علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 192248
تحميل: 17183

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192248 / تحميل: 17183
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بين الضعف وغاية القوّة والمتانة (1) .

وسوف نُشير في بحثنا إلى بعضها، مع مناقشة ما يستحق النقد منها.

الأوّل:

ما ذكره الشيخ محمّد عبده:

إنّ الله سبحانه أنزل التشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به، فإنّه لو كان كلُّ ما ورد في الكتاب واضحاً لا شبهة فيه عند أحدٍ من الأذكياء ولا من البلداء، لما كان في الإيمان به شيء من معنى الخضوع لما أنزل الله تعالى، والتسليم لما جاءت به رسله (2) .

وقد ناقشه العلاّمة الطباطبائي بأنّ الخضوع هو انفعال معيّن، وتأثّر خاص من قِبَل الضعيف في مقابل القوي، ولا يكون ذلك من الإنسان إلاّ لمّا يدرك عظمته، أو لشيءٍ لا يتمكّن من إدراكه لعظمته وكبره، كقدرة الله وعظمته وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى؛ لعجزه عن الإحاطة به، وهذان الأمران غير واردين في المتشابِه؛ لأنّه وإن كان من الأُمور التي لا يدركها العقل ولا ينالها، ولكنّه يغترّ باعتقاده لإدراكها وحينئذٍ قد يزيغ الإنسان فيغترّ بإدراكه لِكُنْهه، ومن هنا جاء تمحيص القلوب بالمتشابِه، فإذا صدّق الإنسان به واستسلم له فهو قد ثبت على الإيمان، وإذا اغتر به وحاول معرفة تأويله فقد زاغ قلبه، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم حيث قال:

( ... وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا... ) (3)

فهو شيءٌ تُمحّص به القلوب، فمن كان في قلبه مرضٌ وزَيغ اتّبعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

ولكنّ هذا التفسير إنّما ينفع في بعض آيات المتشابِه، التي هي من قَبيل مفاهيم

________________________

(1) راجع بهذا الصدد الفخر الرّازي، التفسير الكبير 7: 184 - 185، والسيوطي، الإتقان 2: 12 - 13، والزرقاني، مناهل العرفان 2: 178 - 181.

(2) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170.

(3) آل عمران: 7.

١٨١

عالَم الغيب: كاللّوح والعرش والقلم، حيث يكون موقف الإنسان منها هو الإيمان المطلق بها، وأمّا الآيات المتشابِهة التي يمكن فهمها بعد عرضها على المُحْكَم فلا بُدّ أن يكون لوجودها غرضٌ آخر وهو الهُدى المترتّب عليها.

الثاني:

ما ذكره الشيخ محمّد عبده أيضاً:

إنّ وجود المتشابِه في القرآن كان حافزاً لعقل المؤمن إلى النظر، كي لا يضعف فيموت، فإنّ السهل الجلي جدّاً لا عمل للعقل فيه، والعقل أعزّ القوى الإنسانية التي يجب تربيتها، والدين أعزّ شيءٍ على الإنسان، فإذا لم يجد العقل مجالاً للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه، وإذا مات فيه لا يكون حيّاً بغيره (1) .

وقد ناقشه العلاّمة الطباطبائي:

إنّ القرآن الكريم اهتمّ بالعقل وتربيته اهتماماً بالغاً، فأمر باستعمال العقل في الآيات (الآفاقيّة) (والأنفسيّة) إجمالاً في بعض الموارد، كما فصّل ذلك في موارد أُخرى : كالأمر بالتدبّر في خلق السماوات، والأرض، والجبال، والشجر، والدواب، والإنسان، واختلاف الألسنة والألوان.

كما حثّ على التفكير والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين، وحرَّض العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح، وفي كلِّ ذلك ما يُغني عن سلوك طريقٍ آخر هو إنزال المتشابِهات الذي يكون مزلقةً للأقدام ومصرعاً للعقل (2) .

الثالث:

ما ذكره الشيخ محمّد عبده أيضاً:

إنّ الأنبياء بُعثوا إلى جميع الأصناف من عامّة الناس وخاصّتهم، وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كُنْهه، بحيث يفهمه الجميع على السواء، وإنّما يفهمه الخاصّة منهم عن طريق الكناية والتعريض، ويُؤمر العامّة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى عند حد المُحكم، فيكون لكلٍّ نصيبه

________________________

(1) رشيد رضا، تفسير المنار 3: 170.

(2) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58.

١٨٢

على قدْر استعداده (1) .

وقد ناقشه العلاّمة الطباطبائي:

بأنّ الكتاب الكريم كما يشتمل على المتشابِهات كذلك يشتمل على المُحْكَمات التي تبيّن هذه المُتشابِهات عند الرجوع إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمّن المتشابِهات من المعاني ما هو أزيد ممّا تكشف عن المُحْكَمات، وعند ذلك يبقى سؤالنا:

(ما فائدة وجود المتشابِهات في الكتاب وأيّ حاجةٍ إليها مع وجود المُحْكَمات؟) على حاله.

والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمّد عبده: أنّه أخذ المعاني نوعين متباينين:

الأوّل:

معانٍ يفهمها جميع المخاطبين من العامّة والخاصّة وهي مداليل المُحْكَمات.

الثاني:

معانٍ لا يدرك حقيقتها إلاّ الخاصّة ولا يتلقّاها غيرهم وهي المعارف الإلهيّة والحكم الدقيقة، فكان من نتيجته أنّ من المتشابِهات ما لا ترجع معانيها إلى المُحْكَمات، وقد مرّ أنّ ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالّة على أنّ القرآن يفسِّر بعضه بعضاً وغير ذلك (2) .

ويمكن أن نُلاحظ على المناقشة:

أنّه ما هو الشيء الذي يمنع من وجود هذين القسمين من المعاني؟

إذا كان المانع من ذلك هو ما يشير إليه العلاّمة الطباطبائي من أُمومة المُحْكَمات للمُتشابِهات... فقد عرفنا أنّ هذه الأُمومة لا تعني أكثر من وضع حدود خاصّة معيّنة للمُتشابِهات تمنع عن الزَّيغ فيها، وتسقط من الحساب جميع الصور والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن.

وهذا لا يعني تحديد الصورة الحقيقية للمعنى المتشابِه، وتعيينها في مصداق

________________________

(1) رشيد رضا، تفسر المنار 3: 170 - 171.

(2) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58.

١٨٣

خاص؛ حتّى تختفي الفائدة منه، فقوله تعالى: ( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... ) (1) محكم يُسقط من الحساب جميع التجسيدات التي (تشبه الأشياء) في مفهوم (الاستواء) على العرش في قوله تعالى: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (2) ولكنّه لا يُعطينا الصورة الواقعية والمصداق المجسّد لهذا (الاستواء)، فهو معنىً لا يمكن أن نفهمه من ذلك المُحْكَم: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وإذا عرفا دور المُحْكَم تجاه المُتشابِه أمكننا أن نتصوّر بسهولة، أنّ بعض المعاني لا يدركها - على مستوى المصداق - إلاّ الراسخون في العلم دون العامّة، خصوصاً المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية:

كجريان الشمس: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا... ) (3) .

أو تلقيح الرياح: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... ) (4) .

أو جعل الماء مصدراً للحياة: ( ... وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... ) (5) .

فإنّ كلّ هذه المعلومات حين تنكشف لدى العلماء تكون من المعلومات التي أشار إليها القرآن الكريم، ويعرفها الخاصّة من الناس دون غيرهم.

والعلاّمة الطباطبائي نفسه تصوّر هذا التمايز بين الناس في الإدراك للمعاني، وإن حاول أن يصوغه بشكلٍ آخر:

(فظهر أنّ للناس - بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى - مراتب مختلفة من العمل والعلم، ولازمه أن يكون ما يتلقّاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقّاه أهل المرتبة والدرجة الأُخرى

________________________

(1) الشورى: 11.

(2) طه: 5.

(3) يس: 38.

(4) الحجر: 22.

(5) الأنبياء: 30.

١٨٤

التي فوق هذه أو تحتها؛ فقد تبيّن للقرآن معانٍ مختلفة مترتّبة) (1) .

فهو يتعقّل في المعنى القرآني التعدّد، ولكنّه يتصوّره على أساس التعدّد في الدرجة والمرتبة للمعنى الواحد، كما يتعقّل في الفهم الإنساني هذا التعدّد أيضاً.

وحين نتعقّل ذلك لا يبقى ما يمنع إرادة القرآن الكريم بآيةٍ معيّنة مرتّبة، ودرجة خاصّة من معنىً معيّن دون غيرها، وحينئذٍ لا يقدر على فهم هذه المرتبة والدرجة إلاّ ذلك القريب من الله.

الرابع:

ما ذكره العلاّمة الطباطبائي:

إنّ التربية الإسلامية سارت على منهجٍ معيّن، يقوم على أساس فرض الواقع للإنسان، وعلاقته بالله سبحانه، خالق الكون ومدبّر أُموره، وبالمعاد والجزاء.

وهذا المنهج يتلّخص في: أنّ عامّة الناس لا تكاد تتجاوز أفهامهم وعقولهم المحسوسات المادّية إلى عالم ما وراء الطبيعة، ولا يمكن أن يُعطى إنسان ما معنىً من المعاني، إلاّ عن طريق تصوّراته ومعلوماته الذهنية التي حصلت له خلال حياته المادّية والعقلية، والناس في هذه التصوّرات والمعلومات على مراتب ودرجات، تختلف باختلاف الممارسة المادّية والعقلية.

والهداية القرآنية ليست مختصّةً بجماعةٍ دون أُخرى، وإنّما هي هبة الله سبحانه للناس كافّة.

وهذا الاختلاف في الفهم وعموم الهداية القرآنية، يفرضان أن يسوق القرآن الكريم بياناته مساق الأمثال، بأن يستثمر ما يعرفه الإنسان ويعهده في ذهنه من المعاني والصور، ليبيّن ما لا يعرفه من هذه المعاني والصور.

وقد يكون ذلك في القرآن الكريم، مع عدم وجود التوافق الكلّي بين المعنى الذي يعرفه الإنسان مسبقاً والمعنى الجديد الذي يحاول القرآن الكريم تعريف

________________________

(1) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 67.

١٨٥

الإنسان عليه؛ وإنّما يلحظ القرآن جانباً معيّناً من الانسجام والتوافق، كما نفعل ذلك في حياتنا العملية، حين نستثمر الأوزان والمكاييل للتعريف بالمواد الغذائية وغيرها، مع عدم وجود التوافق بينها وبين المواد الغذائية، في شكلٍ أو صورةٍ أو حَجْم.

وحين نستعمل الصورة المادّية المحسوسة - التي عرفها الإنسان في حياته - كأمثال للمعارف الإلهيّة المجرّدة يقع الفهم الإنساني في إدراكه لهذه المعارف الممثّلة بين أمرين، قد يستلزم كلٌ منهما محذوراً:

الأوّل:

الجمود بهذه المعارف في مرتبة الحسّ المادّي، وحينئذٍ تنقلب عن واقعها المجرّد الذي استهدفته الهداية القرآنية.

الثاني:

الانعتاق من الإطار المادّي للمثال، والقيام بعملية تجريد للخصوصيات غير الداخلة في التمثيل، وهذا يستلزم - أحياناً - الزيادة والنقيصة في هذه العملية أو الشدِّة والضعف.

ولذا نجد القرآن يلجأ إلى عمليّةٍ واسعةٍ في التمثيل، تفادياً لهذه المشاكل العقلية والنفسية، وذلك بتوزيع المعاني التي يريد من الإنسان إدراكها، وتربيته على تصوّرها إلى أمثال مختلفة، وجعلها في قوالب متنوّعة، حتّى يُفسِّر بعضها بعضاً، ويوضّح بعضها أمر بعض، لينتهي الأمر إلى تصفيةٍ عامّة تؤدّي إلى النتيجتين التاليتين:

الأولى:

إنّ البيانات القرآنية ليست إلاّ أمثالاً، لها في ما ورائها حقائق ممثّلة، وليس الهدف والمقصود منها مرتبطاً باللّفظ المأخوذ من الحسِّ والمحسوسات، فنتخلّص بذلك من محذور الجمود.

الثانية:

بعد الالتفات إلى أنّ البيانات القرآنية أمثال، نعلم حدود المعنى الإلهي المقصود من وراء هذه البيانات، حين نجمع بين هذه الأمثال المتعدّدة وننفي بكلّ

١٨٦

واحدٍ منها خصوصيّة من الخصوصيّات المأخوذة من عالم الحس، الموجودة في المثال الآخر، فنطرح ما يجب طرحه من الخصوصيّات المحيطة بالكلام، ونحتفظ بما يجب الاحتفاظ به منها (1) .

ولا شكّ أنّ هذا الوجه من أروع ما قيل في تفسير ظاهرة وجود المُتشابِه، ويمكن أن يُعتبر تعليلاً وجيهاً لورود الكثير من الآيات المُتشابِهة، ولكنّنا لا نقبله تعليلاً شاملاً لكلِّ ما ورد في القرآن من المُتشابِهات، حيث نرى أنّ بعضها لا يمكن تحديد مصداقه بشكلٍ قاطع، بناءً على مذهبنا في حقيقة المتشابِه الذي عرفنا فيه: أنّ المفهوم اللُّغوي له مفهومٌ صحيح، وليس باطلاً لينتفي الريب بواسطة الأمثلة الأُخرى القرآنية.

وفي نهاية المطاف يجدر بنا أنْ نذكر خلاصة الوجه الصحيح في حكمة ورود المُتشابِه في القرآن، وبهذا الصدد يحسن بنا أن نقسِّم المُتشابِه إلى قسمين رئيسين:

الأوّل:

المُتشابِه الذي لا يعلم تأويله ومصداقه إلاّ الله.

الثاني:

المُتشابِه الذي لا يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم، ولو كان ذلك بتعليم الله تعالى لهم.

أمّا ورود القِسم الأوّل في القرآن؛ فلأنّ من الأهداف الرئيسة التي جاء من أجلها القرآن الكريم هو: ربط الإنسان الذي يعيش الحياة الدنيا بالمبدأ الأعلى، وهو الله سبحانه، وبالمعاد وهو الدار الآخرة وعوالمها؛ وهذا الربط لا يمكن أن يتحقّق إلاّ عن طريق إثارة الموضوعات التي تتعلّق بعالم الغيب وما يتّصل به من أفكار ومفاهيم؛ لينمّي غريزة الإيمان التي فُطر الإنسان عليها، ويشدّه إلى عالمه الذي سوف ينتهي إليه؛ فلم يكن هناك سبيل أمام القرآن الكريم يتفادى به

________________________

(1) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 58 - 65، وقد لخصنا كلامه، وتركنا بيان الأمثلة والإيضاحات الفكرية التي أوردها لتأييد مدعياته.

١٨٧

المُتشابِه في القرآن بعد أن كان هو السبيل الوحيد الذي يوصل إلى هذا الهدف الرئيس.

وأمّا ورود القِسم الثاني في القرآن الكريم بهذا الأُسلوب فإنّه أراد أن يطرح أمام العقل البشري قضايا جديدة، كبعض المسائل الكونيّة أو الإنسانية وغيرها من المفاهيم الغيبيّة؛ لينطلق في تدبّر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة، أو يقترب منها بالقدْر الذي تسمح له معرفته ودرجته في تلك المعرفة، كما ذكر العلاّمة الطباطبائي.

ونحن في هذا العصر حين نعيش التطوّر المدني العظيم في المجالات العلمية المختلفة، نُدرك قيمة بعض الآيات القرآنية التي ألمحت إلى بعض الحقائق العلميّة، ووضعتها تحت تصرّف الإنسان؛ لينطلق منها في بحثه وتحقيقه، وكذلك بعض المصاديق الإنسانية (1) .

وبذا يمكن أن نقدّم تفسيراً لحكمة ورود المُتشابِه في القرآن الكريم.

________________________

(1) سيأتي بعض التوضيح لهذه الأفكار عند تناولنا (التفسير عند أهل البيت) وكذلك في كتابنا (الهدف من نزول القرآن الكريم) في معالجتنا لظاهرة المحكم والمتشابه.

١٨٨

النّسْخُ في القرآن *

توطئة عن فكرة النّسْخ:

حين نريد أن نتعرّف على فكرة النّسْخ (موضوع البحث) يحسن بنا أن نفهمها من خلال مشابِهاتها في حياتنا الاجتماعية المعاصرة.

فإنّنا نشاهد أنّ بعض الدول أو المجتمعات قد تضع قانوناً لتنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض حكّاماً أو محكومين، ثمّ نراها بعد تطبيقه مدّةً من الزمان تستبدل به قانوناً آخر يتكفّل تنظيماً جديداً للعلاقات بين الناس، وحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ هذا القانون الآخر نسخ القانون الأوّل وأصبح بدلاً منه.

كما نشاهد أيضاً أنّ بعض الدول تضع مادّةً معيّنة في القانون الذي يجري تطبيقه ثم ترى أن تستبدلها بمادّةٍ أُخرى مع الاحتفاظ بالقانون نفسه كمنهجٍ عامٍ للتنظيم الاجتماعي.

وهذان النوعان من النّسْخ: نسْخ القانون للقانون، ونسْخ مادّةٍ لمادّة من القانون نفسه يمكن أن نتصوّرهما في التشريع الإلهي بأن تنسخ شريعةٌ سماوية شريعةً أُخرى، أو مادّة في شريعةٍ سماوية مادّةً من تلك الشريعة.

ولكن يوجد فارقٌ أساسي بين النّسْخ والتشريع الإلهي والنّسْخ في التشريعات

________________________

* اعتمدنا في كتابة هذا البحث بشكلٍ رئيس على دراسة النّسْخ في القرآن لآية الله السيّد الخوئي في كتابه (البيان في تفسير القرآن) المدخل: 189 - 276، وكتاب (النّسْخ في القرآن) للدكتور مصطفى زيد.

١٨٩

الوضعيّة، ذلك أنّ النّسْخ في التشريع الإلهي لا يكون إلاّ بعد علمٍ مسبقٍ بوقوعه في ظروفه المعيّنة وفي وقته المحدّد، بخلاف النّسْخ في التشريع الوضعي، حيث يكشف في أكثر الأحيان عن جهلٍ بالواقع الموضوعي الذي وُضع التشريع لمعالجته، وعندما ينكشف تخلّف التشريع عن تحقيق غاياته، يُنسخ بتشريعٍ آخر في سبيل محاولة لتحقيق تلك الغايات والأهداف.

نعم في القوانين الوضعيّة قد يُوضع القانون منذ البداية بشكلٍ مؤقّت، ثمّ يُنسخ عند انتهاء وقته كما في الدساتير المؤقّتة عند حصول تغييرات أساسيّة في المجتمع، وهذا النوع يشبه إلى حدٍّ كبير النّسْخ في الشريعة الإلهيّة، حيث يكون الحكم المنسوخ فيها منذ البداية مؤقّتاً في الواقع.

النّسْخ لغةً واصطلاحاً:

أ - اللُّغة:

للنّسْخ معانٍ متعدّدةٍ ذُكرت في كتب اللُّغة وهي تدور بين (النقل) و(الإزالة) و(الإبطال).

فتقول: (نسخ زيد الكتاب إذا نقله عن معارضه).

ونسخ النحل إذا نقله من خليّةٍ إلى أُخرى، وتقول: نسخ الشيب شبابه، إذا أزاله وحلّ محلّه.

وتقول: نسخت الريح آثار القوم، إذا أبطلتها وعفت عليها (1) .

واللُّغويون حين يذكرون هذه المعاني المتعدّدة يختلفون في أيّ واحدٍ منها هو المعنى الحقيقي للكلمة، أو أنّها بأجمعها معانٍ حقيقية؟

وتمييز المعنى الحقيقي للكلمة عن المعنى المجازي ليس في الواقع من الأهمّيّة بقدْر تحديد المعنى اللُّغوي الذي ينسجم مع فكرة النّسْخ ذاتها، وبهذا الصدد نجد أنّ الإزالة هي أوفق المعاني اللُّغوية انسجاماً مع الفكرة التي عرضناها عن النّسْخ، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ فكرة النّسْخ في القرآن الكريم ورد التعبير عنها بمواد

________________________

(1) راجع بذا الصدد لسان العرب 4: 28 ط، بولاق.

١٩٠

مختلفة تنسجم كلها مع الإزالة، لأن كل واقعة لا يمكن أن تخلو من الحكم الشرعي، فإذا أُزيل حكم فلا بد ان يحل محله حكم آخر.

وأمّا في القرآن كقوله تعالى:

( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا... ) (1) .

وقوله تعالى:

( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقوله تعالى:

( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (3) .

فنجد الإزالة هي المعنى الذي ينسجم مع المحو والتبديل أيضاً.

ب - الاصطلاح:

وحين نلاحظ كلمة النّسْخ في إطلاقات علماء القرآن والمفسّرين نجد الكلمة قد مرّت بمراحل متعدّدة من التطوّر حتّى انتهى الأمر بها إلى خصوص الفكرة التي عرضناها سابقاً.

وهذه المراحل تبدأ منذ العصور الأُولى لهذا العلم، حيث كان يطلق بعض الصحابة كلمة النّسْخ على مجرّد مخالفة آيةٍ لأُخرى في الظهور اللّفظي، حتّى لو كانت هذه المخالفة على نحو العموم والخصوص من وجه أو نحو التخصيص، أو كانت إحدى الآيتين مطلقة والأُخرى مقيّدة.

وهذه السعة في الإطلاق قد تكون نتيجةً للتوسّع في فهم أصل الفكرة، كما يمكن أن تكون نتيجة فهمٍ ساذجٍ لبعض الآيات القرآنية.

ومن هنا وقع الاختلاف بين علماء القرآن في تعيين الآيات المنسوخة والآيات الناسخة، فنجد بعضهم يتوسّع في تعدادها، وبعضهم الآخر يقتصر على كميّةٍ محدودةٍ منها.

ولكن بعد مُضي مدّةٍ من الزمن على الدراسات القرآنية نرى بعض العلماء يحاول أن يميّز بين النّسْخ وبين (التقييد) و(التخصيص) و(البيان)، ويُقصر النّسْخ

________________________

(1) البقرة: 106.

(2) الرّعد: 39.

(3) النحل: 101.

١٩١

على الفكرة التي عرضناها سابقاً؛ وقيل: إنّ أوّل محاولة في ذلك كانت من قِبَل (الشافعي).

وقد ذكر الأُصوليون للنّسخ تعاريف كثيرة أصبحت بعد ذلك مجالاً واسعاً للمناقشة والنقد، ولكنّنا نقتصر هنا على ما ذكره السيد الخوئي (رحمه الله) من تعريف للنّسْخ؛ لأنّه يفي بالمقصود.

النّسْخ: (رفع أمرٍ ثابتٍ في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية - كالوجوب والحرمة - أم من الأحكام الوضعية كالصحّة والبُطلان، وسواء أكان من المناصب الإلهيّة، أم من غيرها من الأُمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع) (1) .

ويُلاحظ في هذا العريف أنّ الرفع في النّسْخ إنّما يكون لأمرٍ ثابتٍ في أصل الشريعة، ولذا فلا يكون شاملاً لمثل ارتفاع الحكم الشرعي الذي يكون بسبب انتهاء موضوعه: كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، أو ارتفاع ملكيّة شخصٍ لماله بسبب موته؛ فإنّ هذا النوع من ارتفاع الحكم لا يُسمّى نَسْخاً، ولا نجد من يخالف في إمكانه ووقوعه؛ وقد أوضح السيد الخوئي (رحمه الله) لنا الفرق بين الارتفاع الذي يكون نسْخاً، والارتفاع الذي لا يكون من النسْخ في شيءٍ وذلك بالبيان التالي:

إنّ الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة له مرحلتان من الثبوت:

الأُولى:

ثبوت الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مشرعاً على نحو (القضيّة الحقيقية) حيث لا يفرّق في صدقها وثبوتها وجود الموضوع في الخارج وعدم وجوده، وإنّما يكون قوام ثبوت الحكم ووجوده فيها بفرض وجود الموضوع.

________________________

(1) البيان للسيّد الخوئي: 277، طبعة دار الزهراء - بيروت.

١٩٢

فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام (مثلاً) فليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج وأنّ هذا الخمر محكومٌ بحُرمة شربه، وإنّما معناه أنّ الخمر متى ما فُرض وجوده في الخارج فشربه محكومٌ بالحُرْمة في الشريعة، سواء كان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن، ورفع مثل هذا الحكم في هذه المرحلة من ثبوته لا يكون إلاّ بالنّسْخ.

الثانية:

ثبوت الحكم في الخارج بأن يتحوّل إلى حكمٍ فعليٍّ بسبب فعليّة موضوعه وتحقّقه خارجاً، كما إذا تحقّق وجود الخمر خارجاً في مثالنا السابق، فإنّ الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتةً له بالفعل خارجاً، وهذه الحرمة تكون مرتهنةً في وجودها بوجود الموضوع خارجاً وتستمرّ باستمراره، فإذا انعدم الموضوع أو ارتفع كما إذا انقلب خَلاًّ مثلاً، فلا ريب في ارتفاع تلك الحُرْمة الفعليّة التي كانت ثابتةً للخمر حال خمريّته وتحل محلّها الحلّيّة للخَل (1) .

وهذا الارتفاع للحكم ليس من النّسْخ في شيء، وليس لأحدٍ شكٌ في جوازه ولا في وقوعه.

جواز النّسْخ عقلاً ووقوعه شرعاً:

أ - جواز النّسْخ عقلاً:

المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم جواز النّسْخ عقلاً، وقد خالف في هذا الرأي بعض اليهود والنصارى، وذلك في محاولةٍ للطعن في الإسلام والتمسّك ببقاء الديانتين اليهودية والمسيحية واستمرارهما، وقد استندوا في هذا الموقف إلى بعض الشبهات التي حاولوا صياغتها بأساليب مختلفة، كما قام بعضهم بمحاولة تعضيد ذلك ببعض النصوص الواردة المتداولة اليوم، وسوف نعرض الصياغة

________________________

(1) البيان للسيّد الخوئي: 278، طبعة دار الزهراء - بيروت.

١٩٣

الرئيسة للشبهة في هذا الموضوع مع الإجابة عليها بالشكل الذي يتّضح به الموقف تجاه الصياغات الأُخرى لها.

وخلاصة هذه الشبهة: أنّ النّسْخ يستلزم أحد أمرين باطلين: (البدء، أو العبث)؛ لأنّ النّسْخ إمّا أن يكون بسبب حكمةٍ ظهرت للناسخ بعد أن كانت خفيّةً لديه، أو يكون لغير مصلحةٍ وحكمة، وكلا هذين الأمرين باطلٌ بالنسبة إلى الله سبحانه؛ ذلك أنّ تشريع الحكم من الحكيم المطلق وهو الله سبحانه لا بُدّ أن يكون بسبب مصلحةٍ يستهدفها ذلك الحكم فتقتضي تشريعه؛ حيث إنّ تشريع الحكم بشكلٍ جزافي يتنافى وحكمة الشارع، وحينئذٍ فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه بسبب المصلحة إمّا أن يكون مع بقاء حاله على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل وهو العبث نفسه، وإمّا أن يكون من جهة البداء وجهله بواقع المصلحة والحكمة وانكشاف الخلاف لديه، على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين الوضعيّة، وعلى كلا الفرضين يكون وقوع النّسْخ في الشريعة محالاً؛ لأنّه يستلزم المحال.

أمّا البداء أو العبث، فهما محال على الله؛ لأنّهما نقصٌ لا يتّصف بهما (1) .

ومن أجل أن يتّضح الجواب عن هذه الشبهة نقسم الحكم المجعول من قِبَل الشارع إلى قسمين رئيسين:

الأوّل:

الحكم المجعول الذي لا يكون وراءه طلب وزجر حقيقيان كالأوامر والنواهي التي تُجعل ويُقصد بها الامتحان ودرجة الاستجابة للحكم دون أن يستهدف المشرّع تحرك المكلّف، كما في أمر الله سبحانه نبيَّه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل؛ وهذا ما نسمّيه بالحكم الامتحاني.

الثاني:

الحكم المجعول الذي يكون بداعٍ حقيقي من البعث والزجر حيث يُقصد

________________________

(1) البيان للسيّد الخوئي: 279.

١٩٤

منه تحقيق متعلّقه بحسب الخارج، وهذا ما نسمّيه بالحكم الحقيقي.

ونجد من السهل الالتزام بالنّسْخ في القِسم الأوّل من الحكم، إذ لا مانع من رفع هذا الحكم بعد إثباته بعد أن كانت الحكمة في نفس إثباته ورفعه؛ لأنّ دوره ينتهي بالامتحان نفسه فيرتفع حين ينتهي الامتحان، ولحصول فائدته وغرضه، والنّسْخ في هذا النوع من الحكم لا يلزم منه البعث ولا ينشأ منه البداء الذي يستحيل في حقّه تعالى.

وأما القِسم الثاني من الحكم: فإنّنا يمكن أن نلتزم بالنّسْخ فيه دون أن يستلزم ذلك شيئاً من البداء أو العبث، حيث يمكن أن نضيف فرضاً ثالثاً إلى الفرضين اللذين ذكرتهما الشبهة.

وهذا الفرض هو أن يكون النّسْخ لحكمةٍ كانت معلومةً لله سبحانه من أوّل الأمر ولم تكن خافيةً عليه وإن كانت مجهولةً عند الناس غير معلومةٍ لديهم، فلا يكون هناك بداء؛ لأنّه ليس في النّسْخ من جديد على الله لعلمه سبحانه بالحكمة مسبقاً، كما أنّه لا يكون عبثاً لوجود الحكمة في متعلّق الحكم الناسخ وزوالها في متعلّق الحكم المنسوخ، وليس هناك ما يشكّل عقبةً في طريق تعقّل النّسْخ هذا إلاّ الوهم الذي يأبى تصوّر ارتباط مصلحة الحكم بزمانٍ معيّن بحيث تنتهي عنده، وإلاّ الوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعيّن عن الناس جهلاً من الله بذلك الزمان.

وهذا الوهم يزول حين نلاحظ بعض النظائر الاجتماعية التي ترى فيها شيئاً اعتياديّاً ليس فيه من المحال أثر ولا من العبث والبداء.

فالطبيب حين يعالج مريضاً ويرى أنّ مرحلةً من مراحل المرض التي يجتازها المريض يصلح لها دواءٌ معيّنٌ فيصف له هذا الدواء لمدّةٍ معيّنةٍ ثمّ يستبدله بدواءٍ آخر يصلح لمرحلةٍ أُخرى لا يوصف عمله بالعبث والجهل، مع أنّه قام بوضع

١٩٥

أحكامٍ معيّنةٍ لهذا المريض في زمانٍ محدودٍ ثمّ رفعها عنه بعد مدّةٍ من الزمن، وحين وضع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضيه كما أنّه حين رفع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضي هذا الرفع، وهو في كلٍّ من الحالين كان يعلم المدّة التي يستمرّ بها الحكم والحكمة التي تقتضي رفعه.

ونظير هذا يمكن أن نتصوّره في النّسْخ، فإنّ الله سبحانه حين وضع الحكم المنسوخ وضعه من أجل مصلحةٍ تقتضيه، وهو سبحانه يعلم الزمان الذي سوف ينتهي فيه الحكم وتتحقّق المصلحة التي من أجلها شُرِّع، كما أنّه حين يستبدل الحكم المنسوخ بالحكم الناسخ استبدله من أجل مصلحةٍ معيّنةٍ تقتضيه، فكلّ من وضع الحكم ورفعه كان من أجل حكمةٍ هي معلومة عند جعل الحكم المنسوخ.

فليس هناك جهلٌ وبداء، كما أنّه ليس هناك عبث لتوفّرعنصر العلم والحكمة في الجعل والرفع.

نعم هناك جهل الناس بواقع جعل الحكم المنسوخ حيث كان يبدو استمرار الحكم نتيجةً للإطلاق في البيان الذي وُضع الحكم فيه ولكنّ النّسْخ إنّما يكون كشفاً عن هذا الواقع الذي كان معلوماً لله سبحانه من أوّل الأمر.

ب - وقوعه خارجاً:

وإلى جانب ما ذكرناه من تصوير النّسْخ بالشكل الذي لا يستلزم البداء أو العبث منه سبحانه وتعالى، يمكن أن نضيف شيئاً آخر في إحباط شبهة القائلين باستحالة النّسْخ من اليهود والنصارى وغيرهم، وذلك بملاحظة الموارد التي تحقّق فيها النّسْخ سواء في الشريعة الموسوية، أو الشريعة المسيحية، أو الشريعة الإسلامية؛ حيث جاءت نصوص في التوراة والإنجيل وفي الشريعة الإسلامية تتضمّن النّسْخ، ورفع ما هو ثابت في نفس الشريعة أو في غيرها من الشرائع السابقة، نذكر منه الموارد الآتية:

١٩٦

1 - تحريم اليهود العمل الدنيوي في يوم السبت، مع الاعتراف بأنّ هذا الحكم لم يكن ثابتاً في الشرائع السابقة وإنّما كان يجوز العمل في يوم السبت كغيره من أيام الأسبوع (1) .

2 - أمر الله سبحانه بني إسرائيل قتل أنفسهم بعد عبادتهم للعجْل ثمّ رفعه لهذا الحكم عنهم بعد ذلك (2) .

3 - الأمر ببدأ الخدمة في خيمة الاجتماع في سنِّ الثلاثين، ثمّ رفع هذا الحكم وإبداله بسنِّ خمسٍ وعشرين سنة، ثمّ رفعه بعد ذلك وإبداله بسنِّ العشرين (3) .

4 - النهي عن الحلف بالله في الشريعة المسيحيّة - مع ثبوته في الشريعة الموسويّة - والإلزام بما التزم به في النذر أو اليمين (4) .

5 - الأمر بالقصاص في الشريعة الموسويّة (5) ، ثمّ نُسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحيّة ونُهي عن القصاص (6) .

6 - تحليل الطلاق في الشريعة الموسويّة (7) ، ونسْخ هذا الحكم في الشريعة المسيحيّة (8) .

________________________

(1) انظر سِفْر الخروج 16: 25 - 26، و20: 8 - 12، و23: 12، و31: 16 - 7، و35: 1 - 3، وسِفْر اللاويين 23: 1 - 3 وسِفْر التثنية 5: 12 - 15.

(2) سِفْر الخروج 32: 21 - 29.

(3) سِفْر العدد 4: 2 - 3 و 8: 23 - 24، وسِفْر أخبار الأيّام الأوّل 23: 24 و 32.

(4) سِفْر العدد 30: 2، إنجيل متّى 5: 33 - 34.

(5) سِفْر الخروج 21: 23 - 25.

(6) إنجيل متّى 5: 138.

(7) سِفْر التثنية 14: 1 - 3.

(8) إنجيل متّى 5: 31 - 32 وإنجيل مرقس 10: 11 - 12.

١٩٧

الفرق بين النسخ والبداء:

لقد أُثيرت إلى جانب مسألة النّسْخ مسألةٌ أُخرى هي مسألة (البداء) وقد عرفنا من مطاوي حديثنا السابق عن النسْخ - خصوصاً فيما يتعلّق بدراستنا لشبهة اليهود والنصارى في استحالة النّسْخ - أنّ البداء محالٌ على الله سبحانه.

ومع كلِّ هذا فالمعروف من مذهب الإماميّة الاثني عشريّة أنّهم يقولون بفكرة البداء.

وعلى هذا الأساس نجد بعض الباحثين من إخواننا السنّة يحملون على إخوانهم الإماميّة بشكلٍ عنيف، متّهمين إياهم بالانحراف والضلال، حتّى أنّ بعضهم يكاد أن يقول: أنّ الإماميّة أشدّ انحرافاً من اليهود والنصارى حين حاولوا إنكار النّسْخ؛ لأنّ أولئك أنكروا النّسْخ في محاولةٍ لتنزيه الله سبحانه من النقص، وهؤلاء قالوا بالبداء فأثبتوا الجهل والنقص لله سبحانه (1) .

لذا يجدر بنا ونحن ندرس النسْخ أن نلقي ضوءاً على هذه الفكرة أيضاً، لنحدّد موقفنا منها بشكلٍ دقيقٍ وواضح، ونعرف مدى صحّة هذه التهم التي رمى بها بعض المسلمين مذهب الإماميّة في قولهم بالبداء.

فالبداء تارةً نفهمه على أساس أن يعتقد الله شيئاً، ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده، كأن يرى في الحكم مصلحةً ثمّ يظهر له خلاف ذلك، أو يرى خلق شيءٍ من مخلوقاته حسناً ثمّ يظهر له خلاف ذلك فهذا شيءٌ باطلٌ لا يقول به أحدٌ من المسلمين - من دون فرقٍ بين الإماميين وغيرهم - بل أنكره اليهود والنصارى، ونزّهوا الله عنه.

وقد وردت النصوص التي تؤكِّد هذا المعنى عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)، فقد

________________________

(1) في هذا الصدد راجع الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى:

( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) - الرعد : 39 - والدكتور مصطفى زيد، النسخ في القرآن 1 : 27

١٩٨

روى الصدوق في إكمال الدين عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

(من زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيءٍ لم يعلمه أمس فابرؤا منه) (1) .

والبداء - تارةً أُخرى - نفهمه على أساسٍ آخر بأن نتصوّره نَسْخاً في التكوين، فليس هناك فرقٌ أساسي بينه وبين النّسْخ من حيث الفكرة، وإنّما الفرق بينهما في الموضوع الذي يقع النّسْخ فيه أو البداء؛ فالإزالة والتبديل إذا وقعا في التشريع سميناهما نَسْخاً، وإذا وقعا في الأُمور الكونيّة من الخَلْق والرزق والصحّة والمرض وغيرها سمّيناهما بداءً.

والجدير بالذكر أنّ هذه الفكرة للبداء من شبهةٍ أثارها اليهود حول قدرة الله - تعالى - وسلطانه، وأشار القرآن الكريم إليها كما ناقشها أيضاً بقوله تعالى:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ... ) (2) .

وخلاصة الشبهة: أنّ الله سبحانه إذا خلق شيئاً وقضى فيه أمره استحال عليه أن تتعلّق مشيئته بخلافه، فهو حين يخلق قانون الجاذبية للأرض - مثلاً - أصبح مسلوب القدرة والسلطان أمام هذا القانون، فلا يقدر أن يشاء خلافه أو ينسخه، شأنه في هذا شأن صاحب البندقية؛ فإنّه حين يضغط على الزناد يفقد قدرة التحكّم في الرصاصة.

وهذا المعنى هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ )

كما جاء ذلك في رواية الصدوق عن الصادق (عليه السلام) حيث قال:

(لم يعنوا أنّه هكذا ولكنّهم قالوا فرغ عن الأمر فلا يزيد ولا ينقص).

________________________

(1) راجع في النصوص التي نذكرها في موضوع البداء آية الله السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 270 - 277.

(2) المائدة: 64.

١٩٩

وقد ناقض القرآن الكريم هذه الشبهة في مجالات متعدّدة، منها: الآية الكريمة التي سبق ذكرها، ومنها: قوله تعالى:

( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1) وغير ذلك.

فالقول بالبداء عند الإماميّة يعني: فكرة النّسْخ مطبقة في المجال التكويني ومنطلقة من مفهوم قوله:

( ... بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ... ) وقوله تعالى: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) فهي تؤمن بعلم الله سبحانه بما يقدّمه وما يؤخّره، وما ينقصه وما يزيده، وما يستبدل به، كما أنّها تؤمن بقدرته على هذا التقديم والتأخير والاستبدال؛ وهناك نصوصٌ كثيرةٌ تؤكِّد أنّ فكرة الإماميّة عن البداء لا تتعدّى حدود هذا المعنى ولا تتجاوز عنه.

ففي رواية العيّاشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول:

(إنّ الله يقدِّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وعنده أمُّ الكتاب.

وقال:

فكلّ أمرٍ يريده الله فهو علمه قبل أن يصنعه، وليس شيءٌ يبدو له إلاّ وقد كان علمه، إنّ الله لا يبدو له عن جهل) (2) .

وروى الكليني عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام):

(ما بدا لله في شيءٍ إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له) (3) .

وروى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة، عن الرضا (عليه السلام):

(قال علي بن الحسين وعلي بن أبي طالب قبله ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد (عليهم السلام): كيف لنا بالحديث مع هذه الآية: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) فأمّا من قال بأنّ الله تعالى لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه فقد كفر وخرج

________________________

(1) الرّعد: 39.

(2) تفسير العيّاشي 2: 218، الحديث 71.

(3) الكافي 1: 148، الحديث 9.

٢٠٠