علوم القرآن

علوم القرآن7%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 221036 / تحميل: 19624
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً ) (١) .

وكذلك ما ورد في تعقيب قصص الأنبياء من سورة الشعراء من قوله تعالى:

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (٢) .

ط - أهدافٌ تربويّةٌ أُخرى:

وبيان أغراض أُخرى ترتبط بالتربية الإسلامية وجوانبها المتعدّدة، فقد استهدف القرآن بشكلٍ رئيسٍ تربية الإنسان على الإيمان بالغيب، وشمول القدرة الإلهيّة لكلِّ الأشياء، كالقصص التي تذكر الخوارق والمعاجز:

كقصّة خلق آدم، ومولد عيسى، وقصّة إبراهيم مع الطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كلّ جبلٍ جزءاً منه، وقصّة:

( ... الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا... ) (٣) وإحياء الله له بعد موته مائة عام.

كما استهدف تربية الإنسان على فعل الخير والأعمال الصالحة وتجنّبه الشر والفساد، وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الأفعال: كقصّة النبي آدم وقصّة صاحب الجنّتين، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم، وقصّة سد مأرب، وقصّة أصحاب الأخدود.

وممّا استهدفه القرآن الكريم في التربية: الاستسلام للمشيئة الإلهيّة والخضوع للحكمة التي أرادها الله سبحانه من وراء العلاقات الكونيّة والاجتماعية في الحياة، وذلك ببيان الفارق بين الحكمة الإلهيّة ذات الهدف البعيد والعميق في الحياة الإنسانية والفهم الإنساني للظواهر في الحياة الدنيا، والحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، كما جاء في قصّة موسى التي جرت مع عبدٍ ( ... مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ

________________________

(١) الكهف: ٥٥ - ٥٦.

(٢) الشعراء: ١٥٨ - ١٥٩.

(٣) البقرة: ٢٥٩.

٣٦١

عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) (١) ، إلى آخر ذلك من الأغراض الوعظيّة والتربوية الأُخرى التي سوف نطّلع على بعضها في دراستنا التفصيليّة لقصّة موسى (عليه السلام).

ظواهر عامّة في القصّة القرآنية:

وفي ضوء هذه الأهداف للقصّة يحسن بنا أن ندرس ثلاث ظواهر أساسيّة برزت في مجمل القصّة القرآنية:

أ - ظاهرة التكرار في القصّة القرآنية.

ب - ظاهرة اختصاص قصص الأنبياء في القرآن بأنبياء منطقة الشرق الأوسط.

ج - ظاهرة تأكيد قصص بعض الأنبياء كإبراهيم وموسى (عليهما السلام).

أ - تكرار القصّة في القرآن الكريم:

من ظواهر القصّة في القرآن الكريم هي ظاهرة تكرار القصّة الواحدة في مواضع مختلفة من القرآن، وقد أُثيرت بعض المشاكل حول هذه الظاهرة حيث يُقال: إنّ هذا التكرار قد يشكّل نقطة ضعفٍ في القرآن الكريم؛ لأنّ القصّة بعد أن تُذكر في القرآن مرّةً واحدةً تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتأريخية، وقد أُثيرت هذه المشكلة في زمنٍ متقدّمٍ من البحث العلمي، لذا نجد الإشارة في مفردات الراغب الأصفهاني، وفي مقدّمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي (٢) ، والطوسي وأن كان يبدو أنّه لم يعالج المشكلة بشكلٍ رئيسٍ، ولكنّه يدلّ على الأقل أنّ المشكلة قد طُرحت على صعيد البحث القرآني.

ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن أن تكون تفسيراً لتكرار القصّة

________________________

(١) الكهف: ٦٥.

(٢) التبيان، مقدمّة المؤلِّف ١: ١٤.

٣٦٢

الواحدة في القرآن الكريم:

الأوّل:

إنّ التكرار إنّما يكون بسب تعدّد الغرض الديني الذي يترتّب على القصّة الواحدة، وقد عرفنا في بحثنا السابق لأغراض القصّة (١) أنّ أهداف القصّة متعدّدة، فقد تجيء القصّة في موضعٍ لأداء غرضٍ معيّنٍ وتأتي في موضعٍ آخر لأداء غرضٍ آخر وهكذا.

الثاني:

إنّ القرآن الكريم اتخذ من القصّة أُسلوباً لتأكيد بعض المفاهيم الإسلامية لدى الأُمّة المسلمة، وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجيّة التي كانت تعيشها الأُمّة، وربطها بواقع القصّة من حيث وحدة الهدف والمضمون.

وهذا الربط بين المفهوم الإسلامي في القصّة والواقعة الخارجيّة المعاشة للمسلمين، قد يؤدّي إلى فهمٍ خاطئٍ للمفهوم المراد إعطاؤه للأُمّة، فيُفهم انحصاره في نطاق الواقعة التي عاشتها القصّة وظروفها الخاصّة، فتأتي القصّة الواحدة في القرآن الكريم مكرّرةً من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم من أجل تأكيد شموله واتساعه لكلّ الوقائع والأحداث المتشابهة؛ ليتّخذ صفة القانون الأخلاقي أو التاريخي، الذي ينطبق على كلّ الوقائع والأحداث... إضافةً إلى فاعليّته كمنبّهٍ للأُمّة على علاقة القضيّة الخارجية التي تواجهها - في عصر النزول أو بعده - بالمفهوم الإسلامي لتستمدّ منه روحه ومنهجه.

ولعلّ هذا السبب هو ما يمكن أن نلاحظه في تكرار قصّة موسى والفرق بين روحها العامّة في القصص المكّي وروحها في القصص المدني، فإنّها تؤكّد في القصص المكّي منها العلاقة العامّة بين موسى من جانب، وفرعون وملئه من جانبٍ آخر، دون أن تُذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه، إلاّ في موردين يذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكلٍ عام؛ وهذا بخلاف الروح

________________________

(١) لزيادة الايضاح، راجع: التصوير الفنّي في القرآن ١٢٨ - ١٣٤.

٣٦٣

العامّة لقصّة موسى في السِوَر المدنيّة، فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية.

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التكرار للقصّة في السِوَر المكّيّة إنّما كان يعني نزول القصّة لمعالجة روحيّةٍ تتعلّق بحوادث مختلفة كانت تواجه النبيَّ والمسلمين، ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصّة موسى في العلاقة بين النبي والجبّارين من قومه أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وأنّ هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثةٌ عن حادثة، أو موقفٌ عن موقف.

ولعلّ إلى هذا التفسير تُشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً* وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (١) .

فإنّ من المُلاحَظ في هذه الآيات أنّ القرآن يذكر أنّ السبب في التدرّج والترتيل في القرآن الكريم هو: التثبيت للنبي من ناحية، والإتيان بالحق والتفسير الأفضل للوقائع والأحداث والأمثال من ناحيةٍ أُخرى، ثمّ يأتي بهذا التفسير الأحسن من قصّة موسى (عليه السلام).

الثالث:

إنّ الدعوة الإسلامية مرّت بمراحل متعدّدة في سيرها الطويل، وقد كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة أُسلوبه، وهذا كان يفرض أن تُعرض القصّة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقِصَر، نظراً لطبيعة الدعوة وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها، كما نجد ذلك في قصص الأنبياء حين تُعرض في السورة القصيرة المكّيّة، ثمّ يتطوّر العَرْض بعد ذلك إلى شكلٍ أكثر

________________________

(١) الفرقان: ٣٢ - ٣٥.

٣٦٤

تفصيلاً في السِوَر المكّيّة المتأخّرة أو السِوَر المدنيّة.

الرابع:

إنّ تكرار القصّة لم يأت في القرآن الكريم بشكلٍ يتطابق فيه نصّ القصّة مع نصٍّ آخر لها، وإنّما تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض، وطريقة عرض القصّة القرآنية قد تستبطن مفهوماً دينيّاً يختلف عن المفهوم الديني الآخر الذي تستبطنه طريقة عرضٍ أُخرى، هذا الأمر الذي نسمّيه بالسياق القرآني، وهذا يقتضي التكرار أيضاً؛ لتحقيق هذا الغرض السياقي الذي يختلف عن الغرض السياقي الآخر لنفس القصّة، وسوف تتّضح معالم هذه النقاط بشكلٍ أكثر عند دراستنا التطبيقيّة التالية لقصّة موسى في القرآن الكريم.

ب - اختصاص القصّة بأنبياء الشرق الأوسط:

وأمّا الظاهرة الثانية: فمن الملاحّظ أنّ القرآن الكريم تحدّث عن مجموعةٍ من الأنبياء يشتركون في خصوصيّة: أنّهم يعيشون جميعاً في منطقة الشرق الأوسط، أي المنطقة التي كان يتفاعل معها العرب الذين نزل القرآن في محيطهم ومجتمعهم.

وقد تُفسَّر هذه الظاهرة لأوّل وهْلةٍ بأنّ النبوّات لمّا كانت بالأصل في هذه المنطقة، ومن خلالها انتشر الهدى في جميع أنحاء العالم، حيث كانت البشرية تعيش في البداية بهذه المنطقة ولا يوجد في المناطق الأُخرى نبوّات وأنبياء، كما قد يُفهم ذلك من خلال الاستعراض التأريخي للنبوّات وتأريخ الإنسان في التوراة، وحينئذٍ لا تعني هذه الخصوصيّة ظاهرة تحتاج إلى تفسير، بل هي قضيّة فرضتها الحقيقة التأريخية ويكفي في تفسيرها هذا الواقع التأريخي.

الرسالات الإلهيّة لا تختصُّ بمنطقة الشرق الأوسط:

ولكن توجد شواهد في القرآن الكريم تنفي هذا التفسير لهذه الظاهرة، فالقرآن يشير في بعض آياته إلى أنّ هناك مجموعة أُخرى من الأنبياء لم يتحدّث

٣٦٥

عنهم، مع أنّ حياتهم لا بُدّ وأنّها كانت زاخرةً بالأحداث، شأنهم في ذلك شأن الأنبياء الآخرين:

( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (١) .

كما أنّ هذا المضمون جاء - أيضاً - في سورة غافر: (٧٨).

علماً بأنّ سورة النساء من السور المدنية المتأخّرة، ومن هنا فلا مجال لاحتمال أنّ هذه الآية نزلت في مدّةٍ زمنيّةٍ لم يكن القرآن قد تعرّض فيها إلى جميع قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم فعلاً.

كما أنّ هناك مجموعة من الآيات تدل على أنّ الأنبياء والرسل كانوا يُبعثون إلى كلّ قريةٍ ومدينةٍ لإقامة الحجّة من الله على الناس، كما نفهم من الآية (١٦٥) من سورة النساء، التي جاءت في سياق الآيتين السابقتين:

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٢) .

إضافةً إلى موارد أُخرى لها هذه الدلالة:

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (٣) .

________________________

(١) النساء: ١٦٣ - ١٦٤.

(٢) النساء: ١٦٥.

(٣) النحل: ٣٦.

٣٦٦

( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ... ) (١) .

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (٢) .

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إلاّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ ) (٣) .

وجاء التعبير في بعض الآيات عن ذلك بوجود الشهيد في كلّ أُمّة (٤) .

تفسير الاختصاص بالمنطقة المحدودة:

ومن هنا فلا بُدّ من تفسير هذه الظاهرة بتفسيرٍ آخر، ويمكن أن يكون هذا التفسير هو: أنّ القرآن الكريم إنّما خصّ هؤلاء الأنبياء بالذكر باعتبار أنّ الغرض الأساس من القصّة - كما ذكرنا - هو انتزاع العبرة واستنباط القوانين والسنن التأريخية منها، ولم يكن الغرض من القصّة السرد التأريخي لحياة الأنبياء أو كتابة تأريخ الرسالات، ولذلك يتحدّث القرآن عن الأُمور العامّة المشتركة بين هؤلاء الأنبياء عدا بعض الموارد التي يكون هناك غرضٌ خاصٌّ في طرح بعض القضايا فيها.

ولمّا كان تأثير القصّة في تحقيق هذه الأغراض يرتبط بمدى إيمان الجماعة بواقعيّتها، وإدراكهم لحقائقها، ومدى انطباق ظروفها على ظروف الجماعة نفسها، لذا تكون القصّة المنتزعة من تأريخ الأُمّة نفسها، ومن واقعها وظروفها وحياتها، أكثر تأكيداً وانطباقاً على السنّة التأريخية.

وبذا تكون هذه القصص أكثر انسجاماً مع هذا الهدف القرآني، بلحاظ أنّ القاعدة التي يريد أن يحقق القرآن الكريم التغيير فيها في المرحلة الأُولى هي

________________________

(١) التوبة: ١١٥.

(٢) يونس: ٤٧.

(٣) فاطر: ٢٤.

(٤) النساء: ٤١، النحل: ٨٤، القصص: ٧٥.

٣٦٧

الشعوب التي تسكن هذه المنطقة، وتتفاعل مع هذا التأريخ، وهذا لا يعني أنّ القرآن تختص هدايته بهذه الشعوب، بل إنّ أحد أغراض القرآن هو إيجاد التغيير في هذه الشعوب كقاعدةٍ ينطلق منها التغيير، ويستند إليها في مسيرته إلى بقيّة الشعوب كما حصل ذلك فعلاً.

صحيح أنّه قد تكون القصّة المنتزعة من تأريخ النبوّات التي كانت في الهند أو الصين - على فرض وجودها في تلك المناطق وهو فرض منطقي ومقبول جدّاً - مؤثرة في الشعب الهندي أو الصيني، إلاّ أنّ القرآن الكريم كان مهتمّاً بشكلٍ خاصٍّ وفي مرحلة نزوله بتغيير القاعدة التي تتمثّل بالشعب العربي والشعوب المتفاعلة معه فعلاً في ذلك الوقت، وضرب الأمثال وسرد القصص عن هذه الأُمم، مع أنّها لم تكن موجودةً في المحيط الذي نزل فيه القرآن، يبعد القصّة بأكملها عن الواقعية التي كان يحرص القرآن الكريم على تأكيدها في قصصه، ولم يكن يكتفي منها أنّها مجرّد أمثال وتصوّرات، بل كان يؤكّد صدقها.

وبلحاظ أنّ التغيير العام للإنسان الذي كان يستهدفه القرآن أيضاً، أُريد له أن يُطلق من تلك القاعدة، وهذه القصص هي التي يمكن أن تساهم في تحقيقه.

وتبقى النتائج العامّة المشتركة بين الأنبياء ذات تأثير عام بالنسبة إلى مختلف الشعوب؛ فقصّة النبيِّ الواحد لها تأثيرٌ خاصّ يرتبط بالوسط الذي تواجد فيه ذلك النبي، باعتبارها حالة التجسيد المعاش في ذلك الوسط، وذات التأثير الشعوري والوجداني بالنسبة إلى ذلك الوسط، وفي الوقت نفسه يكون للقصّة تأثيرٌ عام ضمن المفاهيم العامّة والسنن التأريخية التي توحي بها القصّة، والعِبَر التي يمكن أن تُستخلَص منها، وهذا ما يمكن أن تستفيد منه كلُّ الشعوب.

وبذلك يتحقّق للقرآن الكريم بُعده العام الشامل، ويبقى حيّاً ومؤثّراً في هذا الوسط وغيره من الأوساط الإنسانية.

٣٦٨

ولكن يكون للبُعد الأوّل المتمثّل في التأثير الخاص أثره في تحقيق الهدف التغييري في خلق القاعدة التي تنطلق منها الرسالة.

نعم من الصحيح أن نقول أيضاً: إنّ أنبياء مثل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى يمثّلون الأُصول العامّة للنبوّات في كلِّ العالم، وكان خاتمهم النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) يمثّل امتداداً لتلك النبوّات، ولكن نجد أنّ القرآن لم يتحدّث عن هذه الأُصول وتفرّعاتها فحسب، بل تحدّث عن أنبياء مثل: صالح وشعيب وهود ويونس وإدريس وغيرهم ممّن يمثّلون نبوّاتٍ ليست بهذا القدْر من الأهمّيّة على الظاهرة، والله هو العالم بحقائق الأُمور.

ج - ظاهرة تأكيد دور إبراهيم وموسى (عليهما السلام):

وأمّا الظاهرة الثالثة: فمِن الملاحَظ أنّ القرآن الكريم أكّد دور بعض الأنبياء في ذكر تفاصيل حياتهم وظروفهم أكثر من دور بعضهم الآخر، وبالخصوص النبي إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، مع أنّ الخصائص العامّة التي يُراد منها بالأصل استنباط العِبْرة والموعظة واستخلاص القانون والسنّة التأريخية متشابهة، ولذا تأتي الإشارة إلى قصص ممنوعة من الأنبياء في كثير من الموارد في سياق واحد، فهل يعني هذا التأكيد أهمّيّة شخصيّة هذا النبي وفضله بالمقارنة مع بقيّة الأنبياء فقط؟

أو يمكن أن يكون وراء ذلك - إضافة إلى هذه الأهمّيّة - مقاصد وأهداف أُخرى اقتضت هذا الّلون من التأكيد؟

قد يكون في الحقيقة أنّ بعض هؤلاء الأنبياء أفضل من بعضهم الآخر كما أنّه قد يكون هذا (البعض) هو إبراهيم وموسى، ولكن لا يعني ذلك أن يؤكِّد القرآن دور هذين النبيّين مثلاً، أو غيرهما : كعيسى الذي جاء الحديث عنه بنسبةٍ أقل لمجرّد فضلهم؛ لأنّ القرآن بالأصل ليس بصدد تقييم عمل هؤلاء الأنبياء والحديث عن التفاضل بينهم، وإنّما الأهداف الأصليّة للقصّة التي أشرنا إليها وذكرها القرآن

٣٦٩

هي: العِبْرة والموعظة والتثبيت وإقامة الحجّة والبرهان على صدق نبوّة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ومضمون رسالته:

( وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٢) .

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٣) .

ولذلك يمكن أن نقول بأنّ القرآن إنّما كان يؤكّد دور هؤلاء الأنبياء في حديثه عنهم؛ لأنّه كان يواجه حقيقةً، هي: أنّ لهؤلاء الأنبياء أتباعاً وأقواماً يرتبطون بهم فعلاً في المجتمع الذي كان يتفاعل القرآن معه عند نزوله، وهذا الأمر كان يفرض - من أجل إيجاد القاعدة التغييرية - أن يتحدّث عنهم القرآن بإسهاب.

أهميّة تأكيد دور إبراهيم (عليه السلام):

فالنبي إبراهيم (عليهم السلام) كان يمثّل لدى القاعدة : (المشركين، واليهود، والنصارى) أباً لجميع الأنبياء ويحظى باحترام الجميع.

وتأكيد ارتباط الإسلام وشعائره به له أهميّة خاصّة في إعطاء الرسالة الإسلامية جذراً تأريخيّاً ممتدّاً إلى ما هو أبعد من الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة، ويعطي فكرة التوحيد التي طرحها القرآن على المشركين أصلاً وانتماءً يعيشه هؤلاء المشركون في تاريخهم:

________________________

(١) هود: ١٢٠.

(٢) يوسف: ١١١.

(٣) النساء: ١٦٥.

٣٧٠

( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (١) .

ويتجلّى هذا الربط التأريخي بشكلٍ أوضح بحيث يصبح إبراهيم (عليه السلام) هو المبشِّر بالنبيّ العربيّ الأُمّي، وتكون بعثة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) استجابةً لدعاء إبراهيم (عليه السلام) وذلك في مثل قوله تعالى:

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٢) .

إضافةً إلى أنّه يعطي الرسالة الإسلامية شيئاً من الاستقلال عن اليهوديّة والنصرانيّة، ومن ثمَّ عدم الشعور بالتبعيّة لعلماء اليهود والنصارى:

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

( وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٤) .

________________________

(١) الحج: ٧٨.

(٢) البقرة: ١٢٧ - ١٢٩.

(٣) آل عمران: ٦٧ - ٦٨.

(٤) البقرة: ١٣٥.

٣٧١

ومن هنا يأتي تأكيد قصّة إبراهيم في بناء الكعبة التي جاءت في عدّة موارد من القرآن الكريم، وندائه بالحج، وذلك للموقع الخاص الذي كانت تحتله الكعبة بين العرب عامّةً، وللقرار الذي كان القرآن قد اتخذه بجعل الكعبة قِبْلةً للمسلمين، تأكيداً لاستقلاليّة الرسالة في كلّ معالمها؛ لأنّ صرف الأنظار عن الأرض المقدّسة وبيت المقدس الذي كان يحظى بالقدسيّة الخاصّة - وما زال - بسبب نشوء الديانات المختلفة فيه، ووجود إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل كلّهم في هذه الأرض يحتاج إلى إعطاء هذه الأهمّيّة للبيت والكعبة المشرفة، وهذا الانتساب الأصيل إلى إبراهيم (عليه السلام).

أهمّيّة تأكيد دور موسى (عليه السلام):

وأمّا النبي موسى (عليه السلام) فإنّ موقعه من الديانة اليهوديّة والشعب الإسرائيلي والإنجاز السياسي والاجتماعي الذي حقّقه لهم، وكذلك ما تحقّق من خلال التوراة من تشريع وحكمة وقانون، إضافةً إلى معاناته الطويلة التي تشبه معاناة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سواء تجاه الطغاة الفراعنة أم المنافقين من الإسرائيليين، أم في توطيد دعائم الحكم الإلهي في الأرض، وموقعه من الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة؛ لأنّ النصرانيّة - أيضاً - كانت تعترف بالتوراة القائمة (العهد القديم) كلّ هذه الأُمور كانت تفرض هذا الّلون من التأكيد.

ونجد ملامح الظروف الموضوعيّة القائمة التي كانت تواجهها الرسالة والقرآن الكريم في موطن نزوله، والمجتمع الذي يعمل على تغييره موجودة في كلّ هذه الأُمور المرتبطة بهذين النبيّين العظيمَين؛ لأنّ القرآن كان يعايش ويتفاعل باستمرار مع أهل الكتاب وعلمائهم وأقوامهم، وكان بحاجةٍ إلى هذه التفاصيل، والحديث - أحياناً - حتّى عن الحياة الشخصيّة لموسى (عليه السلام)، لما في ذلك من التأثير في أوساطهم.

٣٧٢

خصوصاً وأنّ العرب المشركين كانوا ينظرون إلى علماء اليهود - الذين يتّصلون بهم أحياناً - أنّهم أهل الذكر والكتاب والوحي والمعرفة، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، وبذلك يكون القرآن الكريم أكثر تأثيراً في هذه الأوساط - أيضاً - عندما يتحدّث عن النبي موسى (عليه السلام).

كما أنّ القرآن كان يسعى جادّاً لإعطاء فكرة أنّ هذه الرسالات إنّما تمثّل امتداداً واحداً في الوحي الإلهي وانتساباً واحداً إلى السماء في الوقت الذي كان يؤكّد استقلاليّة الرسالة الإسلامية، بمعنى أنّها ليست تابعة ومتشعبة من التحرّك الرسالي أو السياسي للرسالات الأُخرى، كما أنّها ليست عملاً تغييراً في إطار تلك الرسالات، بل هي من جانبٍ مصدّقة لها، ولكنّها من جانبٍ آخر - وفي الوقت نفسه - مهيمنة عليها:

( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (١) .

ويتّضح ذلك بشكلٍ أفضل: بملاحظة سياق الآيات السابقة عليها، والتي يُشير فيها القرآن الكريم إلى نزول التوراة والإنجيل والنسبة بينهما، والتي تختلف عن نسبة القرآن إليهما.

الحديث عن عيسى (عليه السلام):

ومن الملاحَظ أيضاً - عندما ندرس ظاهرة القصّة في ضوء الهدف التغييري - أنّ القرآن الكريم تعرّض لقصص بعض الأنبياء، أو لتفاصيل فيها على الأقل، من أجل أن يزيل ما علق في أذهان الجماعة التي نزل فيها القرآن من أفكار

________________________

(١) المائدة: ٤٨.

٣٧٣

وتصوّرات منحرفة عن الأنبياء، تنافي عصمتهم أو علاقتهم بالله أو طبيعة شخصيّتهم، كما يتّضح ذلك بشكلٍ خاصٍّ في الحديث عن عيسى (عليه السلام) الذي تحدّث القرآن الكريم عن شخصيّته وظروفها أكثر ممّا تحدّث عن أعماله ونشاطاته:

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

وكذلك ما جاء من الحديث في القرآن عن حياة مريم وولادة عيسى في سورة آل عمران أو سورة مريم، أو الاهتمام بمناقشة فكرة إلوهيّة عيسى التي جاءت في عدّة موارد، منها ما جاء في سورة المائدة.

________________________

(١) آل عمران: ٥٩ - ٦٢.

٣٧٤

دراسة قصّة موسى (عليه السلام):

بعد دراسة الظواهر السابقة للقصّة، يحسن بنا أن نتناول قصص الأنبياء: موضوعاً من موضوعات التفسير الموضوعي.

ومن هذا المنطلق نجد أمامنا أبعاداً متعدّدةً وكثيرةً لدراسة القصّة في القرآن الكريم، من أهمّها البُعد الأدبي والتصويري، وكذلك البُعد الذي يرتبط ببيان أغراض القصّة في هذا الموضع أو ذاك، إضافةً إلى الجانب التأريخي أو السنن والمفاهيم العامّة التي يمكن انتزاعها منها.

ولكن سوف نتناول هنا مثالاً واحداً للقصّة وهو: (قصّة موسى) (عليه السلام)، حيث تعتبر قصّة موسى (عليه السلام) من أكثر قصص الأنبياء وروداً في القرآن الكريم وتفصيلاً.

ونعني هنا بالموارد القرآنية لهذه القصّة: الموارد التي تحدّث القرآن الكريم فيها عن علاقة موسى مع فرعون أو علاقته مع قومه أو لحالةٍ اجتماعية قارنت عصره.

وسوف ندرس قصّة موسى في القرآن الكريم؛ لنأخذها نموذجاً لدراسةٍ تفصيليّةٍ يمكن أن تستوعب قصص جميع الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، كما أنّنا سوف ندرسها من خلال بعض الأبعاد المهمّة ذات العلاقة بالمضمون، وبالقدْر الذي يتناسب مع هذه الدراسة من حيث الاختصار والمنهج.

١ - دراسة القصّة بحسب مواضعها في القرآن الكريم:

ونأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار في دراستنا للقصّة هذه:

أ - التنبيه إلى أسرار تكرار القصّة الواحدة في القرآن.

ب - التنبيه إلى الغرض الذي سيقت له في كل مقام.

ج - التنبيه إلى أسرار تغاير الأُسلوب في القصّة بحسب المواضع.

٣٧٥

٢ - قصّة موسى بحسب تسلسلها التأريخي.

٣ - دراسة عامّة للقصّة من خلال المراحل التي مرّ بها موسى والموضوعات العامّة التي تناولها.

ونكتفي هنا بالتنبيه بشكلٍ اجماليٍّ إلى هذه النقاط، لنترك معالجة جميع التفصيلات وكذلك الأبعاد الأُخرى إلى دراسةٍ مستوعبةٍ في ظرف آخر.

وعلى هذا الأساس سوف نتناول القصّة من زاوية نحو تسعة عشر موضعاً من القرآن الكريم، ونترك المواضع الأُخرى التي جاءت فيها القصّة بشكل إشاراتٍ أو تلميحات.

١ - قصّة موسى (عليه السلام) بحسب مواضعها من القرآن الكريم:

الموضع الأوّل:

الآيات التي جاءت في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ* وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ* وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) (١) ، إلى أن يختم بقوله تعالى:

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (٢) .

________________________

(١) البقرة: ٤٩ - ٥١.

(٢) البقرة: ٧٤.

٣٧٦

والملاحَظ في هذا المقطع:

أوّلاً:

جاء في سياق قوله تعالى:

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (١) .

ثانياً:

إنّه يتناول أحداثاً معيّنةً أنعم الله بها على بني إسرائيل مرّةً بعد الأُخرى، مع الإشارة إلى ما كان يعقب هذه النعم من انحرافٍ في الإيمان بالله تعالى أو في الموقف العبادي الذي تفرضه طبيعة هذا الإيمان.

ثالثاً:

إنّ القرآن الكريم بعد أن يختم هذا المقطع يأتي ليعالج المواقف الفعليّة العِدائيّة لبني إسرائيل من الدعوة، ويربط هذه المواقف بالمواقف السابقة لهم بقوله تعالى:

( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*... وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٢) .

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكننا أن نقول: إنّ هذا المقطع جاء يستهدف غرضاً مزدوجاً وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله المتعدّدة عليهم، وذلك موعظة وعبرة لهم تجاه موقفهم الفعلي من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى، كشف الخصائص الاجتماعية والنفسيّة العامّة التي يتّصف بها الشعب الإسرائيلي للمسلمين، لئلاّ يقع المسلمون في حالة الشك والريب في هذه المواقف، فيتصوّر بعضهم أنّها تنجم عن رؤيةٍ موضوعيّةٍ تجاه الرسالة، الأمر الذي جعل اليهود يتوقّفون عن الإيمان بها، خصوصاً وأنّ اليهود هم أهل الكتاب في نظر عامّة المسلمين فأراد القرآن هنا أن يبيّن أنّ هذا الموقف إنّما هو موقف نفسي وذاتي ومتأثّر بهذه الخصائص الروحيّة والاجتماعية.

________________________

(١) البقرة: ٤٠.

(٢) البقرة: ٧٥ - ١٢٢.

٣٧٧

وهذا الغرض فَرَض أُسلوباً معيّناً على استعراض الأحداث، إذ اقتصر المقطع على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض وتتناسب مع هذا الهدف، دون أن يعرض التفصيلات الأُخرى للأحداث التي وقعت لموسى (عليه السلام) مع فرعون أو الإسرائيليين.

الموضع الثاني:

الآيات التي جاءت في سورة النساء، والتي تبدأ بقوله تعالى:

( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )

إلى قوله تعالى:

( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (١) .

والملاحَظ في هذا المقطع:

أوّلاً: إنّه جاء ضمن سياق عرضٍ عامٍّ لمواقف فئات ثلاث من أعداء الدعوة الإسلامية تجاهها، وهو: موقف المنافقين، وموقف اليهود من أهل الكتاب، وموقف النصارى من أهل الكتاب، وعَرْض الموقف الأوّل يبدأ بقوله تعالى:

( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (٢) .

وعَرْض الموقف الثاني يبدأ بقوله تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) (٣) .

وعَرْض الموقف الثالث يبدأ بقوله تعالى:

________________________

(١) النساء: ١٥٣ - ١٦١.

(٢) النساء: ١٣٨.

(٣) النساء: ١٥٠.

٣٧٨

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ... ) (١) .

ثانياً:

إنّ المقطع يتناول بعض الأحداث ذات الدلالة على نبوّة موسى، والمواثيق الغليظة المأخوذة على اليهود بصدد الامتثال والطاعة، وموقف اليهود من ذلك والمخالفات التي ارتكبوها، سواء فيما يتعلّق بالجانب العقيدي من الفكرة أم بالجانب العملي التطبيقي منها.

وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج:

أنّ هذا المقطع من القصّة جاء ليوضح أنّ موقف اليهود من الدعوة بطلبهم المزيد من الآيات والبيّنات ليس نابعاً من الشك بالرسالة، وإنّما هو موقف شكلي ذرائعي يستبطن الجحود والطغيان، ولذا نجد المقطع يكتفي بعرض هذا الطلب العجيب الذي تقدّم به اليهود إلى موسى، ويضيف إلى ذلك المواثيق التي أُخذت منهم في الطاعة، ونكولهم عنها بمخالفاتهم العديدة، الأمر الذي يكشف عن إصرارهم على الجحود والطغيان وأنّهم يتذرّعون بمثل هذه المطالب.

وقد فرض السياق العام للسورة الكريمة: تكرار القصّة، على أساس إيضاح ومعالجة موقف اليهود من الدعوة، إلى جانب إيضاح ومعالجة موقف المنافقين والنصارى من أهل الكتاب؛ لأنّ هذه المواقف هي المواقف الرئيسة التي كانت تواجهها الدعوة الإسلامية حينذاك.

الموضع الثالث:

الآيات التي جاءت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ

________________________

(١) النساء: ١٧١.

٣٧٩

أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ* يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ )

إلى قوله تعالى:

( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (١) .

ويُلاحَظ في هذا المقطع:

أوّلاً:

إنّه جاء في سياق دعوةٍ عامّةٍ لأهل الكتاب إلى الإيمان بالرسول الجديد، مع إيضاح حقيقة رسالته، ومناقشة ما يقوله اليهود والنصارى، وإقامة الحجّة عليهم بذلك، إذ يختم هذا السياق بقوله تعالى:

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .

ثانياً:

إنّ المقطع يكتفي بأن يذكر دعوة موسى لقومه إلى دخول الأرض المقدّسة حيث كان دخولها منتهى آمالهم، ولكنّهم يأبون ذلك فيكون مصيرهم التيه أربعين سنة.

وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج:

أنّ القرآن الكريم يبدو وكأنّه يريد أن يذكّر أهل الكتاب ويفتح الطريق أمامهم؛ ليحقّقوا أهدافهم الصحيحة من وراء الدين والشريعة بدخولهم دعوة الإسلام، ولا يكون موقفهم كموقف قوم موسى حين دعاهم إلى دخول الأرض المقدّسة، مع أنّها أُمنيتهم وهدفهم، فتفوتهم الفرصة السانحة، ويصيبهم التيه الفكري والعقائدي والاجتماعي في عصر نزول الرسالة، كما أصابهم التيه السياسي والاجتماعي من قبل.

ومن هنا نعرف السر الذي كان وراء اكتفاء القرآن الكريم بذكر هذا الموقف الخاص لبني إسرائيل دون غيره؛ لأنّه هو الذي يحقّق هذا الغرض، خصوصاً إذا

________________________

(١) المائدة: ٢٠ - ٢٦.

(٢) المائدة: ١٩.

٣٨٠

عرفا أنّ هذه القصّة ممّا يؤمن به اليهود والنصارى.

كما أنّ هذا الجانب من القصّة لم يُذكر في القرآن الكريم إلاّ في هذا الموضع.

الموضع الرابع:

الآيات التي جاءت في سورة الأعراف والتي تبدأ بقوله تعالى:

( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَملإِيْه فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )

والتي تختم بقوله تعالى:

( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) .

ونُلاحِظ في هذا الموضع من القصّة عدّة أُمور:

الأوّل:

إنّ القصّة جاءت في عرض قصصي مشترك مع قصّة نوح، وهود، ولوط، وشعيب، تكاد تتحدّد فيه صيغة الدعوة والتكذيب، والعقاب الذي ينزل بالمكذبين.

الثاني:

إنّ هذا العرض القصصي العام يأتي في سياق بيان القرآن الكريم لحقيقة حشر المخلوقات وصورته وأنّهم يحشرون أُمماً بكاملهم من الجن والإنس، وعلى صعيدٍ واحدٍ يتلاعبون بينهم، أو يتحابون:

( قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ) (2) .

( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

________________________

(1) الأعراف: 103 - 171.

(2) الأعراف: 38.

٣٨١

وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1) .

ثمّ يعرض القرآن الكريم مشاهد متعدّدةً من هذا الحشر، وبعض العلاقات التي تسود الناس فيه، وإنّه تصديقٌ لدعوة الرسل وما بشّروا وأنذروا منه.

الثالث:

إنّ القصّة على ما جاء فيها من التفصيل واستعراضٍ للحوادث تبدأ في سرد الوقائع من حين بدء البعثة والدعوة، كما أنّها تذكر الوقائع في حدود المجابهة - التي كان يواجهها الرسول - الخارجية مع فرعون وملئه، والداخلية مع بني إسرائيل، وفي إطار بيان ما ينزل بالمكذِّبين والمنحرفين من عذابٍ وعقابٍ وإضرار.

الرابع:

إنّ القصّة تتناول في معرض حديثها عن الحوادث جوانب من المفاهيم الإسلامية العامّة والسنن التأريخية: كتأكيد أهمّيّة (الصبر)، و(وراثة المتّقين للأرض)، وأنّ الرحمة لا تنال إلاّ الذين اتقوا وآتوا الزكاة وآمنوا بآيات الله واتبعوا الرسول الأُمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم.

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:

أنّ القصّة جاءت منسجمةً مع السياق العام للعرض القصصي، ومحقِّقةً لأغراضه، على ما أشرنا إليه في حديثنا عن أغراض القصّة، ومع ذلك فإنّه لا تغفل عن الفرصة المناسبة لتأكيد المفاهيم الإسلامية العامّة منسجمةً مع الهدف القرآني العام في التربية.

كما أنّها تؤكّد بصورةٍ خاصّةٍ نبوّة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وكأنّها سيقت بتفاصيلها لتحقيق ربط هذه الدعوات والرسالات بهذه النهاية الخاتمة لها، وأنّ هذه المفاهيم والسنن والأهداف التي عاشتها هذه الرسالات سوف تتحقّق في نهاية المطاف في اتّباع رسالة الإسلام:

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ

________________________

(1) الأعراف : 42 - 43.

٣٨٢

فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ... ) (1) .

على أنّ هناك شيئاً تجدر الإشارة إليه، وهو: أنّ القرآن الكريم يهتمّ عادةً بتفصيل قصص الرسل الذين هم من أُولي العزْم : كنوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى، ذلك لأغراض متعدّدة (2) يمكن أن يكون من جملتها:

أ - إنّ هؤلاء الأنبياء يمثّلون مراحل مختلفةً لرسالة السماء، وإنّهم مع صلة القربى والوحدة في دعوتهم نجدهم يشكّلون مواضع فاصلة في تطوّر الدعوة الدينية النازلة من السماء.

ب - إنّ لبعض هؤلاء الأنبياء أتباعاً وأُمماً عاشت حتّى نزول رسول الإسلام ممّا يفرض الاهتمام بمعالجة أوضاعهم وعلاقتهم بدعوة الإسلام الجديدة.

ج - إنّ أحداثاً مفصّلةً ومختلفةً عاشها هؤلاء مع أُممهم وأقوامهم تمثّل جوانب عديدة ممّا تعيشه كلُّ دعوةٍ دينيّة عامّة واسعة النطاق تستهدف تغييراً جذريّاً لواقع ذلك المجتمع.

الموضع الخامس:

الآيات التي جاءت في سورة يونس والتي تبدأ بقوله تعالى:

( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ) (3)

والتي تُختم بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (4) .

________________________

(1) الأعراف: 157.

(2) تحدّثنا عن هذا الموضوع بشيءٍ من التفصيل في بداية هذا الفصل.

(3) يونس: 75.

(4) يونس: 93.

٣٨٣

وتُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الأُمور التالية:

أوّلاً:

إنّ المقطع جاء بعد مقارنةٍ عرضها القرآن الكريم بين مصير اتباع الحق والمؤمنين بالله وبالرسل والمصدِّقين بهم، ومصير اتباع الباطل والمفترين على الله والمكذِّبين بالرسل:

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ... قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) (1) .

ثانياً:

إنّ هذا المقطع من القصّة جاء بعد إشارةٍ قصيرةٍ إلى نبأ نوحٍ وقومه، تتبعها لمحةٌ عامّةٌ عن الرسل من بعد نوح، وموقف قومهم منهم.

ثالثاً:

إنّ المقطع لا يتناول من التفاصيل إلاّ القدر الذي يرتبط بموقف فرعون وملئه من موسى، والمصير الذي لاقاه هؤلاء نتيجة لإعراضهم عن الدعوة وتكذيبهم بها كما أنّه يشير إلى نهاية بني إسرائيل الطيبة بعد معاناتهم الطولة في المجتمع الفرعوني.

وبعد هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:

أنَّ القصّة إنّما جاءت هنا من أجل تصديق (الحقيقة) التي ذكرها القرآن الكريم في مقارنته بين الذين آمنوا والذين يفترون على الله الكذب.

كما أنّ السياق العام هو الذي فرض مجيء القصّة بشيءٍ من التفصيل؛ لأنّ قصّة موسى تمثّل بتفاصيلها الانقسام بين جماعتين، إحداهما مؤمنة به، والأُخرى كافرة بدعوته، حيث يقع الصراع بينهما وينتهي بالغلبة للمؤمنين على الكافرين، بخلاف قصص الأنبياء الآخرين فإنّها تُعرض في القرآن الكريم على أساس أنّ النبي لم يؤمن به إلاّ النزر اليسير من الناس، ولذلك ينزل العذاب بقومه بشكلٍ عام؛ فهذه

________________________

(1) يونس: 63 - 70.

٣٨٤

القصص تمثّل جانباً واحداً من المقارنة، وهو جانب المصير الذي يواجهه المكذِّبون والمنحرفون، بخلاف قصّة موسى فإنّها تمثّل الجانبين معاً:

جانب المؤمنين وجانب المكذِّبين؛ ومن هنا يمكن أن نفسِّر مجيء قصّة نوح في هذا الموضع مختصرة مع الإشارة العامّة لموقف بقيّة الأنبياء.

إضافةً إلى أنّ نوحاً يمثّل بداية الأنبياء الذي لاقى قومهم العذاب في قصص القرآن، وموسى يمثّل نهايتهم وختامهم.

ويؤكّد هذا التفسير لسياق القصّة ما أشرنا إليه في الملاحظة الثالثة من أنّ التفاصيل التي تناولها المقطع انحصرت في بيان التزام بني إسرائيل الحق، دون أن تتعرّض إلى الجوانب الأُخرى لموقفهم، والتي تمثّل الانحراف والعصيان لأوامر موسى، وهذا الالتزام يكاد يشعرنا أنّ القصّة سيقت لأبراز صدق هذه المقارنة في التأريخ الإنساني والتي كانت تتحكّم في المواجهة التي يلاقيها الأنبياء.

ومن الممكن أن نلاحظ في تكرار القصّة بهذا المقطع ملامح السبب الرابع من أسباب التكرار التي ذكرناها سابقاً، حيث إنّ طريقة عرض القصّة في هذا المقطع حقّقت غرضاً معيّناً ما كان يحصل لو عُرضت القصّة بجميع تفاصيلها كما أشرنا.

الموضع السادس:

الآيات التي جاءت في سورة هود وهي قوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْه فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) (1) .

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة ما يلي:

________________________

(1) هود: 96 - 99.

٣٨٥

أوّلاً:

إنّه جاء في عرضٍ قصصيٍّ عام يبدأ بنوحٍ (عليه السلام) ويختم بهذه اللمحة عن قصّة موسى (عليه السلام).

ثانياً:

إنّ هذا العرض العام جاء في سياق الحديث عن مكذِّبي الرسول (صلّى الله عليه وآله) وما يجب أن يكون الموقف العام منهم والمصير الذي ينتظرهم في الآخرة، كما أنّه يختم العرض بما يشبه بيان الغاية منه، وهو قوله تعالى:

( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ* وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ* وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) (1) .

ثالثاً:

إنّ المقطع جاء لمحةً عابرةً عن القصّة ونهايتها على خلاف قصص الأنبياء الآخرين التي جاءت في شيءٍ من التفصيل؛ ومن هنا يمكن أن نستنتج أنَّ الإتيان بهذا المقطع من القصّة كان من أجل إكمال الصورة التي بدأها بنوح وأراد القرآن الكريم أن يختمها بموسى، ليظهر بذلك الارتباط الوثيق بين أُسلوب الأنبياء في الدعوة إلى الله، وجهودهم في سبيل هذه الغاية والمواجهة التي كانوا يلاقونها من أُممهم وأقوامهم، والنتيجة الحاسمة التي كان ينتهي إليها مصير هذه الأُمم من العذاب الشديد والعقاب القاسي.

الموضع السابع:

الآيات التي جاءت في سورة إبراهيم وهي قوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ* وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ* وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ

________________________

(1) هود: 100 - 102

٣٨٦

عَذَابِي لَشَدِيدٌ* وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (1) .

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة ما يلي:

أوّلاً:

إنّ القرآن الكريم قد مهّد لهذه الإشارة بقوله:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (2) .

ثانياً:

إنّ القرآن يتحدّث بعد هذا المقطع من القصّة عن المفاهيم العامّة التي كان يطرحها الرسل، والأساليب التي كانوا يسلكونها لتحقيق أغراضهم الرساليّة.

ثالثاً:

إنّ الحديث عن القصّة في المقطع، جاء بشكلٍ مختصرٍ وقد أكّد المشكلة العامّة التي كان يعانيها الإسرائيليون، والنعمة العامّة التي تفضّل بها عليهم، والدعوة لشكر النعمة وإنّ الله لا يضره كفرانها.

ومن هنا يمكن أن نستنتج:

أنّ المقطع قُصد به التمثيل على صدق الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم من مجيء كلِّ رسولٍ بلسان قومه، حيث قد يُراد بلسان القوم اللُّغة التي يتكلّم بها القوم - كما لعلّه هو الظاهر - ولكن قد يُراد من اللسان - كما يُشير إليه السياق - هو الجوانب والمشاكل الاجتماعية والسياسية والإنسانية المثيرة التي تستقطب اهتمام الأُمّة ونظرتها ومشاعرها، فيكون تأكيدها أُسلوباً ولساناً لإلفات نظر الأُمّة إلى الدعوة وقيمتها الروحية والاجتماعية، ولذا جاءت قصّة موسى مثالاً لهذه الحقيقة؛ لأنّه دعا لانقاذ قومه من مشكلةٍ اجتماعيةٍ عامّةٍ كانوا يعانونها.

ولعلّ ما يؤكّد هذا القصد هو: أنّ العرض جاء بلسان الخطاب إلى القوم، لا بلسان الحديث عن القضايا والأحداث.

________________________

(1) إبراهيم: 5 - 8.

(2) إبراهيم: 4.

٣٨٧

ولمّا كانت الغاية الحقيقيّة من إرسال الرُسل هي هداية الناس وإرشادهم، لذلك نجد القرآن الكريم، بعد هذه الإشارة إلى قصّة موسى، وتصديق الحقيقة، يعود فيتحدّث عن المفاهيم العامّة التي كان يطرحها الرُسُل، على أساس أنّها الشيء المطلوب من الناس التصديق به، دون أن يكون للأُسلوب المعيّن المتّبع في تحقيق هذا الهدف أهمّيّة ذاتيّة خاصّة.

الموضع الثامن:

الآيات التي جاءت في سورة الإسراء وهي قوله تعالى:

( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً* قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً* فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً* وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ) (1) .

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة ما يلي:

أوّلاً:

إنّه جاء في سياق المطاليب التعجيزيّة المتعدّدة التي كان يقترحها المشركون والكفّار على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعدم اكتفائهم بالقرآن الكريم دليلاً ومعجزةً على النبوّة:

( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً* وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ) (2) .

ثانياً:

إنّ القرآن الكريم يعقّب على القصّة بالحديث عن القرآن بقوله:

________________________

(1) الإسراء: 101 - 104.

(2) الإسراء: 89 - 92.

٣٨٨

( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (1) .

ثالثاً:

إنّ القرآن لم يشر في هذا المقطع من القصّة إلاّ إلى الآيات التسع التي جاء بها موسى، ورَفْض فرعون لدعوته، ومصيره نتيجةً لهذا الرفض.

ويمكن أن نستنتج من هذه الملاحظة:

أنّ القصّة إنّما جاءت هنا شاهداً على أنّ هذه المطالب المتعدّدة التي صدرت من الكفّار لم تكن بسبب حاجةٍ نفسيّةٍ يحسّها هؤلاء الكافرون تجاه هذه المطاليب وإنّما هو أُسلوبٌ عام يتذرّع به الكفّار للتمادي في الضلال والإصرار عليه؛ والشاهد على ذلك قصّة موسى (عليه السلام)، حيث جاء موسى بتسع آيات، ومع ذلك فقد كان موقف فرعون منها موقف المكذِّبين، بالرغم من أنّ هذه الآيات التسع جاءت في أزمنةٍ متعدّدة.

فالسياق هو الذي فرض الإتيان بالقصّة على أساس الاستشهاد بها، وهذا شيءٌ تفرضه طبيعة الواقع التأريخي لرسالة موسى الذي أرسله الله سبحانه بالآيات التسع.

كما أنّ التكرار كان بسبب تأكيد مفهومين:

الأوّل:

إنّ طلبات الكفار وتمنيّاتهم ليست نتيجةً لواقعٍ نفسيٍّ يدعوهم إلى الشك بالرسالة ويفرض عليهم التأكّد من صحّتها، ولا يكون عدم إتيان الرسول بمطاليبهم حينئذٍ بسبب فقدان صلته بالسماء، وإنّما بسبب كفاية القرآن الكريم لإقامة الحجّة عليهم، كما دلّت الآية الكريمة بعد القصّة على ذلك.

الثاني:

إنّ مصير هؤلاء المكذِّبين كمصير فرعون من الهلاك والهزيمة، وأنّ أتباع النبي يصيرون إلى ما صار عليه بنو إسرائيل من وراثة الأرض.

________________________

(1) الإسراء: 105.

٣٨٩

الموضع التاسع:

الآيات التي جاءت في سورة الكهف، والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً* فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) (1)

والتي تُختم بقوله تعالى:

( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) (2) .

ويبدو هذا المقطع منفصلاً عن قصّة موسى المذكورة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم؛ لأنّه يتحدّث عن جانبٍ معيّنٍ من شخصيّة هذا الإنسان يختلف عن الجوانب الأُخرى التي تصوّرها القصّة، والتي تظهر فيها شخصيّة موسى النبي، صاحب الرسالة والدعوة، الذي يجاهد من أجل التوحيد وإقامة العدل الإلهي والدفاع عن المستضعفين، أو تتحدّد فيها معالم هذه الشخصيّة من خلال سيرته ونشأته الذاتية؛ أما هنا فيبدو موسى الإنسان الذي يسير في طريق التعلّم والحريص على تفسير الظواهر غير العاديّة.

وحين نُلاحِظ أنّ القرآن الكريم يأتي بهذا المقطع في سياق قوله تعالى:

( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً* وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ) (3) قد نستنتج أنّ الإتيان به كان من أجل التدليل على مدى مطابقة الحكمة الإلهيّة للمصلحة، وانسجامها مع واقع الأشياء مهما بدت غير واضحة المقصد والهدف.

________________________

(1) الكهف: 60 - 61.

(2) الكهف: 82.

(3) الكهف: 58 - 59.

٣٩٠

فإنّ هاتين الآيتين اللتين جاء المقطع في سياقهما تشيران إلى وجود حكمةٍ إلهيّةٍ من وراء تأخير العذاب، وعدم التعجيل به مع استحقاق الظالمين له، مع أنّه قد يبدو في النظرة السطحيّة الإنسانية أنّ التعجيل بالعذاب أوفق بالمصلحة، حيث يكون رادعاً للآخرين عن الظلم، فجاء المقطع تأكيداً لحقيقة الحكمة الإلهيّة ونظرتها البعيدة، وأنّ هذه الحكمة قد تخفى حتّى على الأنبياء أنفسهم؛ حيث نلاحظ في هذا المقطع ثلاثة أعمال وتصرفات يقوم بها العبد الصالح، كلّها تبدو في ظاهرها أنّها بعيدةٌ عن العدل والمصلحة، الأمر الذي يُثير استغراب موسى إلى الحد الذي يجعله يتخلّى عن التزامه السابق بعدم السؤال، ثمّ يشرح العبد الصالح هذه الأعمال ويبيّن مدى انسجامها مع العدل والمصلحة العامّة.

فالسياق العام للسورة هو الذي فرض الإتيان بالقصّة في هذا المورد، ولا حاجة إلى تكراره في مواضع أُخرى مستقلاًّ أو في سرد الحوادث؛ لأنّه لا يحقّق الغرض الذي جيء به في هذا المورد.

الموضع العاشر:

الآيات التي جاءت في سورة مريم، وهي قوله تعالى:

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً* وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً* وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ) (1) .

وقد جاءت هذه اللمحة من القصّة في عرضٍ قصصيٍّ مشتركٍ عن الأنبياء، وذلك بصدد تعداد من أنعم الله علهيم من عباده وأنبيائه، ومقارنتهم بمن خلف بعدهم ممّن أضاع الصلاة واتّبع الشهوات:

( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً* فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ

________________________

(1) مريم: 51 - 53.

٣٩١

وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) (1) .

فالسياق العام هو الذي فرض مجيء هذه القصّة بهذا الشكل من العرض والاختصار؛ وذلك لتعداد العباد الصالحين ونعمة الله عليهم.

الموضع الحادي عشر:

الآيات التي جاءت في سورة طه، والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) (2) .

والتي تُختم بقوله تعالى:

( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً* إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) (3) .

ونُلاحِظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الأُمور التالية:

الأوّل:

إنّ القصّة جاءت في سياق بيان أنّ القرآن الكريم لم ينزل من أجل أن يشقى النبي ويتألّم، لمجرّد أنّ قومه لم يؤمنوا به أو يظن في نفسه التخلّف والتقصير أو القصور عن أداء الرسالة، وإنّما نزل القرآن تذكرةً لمن يخشى من الناس:

( طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ) (4) .

الثاني:

إنّ هذا المقطع القرآني ينتهي بقوله:

( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ) (5) .

الثالث:

إنّ المقطع يؤكّد بشكلٍ خاصٍّ ملامح معاناة النبيّ موسى (عليه السلام) في سبيل

________________________

(1) مريم: 58 - 59.

(2) طه: 9 - 10.

(3) طه: 97 - 98.

(4) طه: 1 - 3.

(5) طه: 99.

٣٩٢

الدعوة، سواء في ذلك المعاناة النابعة من الذات: من الانفعالات والمخاوف النفسيّة أم الحرص الشديد على نجاح الدعوة وسلامتها والتزام أبنائها بها، أم التي تكون نتيجة العقبات والمشاكل والصعوبات التي تُثار عند المواجهة والتطبيق، سواء من قِبَل الكافرين بالدعوة أصلاً أم المؤمنين بها، أو نعم الله وألطافه به من خلال ذلك.

فهناك عدّة انعكاسات لمواقف الرسالة والدعوة في ذات موسى:

الأوّل: مفاجأته بالرسالة، وكذلك فزعه من المعجزة وتحوّل العصا إلى حيّة.

الثاني: تردّده في الإقدام على الدعوة بمفرده، وطلبه انضمام أخيه هارون إليه.

الثالث: خوفه مع أخيه من التحدّث إلى فرعون ومواجهته بالدعوة، مع أنّهما أُمرا أن يقولا قولاً ليّنا.

الرابع: احساسه بالخوف من سحرهم وتوجّسه من نتائج المباراة.

الخامس: موقفه مع ربّه في المواعدة ومخاطبة الله له بأنّه قد أعجل عن قومه.

السادس: غضب موسى وأسفه وموقفه الصارم من قومه وأخيه والسامري. وقد صاغ القرآن الكريم هذه الانفعالات من خلال طريقة العرض، على الشكل الذي يؤكّد معاناة النبي ويُبرز ملامح شخصيّته، حيث كان يؤكّد في طريقة العرض ضمير المخاطبة، سواء بين الله وموسى أم بين موسى والآخرين.

وإضافةً إلى ذلك، نجد أمام موسى (عليه السلام) مجموعةً من العقبات والمشاكل الحقيقية المهمّة، مثل: محاولة السحرة تضليل الناس، أو استخدام فرعون لأُسلوب القمع والتهديد به، أو مطاردة فرعون وجيشه لموسى وبني إسرائيل في محاولتهم للعبور، أو فتنة السامري للإسرائيليين وتمرّدهم على هارون.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج:

أوّلاً:

إنّ القصّة سيقت لإبراز معاناة الأنبياء في دعواتهم بصفتها نتيجة طبيعية لِعِظَم المسؤوليّة التي يتحمّلونها والمشاكل التي تواجههم، وبشكلٍ خاصٍّ تُشير

٣٩٣

إلى المعانة الذاتيّة، ويشهد لذلك أنّ القصّة تؤكّد المواقف التي تظهر فيها انفعالات الرسول، كما أنّها تؤكّد ما ينعم به الله على الرسول خلال المجابهة، وحين ينتهي عرض دور الانفعال نجد القصّة تنتقل إلى عَرْض الدور الآخر، دون أن تقف عند المَشاهد الأُخرى، فهي - مثلاً - تنتقل من العبور إلى المواعدة رأساً.

كما أنّنا حين نقارن بين هذا المورد الطويل من القصّة والمورد السابق الطويل منها الذي جاء في سورة الأعراف، أو المورد الثالث الطويل منها الذي يأتي في سورة القصص، نجد هذا المورد هو الوحيد بينها يؤكّد بهذا التفصيل هذه الملامح لشخصيّة الرسول.

ثانياً:

إنّ السبب الذي فرض على القصّة هذا الأُسلوب الخاص من العَرْض والتصوير واقتضى في نفس الوقت بعض التكرار هو مخاطبة الرسول وتخفيف الألم والعذاب النفسي اللذين كان يعانيهما تجاه الدعوة، ويدلّنا على ذلك ما لاحظناه في الأمر الأوّل والثاني، حيث استهدف القرآن الكريم إبراز الصلة الوثيقة بين ما يعانيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في دعوته وبين ما كان الأنبياء السابقون يعانونه:

( مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إلاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى )

( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ) .

الموضع الثاني عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الشعراء والتي تبدأ القصّة فيه بقوله تعالى:

( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ ) (1)

والتي تختم بقوله تعالى:

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (2) .

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الأُمور التالية:

________________________

(1) الشعراء: 10 - 11.

(2) الشعراء: 67 - 68.

٣٩٤

الأوّل:

إنّ المقطع من القصّة جاء بعد عتابٍ من الله سبحانه لرسوله محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) في إجهاده لنفسه وإرهاقها، حتّى يكاد يقتلها بسبب أنّ قومه لم يكونوا مؤمنين: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (1) .

وبعد هذا العتاب يذكر القرآن الكريم قانوناً اجتماعيّاً يتحكّم في التأريخ، وهو: أنّ كلّ ذكرٍ جديدٍ من الله سبحانه يحدث ردّة فعلٍ كهذه لدى الكفار، حيث يقاومونه ويعرضون عنه، ولم يكن ذلك بسبب عجز الله سبحانه، وعدم قدرته على اخضاعهم لرسالته وإرغامهم عليها:

( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) (2) .

الثاني:

إنّ القرآن الكريم ينبّه - بعد هذا التفسير العام للتأريخ - إلى أنّ هذا الموقف العام للكافرين تجاه الذكر لم يكن بسبب عدم توفّر الدليل الصالح على صحّة الرسالة:

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (3) .

الثالث:

إنّ هذا المقطع جاء في عَرْضٍ قصصيٍّ مشتركٍ للأنبياء يتميّز بطابعٍ خاصٍّ إلى جانب هذا التفسير التأريخي للموقف العام، وهو: أنّ كلّ نبيٍّ نجده يبذل جهده في استعمال الأساليب المختلفة من الكلام الليّن الهادئ، أو التذكير بالنعم الإلهيّة الظاهرة التي يتمتّع بها أقوامهم، وقد يعضد أقواله هذه أحياناً بآية ومعجزة سماوية تشهد له على صحّة دعوته، ومع كلِّ ذلك تكون النتيجة واحدةً ويختتم بقوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ) .

الرابع:

إنّ القرآن الكريم بعد أن يأتي على نهاية العرض القصصي المشترك هذا

________________________

(1) الشعراء: 3.

(2) الشعراء: 4 - 5.

(3) الشعراء: 7 - 9.

٣٩٥

يرجع فيتحدّث عن (آيات الكتاب المبين) بوصفها شيئاً مرتبطاً بالسماء ومتّصفاً بجميع الصفات التي تبرز هذا الاتصال، ممّا يسمح لذوي البصيرة والقلوب النيّرة أن يطّلعوا على واقعه ويهتدوا به.

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أنّ القصّة جاءت لتحقيق هدفين ضمن عَرْضٍ قصصي مشترك:

أحدهما: إيضاح القانون الطبيعي الذي يتحكّم في مواجهة الأفكار الإلهيّة الجديدة، وأنّ تلكّؤ الكافرين في الإيمان بالدعوة الإسلامية ورسالتها ليس بسبب تخلّف الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن المستوى الأمثل للعمل والنضال، أو نتيجة لعدم توفّر الأدلّة الكافية على صحّة الرسالة، وإنّما هو قانون عام له أسبابه النفسيّة والاجتماعية الأُخرى، وخضعت له الرسالات الإلهيّة كلّها.

والآخر: إنّ النهاية سوف تكون لعباد الله الصالحين وأنّهم هم الذين يرثون الأرض، ومن أجل إلفات النظر إلى هذا الهدف - الذي قد يضيع ضمن العَرْض العام للقصص - وتأكيده جاءت قصّة موسى بشيءٍ من التفصيل الذي يؤكّد هذا الجانب، ويمكن - أيضاً - أن نفسِّر التكرار للقصّة بأحد السببين التاليين أو كليهما:

الأوّل:

تأكيد هدفٍ وغرضٍ سبق أن استهدفه القرآن الكريم من قصّة موسى نفسها في سورة طه وهو: التخفيف من الألم الذي يعانيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهذا هو السبب الثاني من الأسباب الموجبة للتكرار.

الثاني:

إنّ القصّة استهدفت غرضاً دينيّاً جديداً وهو: تصوير المفهوم الإسلامي العام عن طبيعة موقف المشركين تجاه الرسالة، وأنّه هو الموقف العام لهم تجاه كلّ الرسالات، وهذا هو السبب الأوّل من الأسباب الموجبة للتكرار.

وقد جاءت القصّة في أُسلوبها وطريقة عرض الأحداث فيها منسجمةً مع أهدافها وأغراضها حيث تناولت جوانب معيّنة من حياة موسى وعرضت بشكلٍ

٣٩٦

خاصٍّ تنتهي عند هذه الأهداف؛ فنجد الحديث في القصّة - مثلاً - ينتهي عند العبور، كما أنّها أكّدت الأُسلوب الذي سار عليه موسى وهارون في مخاطبة فرعون.

الموضع الثالث عشر:

الآيات التي جاءت في سورة النمل والتي تبدأ بقوله تعالى:

( إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) (1)

والتي تختم بقوله تعالى:

( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) (2) .

وتُلاحظ في هذا المقطع القصير الذي يتحدّث عن القصّة بشكلٍ عام، الأُمور التالية:

الأوّل:

إنّ القصّة جاءت في سياق التحدّث عن الكافرين بالآخرة وما سوف يلاقون من عذاب، وعن واقع نزول القرآن وتلقّيه:

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ* وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) (3) .

الثاني:

إنّ هذا المقطع يختم بقوله تعالى:

( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

الثالث:

إنّ المقطع على اختصاره يكاد يختص بذكر الحوادث والآيات الغيبيّة، فهو يذكر المناداة ومعجزة العصا واليد، ويُشير إلى الآيات التسع.

وهذه الملاحظة تدعونا لأن نستنتج: أنّ القصّة سيقت لاظهار حقيقةٍ من

________________________

(1) النمل: 7.

(2) النمل: 14.

(3) النمل: 4 - 6.

٣٩٧

الحقائق التي ترتبط بالجانب النفسي للمجتمع الذي يواجه دعوةً جديدةً، وهذه الحقيقة هي أنّ نكران الآخرة وعدم الإيمان بها إنّما يقوم على أساسٍ نفسيٍّ وعاطفي، لا على أساسٍ موضوعيٍّ ودراسةٍ علميّة، هذا الشيء الذي عبّر عنه القرآن الكريم بالجحود؛ وذلك لأنّ الدراسة الموضوعيّة كانت تقتضي أن تنتهي الحالة بالناس إلى الإيمان بالآخرة بعد أن أكّدت الآيات والمعاجز ارتباط النبي بعالم الغيب، وهذه الآيات والمعاجز توفّر عناصر اليقين عند الإنسان العادي الذي يعيش وضعيّةً عاطفيّةً مستويةً ومستقيمة؛

ونتيجةً لذلك (وهو: عدم الإيمان بالرغم من توفّر الأدلّة والحجج) ينزل العذاب بالكافرين بعد أن لم يستجيبوا للحقائق والأدلّة.

ولا يفوتنا أن ننبّه هنا إلى نكتة دقيقة ولطيفة، وشاهد يؤكّد لنا أنّ القصّة سيقت لهذا الغرض، هو: أنّ القرآن يصوّر لنا خوف موسى من العصا بالشكل الذي يدعوه إلى الهروب، وفي هذا تأكيد أنّ هذا التحوّل في حالة (العصا) كان نتيجة تدخّلٍ غيبيٍّ ولذا ترك أثره على موسى نفسِه، لا أنّه نتيجة عملٍ بشريٍّ قام به موسى، ولعلّ السرَّ في تكرار القصّة هنا هو السببان التاليان:

الأوّل:

إنّ المقطع جاء في عَرْض قصصٍ مشترك لتأكيد تفسير إسلامي لموقف المنكرين للقرآن والدعوة، على أساس عدم كفاية الآيات والمعجزات لإثباتها، وقد عرفنا في هذا التأكيد السبب الثاني للتكرار كما سبق.

الثاني:

إنّ القصّة جاءت مختصرةً في تصوير الموقف وهذا يدعونا لأن نرى أنّها وردت في مرحلةٍ متقدّمةٍ من مراحل الدعوة، حين كان يعالج القرآن مشاكلها بشكل مختصر، وهذا ما ذكرناه سبباً ثالثاً للتكرار.

الموضع الرابع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة القصص، والتي تبدأ بقوله تعالى:

( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن

٣٩٨

نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1) والتي تختم بقوله تعالى: ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ ) (2) .

وتُلاحظ في هذا المقطع من القصّة الأُمور التالية:

الأوّل:

إنّ السورة تكاد تبدأ بالقصّة دون أن يسبقها شيءٌ عدا آيتين: هما قوله تعالى:

( طسم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) (3) .

الثاني:

إنّ القرآن الكريم يأتي في سياق القصّة بعدها بقوله تعالى:

( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ*... وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (4) .

الثالث:

إنّ القصّة تذكر تفاصيل وحوادث ذات طابعٍ شخصيٍّ من حياة موسى (عليه السلام) تكاد تكون جانبية، كحادثة إلقائه في اليم، واستنقاذ آل فرعون له، ورفضه للرضاعة من غير أُمّه، وقتله الرجل ثمّ محاولته قتل الآخر وهروبه، ثمّ قضيّة زواجه مع تفاصيلها.

الرابع:

إنّ القصّة تبدأ بذكر أحكامٍ عامّةٍ عن الوضع الاجتماعي حينذاك والغاية المتوخّاة من تغييره:

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ

________________________

(1) القصص: 3.

(2) القصص: 42.

(3) القصص: 1 - 2.

(4) القصص: 44 - 46.

٣٩٩

لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (1) .

وعلى ضوء هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أنّ القصّة استهدفت أمرين:

الأوّل:

إنّ القرآن الكريم كتابٌ منزل من الله سبحانه وتعالى، وإنّه ليس من صنع محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، وهذا هو الهدف الرئيس من سرد القصّة في هذا المورد - كما يُشير إلى ذلك الأمر الأوّل والثاني - وهو في نفس الوقت من الأهداف المهمّة التي يؤكّدها القرآن الكريم في مناسباتٍ كثيرةٍ لما له من تأثير في سير الدعوة.

وبهذا يمكن أن نفسِّر ما أشرنا إليه في الأمر الثالث؛ لأنّ في الحديث عن تفاصيل جانبيّةٍ من حياة الرسول دلالة قويّة على ارتباط القرآن بعالم الغيب، حيث من المفروض أن لا يطّلع على هذه التفاصيل جميع الناس؛ لأنّها تعيش حياة الرسول حين كان فرداً عاديّاً في المجتمع، على خلاف تفاصيل حياته بعد النبوّة فإنّها - بطبيعة الحال - تكون معروفةً للناس لتسليط الأضواء على شخصيّته من قِبَلهم.

الثاني:

إيضاح أنّ عمليّة التغيير الاجتماعي قد تتم حتّى في أبعد الظروف ملاءمةً واحتمالاً، وفي ظل أشد ظروف الظلم والاضطهاد والطغيان، بحيث تبدأ عمليّة التغيير من نقطةٍ هي في منتهى البُعد والضعف نسبةً لهذه العمليّة وذلك نتيجة للإيمان الواعي بالله وما يستلزمه ذلك من الإصرار والصبر على تبنّي العقيدة والنضال من أجلها.

ولذلك نجد القصّة في هذا الموضع تؤكّد ملامح الاضطهاد الذي كان يعانيه المجتمع بشكلٍ عام، والإسرائيليون بشكلٍ خاص، كما تؤكّد الوضع القاسي الذي كان يعيشه شخص الرسول في كونه منذ البداية في معرض خطر الموت والهلاك، ثمّ مطارداً من المجتمع بتهمة القتل العدواني، ثمّ مهاجراً وبعيداً عن المواقع الطبيعية لحركة التغيير.

وفي هذين الهدفين ما يُبرّر التكرار الذي يمكن أن يكون بالسبب

________________________

(1) القصص: 4 - 6.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531