بجرح عاصف لم يندمل؛ فحقّ لهم التعبير عن تألمهم. ولو أنّهم وجدوا الحرية الكاملة في عهود الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام لأقاموا هذه الشعائر القائمة اليوم أكثر، ولكن أنّى لهم ذلك وسيوف حكّام الجور مشرعة في وجوههم. وبالرغم من هذا كلّه تمرّدوا على المحن، وأبوا إلاّ انتزاع حرياتهم رغماً عن الزمن؛ بالقوّة تارة، وبالتضحيات اُخرى.

٥

والمواكب الحسينيّة واحدة من مفردات هذه الشعائر الحسينيّة التي تأخّر خروجها عن مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام حتّى سجّل التاريخ صفحات ناجعة لأمراء البويهيِّين؛ حيث إنّهم احتضنوا هذه الشعائر فأخرجوا المآتم من الدور والبيوت إلى الأسواق والشوارع حتّى حوّلوها مواكب مشهودة ومهرجانات مفجعة في مهدها الأوّل العراق وإيران؛ حيث مركز حكومتهم وسلطانهم الذي ابتدأ سنة ٣٣٤ هـ وانتهى ٤٦٧ في أواسط الحكم العباسي، بالرغم من معارضات ومخالفات معظم الخلفاء العباسيِّين لهم على هذه المواكب.

ولم يأبه البويهيّون لهذه المعارضات؛ لأنّ الحكم الحقيقي والسلطة الفعلية سقطت من أيدي الخلفاء العباسيِّين، ولم يبقَ لهم غير الاسم المجرّد؛ إذ صارت بأيدي البويهيِّين.

وقد نصّ أكثر من مؤرّخ أنّه في سنة ٣٥٢ هـ أمر معزّ الدولة أحمد بن بويه في العشر الأُوَل من المحرّم ببغداد بإغلاق جميع أسواق بغداد، وإبطال البيع والشراء، وأن يلبس الناس السواد، وأن يُقيموا مراسم العزاء، وأن يُظهروا النياحة، وأن يخرج الرجال والنساء لاطمين الصدور والوجوه.

وكان معزّ الدولة البويهي يرتدي رداء الحِداد والحزن، ويتقدّم عسكره المشترِك في هذه المواكبِ، وقد جعل يوم عاشوراء عطلة رسمية في الدوائر الحكومية إلى أن تطوّرت تلك المواكب والمآتم بتطوّر ساسة الحكومات التي كانت تتولّى السلطة في إيران أو العراق.

٦

وكان بعض أكابر الطائفة الإماميّة يشارك في هذه المواكب، كأمثال العلاّمة السيد محمد مهدي بحر العلوم المتوفّى سنة ١٢١٢ هـ، فقد كان يتقدّم أمام هذه المواكب، ولمّا سُئل عن سبب اشتراكه في هذا العزاء أجاب: أنّه رأى في المنام الإمام الثاني عشر صاحب الزمان (‏عجّل الله تعالى فرجه) مشتركاً في هذا العزاء.

ناهيك عن كبار الشعراء الذين كانوا يشتركون به أمثال الكعبي وعظماء المجتهدين والفقهاء الشيعة كالشيخ زين العابدين المازندراني وغيره.

لو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء لتبيّن لنا في تلك الفترة والحقبة الزمنية التي مرّت في عهد الأجداد (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) كان العزاء الحسيني يختصر على الردادية فقط، بحيث ينتهي الخطيب الحسيني من القراءة فيبدأ الرادود يردّد القصيدة على المستمعين وهم جلوس في المأتم، ويلطمون على رؤوسهم وصدورهم.

هذا الحال كما حدّثنا أحد الأجداد (رحمه الله تعالى) قال: هذا من قبل قرابة مئة وخمسين سنة، يقول: ثمّ بعد ذلك تطوّر الأمر إلى أن الخطيب نفسه هو الذي يأتي بالقصيدة بعد مجلس العزاء، ويقف المعزّون بجانب المنبر ويلطمون لمقدار ساعة أو ساعة ونصف، ثمّ ينهون العزاء بلطميات عزائيّة، فاستمر هذا الحال إلى ما قبل الأربعينيات.

من بعد هذا العهد بدأت المواكب العزائيّة تكبر، والأجيال تتنامى إلى أن تطوّر العزاء الحسيني وانتقل من المأتم إلى الخارج, ولكن في حدود ساحات المآتم فقط لا يتعدى أكثر من هذه المسافة، وبدون مكبّرات للصوت؛ لأنّ هذه وسائل أتت في العصور المتقدّمة الحديثة.

فاستمر العزاء على هذا الحال إلى أن شيئاً فشيئاً أخذ الناس يقطعون مسافات أكبر وأكبر إلى أن وصل اتساع المواكب العزائيّة بهذا الانتشار الواسع الذي نلحظه الآن. وهذه شذرات مثمرة من تلك الشجرة المشرقة الوضّاءة التي غرسها الأجداد والآباء، وحافظوا على نموّها حتّى وصلتنا على هذه الهيئة.

٧

أقول: كما إنّ أجدادنا وآباءنا عملوا واجتهدوا وأسسوا لنا هذا الأساس الرائد نحن يجب علينا أن نجتهد ونجاهد حتّى نوصل رسالة الموكب الحسيني للأجيال الولائيّة القادمة التي ستأتي من بعدنا.

وحول مسيرة المواكب الحسينيّة المقدّسة أُثيرت خمسة أسئلة اُحاول في هذا الكُتيّب الإجابة عليها بحسب خلفيّتي البسيطة، وأسأل الله أن تعمّ لي ولكم الفائدة والله ولي التوفيق.

أبرز مظاهر العزاء الحسيني

س١: ما هي أبرز مظاهر عادات الشعائر الحسينيّة؟

هناك مجموعة ممارسات لشيعة أهل البيتعليهم‌السلام يبدون التقيّد بها في أيام المواسم العزائيّة، ونراها ظاهرة وجليّة في المواكب العزائيّة:

أوّلاً: استحباب الحداد

التفرّغ من أجل إحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام هو أمر استحبابي؛ ولأجل التعبير عن الحزن والأسى لما جرى عليهم من ضيم نعلن مواساتنا للنبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ولباقي الخيرة المعصومين إلى آخرهم القائم المهدي (عجّل الله تعالى فرجه وأرواحنا لتراب مقدمه الفداء).

ففي تاسوعاء وعاشوراء نتقيّد بالحداد العام، ونعطّل عن الأعمال من أجل المشاركة في مراسيم العزاء، وإحياء هذه الشعيرة المقدّسة، وهذا أقلّ ما نستطيع أن نقوم به كموالين لأهل البيتعليهم‌السلام .

٨

ثانياً: لبس السواد ونزع الزينة

بلا شك أنّ السواد هو شعار الحداد، وهو يرمز إلى الجزع والكآبة والحزن على مصاب ذرّيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكلّ جزع مكروه إلاّ الجزع والحزن على الإمام الشهيدعليه‌السلام ، فهل يُعقل من المعزي أن يتظاهر بأفخر الثياب والزينة وحجّة الله مولاه الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء جرّدوه الأعداء اللئام من ثيابه، وتركوه عارياً حيث بقي على رمضاء كربلاء ثلاثة أيام بلا غسل ولا دفن؟!

ولو لم يكن لنا من مصيبته إلاّ هذه المصيبة الأليمة لكفتنا أن نملأ الأرض كلّها بالسواد، ونتجلبب بالسواد لتخليد ذكراه.

ثالثاً: اللطم على الصدور والرؤوس

جميع الفقهاء، سواء القائلون بالحرمة وغيرهم، اتفقوا على جواز اللطم والجزع على سيد الشهداءعليه‌السلام :( كلّ جزع مكروه إلاّ على الحسين عليه‌السلام ) .‏

ورد من جملة وقائع كربلاء أنّ أهل البيتعليهم‌السلام بعد عودتهم من السبي التقوا مع جابر الأنصاري وجمع من بني هاشم. يقول ابن طاووس في تصوير المشهد: فوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم.‏

٩

هذا اللقاء العفوي والطبيعي رافقه ردّ فعل شعبي عام تمثّل باللطم، وهذا الأمر كان متعارفاً في العصور المختلفة، وقد كان على مرأى ومسمع من الأئمّةعليهم‌السلام الذين لم يردعوا عنه كما ردعوا عن الجزع واللطم والتفجّع على الأخ والأب والقريب.‏ فاللطم مظهر مقدّس في سبيل إحياء ذكريات المعصومين المظلومينعليهم‌السلام ، وتتفرّع منه عناوين كثيرة من جملتها:

١ - الترويج لأهل البيتعليهم‌السلام ‏.

٢ - إحياء ذكرى عاشوراء وإبقاؤها حيّة في النفوس.‏

٣ - إظهار الجزع على الحسينعليه‌السلام كما ورد في المعتبرة.‏

٤ - إظهار مظلومية آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .‏

وهذه العناوين معترف بها فقهياً، وتوجب رجحان متعلّقاتها ومنها اللطم على الصدور، وهو من أبرز مظاهر الشعائر الحسينيّة في المواكب العزائيّة.‏

اللطم جائز بل مستحب؛ للحديث الشريف:« على مثل الحسين فلتلطم الخدود، ولتُخمش الوجوه » . ولقد لطمنَ الفاطميات (عليهنَّ السّلام)(١) .

كلّنا ندرك أنّه تعظيماً لشعائر الله نحن نلطم على صدورنا؛ ولأنّ الصدر هو موقع ما داس الشمر اللعين على أمامنا الحسينعليه‌السلام .

____________________

(١) راجع مقتل عبد الرزاق المقرّم.

١٠

رابعاً: ضرب الظهر بالزنجيل

هذا اللون من العزاء يعبّر عن مدى تفاعل المعزّين في الموكب العزائي، ويعبّر عن مدى الأشجان التي تختلج في الصدور الملتهبة وهي تحمل في داخلها ثقل المأساة الكربلائيّة؛ فليس اللطم وحده هو الذي يعبّر عن حجم ثقل مصائب المعصومينعليهم‌السلام ، وإنّما في عقيدة الموالين إشراك جميع أبدانهم بما فيها الظهر يفدون بذلك سبط النبي المذبوح.

والزنجيل يُضفي على المسيرة العزائيّة الحماس الجماهيري والتفاعل العاطفي، كذلك لا يختصر على سن معين من المعزّين، بل يشترك فيه مختلف الأعمار في إطار دائرة الموكب الحسيني، حيث يشترك فيه الشيخ المسن، والشاب اليافع، والأطفال الصغار بمختلف أعمارهم.

أيضاً عزاء الزنجيل يُعطي للموكب العزائي خصوصية خاصة في تلحين القصائد الرثائيّة التي ينشدها ويردّدها الرواديد بأصوات حزينة ومؤثّرة.

وهذا اللون من العزاء قد يتعجّب منه سائر الناس من أصحاب الفرق والأديان والمذاهب المتعددة دون المذهب الإمامي، أمّا نحن الإماميّة فقد تعوّدنا على هذه المشاهد منذ طفولتنا، وسنحيي هذه الشعيرة بقوة وبحماس وبدون تردد، وسيبقى عزاء الزنجيل شعيرة دينية يواسي بها عشاق الولاية مصاب أهل البيتعليهم‌السلام في كلّ زمان ومكان.

١١

خامساً: التطبير وضرب القامة بالسيف

هذا الشكل من العزاء المهيب والمثير والرهيب جعل العالم بأسره يهتزّ من أعماقه؛ منهم مَنْ وقف موقف من الشيعة وقال فيهم: مجانين، ومنهم مَنْ وقف من الشيعة وقال: هؤلاء الذين يدمون رؤوسهم أصحاب بدع وخرافات، ومنهم مَنْ وقف من الشيعة موقف المحايد ولم يبتّ برأي في التطبير؛ حفاظاً على العلاقة والصداقة.

ومن الناس مَنْ وقف موقف المعادي والحاقد على الشيعة ومذهبهم كالنواصب والوهابيِّين، والآخر من جماهير الاُمّة مَنْ وقف موقف المتعاطف ويقول: شيعة أهل البيتعليهم‌السلام لا يلامون، وإمامهم الذي يقتدون به هو ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد مثّل به الاُمويّون شرّ تمثيل، وأراقوا دمه الطاهر، فهم يجرحون رؤوسهم؛ وفاء للتضحية الجسيمة التي قدّمها لأمّة جدّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعة أبيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولِما قدّمه لإحياء الدين.

هذه المواقف المتعدّدة والمغايرة في عزاء التطبير، المعادية منها والمتعاطفة والمؤيدة، كلّها تصبّ في مشروعية هذا النوع من العزاء الدامي من حيث مشروعيته وعدم مشروعيته.

إنّي في هذا المقام ليس في صدد تناول فتاوى الفقهاء العظام؛ مَنْ أفتى بالحرمة، ومَنْ أفتى بالجواز، أعتقد أنّ مسألة التطبير مسألة خلافية واضحة بين فقهائنا (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين)، ففي هذا الشأن كلّ منّا يتبع مقلّده ويلتزم بفتواه، ونعزّي الحسينعليه‌السلام بنيّة خالصة.

وفي هذا الصدد أضمّ صوتي مع صوت اُستاذي سماحة الشيخ فوزي آل سيف (حفظه الله تعالى) حيث ردّ على سؤال السائل وقال: التطبير (جرح الرأس بالسيف)، والضرب بالسلاسل، وإدماء الظهر ما وقع فيه الاختلاف (مشروعية أو استحباباً)؛ سواء كان ذلك بالعنوان الأولي أو العناوين الثانوية الطارئة.

١٢

ثمّ تابع القول سماحة الشيخ وقال: إنّ شعائر الحسينعليه‌السلام على اختلاف طرقها وأساليبها يوجد بينها قاسم مشترك، والقاسم المشترك بينها كما يفترض هو أن تساهم في إحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام وإن اختلف البعض في أنّ هذا يساهم أو لا يساهم في إحياء أمرهم، لكن غرضها الأقصى والقاسم المشترك بينها هو الإحياء، فلا يصح أن يحوّلها أتباع أهل البيتعليهم‌السلام إلى ساحة معارك داخليّة تنتهي إلى إضعاف أمر أهل البيتعليهم‌السلام (١) .

نعم يا أحباب أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، إنّ هذا الطرح الوسطي المعتدل يجعلنا نحيي الشعيرة الحسينيّة المقدّسة بما فيها مسيرة الموكب العزائي، ونحن بتمام الثقة والاطمئنان إنّ لطمنا وعزاءنا، وكلّ شيء نقدّمه لأهل البيتعليهم‌السلام فهو مقبول لديهم إنشاء الله تعالى.

لكن الشيء الذي يؤسفني ويؤسف كلّ محبّ لأهل البيتعليهم‌السلام هو لماذا يقف البعض موقف المتشنّج والمتعصّب، وكأنّه يريد أن يلغي عزاء التطبير من قائمة الوجود، وفي مصلحة مَنْ إبداء هذه المعارضة؟

أقول: أنت مرجعك الذي تقلّده لا يجوّز التطبير، ابقى يا أخي على تقليدك، واحتفظ بإخوّتك وصداقتك مع إخوانك الذين مرجعهم يجوّز التطبير، وهذا هو المطلوب. ولو راجعنا أنفسنا قليلاً لوجدنا بأننا كلّنا نسير على هدف واحد، وتحت راية واحدة، وهي راية المراجع العظام، وتحت قيادة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وفكّروا أيّها الأحبّة في أسرار هذا الكون بعد استشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ستلاحظون أنّ الكون بما فيه من أفلاك بكى عليهعليه‌السلام ، بل السماء لأجله أمطرت دماً، ولم تجد في ذلك اليوم حجراً إلاّ وتحته دماً عبيطاً، هذا ما ورد في النصوص التاريخيّة.

____________________

(١) راجع الخصائص الكبرى ٢ / ١٢٦، تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٩، تذكرة الخواصّ / ١٥٥، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ٨٩.

١٣

ورد في مقتل الحسين لأبي مخنف قال: لمّا قُتل الحسينعليه‌السلام أمطرت السماء دماً، فأصبحت الحباب والجرار وكلّ شيء ملآن دماً، ولم يُرفع حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط. ولما دخل الرأس المقدّس إلى قصر الإمارة سالت الحيطان ومطرت السماء دماً.

أيّها الأحبّة، ينبغي لنا أن نقف عند هذا النص ونتأمّل كيف أنّ السماوات والأرضين بكت الحسينعليه‌السلام دماً، فنحن لماذا نستكثر على أبيّ الضيم ذلك ولا نُعطي اليسير البسيط من دمائنا ونحن نعبّر عن عواطفنا تجاه مظلوميته؟ فدعوا الذي يستاء من مشهد عزاء التطبير، يستاء ولو أنفقنا ما في الأرض ذهباً لم ولن يغيّروا مواقفهم الشاذة والمتصلّبة ضدّنا وضدّ مذهبنا.

دعك عن الفتاوى المتعدّدة الأوجه التي يثيروها بين الحين والآخر في تكفيرنا وإباحة دمائنا. إذاً لماذا المحاباة وهشاشة الموقف أمام هذه الفئات الضالّة المضلّة التي ما عرفت من الدين إلاّ التكفير والبدع، والشرك والتعنيف؟!

ثمّ هل من المعقول أن نضرب بفتاوى فقهائنا ونتخلّى عن مبدئنا ومعتقدنا من أجل خاطر فلان من الناس وهو حاقد وناقم على عزائنا من أساسه، ويقول: إنّ عزاء الشيعة على الحسينعليه‌السلام كلّه بدعة من بدع الضلال؟!

وأيّ وحدة تقوم بيننا وبينهم وكبار علمائهم يجوّزون ويباركون تفخيخ السيارات، ويترصّدون لأتباع أهل البيتعليهم‌السلام في كلّ مكان، ويفجّرونها في أوساطهم، ويهلكون الحرث والنسل، ويذبحون العلماء، والكبار والصغار، والنساء، ويهدمون بيوت الله ومقدّساتنا ويخربوها؟!

١٤

دماء الشيعة رخيصة للحسينعليه‌السلام

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ولا بدّ من تبيان الإجابة عليه هو: لماذا بعض المعزّين من الشيعة يجرحون جباههم وتسيل دماؤهم على وجوههم؟ ولماذا يطبّرون وهم يرتدون الألبسة البيضاء كهيئة الأكفان؟

لا بدّ أن يعرف كلّ مَنْ يهمّه هذا التساؤل مجموعة من الحقائق المعنوية الروحية التي تربط بين الإنسان ومعتقده.

أولاً: من المألوف أنّ مشاهد الدماء مقزّزة للنفس، وهي من الأشياء الغير محبّبة لمشاهدتها، فكيف يقدم الموالي المعزّي عليها ويستحسنها ويدمي نفسه؟! فالأمر هنا لا يخلو من سرّ خفي، وهو يكمن في مدى معرفة هذا الإنسان للبذل والفداء والتضحية ( والمعروف على قدر المعرفة ).

فهؤلاء عرفوا إمامهم الحسينعليه‌السلام تمام المعرفة إلى درجة اليقين؛ حيث إنّهم أيقنوا بأنّ دماءهم ليس أغلى من دم إمامهم؛ لذلك هم يرخصون كلّ شيء في سبيله كما هو أرخص كلّ شيء لهم، وقدّم حتّى طفله الرضيع المذبوح من الوريد إلى الوريد؛ فداء للحفاظ على الدين، وشرف وكرامة الاُمّة.

ثانياً: إنّ من الحقائق المبدئيّة الروحية التي ينصّ عليها العرفانيّون في كتبهم العرفانية شيء اسمه ( وله العشق )، والذين يهرقون دماءهم بهذه الصورة العفوية هؤلاء وصلوا إلى رتبة أنّهم عشقوا مولاهم الحسين (أرواحنا فداه)، وما هذه الدماء الشريفة التي تجري من رؤوس الموالين إلاّ تنمّ عن المستوى الراقي الذي وصلوا إليه في حبّ الحسين وتضحيته الدامية، جعلنا الله وإيّاكم أن نكون من عشّاق الحسينعليه‌السلام .

١٥

ثالثاً: حمرة الدم في المواكب العزائيّة الحسينيّة ترمز إلى حمرة دماء سيد الشهداءعليه‌السلام ، ودماء الصفوة البررة الذين استشهدوا معه من أهل بيته وأنصاره في ساحة الطفّ والفداء.

وأمّا هزّ السيف بتلك القبضات الحسينيّة فإنّها ترمز للقوّة، وأنّ الحسينعليه‌السلام يمثل القوّة في حياته وفي مماته؛ من هنا يتبيّن أنّ المنتصر الحقيقي في المعركة ليس يزيد بن معاوية، وإنّما المنتصر هو حسين الخلود، وحسين البقاء.

ظنّوا بأنّ قتل الحسينَ يزيدُهمْ

لكنّما قتل الحسينُ يزيدا

فإذا قبض المعزّون السيوف وهزّوها وقاموا قائمين على سيوفهم فإنّهم يتقلّدون الشجاعة والتضحية والفداء، ويرتقبون ذلك اليوم الذي يأذن الله لوليه صاحب العصر والزمان المهدي الموعود (عجّل الله تعالى فرجه، وأرواحنا لتراب مقدمه الفداء) يقوم بالسيف، ويأخذ بثأر جدّه الحسينعليه‌السلام ، ويرفع شعار(يا لثارات الحسين).

فالمعزّون الشيعة عندما يلبسون اللباس الأبيض على هيئة الكفن ويتقلّدون بالسيوف، هو تعبير يرمز إلى أنّهم قد جنّدوا أنفسهم لذلك اليوم المعهود. لا سيما أنّ هناك رواية منصوصة تقول: إنّ الإمام الحجّةعليه‌السلام يخرج يوم العاشر من المحرّم الحرام في يوم الجمعة.

نعم أقول: إنّ الشيعة ليس بمجانين، ولا بخارجين عن الملّة، ولا بأصحاب بدع وضلال كما تقوّلت عليهم الأقاويل الشاذة والمغرضة، وإنّما الشيعة هم أمّة موحّدة تحمل رسالة مقدّسة، وهي رسالة الإسلام، وتعظيم شعائر الله تعالى تحت إطار القيم المبدئية والشرعية في الدين الحنيف.

١٦

سادساً: القصائد الرثائيّة الحسينيّة

من خلال تتبعنا وملاحظاتنا لمسيرة بعض المواكب التي تخرج يوم عاشوراء في المنامة وغيرها من المناطق في البحرين، نلاحظ أن أكبر شيء محرّك للعزاء هي القصيدة، فإذا كانت القصائد ذات كلمات مفهومة أدبية بلاغية قوية هادفة فإنّ الجماهير تتأثر بها، بل في غالب الأحيان تردّدها وتحفظها وتصبح اُنشودة على كلّ لسان.

فالقصيدة الرثائيّة هي قطب الرحى المحرّك للمواكب العزائيّة، فلنهتم يا أحباب الحسينعليه‌السلام بنظم القصائد الولائيّة الهادفة التي تمثّل عصب الرثاء، ونهتم بالموروث الأدبي الحسيني.

ولدينا من أدب الطفّ الكثير من المخزون التراثي من أدباء ماضين ولاحقين معاصرين، وهناك من دواوين حسينيّة فيها من القصائد الرائعة في التصوير والتشبيه ما هو مستفيض كالبحر المتلاطم.

أيضاً هناك من الرواديد المبدعين الذي هو يختار نمط القصيدة له من وزن وقافية؛ فيقولب المستهل، ويبحث عن أدباء وشعراء ويطلب منهم أن ينظموا له وزناً استعراضياً رائعاً بحسب ما هو يريد ويرغب ويتكيف معه أثناء الأداء.

وهذا الإبداع جميل ومستحسن، ويسهم إسهاماً كبيراً في انماء استقامة الموكب العزائي، ويضفي على العزاء روح الإقبال والمشاركة من الجميع ( ورحم الله مَنْ عمل عملاً فأتقنه ).

١٧

سابعاً: تمثيل الشبيه وتصوير الحدث

إنّ هذا اللون الاستعراضي الرائع يصوّر لنا قافلة الرسالة والاستشهاد، ويجسّد لنا حركة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام منذ أن خرج من وطن جدّه الحجاز مهاجراً إلى أرض العراق وحتّى أن استشهد وأحرقوا خيامه بالنار؛ حيث تشاهد في الشبيه مشاهد للخيول، ومشاهد اُخرى للجمال محمّلة عليها الهوادج، وتشاهد أمامك ساحة من الساحات خُصّصت لنصب الخيام، وبعد ظهيرة يوم العاشر تُحرق بالنار، وترى فيها أطفال ونساء وهنّ يصرخن ويتفاررن في البيداء.

هذه المشاهد بلا شك تجعل المشاهدين الذين يشاهدون العزاء في صورة الحدث التأريخي المأساوي المحزن، ولما جرى على أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قتل وتمثيل وتنكيل، وسلب ونهب، وسبي وحرق للخيام، فدعونا لا نغفل عن القيام بتشبيه هذا الدور المؤثر الذي لا أعتقد أنّ هناك في الوجود إنسان ذو قلب رحيم يراه ولا يتأثر بمشاهدته له.

وحول التفصيل عن دور الشبيه المؤثر في العزاء الحسيني راجع كتابنا الآخر (الحسين سفينة نجاة العالمين).

١٨

ثامناً: الرايات والأعلام العزائيّة الملوّنة

كلّ فاتح وثائر في هذه الحياة تُعقد له راية باسمه، والحسينعليه‌السلام أبو الثوار وقائد الأحرار، وهو عظيم العظماء، ورايته الحسينيّة المظفّرة تفوق كلّ راية العظماء والفاتحين؛ إنّها راية العزّة والكرامة والحرية، وهي راية الحمد التي حملها جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته، وحملها أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام في حروبه، ولمّا دنت منه الوفاة سلّمها إلى الحسن المجتبىعليه‌السلام ، ثمّ لمّا دنت وفاته سلّمها لأخيه الحسينعليه‌السلام وهكذا.

هذه الراية المقدّسة تدرّجت في مدارج التناول من يد إمام معصوم ليد إمام آخر، إلى أن تسلّمها الإمام الثاني عشر الحجّة المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وسوف يأتي بها في ظهوره وينشرها، وقد كانت خضراء، لكنّهعليه‌السلام يستبدلها باللون الأحمر؛ لأنّ راية جدّه الحسينعليه‌السلام امتزجت بالألوان الثلاثة، باللون الأسود وهو لون الحداد والحزن والجزع.

وبهذا اللون الكاتم سخّر الله تعالى لوليه الحسينعليه‌السلام شيعة تحيي ذكرى مصابه بالتوارث جيل بعد جيل، وهم قابضون بأيديهم الأعلام السوداء، مكتوب عليها:(يا مظلوم يا حسين) ، ويلوّحونها في مسيرات المواكب العزائيّة.

واللون الثاني هو اللون الأحمر، وهو لون الدم والشهادة الدامية، وقد تراءت هذه الحمرة في كبد السماء حين قُتل الحسينعليه‌السلام في يوم العاشر من المحرّم سنة ٦١ هـ.

واللون الثالث هو اللون الأخضر، هذا اللون الذي جرح قلب العقيلة زينبعليه‌السلام حينما جاءت من بعد مصرع أخيها، فرأت جسد حجّة الله ملقى على الأرض وقد صهرته الشمس بحرارتها، وغيّرت لونه ومحاسنه وقلبته إلى الاخضرار.

وأمام هذا المشهد تحيّرت بطلة كربلاء، وأخذت تحلّق بنظراتها إلى جثث القتلى إلى أن وقع بصرها على جثة الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه - بأبي هو واُمّي - قد تغيّر جسده الطاهر عليها. فنحن الشيعة عندما نحمل هذه الرايات الثلاث الملوّنة ونلوّح بها في مسيرات العزاء ليس اعتباطاً، إنّما هي ترمز لهدف مبدئي مقدّس.

١٩

تاسعاً: اللوحات الفنّية للرسّامين والخطّاطين

إنّ في هذا المظهر الحيوي الهام إبداعات جميلة يتعشّقها كلّ هواة الفن؛ لِما يشبع نهمهم ويروي ظمأهم من مناظر فنّية لا يتذوّقها إلاّ صاحب الذوق الرفيع، ومَنْ له اهتمام بالموروث الديني والثقافي، والاجتماعي والروحي والحضاري.

وهنا لا بدّ لنا من وقفة مع ريشة الفنان الرسّام الحسيني الذي يُبدع في تصوير حادثة الطفّ، ويرسم لنا تلك اللوحات المأساوية، ونحن لا نراها إلاّ جاهزة ومعلّقة على حيطان المآتم، وفي الطرقات، وأثناء انطلاقة المواكب العزائيّة.

وكذلك الأمر لذلك الجندي المجهول الذي يعمل دائماً من تحت الستار، وهو ذلك الخطّاط حينما يخطّ بقلمه الشعارات الحسينيّة وغيرها من أقوال المعصومينعليهم‌السلام في مختلف مناسباتهم، وهو يحاول إبراز دقّة فنّه؛ لكي يظهر بالمظهر الذي يتماشى مع حجم الحدث العاشورائي وغيره من المناسبات العظيمة.

٢٠

ماذا يرسم لنا الرسام في المواكب العزائيّة؟

في الغالب نرى الرسام يتأثّر بمرأى واقعي معين، أو بمشهد مبكي حزين، أو بطبيعة معينة، أو بحدث تأريخي معين، أو بشخصية ما؛ سواء كان هذا التأثر في الواقع أو في الخيال، فتتحرّك في داخله الرغبة الإبداعية فيُبدع ويرسم حتّى يصل إلى مبتغاه، ويخرج لنا لوحة فنّية رائعة المنظر. وما يدريك لعله يجلس على رسم هذه اللوحة أيام وليالي، ويسهر عليها حتّى يقدّمها للمشاهد بالشكل الرائع والمقبول والمثير.

في لوس أنجلوس بأمريكا في إحدى السنوات أقام مركز الشباب المسلم هناك معرضاً صورياً شارك فيه الكثير من الرسّامين المبدعين بمختلف أطيافهم ودياناتهم، ثمّ عرضوا فيه لوحاتهم.

أيضاً بعض الرسّامين الشيعة ركّزوا على رسم بعض المشاهد المثيرة من واقعة الطفّ في لوحاتهم وعلّقوها من بين اللوحات، وكان هناك من الإخوة المؤمنين في المركز مهمّته في المعرض يعرّف باللوحات للزائرين.

هذا الأخ يقول: كان كلّ زائر يزور المعرض لا ينجذب إلى شيء أكثر ممّا ينجذب إلى النظر إلى اللوحات الحسينيّة؛ لأنّهم رأوا فيها المناظر النادرة والمثيرة.

وكان من بين الزائرين ومن المدعوّين لحضور هذا المعرض هو الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (رحمة الله عليه)، ومن جملة انطباعاته على اللوحات التي رآها كان يقول: إنّ اللوحات كانت معظمها رائعة ومعبّرة وهادفة، وتُعطي لذهنية الناظر الصورة التقريبية، ولكن ما لفت نظري وأثار انتباهي من بين اللوحات المعروضة كانت هناك لوحة لأحد الرسّامين من بلدة الحلّة بالعراق وقد رسم فيها طفل الحسين عبد الله الرضيع والسهم واقع في منحره، والدماء من حوله، وحوريات قد نزلت من السماء إلى الأرض يتبركنَ بدمائه.

٢١

يقول: وأنا أتأمّل إلى هذه اللوحة الفنية الرائعة لكنّي ما استطعت مواصلة التأمّل فيها؛ لأنّني اختنقت بالعبرة وقد جرت الدموع من عيني.

فالرسّام الحسيني مبدع عظيم، ويستحق الثناء والتبجيل والتكريم، وقبل أن نكرمه قد كرّمه مولاه الحسينعليه‌السلام ؛ لِما يؤدّي له من خدمات فنّية جميلة؛ مكافأة له على عنائه وتعبه وسهره.

أيضاً لا ننسى جهد وعناء ذلك الخطّاط الشريف الذي يسخّر قلمه في خدمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ويسخّر إبداعاته الخطّية في كتابة الشعارات القدّسية التي أطلقها حسين الإباء في يوم عاشوراء قبل استشهاده. حفظ الله كلّ الخطّاطين والفنّانين الرسّامين، وحشرهم مع محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

بلا شك إنّ كلّ هذا الفن الإبداعي لا يضيع هدراً، وإنّما نراه بجلاء قد أصبح مظهراً مؤثراً، ودافعاً للحركة الجماهيرية في المواكب العزائيّة.

٢٢

ركضة عزاء (طويريج) المشهورة لدى شيعة العراق

إنّ الذي رأى هذا الموكب المهيب وهو يخرج يوم عاشوراء، أو في أربعينية سيد الشهداءعليه‌السلام في المسير من حرم أبي الفضل العباسعليه‌السلام إلى حرم أخيه الحسينعليه‌السلام ، يلحظ بأنّ ما وراء هذه الهرولة الزاكية الشريفة حكاية تأريخية مشهورة عريقة برزت بعد استشهاد أبيِّ الضيمعليه‌السلام ، وسوف أنقلها لك بنوع من الإسهاب والتفصيل:

ينطلق ما يعرف بـ (عزاء طويريج) بمصاب سيد الشهداءعليه‌السلام ظهر العاشر من المحرّم بعد صلاة الظهر من منطقة ( طويريج )، وهم يهتفون:(أبد والله ما ننسى حسينا) و(وا حسين) ، وما إليه من الشعارات الحسينيّة والهتافات الولائية، إلى أن يصلوا إلى حرم سيد الشهداءعليه‌السلام ، ومنه إلى حرم العباس بن عليعليهما‌السلام ، ومنه إلى المخيّم الحسيني.

لهذا العزاء تاريخ طويل ومشاركة كبيرة من الموالين والمحبّين للإمامعليه‌السلام ، وهو عزاء جماهيري يُشارك فيه أعداد كبيرة من عشّاق الإمام وهم يندبون لمقتل الإمام السبط، مهرولين إلى الصحن الشريف للإمام، لاطمين الصدور والرؤوس، منادين: يا حسين! يا حسين! يا حسين! هذا النداء الخالد ما خلدت الدنيا.

ويروى في إحدى السنوات كان المرحوم العلاّمة السيد مهدي بحر العلوم قد ذهب يوم العاشر من محرّم إلى مدينة كربلاء المقدّسة بصحبة عدد من طلبته وخواصه، فوقف على مشارف المدينة لاستقبال الموكب الحسيني القادم من مدينة ( طويريج ) التي يفصلها عن كربلاء حوالي أربعة فراسخ، حيث يعدّ هذا الموكب من أشهر المواكب وأكثرها حرارة إلى درجة أنّ نمطاً من أنماط العزاء الحسيني ما زال مشتهراً باسم ( عزاء طويريج )؛ نسبة إلى هذه المدينة التي كان يخرج منها مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال وهم يبكون ويندبون ويلطمون على سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه).

٢٣

والرجال منهم كانوا يسيرون حفاة الإقدام، حاسري الرؤؤس، وهم يلطمون أنفسهم بقوّة وحرارة على وقع المراثي كالمفجوعين توّاً، ممّا يزيد الأسى واللوعة بمصاب سيد الشهداء، وتتحوّل مدينة كربلاء المقدّسة إلى حالة من الحزن والأسى في كلّ أرجائها من وقع هذا الموكب وصداه.

وعندما اقترب الموكب إلى حيث كان يقف السيد مهدي بحر العلوم تفاجأ الذين من حوله بقيامه فجأة بإلقاء عمامته، وخلع قميصه، وقد انفجر من شدّة البكاء وغاص في وسط الموكب بين الجماهير، وهو يلطم بشدّة وقوّة، وهو ينادي ويصيح: وا حسيناه! وا حسيناه!

وقد تعجّب هؤلاء الذين كانوا من المقرّبين إلى السيد من قيامه بهذا التصرّف بغتة، بينما هو لم يعهد عنه مثل ذلك أبداً. وما كان من هؤلاء من سبيل سوى أن يدخلوا مع السيد في الموكب، فأحاطوا به من كلّ جانب؛ خشية أن يصيبه مكروه، أو يُداس بالأقدام وسط أمواج هذا الموكب المهرول الكبير.

وطوال تلك الفترة رأى هؤلاء من السيد بحر العلوم ما زاد من تعجّبهم ودهشتهم، إذ وجدوه في حالة لم يروها من قبل منه؛ فقد كان يضرب نفسه بقوّة وشدّة وجزع، وهو يبكي ويصيح بأعلى صوته من دون أن يشعر بما حوله، وكان حقّاً كالذي فقد عزيزاً الساعة.

وانتظر هؤلاء انتهاء الموكب والدهشة قد ملأت عقولهم، وبعد انتهاء مراسم العزاء وانفضاض الجميع، عاد السيد بحر العلوم إلى حالته الطبيعية، ولكنّه كان شاحب الوجه، منخرّ القوى، ولم يكن يقوى على النهوض، فسأله المحيطون به منكرين: سيدنا، ماذا جرى لكم حتّى دخلتم هكذا فجأة ومن دون اختيار في موكب عزاء طويريج كأحدهم؟!

٢٤

فنظر إليهم السيد وانهمرت دموعه على خديه وقال: لا تلوموني، ولا ينبغي لكم أن تلوموا أحداً من العلماء إذا ما قام بذلك؛ فإنّني ما إن اقترب منّي الموكب حتّى رأيت مولاي صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) حاسر الرأس، حافي القدمين، وهو يلطم ويبكي مع اللاطمين الباكين، فلم احتمل المنظر، ودخلت في الموكب ألطم صدري مع الإمام سلام الله عليه.

وعزاء طويريج يبدأ بالمسير انطلاقاً من مدينة طويريج الواقعة على بعد ٢٠ كيلو متراً عن كربلاء، حيث يتوجّه المشاركون فيه إلى هذه المدينة سيراً على الأقدام ليصلوا قبل الظهر على مشارف المدينة؛ حيث تُقام صلاة الظهر هناك لينطلق الموكب إلى داخل المدينة المقدّسة.

وتولّى علماء دين من آل القزويني، ووجهاء مدينة طويريج من آل عنبر، وعشائر بني حسن، وآل فتلة، والدعوم، الإشراف والإنفاق بمساعدة أهالي هذه المدينة على (ركضة طويريج) التي تنطلق لتبدأ بعدها مراسيم (الركضة) في العاشر من الشهر، وهو موكب عزاء يشارك فيه مئات الآلاف في كلّ عام.

٢٥

حلقة عزاء ذي الجناح المشهورة لدى شيعة البحرين

العزاء الحسيني لا يختصر على شريحة من الناس ليس على الشباب فحسب، بل يشترك فيه الشيوخ المسنّين الكبار من ذوي الشيبة البهية، وهؤلاء في البحرين قد خُصّصت لهم مسيرة عزائية خاصة بهم، وهي معروفة بـ (حلقة ذي الجناح)، وهذه التسمية نسبة لجواد الحسينعليه‌السلام .

وإليك قصّة كيفية هذه المسيرة الخالدة بالتفصيل: تعدّ قبل كلّ شيء الأعلام والشبيهات والخيول والجمال والهوادج، ثمّ يتجمّعوا الأجداد والآباء الكرام بعد خروجهم من سماع المقتل يوم العاشر، ويتكتلون في لمّة واحدة أمام موكب الشباب، ويأتي الرادود في مقدّمتهم ويقرأ قصيدة (أحرم الحجّاج) للشيخ حسن الدمستاني.

هذه القصيدة الحسينيّة الأدبية المشهورة التي على الدوام أبياتها تتردّد على ألسن الموالين المعزّين في كلّ مكان، وهي في الواقع ملحمة نظمت حادثة الطفّ من الأوّل إلى الأخير، وأصبح كلّ أهل العزاء يردّدون هذه الملحمة بشتّى الألحان في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والوسط الشيعي.

والقصيدة في الموكب على حال نظمها لم يغيّر فيها شيء إلاّ المستهل الذي اعتاد المعزّون أن يردّدوه في كلّ عام بهذه الكيفية:

ذو الجناح أقبل من الميدان خالي

وويلاه أي وا حسيناه وويلاه

٢٦

تأمّلات واقعية واعية في موكب ذي الجناح

متى تأسس موكب ذي الجناح؟ ولأيّ هدف وجد هذا الموكب؟

يعتبر أهل البحرين إنّ أوّل مأتم أُقيم في البحرين هو (مأتم ابن أمان) في حي المخارقة وسط العاصمة المنامة قبل حوالي قرنين، وشارك في تشييده أبناء الحي من البحّارة والبنّائين، وقد تمّ تجديده بعد وفاة الحاج عبد الأعلى أمان عام ١٨٦٩.

ومنذ تأسيس هذا المأتم التأريخي في ذلك الوقت انطلقت منه مسيرة حلقة ذي الجناح، وشيئاً فشيئاً أخذ يكبر هذا الموكب إلى أن عمّ مناطق وقرى البحرين، وكان له شهرة واتساع واسع بمشاركة أصحاب الثياب من المسنّين من جيل الأجداد والآباء.

فلو تأمّلنا في هذا الموكب المقدّس تأمّلاً واعياً لرأينا أنّ الهدف الأسمى من إيجاد مثل هذا العزاء هو المشاركة الوجدانية لجميع الموالين من شيب وشباب، فلماذا نلغي دور المسنّين من المشاركة في المواكب العزائية؟

لا بدّ أن تفرد لهم حلقة خاصة بهم حتّى تكون لهم الحافز المشجّع على المشاركة؛ ولأجل هذا الهدف النبيل تمّ إنشاء موكب ذا الجناح. ونأمل أنّ هذه التجربة الرائدة ستعمم على كلّ مناطق العزاء في العالم الشيعي حتّى تصبح المشاركة لجميع الفئات في المجتمع.

وإنّي على يقين بأنّ الشيعة مع تقدّم وتطوّر المواكب العزائية في هذا العصر إلاّ أنّ هناك الكثير ممّن يرغب أن يجعل ذا الجناح في مقدّمة المواكب العزائية الاُخرى، ولذكريات وفاء جواد الحسينعليه‌السلام .

٢٧

موكب عزاء حديث خاص للصم والبكم في البحرين

إنّ لكلّ إنسان حقّ في هذه الحياة ولو كان من ذوي العاهة، فمن الظلم أن يُحرم منه وبالاستطاعة أن يحصل على حقّه بمساعدة أهل الخير من المجتمع، ولا خير في مجتمع لا ينتبه إلى الفئة المحرومة.

والحياة هي الحركة، وكما يُقال:في كلّ حركة بركة . وأيّ حركة طبيعية تطوعية تسير في اتجاه خدمة أهل البيتعليهم‌السلام يباركها الله عزّ وجلّ، ويباركها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويباركها جميع المعصومينعليهم‌السلام .

فأهالي منطقة النعيم في البحرين قد تحرّكوا تحرّكاً جدّياً من أجل إنشاء موكب حسيني يضم فئة الصم والبكم؛ هذه الفئة التي عاشت في السنوات المنصرمة قد لا تفهم إلاّ القليل عن المواكب العزائية، وبالفعل تمّ هذا الإنجاز الكبير، وضمّ هذه الفئة إلى باقي فئات المجتمع. وكلّ هذا الفضل يرجع إلى أهالي النعيم الذين أُشربوا حبّ الحسينعليه‌السلام ؛ حيث إنّ قلوبهم تقطر بالولاء الخالص للعترة الطاهرة.

وفّق الله المؤسسين والقائمين على خدمة هذا الموكب المبارك المقدّس، وجعل هذا الإنجاز المثمر والعطاء اليانع في ميزان حسناتهم.

٢٨

متى بدأ موكب الصم والبكم، وكيف كانت انطلاقته؟

لقد بدأ هذا الموكب المميّز يظهر وجوده في صفوف المسيرات العزائية المقدّسة بجهود حثيثة مكثفة من قبل لجنة مأتم النعيم الجنوبي، حيث طرحت فكرة المجلس الحسيني للصم في ٣٠ / ٧ / ٢٠٠٣م، ووافق المجلس على تبنّي الفكرة.

وبعد الموافقة بدأ التحرّك في تطبيق هذا المشروع القيم؛ فأُقيم أوّل مجلس ديني (حسيني) مترجم بلغة الإشارة للرجال ‏‏( مكان خاص للرجال) في ٢٦ / ٢ / ٢٠٠٤م، ثمّ أُقيم أوّل مجلس ديني حسيني مترجم بلغة الإشارة ‏للنساء في ٢٨ / ٢ / ٢٠٠٤م. وفي تاريخ ١٠ / محرّم ١٤٢٥ هـ زار وزير الصحة المجلس الديني للصم نساءً ورجالاً.

ومن ضمن الفعاليات والنشاطات المستمرة تمّ اللقاء بالمجلس الحسيني للصم مع د. فؤاد شهاب رئيس مركز سلطان لتنمية السمع والنطق بتاريخ ١١ محرّم ١٤٢٥هـ - ٢٠ محرّم ١٤٢٥هـ.

وفي ١ / ٣ / ٢٠٠٤م تمّ إجراء اختبارات سمعية للصم بمركز سلطان لتنمية السمع ‏والنطق‏ في ‏٢ / ٣ / ٢٠٠٤م (٢٩ محرّم ١٤٢٥ هـ)، وتمّ لقاء لجنة الصم بوزير الصحة في ‏قاعة رفيده بوزارة الصحة.‏

وفي ٤ / ٢ / ٢٠٠٥م تمّ إعداد إقامة مخيّم ثقافي وترفيهي للصم بالصخير بالتعاون مع ‏جمعية التوعية الإسلامية.‏

‏وفي ١٩ / ٢ / ٢٠٠٥م (١٠ محرّم ١٤٢٦هـ) انطلق أوّل موكب عزاء للصم والبكم في البحرين ‏إن لم يكن على مستوى العالم.

إنّ هذه مجهودات بدائية رائدة شكّلت حجر الأساس لإقامة هذا المشروع الولائي الحسيني الهام، وحري بي وبكلّ إنسان منصف أن يشيد وينوّه بهذه المبادرات والجهود الخيّرة ويثني عليها؛ لأنّها قد أنجحت بروز موكب الصم والبكم وصيّرته على هذه الكيفية التي نراها بارزة على هيئته إلى حتّى هذا العام ٢٠٠٦م، وإلى الأعوام المقبلة إنشاء الله تعالى.

٢٩

فائدتنا من إقامة العزاء الحسيني

س١: ما الهدف من تجمهر الجماهير الحسينيّة المعزّية من مختلف المناطق في منطقة واحدة؟

هناك أهداف متعدّدة ومغزى كبير لهذا الحشد الجماهيري الغفير الذي يكاد يُعدّ بالملايين وهم يتجمهرون في بقعة واحدة وفي رحاب واحد، ويحملون الرايات ويهتفون بصوت واحد ( لبيك ياحسين )، ( أبد والله لا ننسى حسيناه ).

أذكر باختصار أهم هذه الأهداف، وهي أربعة:

أوّلاً: المحافظة على هيبة وقوّة العزاء.

ثانياً: الزيادة في مضاعفة الأجر والثواب.

ثالثاً: كشف ما هو جديد لدى الرواديد.

رابعاً: وحدة الصف تحت راية الحسينعليه‌السلام .

هذه أهم أبرز الغايات التي تدفع تدفّق الجماهير إلى أن يقيموا العزاء في مدينة من مدن مناطقهم، ويجتمعوا تحت مظلّة شعار واحد وراية واحدة وصف واحد. وهذا التجمهر يكون له طابع خاص، وقد اعتاد عليه المعزّون من عصور سابقة إلى عصرنا الحالي.

س٢: ما هي الفائدة التي تجنيها جماهير الشيعة من خلق هذه المسيرات المليونيّة في المواسم العزائيّة؟

إنّ أكبر فائدة تُجنى من وراء تلك المسيرات المليونيّة هو تخليد ذكرى شهادة أبي الأحرار الحسينعليه‌السلام ، وإظهار مظلوميته للعالم، وشدّ أنظار الأمم في جميع أنحاء العالم لقدسية وعظمة هذا القائد العظيم، هذا من ناحية.

ومن ناحية اُخرى - بحسب اعتقادي - هو الرفض للظلم والظالمين في كلّ عصر، وفي كلّ زمان ومكان؛ حيث إنّ شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ليس لهم الاستفادة من شيء في جعل هذه المسيرات العزائيّة إلاّ السير على نهج الإمام الحسين وباقي الأئمّة الطاهرين (عليهم السّلام أجمعين) ذلك النهج الثائر.

٣٠

ونختصر هذه الفائدة في ثلاثة مواضع:

الأوّل: الركوب في سفينة النجاة

يا أهل الرثاء، ويا أرباب العزاء، أقول: أكبر سفينة منجية يركبها الإنسان في حياته هي سفينة الحسينعليه‌السلام ، وأكبر فائدة يجنيها المعزّي؛ حيث يرى نفسه مع المعزّين وقد شملته ألطاف رحمة الحسينعليه‌السلام ، وهذه الرحمة النورانية هي التي تضيء وجوده وحياته. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :“ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة “ ، وقال الإمام الصادقعليه‌السلام :« كلّنا سفن نجاة، وسفينة جدّي الحسين أوسع، وفي لجج البحار أسرع » .

الثاني: استجابة الدعاء تحت قبة الحسينعليه‌السلام

أيّها المؤمنون، اعلموا بيقين أنّ كلّ منبر عزاء يُعقد على سيد الشهداءعليه‌السلام في أيّ بقعة على وجه الأرض فهو يعتبر قبة للإمامعليه‌السلام ، وتكون الدعوة بقربه مستجابة. وما من أحد منّا إلاّ ولديه هموم وحاجات، فنحن نحتاج إلى الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ جعل الشفاء في تربته، واستجابة الدعاء تحت قبته؛ فلذلك تجد ملايين الشيعة الزائرين يتوافدون في المواسم العزائيّة على كربلاء، وتراهم بقلوب خاشعة في المسيرات العزائيّة بقرب الضريح الحسيني الطاهر يرفعون الأكف؛ يتضرّعون إلى المولى سبحانه وتعالى بحقّ حبيبه الحسينعليه‌السلام أن يفرّج عنهم، ويجلي همومهم، ويقضي حوائجهم، ويدفع عنهم شرور الابتلاءات.

فكم من زائر توفّق لنيل مناه ومبتغاه من خلال مشاركته في المواكب العزائيّة المقدّسة التي تنطلق من تحت تلك القبة الشامخة النوراء.وعن الكرامات الحسينيّة حدّث ما شئت، وكلّها شوهدت بالعين المجرّدة في ذلك الرحاب الشريف الطاهر. وللتفاصيل عن قصص كرامات سيد الشهداءعليه‌السلام راجع كتابنا الجديد (أنوار الأبصار في قصص وكرامات الأئمّة الأطهار).

ثالثاً: قبول العزاء والزيارة ونيل الشفاعة

٣١

رابعاً: تلبية لنداء الأئمّة المعصومين، والحثّ على إقامة الشعائر الحسينيّة؛ كإقامة العزاء والبكاء في يوم عاشوراء.

ثلاثة مناهل يستفيد منها الإنسان المؤمن من دنياه لآخرته، وهي عبارة عن محطّات يتزوّد منها وقود الفوز والنجاة، ألا وهي: العزاء، والبكاء، والزيارة. إذا نجح المعزّي والزائر والباكي في حسن أدائها، وزار وهو عارف بحقّ الإمام الحسينعليه‌السلام فسوف ينال منه القبول ونيل الشفاعة. فدعوتي من القلب إلى كلّ معزّ أن يدخل في مواكب العزاء وهو ينوي النيّة الخالصة الحسنة التي تؤهله أن ينال القبول.

فكما إنّنا إذا قصدنا إلى أداء مناسك الحج نبتعد عن المظاهر المادية والتصرّفات اللاسلوكية، كذلك عندما نتوجه لكي نعزّي على الإمام الحسينعليه‌السلام لا بدّ أن نكون على هذا المستوى الراقي من التأدّب؛ لكي تُكتب أعمالنا في ديوان خالص الأعمال، وإلاّ ما فائدة هذه المسيرات المليونيّة إذا لم تتوّج بتاج المودّة والإخاء واحترام بعضنا البعض؟

القوي منّا يعطف على الضعيف، والغني على الفقير، ونتآلف على بساط الرحمة، وفي رحاب سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الغريب المظلومعليه‌السلام ، وتحت رايته العظيمة.

٣٢

الرادود الحسيني وأثره في المعزّين

س: هل للرادود الحسيني ذلك التأثير المهم لاجتذاب المعزّين؟

الرادود الحسيني هو قطب الرحى المحرّك في المواكب العزائيّة، وهو يشكّل العمود الفقري لإنجاح مسيرة العزاء؛ لذلك يحتاج الرادود إلى مؤهّلات تؤهّله. ومن أبرز تلك المؤهّلات قوّة وحلاوة الصوت، وفوق كلّ ذلك الالتزام الديني، والأخلاق، واحترام الناس.

أيضاً من جملة المؤهّلات انتقاء القصائد والحرص على جودتها، وتلحينها بالألحان المقبولة اجتماعياً ودينياً.

لماذا كلّ هذه المؤهّلات مطلوبة في شخصية الرادود؟

لأنّ هذه المواصفات تجعل من الرادود الحسيني أن يكون مثلاً وقدوة يقتدي به مَنْ يأتي من بعده في هذا الطريق السامي.

أيضاً الرادود الحسيني الناشئ المحترف بحاجة إلى إتقان بعض الأساسيات والفنون الذي يقوم عليها نجاح الموكب العزائي، هكذا تحدّث الرادود البحريني الجدير عبد الشهيد الثور: لو ألقينا أنظارنا إلى مواكبنا بصورة عامّة سنجدها في أغلبها الأعم لا تخرج عن أربعة فنون وإن زاد في بعض الحالات فن هنا وقصر منها فن هناك.

نجد الموكب يتكوّن من:

١ - الهواس.

٢ - الوقفة.

٣ - داخل المأتم.

٤ - خارج المأتم.

٣٣

ولهذا أراني أفضل إدخال الرادود مع بداياته في دورة تدريبية تعبر الفنون الأربعة السابقة على التوالي. ينتقل من فن إلى الثاني بعد اجتياز الفن الأول بنجاح، وليثبت للفريق المشرف على أدائه مدى مهارته، وكيف سيتميز في فن دون الآخر. هذا طبعاً بعد أن تكون أربعة فرق يعمل كلّ فريق على حدة مع النظر لمتطلبات الفرع المختصّ هو فيه.

وهذا لا يمنع من إجراء لقاءات دورية بين الفرق الأربعة وتبادل وجهات النظر ورفع ايجابيات كلّ قسم وسلبياته لبعضهم البعض، على أن يكون العمل كفريق وليس فردياً، بمعنى أن يتحمّل الفريق نجاح وفشل الرادود بكونه متابعاً لتوجيهه وتسديد مساره.

ثمّ تتابع وقال: بهذه المنهجية نؤسس منهجاً جديداً في إخراج رواديد جدداً يعتمدون على التوجيه المنظّم، والتأهّل في مسلسل المراحل الآنفة؛ يقيّم مستوى الرادود في أيّها أقوى، ولا يلحق بمرحلة حتّى ينجز تمكنه من المرحلة السابقة، وبعد التقييم يرجح له أيّ مرحلة هو الأقوى فيها ليتم له التخصص فيها، وبهذا نكون قد أسسنا لفن التخصص، ونقلنا الموكب لمرحلة النشاط والتنافس الشريف، والعطاء المنظّم، والقوّة المحكمة(١) .

وهكذا كان يتحدّث الرادود الحسيني الشهير الحاج ملا باسم الكربلائي عن تجربته الاحترافية الرائدة، ويفصح للملايين من المعزّين الذين يتابعون إنجازاته الرثائية في كلّ عام، ويقول عن بداياته: كانت بدايتي في إيران بعد أن هجّرنا من طرف النظام العراقي في عام ١٩٨٠،

____________________

(١) موقع ملتقى الساحل الشرقي - الرادود الحسيني عبد الشهيد الثور - ١٢ / يونيو / ٢٠٠٣م.

٣٤

وقد بدأت قارئاً للقرآن، واستمررت لخمس سنوات، أي لغاية ١٩٨٥م. كان عندي أستاذ في إيران اسمه محمّد تقي الكربلائي، فطلبت منه قصائد حتّى أقرأها في العزاء، فاستهزأ بي آنذاك، فحزنت وحملت عليه في قلبي، وعندما أحس بذلك أعطاني بعض القصائد لأقرأها في العزاء، وكانت قصيدة كان يقرأها الرادود الحسيني المعروف (الشيخ هادي الكربلائي)، والتي تقول: ( يحمى الدخل يا حسين / كلّ اللوادم ايشهدون / بر وبحر مو منكور/ جن وانس يعترفون)، وأمّا القصيدة الثانية فكان مطلعهما: ( مر على الشاطئ يحادي ارچابنا).

أعطاني هاتين القصيدتين وأخذت أتمرّن عليها، وبدأت في مدينة (قم المقدّسة) في ذكرى وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بدأت بموكب الزنجيل، حيث كانت المواكب الكربلائية كلّها تجتمع عند سماحة المرجع المرحوم السيد محمّد الشيرازي (رحمة الله عليه)، وبعد أدائي الأوّل صار إعجابٌ من الناس وتشجيع على الاستمرار، وقال لي الكثيرون بأنّ لك شأناً في هذا المجال. ومنذ تلك التجربة الأولى في عام ١٩٨٠ وإلى اليوم أنا مستمر والحمد لله(١).

وأتحفنا الرادود الحسيني الكبير القدير الحاج ملا جليل الكربلائي عن بدايات احترافه عبر سؤال في مقابلة قد وجه له، فأجاب وهو يبتسم كعادته قائلاً: أستطيع القول بأنّ بدايتي كانت في العراق مذ كان عمري ١٣ سنة تقريباً، إذ كان والدي يأخذني إلى المرحوم حمزة الصغير، وكان (رحمه الله) يقول لي: (اقرأ عمو شويه).

فكنت أقرأ له ممّا حفظته من قصائده، فسألني ذات مرّة: (هواي تقرأ لو قليل؟). فأجبته: أنا أقرأ في البيت فقط، ولا أعرف إن كانت قراءتي صحيحة أم لا.

فقال لأبي: (إذا يقرأ ويصير عنده عوار بگصته فهذا يصير رادود). (هسه ما أدري كان يمزح وياي (رحمة الله عليه) لو حقيقة كانت؟ ما أدري!).

٣٥

ومن ذلك اليوم وأنا مولع بالقراءة، ولم أتركها أبداً حتّى صار التهجير من العراق إلى إيران في السبعينات، وبدأت أقرأ في هيئة الفاطمية بأصفهان، وبقيت حوالي ١٠ سنوات أقرأ فيها، لكنّني آنذاك لم أكن معروفاً مثل اليوم، فلم تكن لي تسجيلات كثيرة حتّى الثمانينات، حيث دعيت للقراءة في مواكب كبيرة في قم المقدّسة وطهران ومشهد ومعظم المدن الإيرانية، وأصبح لي تسجيلات صوتية كثيرة جداً.

ثمّ قال الملا جليل: لكن الرادود الاعتيادي كيف يضع الأطوار؟ هذه أقولها للشباب الذين يطمحون لخدمة الحسينعليه‌السلام بمجال الرادودية.

الرادود لمّا يسمع قصائد، تواشيح، أناشيد، يصبح عنده خزين كبير في ذاكرته، ومع مرور الوقت يصبح لديه خبرة بوضع الأوزان على الأطوار المخزونة عنده؛ ولذلك تراه يأتي بمقطوعة من مقام الحجاز مثلاً، ومقطوعة من مقام الكرد، ويزاوج بينهما بعملية ذوقية غير مخطّط لها، وبدون أن يعرف الرادود ما الذي عمله ونتج الطور.

وأنا اُحذّر الرواديد الشباب خاصة من إهمال الحالة الروحانية، لا تجعلوا الأطوار تطغى على أصالة المنبر وقدسيته؛ هذا منبر مقدّس. قبل كم يوم قلت: في طهران ليلة مولد العباسعليه‌السلام ، قبل كم سنة جاؤوا بطفل أعمى إلى المجلس فإذا به يخرج مبصراً. المنبر الذي يعطي هكذا معاجز وكرامات، طيب كيف يجوز لي أن أقول من عليه أيّ كلام وآتي بأيّ تصرّف؟!

وأجرت شبكة السادة الإسلاميّة المباركة لقاء مع الرادود الحسيني البحريني المميز الشيخ حسين الأكرف (حفظه الله)، وقد بدأت المحاورة معه بهذا السؤال: كيف كانت بدايات خدمتكم في موكب العزاء على سيد الشهداءعليه‌السلام ؟ هل كان للبيئة التي تربيتم فيها (سواء المنزل أو المنطقة) تأثير كبير على بداياتكم؟ وما هو مدى تأثير والديكم على إظهار هذه الملكة (إلقاء القصيدة العزائيّة والشعر)؟

٣٦

فأجاب الشيخ الأكرف: بدايتي كانت بلطف الله وعنايته في العام ١٩٨٥م، في قريتي الدراز، وبالتحديد في مأتم أنصار العدالة، وكانت القصيدة الأولى من ألحان المرحوم حمزة الصغير، وكلمات والدي الحاج أحمد الأكرف، كنت حينها في الحادية عشر من العمر، قبل ذلك كنت منشداً في فرقة الإمام الصادقعليه‌السلام للأناشيد الإسلاميّة، وقبلها كنت في فرقة جمعية التوعية الإسلاميّة منذ عام ١٩٨٣م.

ولبيئتي (الدرازية) كبير الأثر في توجهي الحسيني والحوزوي بعد ذلك؛ فقريتي من القرى المعروفة بتاريخها العلمائي وتمسّكها الديني، فهي الأصل الذي ينتمي له الشيخ يوسف العصفور صاحب الحدائق (قدّ سره). كما إنّ لوالدي العزيزين عظيم الأثر في توجهي هذا؛ فإنّ الوالد كان رادوداً وشاعراً حسينياً مجيداً، ووالدتي دوماً تحفّزني وتشجّعني لخدمة الحسينعليه‌السلام .

وحول سؤال: إنّه كثر في الآونة الأخيرة بين الرواديد ما يعرف بالألحان العزائيّة، وهي ظاهرة وإن كانت تهدف إلى تطوير الأداء، فما رأي سماحتكم في ذلك؟

فأجاب الرادود الشيخ: اللحن يستنطق معاني الكلمة، ويعطيها لغة مؤثرة ووقعاً خاصاً في النفوس، فقد تكون الكلمة بلا لحن باهتة اللون ضعيفة الوقع لكنّها في قالب اللحن يكون لها نبض، وتجري فيها الروح؛ لهذا فإنّ اهتمام الرواديد باللحن وتطويره ومحاولة التنويع فيه هو أمر يخدم القضية الحسينيّة، ويحافظ على حضورها في العواطف والعقول.

ولكل جيل من الرواديد ذوقه الخاص وحسّه المختلف بحسب اختلاف الظروف والانتماءات والقضايا؛ فالحزن البالغ في الألحان العراقية العزائيّة يكشف عن واقع الألم الذي يتأثر به الرادود العراقي، والحماسة والثورة فيه إلى جانب الحزن في اللحن البحراني يكشف عن هذا الواقع المعاش في البحرين وهكذا.

٣٧

كلّ ما هناك هو أنّ علينا أن نراعي في اللحن المناخ الإسلامي والطبيعة الموكبية، واللمسة الحسينيّة والولائية، وأن لا نهبط باللحن إلى أجواء اُخرى لا تنتمي للحسينعليه‌السلام ، ولا تخدم قضيته.

وفي حوار أجرته جريدة الرأي العام مع الرادود خادم أهل البيتعليهم‌السلام نزار القطري (حفظه الله تعالى)، سأله المحاور عن التعريف ببطاقته الشخصية فقال: اسمي نزار فضل الله رواني، المعروف بـ ( نزار القطري )؛ وذلك انتساباً لمسقط رأسي الدوحة الحبيبة.

من مواليد ١٩٧١، جنسيتي بريطاني، أتكلم ٤ لغات بطلاقة، متزوّج ولدي كوثر وحسين، وأعمل حالياً كـ (مونتير) في تلفزيون الرأي - قسم الأخبار.

وفي سؤال وجّهه الأخ السائل له في المقابلة حول ما هي الرسالة التي يريد توجيهها للجمهور من خلال الإنشاد، فأجاب الرادود نزار قائلاً: بكلّ صدق ووضوح هي الرجوع إلى الدين، وعندما أقول ذلك لا أقصد الإسلام فقط، بل أقصد الرجوع إلى الفضيلة والقيم الأخلاقيّة التي تأمر بها جميع الأديان السماوية بوجه عام.

فانّ الهدف من الأناشيد ليس تقديم شيء لتمضية وقت الفراغ في سماعه، ولكن هو تقديم شيء يعود علينا بالمنفعة الدينيّة؛ كذكر الله تعالى، أو مدح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ سماع شيء يرضي الله ورسوله أحبّ إليهما من سماع شيء يغضبهما.

وحول أهمية تأثير الرادود الحسيني على الجماهير كتب الكاتب الحسيني أحمد رضا تحت عنوان ( الموكب الحسيني تأريخه وأهدافه): والرادود يعتبر محور حركة الموكب الحسيني، والقطب الرئيس في تشكيل عواطف الجمهور، وشحنها بالحماس الممزوج بعاطفة الحزن والبكاء على مقتل الإمام الحسين وأهل بيته الأطهارعليهم‌السلام .

٣٨

وعادة ما يتفاوت الرواديد حسب أعمارهم وخبراتهم، ومن الضروري أن يكون الرادود الحسيني قدوة أخلاقيّة في المجتمع، وعنصراً اجتماعياً نشطاً في المجال الثقافي أو السياسي.

وقد لعبت المواكب الحسينيّة عبر مختلف عصور التاريخ أدواراً بارزة في تشكيل العقل الجمعي وتعبئة الجماهير بالحماس، وتترافق مع هذه الشعائر بعض الأعمال الإيجابية؛ كحملات التبرّع بالدم، أو فتح مراسم فنيّة، أو عرض فنون تمثيلية ومسرحية، بالإضافة إلى النشاط الإعلامي (بالصوت والصورة) المرافق للمواكب الحسينيّة.

وأصبحت هذه الشعائر ممارسة تتوارثها الأجيال، ورسالة إعلاميّة لجماهير متعطّشة للحرية والعدل والتضحية من أجل الأهداف النبيلة التي وظّفها الإمام الحسينعليه‌السلام في نهضته الخالدة(١) .

أيضاً لي كلمة مختصرة في هذا الصدد: أيّها الأحبّة إنّي أضمّ صوتي إلى صوت الرادود الأخ نزار القطري وأقول: بالفعل، إنّ ما كان لله ينمو؛ إنّنا إذا ساهمنا وبذرنا بذرة الخير فسوف تثمر وتينع ثمارها بالخير، والناشئون من أبناء هذا الجيل الحسيني الصاعد ما هم إلاّ أمانة الله في أعناقنا جميعاً، فيجب علينا أن نبادر ونأخذ على عاتقنا مسؤولية تأهيلهم؛ لكي يصبح الموهوب منهم من جملة ركب خدمة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

وإنّي على ثقة وبكلّ تأكيد أرى بأنّ هناك في هذا الجيل الولائي الناشئ مَنْ له القابلية على التعليم والتدريب والتأهيل على أن يصبحوا رواديدَ كباراً في المستقبل، ولدينا من الأصوات في عذوبة جمالها وجهوريتها، ولكنّها مختبئة تحت الرماد تريد مَنْ ينبشها حتّى تشتعل وتطلق تلك الموهبة المغيبة.

وخير مثل وشاهد لنا ما قاله الأخ الرادود باسم الكربلائي حيث ذكر لنا أنّه درّب أحد الأشخاص، وبعد فترة أتقن هذا المتدرّب الألحان، ويلحن القصائد العزائيّة، ثمّ أصبح الملا باسم نفسه يأخذ من ألحانه ويلقيها.

فدعونا أيّها الإخوة أن لا نبخل على سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام بفلذات أكبادنا؛ فلندفعهم ونشجعهم ونزجهم في هذا الميدان بكلّ افتخار.

____________________

(١) مجلة النبأ - العدد ٦٦ - محرّم الحرام ١٤٢٣هـ.

٣٩

س: إلى أيّ مستوى نريد أن نصل بتطوير مسيرة المواكب العزائيّة الرثائية المقدّسة؟

تفعيل لجان المواكب العزائيّة

من الملاحظ لدى الجميع أنّ أيّ لجنة من لجان المواكب العزائيّة في مختلف مناطق العالم هي تابعة للمأتم نفسه، ورواد هذه اللجان في الغالب يكونون من المتطوّعين.

وهنا حري بي أن أقف وقفة إجلال وثناء لخدمة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، هؤلاء الرجال من الأوفياء الصادقين، ودليل صدقهم وإخلاصهم هو عطاؤهم الوافر المثمر، والسهر على أن تخرج المسيرات العزائيّة بانتظام، وأن يحيوا ذكريات المعصومين الطاهرينعليهم‌السلام يرجون بذلك رضاهم.

وهذا التطوّع لا أحد يستهين به؛ لأنّه يثلج فؤاد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويسرّ قلب الزهراء البتولعليها‌السلام ، كم هو عظيم عند الله عزّ وجلّ وعند أهل البيتعليهم‌السلام من يسخّر نفسه في خدمة مَنْ تخدمهم الملائكة.

قد يستصغر البعض من الناس أن يقف في الطريق ويسقي المارة من المعزّين شربات من الماء، أو من العصير البارد، ويبرّد على قلوبهم على حبّ الحسينعليه‌السلام ، هذا العمل الذي نراه صغيراً فهو عند الله كبير وعظيم، وثوابه لا يُعد ولا يُحصى، وله رصيد وافر في الآخرة؛ من هنا أيّها الأحبّة ينبغي أن نزجّ بفلذات أكبادنا أن تخدم أهل البيتعليهم‌السلام في أثناء خروج المواكب العزائيّة.

نحن كما نوضّح لأبنائنا الأجر والثواب الذي يحصل عليه الباكي على الحسينعليه‌السلام في المقابل لا نبخل على هؤلاء الناشئين ذوي النفوس البريئة النقية أن نغرس في ذواتهم منذ صغرهم كيف يخدمون الحسينعليه‌السلام حتّى يصبحوا من خدمة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ وبالتالي تستمر مسيرة الخير والعطاء، وتزدهر المواكب الحسينيّة بالمضحّين من ذوي الفاعلية.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63