علوم القرآن

علوم القرآن11%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219589 / تحميل: 19579
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

ما أحدٌ ابتدع بدعةً إلاّ ترك بها سنّة)) (١) .

الرابع: القرآن تحدّث عن كلِّ عصرٍ وزمان:

إنّ القرآن الكريم حيٌّ لا يموت، تجري أحكامه وأمثاله ومفاهيمه في جميع الأزمان والعصور؛ فهو وإن كان قد نزل في عصرٍ معيّنٍ، وعالج قضايا وأحداثاً خاصّةً، وتحدّث عن أشخاصٍ معيّنين ماضين أو معاصرين في القصص، أو أحداث نزول الرسالة وتطوّرها ممّا يرتبط بأسباب النزول، وبنى قاعدةً بشريّةً قويّةً من خلال هذه المعالجة تحمّلت أعباء الرسالة الإسلامية - كما أشرنا سابقاً - إلاّ أنّ القرآن - مع ذلك كلِّه - هو الكتاب الإلهي للرسالة الخاتمة، والمعجزة الخالدة للإسلام ونبيه الكريم، يتحدّث إلى جميع الناس في مختلف العصور والأزمان.

وفي هذا المجال توجد نظرةٌ شموليّةٌ يتميّز بها أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّه بالرّغم من أنّ أكثر علماء الإسلام ذهبوا إلى مبدأ: (إنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب) ومن ثمَّ فهم يرون أنّ خصوص السبب لا يتقيّد بخصوص الأحداث والوقائع التي تحدّث عنها أو نزل فيها؛ لأنّ جميع هذه القضايا إنّما جاء بها القرآن الكريم للعِبرة والهداية والموعظة، كما دلّت على ذلك الآيات الكريمة:

( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٢) .

( هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) (٣) .

( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (٤) .

________________________

(١) الكافي ١: ٥٨ الحديث ١٩ راجع أيضاً الحديث ١ و ٢ و ٣.

(٢) يوسف: ١١١.

(٣) آل عمران: ١٣٨.

(٤) الإسراء: ٨٩.

٣٢١

حيث نلاحظ أنّ القرآن الكريم ضرب الأمثال وتحدّث عن الأحداث والوقائع بروح التربية والتزكية والهداية؛ فكما أنّ هذا المثل له مصاديقه في عصر النزول، فهو له مصاديق (يؤول) إليها في العصور الأُخرى.

وكما أنّ قصّة نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، تمثّل حقائق عاصرها الأنبياء، ولم يذكرها القرآن الكريم لمجرّد التسلية أو تسجيل حوادث التاريخ وتوثيقها؛ بل لأنّها تمثّل أيضاً حقائق وقعت في عصر نزول القرآن، فكذلك هي - في نظر أهل البيت (عليهم السلام) - تمثّل حقائق متشابِهة ومطابقة لها في العصور والأزمنة الأُخرى التي تلت عصر الرسالة الإسلامية، وفي كلِّ عصرٍ وزمان.

وهكذا الحال في الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية والسُّنن التاريخية والحقائق الكونيّة كلّها تتحدّث عن مصاديق ونظائر ومفردات وتطبيقات لعصر الرسالة، بل ولكلِّ عصرٍ وزمان.

ونحن هنا لا نريد أن نفصّل في الاستدلال على صحّة هذه (الرؤية) فإنّ لذلك مجالاً آخر، وإنّما نريد هنا أن نذكر الجانب (التصوّري) لهذه (النظرية) من خلال ما ذكره أهل البيت (عليهم السلام).

ولعلّ هذا المَعْلَم يمثِّل أحد أهمّ المعالم التي تتميّز بها (رؤية) أهل البيت لتفسير القرآن الكريم بشكلٍ واضحٍ وأساسي عن بقيّة النظريات في المذاهب الإسلامية.

نظريّة أهل البيت (عليهم السلام) في فهم القرآن الكريم:

لقد تناول هذا الموضوع عددٌ كبيرٌ من الروايات التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)، كما ورد بعضها عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، وذُكرت في كتب علماء أهل السنّة، الأمر الذي يؤكِّد أهميّة الموضوع ودقته.

٣٢٢

كما أنّنا نلاحظ أيضاً في هذه الروايات أنّها متفاوتةٌ في مضامينها، بحيث قد تبدو أحياناً وكأنّها متناقضةٌ أو متضاربة أو مختلفة، وفي نفس الوقت اختلفت آراء العلماء في تفسيرها والأخذ منها حتّى تباينت واضطربت.

وقد تركَّز البحث فيها حول موضوعين رئيسين:

أحدهما: بحث (المُحْكَم والمُتشابِه) والتفسير والتأويل الذي دار حول الآية السابعة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى:

( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) (١) .

والآخر: بحث (التفسير بالرأي) الذي ورد النهي عنه في أحاديث مسلّمة عند المسلمين، وجاء فيها الوصف بالكفر لمن صنع ذلك في القرآن الكريم؛ حيث وقع الخلاف في تحديد معنى (الرأي) هذا.

ولعلّ من أفضل الأبحاث استيعاباً وتحليلاً واختصاراً وفائدةً، هو ما ذكره العلاّمة الطباطبائي (قُدِّس سرّه) في كتابه: (الميزان في تفسير القرآن) والذي استنبط فيه النظرية القرآنية التي تبنّاها أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المجال، واستند فيها إلى الآيات الشريفة والسنّة النبويّة المرويّة عن النبي وأهل بيته الكرام (٢) .

ومن أجل أن تتّضح صورة هذا المَعْلَم من التفسير، نُشير إلى مجموعةٍ من الروايات والنصوص التي تدلّ أو تُشير إلى وجود مستويين من تفسير القرآن والأخذ منه:

الأوّل:

تفسير القرآن على مستوى الظاهر أو المُحْكَم أو التنزيل... حسب ما

________________________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) راجع الميزان ٣: ١٩ - ٨٧ لمعرفة تفصيل حديثه.

٣٢٣

ورد في التعبير عنه في هذه النصوص.

الثاني:

التفسير على مستوى الباطن أو المُتشابِه أو التأويل...

حيث يبدو من هذه النصوص وغيرها أنّ المستوى الأوّل من التفسير يمكن تناوله لعامّة الناس، بعد الإحاطة الكاملة بالقرآن الكريم ومفاهيمه وآياته.

وأمّا المستوى الآخر من التفسير فهو ممّا اختصّ به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام.

وهذا المستوى (الكامل) يمكن أن نراه في أحد الخطوط التالية التي أشارت إليها الروايات والأحاديث من هذه الطائفة:

أ - المعلومات القرآنية التي تجري مجرى المعلومات الغيبية في مستقبل الأحداث التي تمرّ بالإنسان والحياة، والتي يمكن استنباطها من القرآن الكريم.

ب - المعلومات المرتبطة بتفاصيل الشريعة الإسلامية ذات العلاقة بالموضوعات الشرعيّة التي تناولها القرآن الكريم، أو التي لها علاقة بالأُمور المستجدّة والمستحدثة في الحياة الإسلامية، والتي تعلّمها الإمام علي (عليه السلام) وأولاده الأئمّة المعصومون من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ج - التطبيق الدقيق للمفاهيم والسّنن والأحداث التي أشار إليها القرآن الكريم والتشخيص الكامل للمصاديق والمفردات الخارجية لها، والتي (تؤول) إليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في حركة المجتمع الإسلامي في مختلف العصور والأزمنة.

د - التمثيل والتشبيه للمضامين القرآنية والأمثال والمفردات التي وردت في القرآن الكريم، نظير الأمثلة التي ضربها القرآن الكريم مفهوميّاً، أو من خلال الإشارة لأحداث سابقةٍ بشكلٍ ينطبق على أحداث الرسالة، حيث قام الأئمّة - أيضاً - بضرب هذه الأمثلة من خلال النصوص القرآنية وتطبيقها على أحداث كانت في عصر الرسالة أو بعدها، فإنّ علم هذا النوع من التفسير مختصٌّ بالنبي

٣٢٤

والأئمّة من أهل بيته (عليهم الصلاة والسلام).

وهنا نشير إلى مجموعةٍ من الروايات ذات العلاقة بهذه الطائفة من الأخبار:

١ - روى محمّد بن الحسن الصفّار في بصائر الدرجات بسندٍ مُعْتَبرٍ عن فضيل بن يسار، قال: سألتُ أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: ما من القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، قال:

(ظهره وبطنه تأويله، ومنه ما قد مضى ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر كلّما جاء تأويل شيءٍ يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله:

( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١) نحن نعلمه) (٢) .

٢ - روى الصفّار أيضاً في بصائر الدرجات بسندٍ مُعْتَبر ٍ(٣) عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

(إنّ للقرآن تأويلاً، فمنه ما قد جاء، ومنه ما لم يجئ، فإذا وقع التأويل في زمان إمامٍ من الأئمّة عرفه إمام ذلك الزمان) (٤) .

٣ - عن جميل بن درّاج، عن زرارة، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) قال:

(تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان، ومنه ما لم يكن بعد، تعرفه الأئمّة - عليهم السلام - ) (٥) .

٤ - روى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ظهر القرآن وبطنه، فقال:

(ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أُولئك) (٦) .

________________________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٤٥ الحديث ٤٩.

(٣) اعتبار السند؛ لأنّ المرزبان بن عمر روى عنه صفوان بن يحيى فيكون معتمَداً؛ لأنّ صفوان من الثلاثة التي أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصح عنهم، كما ذكر الشيخ الطوسي في العدّة وهم: محمّد بن أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر وصفوان بن يحيى.

(٤) وسائل الشيعة ١٨: ١٤٥ الحديث ٤٧.

(٥) المصدر السابق: ١٤٥ الحديث ٥٠.

(٦) بحار الأنوار ٩٢: ٨٣ الحديث ١٤.

٣٢٥

ملاحظات واستنتاجات عامّة:

وفي ختام هذا الحديث يحسن بنا أن نسجِّل بعض الملاحظات العامّة والاستنتاجات حول مجموع ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) بشأن تفسير القرآن:

الملاحظة الأُولى: توثيق الروايات سنداً ومضموناً:

إن هذه الروايات التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تحتاج إلى بحثٍ علميٍّ دقيق، طبقاً للضوابط والأُصول المحقّقه في علم الحديث.

ذلك أنّ حديث أهل البيت، قد تعرّض إلى مجموعةٍ من المشاكل الأساسيّة والمهمّة التي ألقت بثقلها على هذه الروايات، باعتبار أهميّة القرآن الكريم من ناحية، والارتباط الوثيق بينه وبين أهل البيت من ناحيةٍ ثانية، وتعرّض القرآن إلى التفسير بالرأي؛ لتحقيق أغراض سياسيّةٍ أو ذاتيّة، أو لمجرّد ضعف التقوى والإيمان والتساهل في الدين، أو لأيّ سببٍ آخر من الأسباب التي أشرنا إليها سابقاً من ناحيةٍ ثالثة.

ثمّ تصدّى أهلُ البيت باعتبار شعورهم بالمسؤوليّة تجاه الإسلام والأُمّة الإسلامية لكلِّ هذه القضايا، وما تعرّضت له الأُمّة الإسلامية من مشكلاتٍ ثقافيةٍ أو عقائديةٍ أو سياسية.

ويمكن أن نلخِّص أهمَّ هذه المشكلات التي تعرّض لها حديث أهل البيت (عليهم السلام) بالأُمور التالية:

١ - الدسّ والوضع والتزوير في حديثهم، حيث تعرّض حديثهم لذلك في زمن الأئمّة فضلاً عن العصور المتأخّرة عنهم.

ويمكن أن نلاحظ هذه الظاهرة بوضوحٍ من خلال مراجعة ترجمة بعض الأشخاص في كتب الرجال، ولعلّ من أطرف الروايات في هذا المجال ما رواه الكشي عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، قال ابن عبيد:

(إنّ بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمن

٣٢٦

وأنا حاضر، فقال له يا أبا محمّد ما أشدّك في الحديث، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟! فقال: حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله (الصادق) - عليه السلام - يقول:

(لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد - لعنه الله - دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقولوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبيّنا محمّد - صلّى الله عليه وآله) فإنّا إذا حدّثنا قلنا: قال الله عزّ وجلّ وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) (١) .

(قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفرٍ (الباقر) - عليه السلام - ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام)، وقال لي:

(إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله (عليه السلام)، لعن الله أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب، يدسّون في هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أبي عبد الله (عليه السلام)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة... ) ) (٢) .

٢ - الغلو والتطرّف في حب أهل البيت (عليهم السلام) والاعتقاد بهم؛ حيث كان لهذه الحركة السياسية والعقائدية أسبابها وظروفها المختلفة السياسية والاجتماعية والنفسيّة والثقافية، وانعكست على الأخبار في فهمها أو تزويرها وتحريفها.

وكتب رجال الحديث فيها عدداً من تراجم من كان يُرمى بالغلو، أو ممّن طردهم أئمّة أهل البيت من حوزتهم ومصاحبتهم وأعلنوا البراءة منهم.

٣ - الانحرافات والانشقاقات التي كانت تحصل في جماعة أتباع أهل البيت.

________________________

(١) بحار الأنوار ٢: ٢٤٩.

(٢) رجال الكشي: ١٤٦.

٣٢٧

بسبب الظروف السياسية أو الأخلاقية والاجتماعية، كما حصل في ظهور الزيديّة والإسماعيليّة والواقفيّة وغيرهم، حيث استمرت هذه الظاهرة إلى زمن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وبعده.

٤ - ظروف الاضطهاد والمطاردة والسريّة في العمل والحركة، الأمر الذي كان سبباً مهمّاً لاختفاء البيانات الواقعيّة أو للدس والتزوير تحت شعار (التقيّة) (١) حيث استغلّ أعداء أهل البيت أو الفاسدون من الأشخاص الذين يتظاهرون بالارتباط بهم هذه الظروف؛ لتمرير الكثير من الأحاديث أو تشويهها وتزويرها.

٥ - التعصّب والنصب والعداء وعملات كتمان الحقائق أو التشويه وإلصاق التهم الباطلة ونشر الإشاعات، حيث كان كل ذلك سبباً لنشر الكثير من الأحاديث ووضعها وتضليل البسطاء من المسلمين بها، وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ هذا العداء والتعصّب كان سبباً لكتمان الكثير من أسباب النزول المرتبطة بأهل البيت (عليهم السلام).

٦ - عدم الدقّة في النقل، أو سوء الفهم في التلقّي والأخذ عن الأئمّة، ولذلك نجدهم (عليهم السلام) يؤكّدون الضبط وأهمّيّته من ناحية، وأنّ في أحاديثهم المُحْكَم والمُتشابِه من ناحيةٍ أُخرى، كما سوف نوضِّح ذلك.

٧ - الجمود على نصوص الألفاظ وفصل بعضها عن بعض.

٨ - ضياع الكثير من القرائن الحاليّة والمقاليّة التي كانت تقترن بالروايات والأحاديث وتوضّح المقصود منها (٢) .

________________________

(١) بحثنا موضوع التقيّة في كتابنا: (الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين) وبحث التقيّة في نظر الشيخ المفيد.

حيث وضع أهل البيت ضوابط لتمييز موارد التقيّة عن غيرها.

(٢) للمزيد من الاطّلاع والوضوح راجع بحث سيّدنا الأستاذ الشهيد (قُدِّس سرّه) في بحوث علم الأُصول، تقريرات آية الله

السيّد محمود الهاشمي ٧ : ٢٨... وكذلك كتب الرجال مثل كتاب: الخلاصة، للعلاّمة الحلّي، قسم الضعفاء.

٣٢٨

إنّ هذه الطوائف والأخبار يجب أن تخضع للبحث والتمحيص والغربلة العلميّة سواء على مستوى السند أم المضمون والدراية، وكذلك إلى المقارنة بين بعضها وبعضها الآخر لمعرفة المُحْكَم من المتشابِه منها، والعام من الخاص، والمطلق من المقيّد، والراجح من المرجوح، إلى غير ذلك من الموازين العلميّة.

وهنا لا بُدّ أن نشير إلى أنّه لا يوجد في (مدرسة أهل البيت) (عليهم السلام) (حديث) لا يقبل الدرس والمناقشة والتمحيص إلاّ النادر من الأحاديث المتواترة، ولذلك فهم يخضعون كلّ هذه الأحاديث وغيرها مهما كانت الكتب التي دوّنتها، أو الرجال الذين رووها إلى الدرس والتمحيص.

نعم يوجد اتجاهٌ بين العلماء من الإخباريين من يحاول أن يضفي صفة الاعتبار والصحّة على جميع ما في الكتب الأربعة المعروفة، وهي الكافي للشيخ الكليني، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي، ولكن الاتجاه العام والسائد عند علماء مدرسة أهل البيت لا يقبل مثل ذلك (١) .

ومن هذا المنطلق نجد سيّدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه) يرفض الأخبار التي تقول بأنّ فهم القرآن مختصٌّ بأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد أن يسلم دلالتها؛ لأنّها مخالفةٌ للقرآن الكريم والسنّة النبويّة القطعيّة؛ ولأنّ رواتها ضعفاء متّهمون بالغلو (٢) .

ولكنّ العلاّمة الطباطبائي - كما عرفنا - يحاول أن يؤوّل هذه الأخبار، بأنّها بصدد بيان أنّ (الأئمّة) لهم دور التعليم والدلالة إلى طريق التفسير، لا أنّ القرآن لا يفهمه إلاّ الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنّنا يمكن أن نحمل هذه الروايات على أنّهم (عليهم السلام) مختصّون بمستوىً خاصٍّ من التفسير.

الملاحظة الثانية: التفسير مفهومٌ واسع:

إنّ التفسير في نظر أهل البيت له مفهومٌ واسعٌ يشمل فهم الظهور القرآني، كما

________________________

(١) راجع معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي ١: ٢٢ - ٣٦.

(٢) بحوث في علم الأُصول ٤: ٢٨٤.

٣٢٩

يشمل معرفة المصاديق والأمثلة والتفاصيل المرتبطة بالقرآن الكريم، سواء كانت في قصص الأنبياء أم الأمثال المضروبة أم الأحكام التفصيليّة للشريعة، أم الأحداث التي اقترنت بنزول القرآن الكريم، أم التطبيقات التي يمكن أن تتحقّق في مستقبل الأيّام، كما أوضحنا ذلك قبل الحديث عن الملاحظات.

وهذا الفهم للتفسير يعتمد على عدّة منطلقات - أشرنا إليها سابقاً - مثل تعرّض القرآن وبيانه لكلِّ شيء (١) ، وكذلك ثبوت تفسير النبي (صلّى الله عليه وآله) للقرآن الكريم بهذا الشكل الواسع وتعليمه للإمام علي (عليه السلام) بشكلٍ خاص (٢) ، أو ارتباط بقاء القرآن الكريم حيّاً ونوراً هادياً على مرّ العصور والأجيال بهذا الفهم الواسع للتفسير (٣) .

وهذا الفهم لشموليّة التفسير لا ينافي - أيضاً - ما عرفناه في بعض الأخبار والنصوص من هداية القرآن، وأنّه مبيّن وبيان وهداية ورحمة، وقد حثّ أئمّةُ أهل البيت على الأخذ به والرجوع إليه والعرض عليه، فإنّ ذلك لا شكّ أمرٌ قائم وموجود في القرآن، حيث يمكن للناس في كلّ عصرٍ وزمانٍ أن يفهموا ظاهره ومحكمه، ويتعرّفوا على مصاديقه بالمقدار الذي آتاهم الله من العلم والفهم وما اكتسبوه من التعلّم واتّصفوا به من الطهارة، ولا يجب أن يعرف كلّ واحدٍ من الناس جميع الأبعاد والوجوه الأُخرى.

خصوصاً إذا عرفنا أنّه لا يوجد أيّ منافاةٍ بين الظاهر والباطن أو المُحْكَم والمتشابِه، أو التنزيل والتأويل، بل كلّ واحدٍ من الظاهر والمُحْكَم والتنزيل يدل على الباطن والمتشابه والتأويل بنحوٍ من الدلالة، غاية الأمر أنّ بعض هذه الدلالة لا يعلمها إلاّ الله تعالى والراسخون في العلم بعد أن علّمهم الله تعالى إيّاها، أو بما

________________________

(١) الأنعام: ٣٨، ويوسف: ١١١، والإسراء: ١٢، والنحل: ٨٩، وغيرها.

(٢) راجع فصل مرجعيّة أهل البيت في هذا البحث.

(٣) راجع الروايات التي ذكرناها سابقاً عند التعرّض لنظريّة أهل البيت في التفسير.

٣٣٠

وفّقهم إليه من الطهارة والنقاوة والمعرفة.

وشأن ذلك شأن الحوادث المستجدّة أو المكتشفات العلميّة الحديثة أو الموضوعات الشرعيّة الجديدة الحادثة التي يمكن أن نفهم مضمونها والإشارة إليها أو إلى حكمها من القرآن الكريم مع أنّها لم تكن معلومةً سابقاً، وكانت بالنسبة لإنسان عصر النزول من عوالم الغيب وعرفها اللاّحقون فكانت من عالم الشهود، فمعرفة كلّ ذلك يمثّل تفسيراً للقرآن الكريم كان يعلمه أهل البيت (عليهم السلام).

أو شأن ذلك شأن تأويل الأحاديث الذي أشار إليه القرآن الكريم في قصّة يوسف (عليه السلام)، حيث أمكن ليوسف أن يفهم من الرؤيا التي رآها الملك هذا المعنى الخاص الذي يمثّل باطناً للصورة الظاهرية التي انعكست في ذهنه عند الرؤيا، فالبقرات العجاف والسنابل اليابسة هي سنين القحط، والبقرات السمان والسنابل الخضراء هي سنين الرخاء، وكذلك الرؤيا التي رآها السجينان في السجن ومداليلها الباطنية.

الملاحظة الثالثة: التأويل في نظر القرآن وأهل البيت (عليهم السلام):

إنّ أهل البيت (عليهم السلام) ركّزوا بشكلٍ واضحٍ في هذه الروايات - على اختلافها - على قضيّة التأويل والظاهر والباطن، وهذا الموضوع ممّا أجمع المسلمون على صحّته ونسبته للقرآن الكريم وإن اختلفوا في تحديد مفهومه.

ومن أجل أن تتّضح الفكرة الأساسية في نظريّة أهل البيت بشكلٍ أفضل، بحيث تنسجم مع ما ورد في القرآن الكريم من نصوص من ناحية، ومع المضمون الإجمالي للروايات السابقة من ناحيةٍ أُخرى، يحسن بنا أن نقف عند كلمة (التأويل) بعض الشيء، ويمكن من خلالها أن نفهم الباطن والمتشابِه أيضاً إضافةً إلى التوضيحات التي قدّمها العلاّمة الطباطبائي في بحثه السابق (١) .

________________________

(١) راجع الميزان ٣: ٨٠ - ٨٧.

٣٣١

لقد اختلف علماء الإسلام والقرآن بشكلٍ خاص، حول تحديد المقصود من كلمة التأويل، خصوصاً المعنى المصطلح لها، ونحن هنا لا نريد أن نعالج الجانب الاصطلاحي ولا حتّى الجانب اللُّغوي المفهومي لها، إذ يمكن معرفة ذلك من خلال بحثنا السابق في التفسير والتأويل.

وإنّما نريد أن نعالج هنا مدلول الكلمة قرآنيّاً على مستوى (تفسير المعنى) وتشخيص المصداق، من خلال مراجعة الآيات الشريفة التي وردت في القرآن الكريم وسياقها.

وفي هذا المجال يمكن أن نرى أمامنا إرادة المصاديق التالية من القرآن الكريم:

١ - في سورة يوسف الآيات (٦ و ٢١ و ٣٦ و ٣٧ و ٤٤ و ٤٥ و ١٠٠ و ١٠١) حيث يبدو منها أنّها وردت في بيان تفسير وتأويل الأحلام والرؤى في المنام، بمعنى بيان مصاديقها وتجسيداتها الخارجية.

٢ - في سورة الكهف الآيتان (٧٨ و ٨٢) حيث يُراد بالتأويل منهما بيان سلامة وصحّة سلوك (العبد الذي آتاه الله من لدنه علماً) وانسجامه مع الحق والعدل والمصلحة، مع أنّه كان يبدو بحسب الظاهر الذي كان يراه موسى (عليه السلام) (١) أنّه غير منسجمٍ مع الشرع والمصلحة العقلائية، ولذا أثار استغرابه وتعجّبه وتساؤله.

٣ - في سورة يونس الآية (٣٩) جاء التأويل فيها بمعنى تحقّق ما ذكره القرآن الكريم من تصديق الرسالات السابقة وتفاصيل الشريعة والرسالة، وما يمكن أن يتحقّق في مسيراتها بعد ذلك من أحداث.

٤ - في سورة الأعراف الآية (٥٣) جاء التأويل فيها بمعنى تحقّق ما أخبر به الكتاب أو القرآن الكريم بما يقع يوم القيامة من العذاب والثواب ومصائر الناس.

________________________

(١) لم يصرّح القرآن أنّ موسى هو النبي موسى (عليه السلام)، ولكنّ المفسّرين يستظهرون ذلك إذ لم يأت في القرآن ذكرٌ لموسى آخر غير النبي، مع أنّه تحدّث كثيراً عن موسى النبي.

٣٣٢

حيث يصدّق الإنسان ما جاءت به الرسل عن الله تعالى من حقائق هذا اليوم.

٥ - في سورة آل عمران الآية (٧) جاء التأويل فيها بمعنى الأخذ بالمتشابِه بتطبيقه على أحد مصاديقه التي تؤدّي إلى الفتنة والزيغ، بدون الرجوع إلى المُحْكَم من القرآن لتشخيص المصداق الصحيح.

٦ - في سورة النساء الآية (٥٩) جاء التأويل فيها بمعنى بيان الموضوع أو تشخيص نوع الحكم الشرعي عند الاختلاف فيه.

٧ - في سورة الإسراء الآية (٣٥) جاء التأويل فيها بمعنى الالتزام بالضوابط والموازين في تشخيص الحقائق ومعرفة المقادير.

وإذا أردنا أن نجمع بين مصاديق هذه الموارد، نرى بوضوحٍ أنّ التأويل هو بيان الحقيقة والواقع الذي يغيب عن نظر الإنسان عادةً، كالأُمور الغيبية أو الدقيقة التي قد يحصل الاختلاف فيها، وإن كان هناك ما يدل عليها ويومئ إليها مثل الرؤى والصور في المنام، أو الإخبارات الغيبيّة بواسطة الوحي الإلهي، أو الأفعال الصادرة عن أهل العلم والحكمة والدين، أو الموازين والضوابط الشرعيّة، كالرجوع إلى مصدر الشريعة والمرجع فيها، أو الموازين العقلائية كاستخدام الكيل أو الوزن لمعرفة المقادير.

ويؤكّد هذا الفهم لمعنى التأويل الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، حيث تشير أيضاً إلى أنّ التأويل في الغالب هو تطبيق مفاهيم القرآن على المصاديق المستقبلية، كما يفهم ذلك من رواية الفضيل بن يسار المعتبرة، ورواية المرزبان عن إسحاق بن عمار المعتبرة أيضاً، ورواية زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) والتي مرت الإشارة إليها.

أو يكون التأويل هو اتّباع الضوابط في تشخيص موارد الاختلاف والوجوه المتعدّدة، مثل: رواية العيّاشي عن عبد الرحمن السلمي: (أنّ عليّاً مرّ على قاضٍ

٣٣٣

فقال له: (أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، تأويل كلّ حرفٍ من القرآن على وجوه)) (١) .

أو رواية النعماني في تفسيره عن إسماعيل بن جابر في قول الصادق (عليه السلام):

(ذلك بأنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالخاص وهم يقدرون أنّه العام، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه... ) (٢) .

وكذلك حديث أبي داود عن أنس بن مالك، عن النبي (صلّى الله عليه وآله):

(يا علي أنت تعلّم الناس تأويل القرآن ممّا لا يعلمون؛ فقال علي: على ما أُبلغ رسالتك من بعدك يا رسول الله؟

قال: تخبر الناس بما يشكل عليهم من تأويل القرآن) (٣) .

إذاً فالتأويل عمليّة تطبيق وتشخيص تنسجم مع الظاهر والتنزيل والمحكم، وتعتمد على المعلومات والقواعد والضوابط العامّة أو الخاصّة التي يتلقّاها الإنسان الصالح من الله تعالى، كما في قوله تعالى:

( ... وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) (٤) .

وكذلك قوله تعالى في أوّل سورة يوسف:

( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ... ) (٥) .

________________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٤٩، الحديث ٦٥.

(٢) المصدر السابق: الحديث ٦٢.

(٣) المصدر السابق: ١٤٤، الحديث ٤٦.

(٤) الكهف: ٨٢.

(٥) يوسف: ٦.

٣٣٤

وقوله تعالى في وسطها:

( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي... ) (١) .

وقوله تعالى في آخرها:

( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... ) (٢) .

أو تعتمد على الضوابط والقوانين والقواعد اللُّغوية أو القرائن الحاليّة والمقاليّة أو المعلومات العلميّة أو الحسيّة أو الشرعيّة أو الطبيعة أو غير ذلك من قوانين العلم والتوثيق.

الملاحظة الرابعة: اختصاص أهل البيت (عليهم السلام) بهذا العلم:

انّ أهل البيت (عليهم السلام) وهم رسول الله محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الاثنا عشر (عليهم السلام) والصديقة الزهراء (عليها السلام) يختصّون من بين المسلمين بامتيازاتٍ كثيرة، أحدها هي أنّهم يعلمون تنزيل القرآن وتأويله وظاهره وباطنه ومُحْكَمه ومُتشابِهه.

ومع غض النظر عن مصدر هذا العلم (٣) فإنّه لا بُدّ أن نشير في هذا المجال إلى عدّة نقاط:

الأُولى:

إنّ المراد من اختصاصهم بهذا العلم كما هو مقتضى الجمع بين هذه الروايات هو اختصاص العلم بـ (جميع) تفسير القرآن و(كل) القرآن بهذا المعنى

________________________

(١) يوسف: ٣٧.

(٢) يوسف: ١٠١.

(٣) يوجد بحثٌ كلاميٌّ وروائيٌّ في أنّ هذا العلم هل هو من باب التلقّي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ أو من باب الإلهام والإلقاء من الله تعالى؟ أو من باب العلم بالغيب الذي اطلع الله تعالى بعض عباده عليه؟ أو هو من جميع هذه المصادر؟ ولا يهمّنا الآن الدخول في هذا البحث.

٣٣٥

الواسع الذي أشرنا إليه، لا أنّ القرآن لا يفهمه غير أهل البيت (عليهم السلام)، ولذا جاء التعبير بهذا الاختصاص مقروناً - أحياناً - بكلمة (كل) و(جميع) (١) ، وجاء هذا التعبير مقروناً - أحياناً أُخرى - ببيان تفصيل أبعاد هذا العلم (٢) .

وهذا المعنى لا ينافي - كما ذكرنا - أن يكون القرآن هادياً للبشريّة ولجميع الناس؛ حيث يمكن للناس أن يفهموا القرآن ويرجعوا إليه فيما يعرفونه من معانيه، وفق الضوابط والقوانين العلميّة الصحيحة.

الثانية:

إنّ أهل البيت في الكثير من هذه الروايات كانوا يحاولون معالجة الواقع الخطير الذي كان عليه بعض المفسّرين للقرآن، الذين اعتمدوا على الرأي والظنون دون الرجوع إلى الضوابط العلميّة والسنّة المرويّة والعترة الطاهرة التي جعلها النبي الأكرم مرجعاً للمسلمين والثقل الآخر الذي لا يفترق عن القرآن الكريم.

فأهل البيت أنكروا على بعض المسلمين العدول عن العلم إلى الظن، وهذا غير جائزٍ بإجماع المسلمين.

الثالثة:

إنّ من الطبيعي أن يكون أهل البيت (عليهم السلام) لهم هذا النوع من الاختصاص إذا أخذنا التفسير بمعناه الواسع الذي أشرنا إليه.

فكما صحّ أن يكون هذا النوع من الاختصاص ليوسف (عليه السلام) وهو من أنبياء بني إسرائيل، أو يكون لعبدٍ من عباد الله الصالحين آتاه الله العلم والمعرفة، يمكن أن يكون هذا الأمر للأئمّة الطاهرين وهم ورثة النبي في علمه.

وهذا النوع من المعلومات لا دليل على وجود قواعد وضوابط يمكن من خلالها الاطّلاع عليها وتعلّمها - كما يحاول أن يذهب إلى ذلك العلاّمة

________________________

(١) الكافي ١: ٢٢٨، الحديث ١ و ٢ وص ٢٢٩، الحديث ٥ وص ٢٥٧، الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٣٥، الحديث ٢٣ وص ١٣٦، الحديث ٢٥ وص ١٤١، الحديث ٣٩.

٣٣٦

الطباطبائي - بل قد تكون هي من الأُمور الغيبيّة التي يكون علمها عند الله - تعالى - وهو الذي يلقيها ويعلّمها للأنبياء، أو لهم وللأوصياء والأولياء الذين يختارهم - تعالى - ويصطفيهم عندما تقتضي حكمته ذلك، أو يحجبها عنهم عند اقتضاء الحكمة ذلك.

ولعلّ هذا هو وجه الجمع بين الالتزام بالوقف على قوله تعالى:

( ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ... ) (١) وبين قوله تعالى: ( لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٢) .

فالراسخون في العلم لا يعلمون التأويل الذي هو من الغيب بل يؤمنون به ( ... ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا... ) (٣) ، ولكنّهم في نفس الوقت يعلمون التأويل بتعليم الله تعالى لهم عندما يكونون من المطهّرين كما أشار إلى ذلك العلاّمة الطباطبائي نفسه.

فأهل البيت (عليهم السلام) يختصّون بعلم (جميع) تفسير القرآن، وهذا الاختصاص أمرٌ طبيعي بعد أن كان هذا الجانب من العلم من الأُمور الغيبيّة التي علّمهم الله - تعالى - إيّاها.

كما أنّهم في نفس الوقت يشاركون الناس، بل أهل المعرفة بالعلم بظواهر القرآن الكريم، بل هم أحد الضوابط والموازين المهمّة في هذه المعرفة العامّة للناس.

وبهذا يمكن - أيضاً - أن نجمع بين روايات اختصاص تفسير القرآن بأهل البيت (عليهم السلام) وما ورد من الآيات والروايات التي تدلّ على أنّ القرآن ميسّر الفهم لجميع الناس؛ حيث يكون القرآن ميسّر الفهم طبقاً للضوابط العامّة للُّغة التي يمكن للعلماء أن يعرفوها، ولكن في الوقت نفسه يكون هناك جانب من الاختصاص يرتبط بتطبيق مفاهيم القرآن على الأُمور الغيبية وتفاصيل الشريعة وغيرها، كما أشار إلى ذلك العلاّمة الطباطبائي، فلا نحتاج إلى ردّ هذه الروايات بسبب مخالفتها للقرآن كما قد يُفهم ذلك من الشهيد الصدر في بحوثه الأُصولية التي أشرنا إليها.

________________________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) الواقعة: ٧٩.

(٣) آل عمران: ٧.

٣٣٧

القسم الرابع

التفسير الموضوعي

القصص القرآني.

فواتح السور.

استخلاف آدم (الإنسان).

٣٣٨

٣٣٩

التفسير الموضوعي

تمهيد: التعريف بالتفسير الموضوعي:

حين نريد أن نلاحظ الدراسات التفسيرية منذ العصور الإسلامية الأُولى نجد بينها اختلافاً كثيراً في الانطباعات، وتفاوتاً كبيراً بالموضوعات ذات العلاقة في البحوث القرآنية؛ حيث نرى بعض المفسّرين يتّجه إلى تأكيد الجوانب اللُّغوية واللّفظية في النص القرآني، وبعضهم الآخر يتّجه إلى تأكيد الجانب التشريعي والفقهي من القرآن، وبعضٌ آخر يتّجه إلى تأكيد الجانب العقيدي أو الأخلاقي أو العلمي التجريبي أو الجانب العرفاني منه، وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الموضوعات القرآنية كالقصّة وغيرها.

وبالرّغم من هذا الاختلاف الكبير لا نكاد نجد اختلافاً مهمّاً في منهج الدراسة والبحث، ذلك أنّهم اعتادوا على أن ينهجوا في البحث طريقة تفسير الآيات القرآنية بحسب تسلسل عرضها في القرآن الكريم، وتنتهي مهمّة تفسيرها عند تحديد معنى الآية موضوع البحث مع ملاحظة بعض ظروف السياق أو بعض الآيات الأُخرى المشتركة معها في نفس الموضوع، ويمكن أن نسمّي هذا المنهج بالتفسير التجزيئي أو الترتيبي للقرآن الكريم.

نعم نلاحظ أن مجموعةً من الآيات اهتمّ المفسّرون بها بشكلٍ خاص؛ لوجود قاسم مشترك بينها: كآيات الأحكام أو القصص القرآني أو الآيات الناسخة والمنسوخة أو غيرها، ولكن لم تدرس كموضوعٍ مستقلٍّ بل باعتبار وجود الجامع

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

و لا ريب في أنّ المصنف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يعلم قطعا انّه لم يكن هذا النص ، و لكن قد يسبق إلى النفوس و العقول انّه قد كان هناك تعريض و تلويح ، و كناية و قول غير صريح و حكم غير مبتوت ، و لعلّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ، و مصلحة يراعيها أو وقوف مع اذن اللّه تعالى في ذلك ١ .

قلت : هل نصّ يوم الغدير ، و خبر المنزلة ، و ما أشبههما ممّا ورد من طرقهم متواترا لا يكفي في استخلافه ؟ إن لم يكفيا فأيّ لفظ يكفي ؟ ألم يقرّرهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأنّي أولى بكم من أنفسكم فاقروا . فقال عند ذلك « من كنت مولاه أي : أولى به من نفسه فعلي مولاه » أي : أولى به من نفسه ؟ أليس هذا صريحا في كونه كنفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مضافا إلى نصّ اللّه تعالى في قوله جلّ و علا :

و أنفسنا و أنفسكم ٢ و إنّه عليه السلام أولى بهم من أنفسهم كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم فهل فوق هذا شي‏ء ؟

و كذلك خبر المنزلة و كونه عليه السلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كهارون من موسى عليه السلام إلاّ في أصل النبوّة .

و لصراحة دلالتهما أنكرهما كثير منهم مع تواترهما ، كما أنّ بعضهم أوّلهما بتأويلات مضحكة . كما أنّ بعضهم حظر التكلم في ذلك ، و قال : لا ينبغي لأحد أن يخوض في ذكر الصحابة و ما جرى بينهم من تنازع و اختلاف ،

و ان استطاع أن لا يسمع شيئا من الأخبار الواردة به فيفعل . فإنّه إن خالف هذه الوصاية فقد أبدع ، و التصنيف في السقيفة و مقتل عثمان و الجمل و صفّين ضلال .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٣٥ .

( ٢ ) آل عمران : ٦١ .

٤٦١

و اما قوله « يقول الشيعة إنّه نصّ عليه بالخلافة و بإمرة المؤمنين ، و أمر المسلمين أن يسلّموا عليه بذلك » فغريب فقد روى ذلك أئمّة العامّة كابن مردويه في ( مناقبه ) ، و الخوارزمي ، و الخطيب ، و عثمان السماك ، و جمع آخر منهم حتّى صنّف علي بن طاووس في ذلك كتابا سمّاه كتاب اليقين ١ .

كقوله إنّ الشيعة قالوا : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم صرّح في كثير من المقامات بأنّه خليفته بعده و أمرهم بالسمع و الطاعة له . فقد اتّفق العامة ، و منهم الطبري في ( تاريخه ) في نزول قوله تعالى : و أنذر عشيرتك الأقربين ٢ أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم دعا بني عبد المطلب ، و هم يومئذ أربعون فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب ، و قال : « يا بني عبد المطّلب إنّي و اللّه ما أعلم شابّا جاء في قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة ،

و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ، و وصيي و خليفتي فيكم » فأحجم القوم عنها جميعا ، و قام علي عليه السلام و قال : أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبته . ثم قال « إنّ هذا أخي ، و وصيي ، و خليفتي فيكم فاسمعوا له و اطيعوا » فقام القوم يضحكون ،

و يقولون لأبي طالب : لقد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع ٣ .

و لو لم يكن في استخلافه إلاّ هذا لكفى . فهل كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يكذب في حديثه ، و يخلف في وعده ، و يخدع في دينه كالملوك الدنيوية .

و هل الدليل على وجود الصانع ، و على نبوّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أكثر من الأدلّة العقلية و النقلية على امامته . فهل أراد خصومنا أن ينزّل اللّه تعالى على كلّ أحد

ــــــــــــــــــ

( ١ ) اليقين : ٩ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠ و غيره .

( ٢ ) الشعراء : ٢١٤ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٢ : ٦٢ ، و غيره و النقل بتلخيص .

٤٦٢

منهم كتابا يقرؤه أنّ علي بن أبي طالب خليفة محمّد بن عبد اللّه ، و الاّ فقد أنزل على عامّتهم كتابا يقرؤونه ليلا و نهارا إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ١ . و لا ريب في نزوله فيه عليه السلام ٢ .

و قول ابن أبي الحديد : « و لا ريب في أنّ المنّصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يعلم قطعا انّه لم يكن هذا النص » ٣ يقال في جوابه : و لا ريب في أنّ من كان له لبّ و لم يكن مكابرا و لا سوفسطائيا إذا سمع لهم ما جرى لهم في مرض موت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من حثّه على تجهيز جيش اسامة مرّة بعد مرّة ، و كلّما أفاق من غشيته حتّى لعن المتخلف منهم ، و على رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، و منعهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من كتابة وصيّته و قالوا : إنّه ليهجر و لا نحتاج إلى وصيّته ، و يكفينا القرآن ، و المتصدي لذلك فاروقهم حتّى اغضبوه . فأخرجهم من عنده ، و كان ابن عباس يبكي من ذلك بكاء الثكلى و يقول : لا رزية فوق هذا أن يحولوا بين نبيّنا و وصيته و ينسبوا الهجر إلى من قال تعالى في حقه و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ٤ و بعد قبض روحه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقوم فاروقهم لعدم حضور صاحبه تلك الساعة و يقول :

ما مات محمّد بل غاب كما غاب موسى و يرجع و يفتح كنوز كسرى و قيصر كما وعدنا ، و من قال مات لأفعلن به كذا و كذا ، و ما جرى لهم في السقيفة من السب و الشتم و الضرب و الوطء إلى غير ذلك يعلم قطعا أنّ مع وجود النص

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٥٥ .

( ٢ ) رواه جمع كثير من أهل الأثر أورد بعض طرقه السيوطي في الدر المنثور ٢ : ٢٩٣ و ٢٩٤ ، و المجلسي في البحار ٣٥ : ١٨٣ ، باب ٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٣٥ .

( ٤ ) النجم : ٣ .

٤٦٣

القطعي الذي ذكرنا وجوده في مواضع متعددة لو كان نبيّهم من ساعة بعثته إلى حين وفاته يكرر دائما « علي خليفتي علي خليفتي » ما كانوا يقبلونه .

و قد احتجّ أمير المؤمنين عليه السلام في زمان خلافته و بسط يده بنصوص يوم الغدير ، و استشهد جمعا لم يكن لهم ادّعاء في قباله . فأنكره كثير منهم حتّى دعا عليهم . روى ابن الأثير في اسد الغابة في عبد الرحمن بن مدلج مسندا عن أبي إسحاق حدّثه جمع لا يحصيهم أنّ عليّا عليه السلام نشد الناس في الرحبة من سمع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ و ال من والاه و عاد من عاداه » فقام نفر فشهدوا أنّهم سمعوا ذلك من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كتم قوم . فما خرجوا من الدنيا حتى عموا ، و أصابتهم آفة ، منهم يزيد بن وديعة ،

و عبد الرحمن بن مدلج ١ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : أن أنس بن مالك كان بوجهه برص ، و ذكر قوم أنّ عليّا عليه السلام سأله عن قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه » فقال : كبرت سنّي ، و نسيت فقال له علي عليه السلام : « إن كنت كاذبا فضربك اللّه بيضاء لا تواريها العمامة » ٢ .

فكيف يحتجّ في زمن مقهوريته في قبال من يريد حيازة مقامه بالنص عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و كانوا ردّوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نفسه فلا بدّ أن يحتجّ في قبال ادّعائهم بكونهم من قومه بكونه من عترته و بمنزلة نفسه .

و قد قال عليه السلام في هذه الخطبة بالرواية الّتي نقلنا أنّ قريشا لو استطاعوا إنكار قرابته كما أنكروا سببه من سوابقه و فضائله ، و ما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيه مقاما بعد مقام ، لفعلوا .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) اسد الغابة ٣ : ٣٢١ .

( ٢ ) المعارف : ٥٨٠ .

٤٦٤

أو ليس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا عقد الاخوّة بين كل نفرين من أصحابه لم يعقد بينه و بين أحد و قال له : « تركتك لنفسي » ١ و ثبت في المتواتر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال له عليه السلام في مقامات مختلفة : « أنت أخي » ٢ و قد أنكر ذلك فاروقهم مكابرة .

ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) في أخذ البيعة منه عليه السلام لأبي بكر : أخرج عمر و معه قوم عليا فمضوا به إلى أبي بكر . فقالوا له : بايع . فقال : إن أنا لم أفعل فمه . قالوا : إذن و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك . قال : إذن تقتلون عبد اللّه ، و أخا رسوله . قال عمر : « أمّا عبد اللّه فنعم ، و أمّا أخو رسوله فلا » ٣ .

و أمّا قول ابن أبي الحديد : « و لكن قد يسبق إلى النفوس و العقول أنّه قد كان هناك تعريض و تلويح ، و كناية و قول غير صريح » ٤ فالأصل فيه فاروقهم أيضا فروى الخطيب عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في أوّل خلافته ، و قد القي له صاع من تمر على خصفة . فدعاني إلى الأكل . فأكلت تمرة واحدة . و أقبل يأكل حتّى أتى عليه ثم شرب من جرّ كان عنده و استلقى على مرفقة له ، و طفق يحمد اللّه ، و يكرّر ذلك . ثم قال : من أين جئت يا عبد اللّه ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلّفت ابن عمك فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر قلت :

خلّفته يلعب مع أترابه . قال : لم أعن ذلك ، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت . قلت :

خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان ، و هو يقرأ القرآن . قال : يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شي‏ء من أمر الخلافة ؟ قلت :

نعم . قال : أيزعم انّ النبي نصّ عليه . قلت : نعم و أزيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه ابو يعلي في مسنده ، عنه منتخب كنز العمال ٥ : ٤٥ ، و احمد في فضائله ، عنه تذكرة الخواص : ٢٠ ، و غيرهما .

( ٢ ) جاء هذا المعنى ضمن حديث يوم الدار و حديث المؤاخاة و موارد اخر جاء تخريجه في مواضعه .

( ٣ ) الإمامة و السياسة ١ : ١٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٣٥ .

٤٦٥

فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة ، و لا يقطع عذرا ، و لقد كان يربع في أمره وقتا مّا ، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه . فمنعت من ذلك إشفاقا ، و حيطة على الاسلام . لا و ربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا ، و لو وليها لا نتقضت عليه العرب من أقطارها فعلم النبي أنّي علمت ما في نفسه فأمسك ، و أبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم ١ .

فيقال لفاروقهم في قوله « لقد كان من النبي في امره ذرو من قول لا يثبت حجّة و لا يقطع عذرا » : لو لم يكن من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قول فيه عليه السلام إلاّ قوله يوم خيبر لمّا ولّيت أنت و صاحبك الدبر و انهزمتما من اليهود ، و صرتما عارا على المسلمين : « لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه » ٢ ، لكفى في إتمام الحجّة في خلافته ، و كشف الحقيقة في كونك مع صاحبك غير محبّين للّه و لرسوله ، و عدم حبّ اللّه و رسوله لكما و كونكما فرّارين غير كرّارين .

و أمّا قوله « أراد ( النبي ) في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الاسلام » فهل كان أشفق على الاسلام من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لعمر اللّه إنّه أشفق على عدم نيله و نيل صاحبه الرياسة لو نصّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على امير المؤمنين بالكتابة لعدم تأتّي إنكاره لنصّه الكتابي كإنكاره لنصوصه الشفاهية في يوم غدير و غيره .

و تعالوا اسمعوا الغرائب . يقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : « إيتوني بدواة و قلم أكتب لكم ما لن تضلّوا بعدي أبدا » و يقول فاروقهم : إنّه ليهجر . انّي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عن الخطيب ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٩٧ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

( ٢ ) حديث الراية أخرجه جماعة منهم مسلم في صحيحه ٤ : ١٨٧١ ح ٣٢ ، و الترمذي في سننه ٥ : ٦٣٨ ح ٣٧٢٤ ، و ابن ماجه في سننه ١ : ٤٥ ح ١٢١ .

٤٦٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الرابع الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

أشفق على الاسلام من وصيته ١ .

و أمّا قوله : « لا و ربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا » فيقال له : عدم اجتماع قريش أعداء اللّه و أعداء دينه لم يكن يضرّه ، و لم يجتمع قريش على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ بعد مقهوريتهم .

و أمّا قوله : « و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها » فيقال له : إنّا رأينا أنّه عليه السلام وليها و لم ينتقض عليه العرب من قطر ، و إنّما انتقض عليه قريش طلحة و الزبير من قطر ، و معاوية من قطر بتدبيرك لهم في جعل الشورى ،

و جعل طلحة و الزبير منهم ، و ابن عوف حكمهم حتّى يصير الأمر بتوسطه إلى عثمان ، و من عثمان إلى بني اميّة ، و حتّى يعدّ طلحة و الزبير نفسيهما في قباله ،

و لو لم تقم أنت و صاحبك بما قمت بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من مساعدة قريش ،

و صار الأمر إليه عليه السلام أوّلا لاجتمع عليه قريش قهرا كما اجتمعوا على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كذلك أخيرا ، و الأصل في ضغن قريش لأمير المؤمنين عليه السلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإنّه فعل ما فعل معهم من قبله .

و أما قوله « فأمسك ( النبي ) » فأتى بالإجمال ، و إلاّ فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم غضب ،

و أخرجهم من عنده و قال : لا ينبغي التنازع عندي .

و يقول تعالى : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ٢ و يردّ فاروقهم قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يجعلون قول فاروقهم فوق قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

و أمّا قوله : « و أبى اللّه إلاّ إمضاء ما حتم » فمغالطة . فإلقاء إبراهيم عليه السلام في النار و ذبح يحيى كان ممّا حتم . فهل ذلك عذر لفاعلي ذلك .

و أمّا قول ابن أبي الحديد : « و لعلّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصدّه عن التصريح بذلك

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هذا الحديث أخرجه جمع منهم البخاري في صحيحه ١ : ٣٢ و ٤ : ٧ و ٢٧١ ، و مسلم في صحيحه ٣ : ١٢٥٩ ح ٢٢ .

( ٢ ) الحجرات : ٢ .

٤٦٧

أمر يعلمه » فكلام وقيح . فلو كانت نصوصه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه عليه السلام قولا و عملا قالبا حسيّا لملأت بين السماء و الأرض ، و لو جمع منها ما نقله نفسه في مطاوي شرحه لصار كتابا متعارفا .

مع أنّه لو فرض كون أمير المؤمنين عليه السلام مثل باقي أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ،

و لم يكن له ذلك العلم و لا العمل ، و لا تلك العصمة كان نصب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم له في الحكمة واجبا لئلا ينتقم منه ما فعل من قبله في أيّامه فقال ابن أبي الحديد نفسه قرأت خبر سقيفة الجوهري المشتمل على أنّ الحباب بن المنذر قال لقريش « منّا أمير و منكم أمير انّا لا ننفس هذا الأمر عليكم ، و لكن نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم و آباءهم و إخوانهم على النقيب » ، فقال : لقد صدقت فراسة الحباب ١ ، و أنّ الّذي خافه يوم الحرة و اخذ من الانصار ثار المشركين يوم بدر ، و من هذا خاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ايضا على ذريته و أهله . فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان وتر الناس و علم أنّه إن مات و ترك ابنته و ولدها سوقة و رعية تحت أيدي الولاة كانوا بعرض خطر عظيم . فما زال يقرّر لابن عمّه قاعدة الأمر بعده حفظا لدمه و دماء أهل بيته . فانّهم إذا كانوا ولاة الأمر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة و العصمة ممّا إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم فلم يساعده القضاء و القدر ، و كان من الأمر ما كان . ثم أفضى ذرّيته في ما بعد إلى ما قد علمت .

و قال ابن أبي الحديد أيضا بعد العنوان الأوّل : « فأمّا امتناع علي عليه السلام من البيعة حتّى أخرج على الوجه الّذي أخرج عليه . فقد ذكره المحدّثون ، و رواه أهل السير ، و قد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب ، و هو من رجال الحديث من الثقات المأمونين ، و قد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة . فأمّا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) قاله ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ١٣٣ ، و الحديث في سقيفة الجوهري : ٥٧ .

٤٦٨

الامور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة عليها السلام ، و أنّه ضربها بالسوط . فصار في عضدها كالدملج ، و بقي أثره إلى أن ماتت ، و أنّ عمر ضغطها بين الباب و الجدار . فصاحت : يا أبتاه يا رسول اللّه ،

و ألقت جنينا ميتا ، و جعل في عنق علي عليه السلام حبل يقاد به ، و هو يعتل ، و فاطمة خلفه تصرخ و تنادي بالويل و الثبور ، و ابناه الحسن و الحسين معهما يبكيان ،

و انّ عليا عليه السلام لما أحضر سلموه البيعة . فامتنع فتهدّد بالقتل . فقال : إذن تقتلون عبد اللّه ، و أخا رسول اللّه . فقالوا أما عبد اللّه فنعم ، و أما أخو الرسول فلا ، و انّه طعن في أوجههم بالنفاق ، و ستر صحيفة الغدر الّتي اجتمعوا عليها ، و بأنّهم أرادوا أن ينفروا ناقة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليلة العقبة . فكلّه لا أصل له عند أصحابنا ،

و لا يثبته أحد منهم و لا رواه أهل الحديث ، و لا يعرفونه ، و انّما هو شي‏ء تنفرد الشيعة بنقله ١ .

قلت : عدم نقل العامة جميع ما نقله الشيعة ليس بدليل على عدم صحة ما تفرّدوا به مع انّ ما شاركوهم فيه يكفي في كون أئمّتهم جبابرة .

مع أنّ ما نسبه إلى تفرد الشيعة به ليس كذلك . فالنظّام استاد الجاحظ من شيوخ المعتزلة قال : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة عليها السلام يوم البيعة حتّى ألقت الجنين من بطنها ، و كان عمر يصيح أحرقوها بمن فيها ، و ما كان في الدار غير علي و فاطمة و الحسن و الحسين ٢ .

و عامّة العامة رووا حلف عمر إحراق أهل البيت لو لم يخرج علي للبيعة فخرج و تصميمه كان كالعمل . فكان يحرقهم لو لم يكن خرج أمير المؤمنين ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٣٥ .

( ٢ ) نقله الشهرستاني في الملل و النحل ١ : ٥٩ .

( ٣ ) حديث الاحراق رواه الجوهري في السقيفة : ٣٨ و ٥٠ و ٧١ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٤٤٣ ، سنة ١١ ، و غيرهما .

٤٦٩

و في ( المروج ) : كان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه بن الزبير اذا جرى ذكر بني هاشم ، و حصره ايّاهم في الشعب ، و جمعه لهم الحطب لتحريقهم و يقول : انّما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته ، كما أرهب بنو هاشم و جمع لهم الحطب لإحراقهم إذ هم أبو البيعة في ما سلف ١ .

و اما تهديد هم له عليه السلام بالقتل و قوله عليه السلام « إذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله » فقد عرفت أنّ ابن قتيبة منهم رواه ، و كتاب معاوية إليه عليه السلام « و كنت تقاد للبيعة كما يقاد الجمل المخشوش » ٢ من رواياتهم معروف .

و لو لم يكن أمر الصحيفة ، و ليلة العقبة صحيحا لما تخلّفوا عن جيش اسامة مع تأكيداته بتجهيزه حتّى لعن المتخلّف عنه ، و لما منعوه عن الوصيّة ،

و نسبوا إليه الهجر .

و قال ابن أبي الحديد أيضا بعد العنوان الثاني : « و اعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه عليه السلام بنحو من هذا القول نحو قوله : « ما زلت مظلوما منذ قبض اللّه رسوله حتّى يوم الناس هذا » ، و قوله عليه السلام : اللهم اجز قريشا فانها منعتني حقي و غصبتني أمري ، و قوله فجزى قريشا عني الجوازي فانّهم ظلموني حقّي و اغتصبوني سلطان ابن امّي ، و قوله عليه السلام : و قد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم فقال هلمّ فلنصرخ معا فإنّي ما زلت مظلوما ، و قوله عليه السلام : و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، و قوله عليه السلام : أرى تراثي نهبا ، و قوله عليه السلام أصغيا بإنائنا و حملا الناس على رقابنا » ، و قوله : إنّ لنا حقّا إن نعطه نأخذه ، و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل ، و إن طال السرى ، و قوله عليه السلام : ما زلت مستأثرا علي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٧٧ .

( ٢ ) رواه بفرق يسير ابن مزاحم في وقعة صفين : ٨٧ ، و الشريف الرضي في نهج البلاغة ٣ : ٤٥٧ ، الكتاب ٢٨ ، و ابن أبي الحديد ٣ : ٤٥٧ ، شرح الكتاب ٢٨ .

٤٧٠

مدفوعا عمّا أستحقّه و أستوجبه .

و أصحابنا يحملون ذلك كلّه على ادّعائه الأمر بالأفضلية و الأحقيّة ،

و هو الحق و الصواب . فإنّ حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين و الأنصار ، و لكنّ الإمامية و الزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها و ارتكبوا بها مركبا صعبا ، و لعمري إنّ هذه الألفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم لكن تصفّح الأحوال يبطل ذلك الظن ، و يدرأ ذلك الوهم ، فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة ما لا يجوز على الباري تعالى فإنا لا نعمل بها و لا نعوّل على ظواهرها ، لأنا لمّا تصفّحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ ، و ان تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب ١ .

قلت : الكبرى صحيحة في اقتضاء أدلّة العقول العدول عن ظاهر الآيات المتشابهات كقوله تعالى يد اللّه فوق أيديهم ٢ لكنّ الكلام في كون أقواله عليه السلام في ظلم المتقدّمين عليه إيّاه صغرى لها ، و من أين أنّها ليست كآيات محكمات أنكر اللّه تعالى فيها على من جعل الأصنام شريكة له تعالى و مقرّبة إليه جل و علا . و قد قال معزّ الدولة الديلمي لشيخنا الصدوق محمّد بن علي بن بابويه ، لم لا يمكن الجمع بين أمير المؤمنين عليه السلام و الثلاثة ؟ قال له : كما لا يمكن الجمع بين اللّه تعالى و الأصنام ٣ .

و كيف يتاوّل قوله عليه السلام « و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النسمة لقد عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم اليّ انّ الامّة ستغدر بك من بعدي » ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٧٦ .

( ٢ ) الفتح : ١٠ .

( ٣ ) رواه التستري في مجالس المؤمنين : ١٩٧ ، المجلس ٥ ، و النقل بالمعنى و الملك هو ركن الدولة لا معز الدولة .

( ٤ ) أخرجه المفيد في الجمل : ٩٢ ، و الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٠ ، و ١٤٢ ، و غيرهما .

٤٧١

و ما يفعل بآيات اللّه تعالى في تقدمه عليه السلام الّتي احال عزّ و جلّ فيها إلى العقل كقوله جلّ ثناؤه : هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنّما يتذكر اولو الألباب ١ .

و قوله عزّ اسمه : أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ٢ .

و قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ٣ و قد كان عليه السلام مؤمنا بالاجماع و قد كان ثالثهم وقت قتله فاسقا بإجماع المسلمين ،

و اما الاموية و اتباعهم فلم يكونوا من المسلمين .

و بالجملة فإنّ الجمع بين الثلاثة و بينه عليه السلام كما تدّعيه العامّة المتسمّون بالسنة كالجمع بين الضدين و القول بالمتناقضين ، و لعمر اللّه لقد انصف إسماعيل الحنبلي في ما نقل عنه ابن أبي الحديد بعد ما مرّ فقال : « و حدّثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية ساكن قطفتا بالجانب الغربي من بغداد ، و أحد الشهود المعدلين بها ، قال : كنت حاضرا عند الفخر إسماعيل بن علي الفقيه المعروف بغلام ابن المتي و كان إسماعيل هذا مقدّم الحنابلة في الفقه و الخلاف ، و يشتغل بشي‏ء في علم المنطق ، و كان حلو العبارة ، و قد رأيته أنا و حضرت عنده و سمعت كلامه . توفي سنة ( ٦١٠ ) و نحن عنده نتحدّث إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان له دين على بعض أهل الكوفة . فانحدر إليه يطالبه ، و اتّفق ان حضرت زيارة الغدير ، و هو بالكوفة يجتمع بمشهده عليه السلام من الخلائق جموع عظيمة يجاوز حدّ الإحصاء قال ابن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الزمر : ٩ .

( ٢ ) يونس : ٣٥ .

( ٣ ) السجدة : ١٨ .

٤٧٢

عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص ما فعلت و ما رأيت ، و ذلك الشخص يجاوبه حتّى قال له : يا سيّدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ،

و ما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائل و الأقوال الشنيعة و سبّ الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة و لا خيفة فقال إسماعيل أيّ ذنب لهم و اللّه ما جرّأهم على ذلك ، و لا فتح لهم هذا الباب إلاّ صاحب ذلك القبر .

فقال الرجل : و من صاحب ذاك القبر ؟ قال : علي بن أبي طالب قال : يا سيّدي هو الّذي سنّ لهم ذلك ، و علّمهم ايّاه و طرقهم إليه . قال : نعم و اللّه قال : يا سيّدي فان كان محقّا فمالنا نتولّى فلانا و فلانا ، و ان كان مبطلا فمالنا نتولاّه . ينبغي أن نبرأ منهما قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه و قال : لعن اللّه إسماعيل الفاعل ابن الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة و دخل دار حرمه و قمنا فانصرفنا » ١ .

و روى الثقفي ، عن محمّد بن يحيى ، عن يحيى بن حماد القطان ، عن أبي محمّد الحضرمي ، عن أبي علي الهمداني أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى قام إلى علي عليه السلام فقال : إنّي سائلك لآخذ عنك ، و قد انتظرنا أن تقول من أمرك شيئا فلم تقله ، ألا تحدّثنا عن أمرك هذا ، أكان بعهد من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو بشي‏ء رأيته ؟ فإنّا قد أكثرنا فيك الأقاويل ، و أوثقه عندنا ما سمعناه من فيك . إنّا كنّا نقول : لو رجعت اليكم بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم ينازعكم فيها أحدا ، و اللّه ما أدري إذا سئلت ما أقول ؟ أزعم أنّ القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك ، فعلام نصبك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد حجّة الوداع ، فقال : « أيّها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه » ؟

و إن تك أولى منهم فعلام نتولاّهم ؟ فقال عليه السلام « إنّ اللّه تعالى قبض نبيّه ، و أنا يوم قبضه أولى بالناس منّي بقميصي » إلى أن قال فقال ابن أبي ليلى : فأنت

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٧٦ ، شرح الخطبة ١٧٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٧٣

يا أمير المؤمنين لعمرك كما قال الأوّل :

لعمري لقد أيقظت من كان نائما

و أسمعت من كانت له اذنان ١

و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر : « قلت ليحيى بن زيد النقيب : إنّي لأعجب من علي عليه السلام كيف بقي تلك المدّة الطويلة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و ما فتك به مع تلظّي الأكباد عليه فقال : إنّه أخمل نفسه ، و اشتغل بالعبادة و الصلاة ،

و النظر في القرآن ، و خرج عن ذلك الزيّ الأوّل ، و ذاك الشعار ، و نسي السيف ،

و صار كالفاتك يتوب ، و يصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال ، فلمّا أطاع القوم الّذين ولوا الأمر تركوه و سكتوا عنه ، و لم تكن العرب لتقدم إلاّ بمواطاة من متولّي الأمر ، و باطن في السرّ منه ، فلمّا لم يكن لولاة الأمر باعث و داع إلى قتله ، وقع الامساك عنه ، و لو لا ذلك لقتل . ثم الأجل بعد ، معقل حصين .

فقلت له : أحقّ ما يقال في حديث خالد ؟ فقال : إنّ قوما من العلوية يذكرون ذلك و قد روي أنّ رجلا جاء إلى زفر بن هذيل ( صاحب أبي حنيفة ) فسأله عمّا يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام و الفعل الكثير ، فقال : إنّه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال . فقال الرجل : و ما الّذي قاله أبو بكر ؟ قال : لا عليك . فأعاد عليه السؤال ثانية و ثالثة . فقال : أخرجوه اخرجوه قد كنت أحدّث أنّه من أصحاب أبي الخطاب ٢ .

و قال ابن أبي الحديد أيضا بعد العنوان الثالث بعد ذكر تظلّماته عليه السلام :

« و كلّ هذا إذا تأمّله المصنف علم أنّ الشيعة أصابت في أمر ، و أخطات في أمر ،

أمّا الّذي أصابت أنه عليه السلام امتنع و تلكّأ و أراد الأمر لنفسه ، و أمّا الّذي أخطأت أنّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عن الثقفي المفيد في أماليه : ٢٣٣ ح ٢ ، المجلس ٢٦ ، و النقل بتلخيص ، و سند الثقفي عن المسعودي عن محمد بن كثير عن يحيى بن حماد القطان .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٨٧ ، شرح الخطبة ٢٣٨ .

٤٧٤

كان منصوصا عليه نصّا جليّا بالخلافة تعلمه الصحابة كلّها أو أكثرها ، و أنّ ذلك النصّ خولف طلبا للرياسة الدنيوية ، و إيثارا للعاجلة ، و أنّ حال المخالفين للنصّ لا تعدو أحد أمرين إمّا الكفر أو الفسق فإنّ قرائن الأحوال لا تدلّ على ذلك بل على خلافه ، و هذا يقتضي أنه عليه السلام كان في مبتدأ الأمر يظنّ أن العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة ، و أنه لم يقصد به إلاّ صرف الأمر عنه و الاستيثار عليه ، فظهر منه ما ظهر من الامتناع ، و القعود في بيته إلى أن صحّ عنده و ثبت في نفسه أنّهم أصابوا في ما فعلوه ، و أنّهم لم يميلوا إلى هوى ، و لا أرادوا الدنيا ، و انّما فعلوا الأصلح في ظنونهم ، لأنّه رأى من بغض الناس له ،

و انحرافهم عنه و ميلهم عليه ، و ثوران الأحقاد الّتي كانت في أنفسهم ، و احتدام النيران الّتي كانت في قلوبهم ، و الترات الّتي و ترهم في ما قبل بها ، و الدماء الّتي سفكها منهم و أراقها ، و تعلّل طائفة اخرى منهم للعدول بصغر سنّه ،

و استهجانهم تقديم الشبّان على الكهول و الشيوخ ، و تعلّل طائفة أخرى بكراهة الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد فيتكبّرون على الناس كما قاله من قاله ، و استصعاب قوم منهم شكيمته ، و خوفهم شدّته ، و علمهم بأنّه لا يحابي و لا يراقب في الدين ، و انّ الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه ، و يعمل بموجب استصلاحه ، و انحراف قوم آخرين عنه للحسد الّذي كان عندهم له في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بشدّة اختصاصه له و تعظيمه ايّاه ، و ما قال فيه فأكثر من النصوص الدالّة على رفعة شأنه ، و علوّ مكانه ، و ما اختصّ به من مصاهرته و اخوّته ، و نحو ذلك من أحواله معه ، و تنكّر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العجب و التيه كما زعموا ، و احتقاره العرب و استصغاره الناس كما عدّدوه عليه ، و ان كانوا عندنا كاذبين ، و لكنه قول قيل و أمر ذكر ، و حال نسبت إليه ، و أعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا نحو قوله « فإنّا صنائع ربّنا ،

٤٧٥

و الناس بعد صنائع لنا » ما صحّ به انّ الأمر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا ، و لا ينتظم و لا يستمر ، و انّه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقا يكون فيه استيصال شافة الاسلام ، و هدم أركانه فأذعن بالبيعة ، و جنح إلى الطاعة ،

و أمسك عن طلب الإمرة ، و إن كان على مضض و رمض .

و قد روي عنه عليه السلام انّ فاطمة عليها السلام حرّضته يوما على النهوض و الوثوب فسمع صوت المؤذن : « أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه » فقال لها : أيسرّك زوال هذا النداء من الأرض ؟ قالت : لا . قال : فإنه ما أقول لك .

و هذا المذهب أقصد المذاهب ، و عليه متأخرو بغدادي أصحابنا و به نقول .

و اعلم أنّ حال علي عليه السلام في هذا المعنى أشهر من أن تحتاج في الدلالة عليها إلى الاطناب . فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حين بويع بالخلافة بخمس و عشرين سنة بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و في دون هذه المدّة تنسى الاحقاد و تموت الترات ، و تبرد الأكباد الحامية ، و تسلو القلوب الواجدة ،

و يعدم قرن من الناس ، و يوجد قرن و لا يبقى من أرباب تلك الشحناء إلاّ الأقل .

فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنّها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من إظهار ما في النفوس و هيجان ما في القلوب ،

حتّى انّ الاخلاف من قريش ، و الأحداث و الفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه ،

و فتكاته في اسلافهم و آبائهم ، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله و تقاعست عن بلوغ شأوه . فكيف كانت حاله لو جلس على منبر الخلافة ، و سيفه يقطر دما من مهج العرب . لا سيما من قريش الذين كان ينبغي لو دهمه خطب أن يعتضد بهم ، و عليهم كان يجب أن يعتمد ، إذن كانت تدرس اعلام الملّة ، و تعفى رسوم الشريعة ، و تعود الجاهلية الجهلاء إلى حالها ،

٤٧٦

و يفسد ما أصلحه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ثلاث و عشرين سنة في شهر واحد . فكان من عناية اللّه تعالى بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه و اللّه متم نوره و لو كره الكافرون ١ .

قلت : و نزيد هنا على ما تقدم في إنكاره النص الواضح في قوله « و امّا الّذي أخطأت الشيعة أنّه كان منصوصا عليه نصّا جليا إلى قوله بل تدلّ القرائن على خلافه » ٢ بأنّ الواجب من النصّ ما يتمّ به الحجّة . فأخبر جلّ و علا ان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان مكتوبا عند أهل الكتاب في توراتهم و إنجيلهم ، و نعلم قطعا انّه لم يكن مكتوبا كتبا واضحا بحيث لا يمكن إنكاره بدليل أنّ أهل الكتاب ينكرون ذلك و لو كانوا لا ينكرونه لأسلموا و ما بقوا على دينهم .

و لو كان الوضوح بتلك المثابة شرطا ، فليضرب على كثير مما قامت عليه البراهين القطعية . فإنّ وجود الصانع للعالم أوضح من الشمس عند العقل مع انكار الدهريّين له .

و ليس الشرط في الدليل على شي‏ء أن يكون كما ذكر بسنة اللّه تعالى ،

و إلاّ لجسّم نفسه حتّى يشاهده الكل ، و لا يبقى غير موحد ، و ينزل الملائكة من السماء و يجعل الموتى يكلّمهم ، و يحشر عليهم كلّ شي‏ء قبلا بحقيّة دين الاسلام ، و لو كان فعل ذلك لسقط البلاء الّذي يبلو به تعالى عباده ، و صارت الدنيا كالآخرة في الاضطرار إلى الإقرار به تعالى ، و بأنبيائه و رسله و ما جاءوا به من عنده ، و لم يبق فرق حينئذ بين سلمان و أبي جهل .

مع أنّه لو لم يكونوا لبسوا ، كانت النصوص عليه عليه السلام بذاك الوضوح ،

حيث دل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه عليه السلام من مبدأ أمره في إنذار عشيرته إلى منتهاه ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣٨ ، شرح الخطبة ٢١٥ ، و النقل بتصرف يسير . و الآية ٨ من سورة الصف .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٣٨ .

٤٧٧

و من مبعثه إلى احتضاره في ارادته صلّى اللّه عليه و آله و سلم تسجيل خلافته عليه السلام في كتاب وصيته فصدّوه عنه ، و لا سيّما في الغدير الّذي صنّفت الخاصّة و العامّة مجلّدات في طرق خبره .

و يوضح ما قلنا من تلبيسهم الواضح الّذي لا مرية فيه أصلا ، قياس مراجعة الانسان عصره في تلبيس الملوك و أرباب الدنيا أمورا محسوسة يشهدها آلاف من الناس على العامة ، و خوف الخواصّ من التكلم : على ذاك العصر .

و أمّا قوله : « و هذا يقتضي أنّه عليه السلام كان في مبتدأ الأمر يظن أنّ العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة إلى قوله إلى أن صحّ عنده أنّهم أصابوا » فممّا كان يضحك الثكلى . أكان باب مدينة علم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يعلم الأصلح للإسلام و يعلمه من كان لم يعرف معنى الأبّ ، و من لم يعرف ما يعرف ربّات الحجول من أمر الصداق ؟

و ليست هذه الأقوال من إخواننا بعجب في جعل الرجلين أعرف بمصالح الإسلام ممّن كان بمنزلة نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنص القرآن ١ . ألم يقولوا إنّهما كانا أعرف بمصالح الاسلام من نفس النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيث إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمرهما بالتجهّز في جيش أسامة ، و أكّد و شدّد حتّى لعن المتخلّف ،

و مع ذلك تخلّفا و قالا : كيف نتجهّز و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم شديد مرضه ، و أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الوصيّة ، فلم ير فاروقهم ذلك صلاحا ، و جعل كلامه هجرا .

و الأصل في الاعتذار الّذي قال أعداء أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كأبي عبيدة بن الجراح ، و معاوية بن أبي سفيان ، و نظرائهما . ففي ( خلفاء ابن قتيبة ) : « أنّ عليّا لمّا قال لأهل السقيفة : « نحن أولى برسول اللّه حيّا و ميّتا انصفونا إن كنتم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) بالنظر الى قوله تعالى انفسنا و انفسكم آل عمران : ٦١ .

٤٧٨

تؤمنون و إلاّ فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون » فقال له عمر : لست متروكا حتّى تبايع . قال له أبو عبيدة بن الجراح : يا أبا الحسن إنّك حديث السنّ ، و هؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالأمور ، و لا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك ، و أشدّ احتمالا » الخ ١ .

و في ( مقاتل أبي الفرج ) و غيره أنّ الحسن عليه السلام بعد قيامه بعد أبيه عليه السلام لما كتب إلى معاوية « فاليوم فليعجب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ، و لا أثر في الاسلام محمود ، و أنت ابن حزب من الأحزاب ، و ابن أعدى قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، كتب معاوية إليه « و الحال في ما بيني و بينك اليوم مثل الحال الّتي كنتم عليها أنتم و أبو بكر بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و لو علمت أنّك أضبط منّي للرعيّة ، و أحوط على هذه الأمّة ،

و أحسن سياسة ، و أقوى على جمع الأموال ، و أكيد للعدو ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ، و رأيتك لذلك أهلا . و لكنّي قد علمت أنّي أطول منك ولاية ، و أقدم منك لهذه الامة تجربة ، و أكثر منك سياسة » ٢ .

و حينئذ فليقل : إنّ خلافة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إن كانت سلطنة دنيوية محضة كما ادّعاه فاروقهم . فقال لصدّيقهم : « إنّ النبي رضيك في صلانك بنا لأمر ديننا أفلا نرضاك لدنيانا بأن نبايعك و نولّيك خلافته » ٣ و لازمه كون أصل النبوة أيضا كذلك كما صرّح به خالهم للمغيرة في تأسّفه من عدم استطاعته رفع اسم ذاك الرجل الهاشمي : أي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من المأذنات ، و ابنه في قوله :

لعبت هاشم بالملك كان الأمر كما قال الشارح من كون تصدّى أبي بكر للأمر

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ١١ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) رواه أبو الفرج في المقاتل : ٣٥ و ٣٧ ، و المدائني ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٩ ، شرح الكتاب ٣١ .

( ٣ ) رواه عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ١٢٣ ، شرح الخطبة ٢٦ ، و النقل بالمعنى .

٤٧٩

أصلح ، و كان خلافة عن رسول ربّ العالمين في ما يفعل ، و يقول كما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في جواب أبي عبيدة عن كلامه المتقدّم : « نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القاري لكتاب اللّه . الفقيه في دين اللّه . العالم بسنن رسول اللّه . المضطلع بأمر الرعيّة . الدافع عنهم الامور السيّئة . القاسم بينهم بالسويّة . و اللّه انّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل اللّه . فتزدادوا من الحق بعدا » فكلامه كما ترى .

و من المضحك قول الشارح : إلى أن صحّ عنده و ثبت في نفسه أنّهم أصابوا في ما فعلوه إلى قوله : فأذعن بالبيعة الخ . فهل كانت شكايته عليه السلام يوم السقيفة فقط ، مع أنّ من المتواتر شكايته عليه السلام منهم إلى آخر عمره .

و في خطبته لمّا سألوه عن رأيه في أبي بكر و عمر بعد فتح معاوية لمصر في جملة كلامه عليه السلام في ذكر يوم الشورى : « فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي ، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا احاجّ ابا بكر فأقول : « يا معشر قريش أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان منّا من يقرأ القرآن ، و يعرف السنّة » فخشوا أن ولّيت عليهم ألاّ يكون لهم في هذا الأمر نصيب . فبايعوا إجماع رجل واحد حتّى صرفوا الأمر عنّي لعثمان . فأخرجوني منها رجاء أن يتداولوها حين يئسوا أن ينالوها » الخ ١ .

فإنّه صريح في أنّه عليه السلام في ذاك الوقت الّذي كان قرب وفاته كان معتقدا أنّ الخلافة لغيره ، و غير أهل بيته غير صحيحة ، و انّ الخلافة ليست بجعل جاعل ، و إنّما هي كالنبوة أمر من قبل اللّه تعالى .

و هو عقيدة أهل بيته أهل بيت العصمة و الطهارة ففي كتاب الحسن عليه السلام إلى معاوية و قد رواه أبو الفرج : « فلمّا صرنا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أولياؤه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ٣٠٧ ، و غيره .

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531