علوم القرآن

علوم القرآن7%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219974 / تحميل: 19586
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الأوّل أو الثاني من أسباب التكرار.

الموضع الخامس عشر:

الآيات التي جاءت في سورة المؤمن والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (١)

والتي تختم بقوله تعالى:

( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (٢) .

ويُلاحظ في هذا المقطع من القصّة ما يلي:

الأوّل:

إنّ السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدّث في مطلعها عن مصير من يجادل في آيات الله:

( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) (٣) .

الثاني:

إنّ القصّة تأتي في سياق أنّ هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية لعنادهم، بعد أن تأتيهم البيّنات، فيكفرون بها:

( أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (٤) .

الثالث:

إنّ القصّة تؤكّد بشكلٍ واضحٍ موقف مؤمن آل فرعون، والأساليب التي استعملها في دعوته لهم ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم بمصير من سبقهم من الأُمم وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم.

وقبالة هذا الموقف يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيّه حتّى حاول أن يطّلع على إله موسى.

________________________

(١) المؤمن: ٢٣ - ٢٤.

(٢) المؤمن: ٤٤ - ٤٥.

(٣) المؤمن: ٤.

(٤) المؤمن: ٢١.

٤٠١

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج:

أنّ القصّة سيقت لتوضيح مصير من يجادل في آيات الله، مع إيضاح الفرق بين الأُسلوب الذي يستعمله الداعية والأُسلوب الذي يستعمله المجادل والكافر، وأنّ العذاب لا ينزل بهؤلاء إلاّ بعد أن تتمّ الحجّة عليهم.

وإنّ الهداية والحجّة من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتّى أُولئك الأشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفّذ والمترف - كما هو الحال بالنسبة إلى مؤمن آل فرعون - كما أنّها تؤكّد الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان تجاه هداية الآخرين، وأنّها مسؤوليّة شرعيّة وإنسانية يتحمّلها كلُّ الناس، حتّى لو كان من الوسط الضال، كما فعل مؤمن آل فرعون.

وفي هذا العَرْض القرآني للقصّة يظهر لنا - أيضاً - هذا الامتزاج بين الرحمة والغفران، وبين النقمة وشدّة العذاب:

( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (١) .

فإنّ الله سبحانه يجعل تحت متناول عقول عباده وأنظارهم آياته وأدلّته وبراهينه، ويتوسّل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم، كلّ ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة والاستغفار، ولكنّه - مع ذلك - لا يعجزه شيءٌ عن عقابهم أو القدرة على إنزال العذاب فيهم.

الموضع السادس عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الزخرف والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢)

والتي تختم بقوله تعالى:

( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً

________________________

(١) المؤمن: ٣.

(٢) الزخرف: ٤٦.

٤٠٢

لِلآخِرِينَ ) (١) .

ويُلاحظ في هذا الموضع من القصّة ما يلي:

إنّ هذا المقطع القرآني من القصّة جاء في سياق الحديث عن شبهةٍ أثارها الكفّار في وجه الدعوة:

( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٢) .

وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين:

الأُولى:

إنّ الرزق والمال ليس عطاءً بشريّاً أو نتيجةً للجهد الشخصي والذكاء والعبقريّة والفضل فحسب، بل هو عطاء إلهي له غاية اجتماعية تنظيمية:

( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (٣) .

الثانية:

إنّ هذا العطاء الإلهي المادّي ليس مرتبطاً بالفضل والامتياز عند الله، والقربى لديه كما هو شأن العطاء البشري ومقاييسه، بل قد يكون العكس هو الصحيح:

( وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) (٤) .

فإنّ ظاهر هذه الآية الكريمة هو أنّه لولا مخافة أن يكون الناس أُمة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن... وقد يكون ذلك تعويضاً لهم عمّا يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة فإنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) (٥) .

ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:

________________________

(١) الزخرف: ٥٥ - ٥٦.

(٢) الزخرف: ٣١.

(٣) الزخرف: ٣٢.

(٤) الزخرف: ٣٣.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٤: ٣٦٣.

٤٠٣

إنّ هذا المقطع جاء ليضرب مثلاً واقعيّاً تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها الإنسانية، وهذا المثل هو موقف فرعون من دعوة موسى؛ حيث نزلت الرسالة على شخصٍ فقيرٍ مطاردٍ ويتعرّض قومه إلى الاضطهاد، مع أنّ فرعون هو صاحب الثروة والغنى.

والذي يؤكّد هذا الاستنتاج: أنّ المقطع يتبنّى إظهار جانب ما يتمتّع به فرعون من ثروةٍ وملكٍ وغنى، في مقابل موسى الذي هو مهين، على حد تعبير فرعون، وليس في المواضع الأُخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون.

فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.

الموضع السابع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الذاريات وهي قوله تعالى:

( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (١) .

وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عَرْضٍ قصصيّ مشتركٍ عن الأنبياء من أجل تعداد آيات الله سبحانه، وإثبات صدق الدعوة والنبوّة، نجد أُسلوب السورة المكّيّة الذي كان يفرض طبيعة الموقف فيه ذكر القصص القرآنية بشكلٍ مختصرٍ وعابر.

الموضع الثامن عشر:

الآية التي جاءت في سورة الصف:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (٢) .

وفي هذه إشارة إلى موقفٍ معيّنٍ لبني إسرائيل تجاه موسى، حيث آذوه مع

________________________

(١) الذاريات: ٣٨ - ٤٠.

(٢) الصف: ٥.

٤٠٤

علمهم بنبوّته، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو مقارنة موقف أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) تجاهه وموقف هؤلاء تجاه موسى، وكذلك موقف بني إسرائيل تجاه عيسى (عليه السلام) من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبيّنات، وفي هذا تذكير لأصحاب النبي وتحذير لهم من الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات، وإلاّ لساروا في طريق النفاق، وكانوا ممّن يقولون ما لا يفعلون، كما يدلّ السياق على ذلك.

الموضع التاسع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة النازعات، وهي قوله تعالى:

( هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى* فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى* فَكَذَّبَ وَعَصَى* ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ) (١) .

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث عن الحشر، وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية، وتكبره وتجبّره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعيّة عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة:

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (٢) .

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث

________________________

(١) النازعات: ١٥ - ٢٥.

(٢) النازعات: ٢٧ - ٣٢.

٤٠٥

عن الحشر وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيويّة وتكبّره وتجبّره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة:

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (١) .

٢ - قصّة موسى (عليه السلام) في القرآن بحسب تسلسلها التأريخي (٢) :

الإسرائيليّون في المجتمع المصري:

لقد عاش الإسرائيليّون في المجتمع المصري، وتكاثروا فيه: منذ هجرة يوسف وأبيه يعقوب وبقيّة أولاده إلى مصر.

وقد اضطهد الفراعنة الإسرائيليين في الحقبة السابقة على ولادة موسى، وبلغ الاضطهاد درجةً مريعةً حين اتّخذ الفراعنة قراراً بذبح أبناء الإسرائيليّين واستحياء نسائهم من أجل الخدمة والعمل، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يتفضّل على هؤلاء المستضعفين وينقذهم من حالتهم هذه، فهيّأ لهم نبيّه موسى، فعمل على إنقاذهم من الفراعنة (٣) ، وهدايتهم من المجتمع الوثني إلى المجتمع التوحيدي.

ولادة موسى وإرضاعه:

وحين وُلد موسى (عليه السلام) أوحى الله سبحانه إلى أُمّه أن ترضعه وحين تخاف عليه

________________________

(١) النازعات: ٢٧ - ٣٢.

(٢) نذكر من أحداث القصّة بمقدار ما تعرّض له القرآن الكريم.

(٣) الأعراف: ١٤١، إبراهيم: ٦، القصص: ٣ - ٦.

٤٠٦

من الذبح العام فعليها أن تضعه في ما يشبه الصندوق وتلقيه في اليمّ، وهكذا شاءت إرادة الله أن يلقيه اليمّ إلى الساحل، وإذا بآل فرعون يلتقطونه فيعرفون أنّه من أولاد بني إسرائيل، فتدخل امرأة فرعون في شأنه وتطلب أن يتركوه لها على أن تتّخذه خادماً أو ولداً تأنس به مع فرعون.

وقد عاشت والدة موسى لحظاتٍ حرجةً من حين إلقائه في اليمّ، فأمرت أُخته أن تقصَّ أثره وتتبع سير الصندوق فتتعرّف على مصيره، ففعلت، وحين عرض الطفل على المرضعات أبى أن يقبل واحدةً منهنّ، فانتهزت أُخته هذه الفرصة، فعرضت على آل فرعون أن تدلّهم على امرأةٍ مرضعة تتكفّل رعايته وحضانته وإرضاعه، وكانت هذه المرأة بطبيعة الحال هي أُمّ موسى، وهكذا رجع الطفل إلى أُمّه ليطمئنّ قلبها وتعلم أنّ ما وعدها الله سبحانه من حفظه وإرجاعه إليها حقٌّ لا شكّ فيه.

ولقد شبّ موسى في البلاط الفرعوني حتّى إذا بلغ أُشدّه وهبه الله سبحانه العلم والحكمة (١) .

خروج موسى من مصر:

ودخل موسى المدينة في يومٍ ما ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ) (متنكّراً) فوجد فيها رجلاً من شيعته (من الإسرائيليّين) يقاتل رجلاً آخر من أعدائه (الفرعونيّين) فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن ينتظر موسى أن تؤدّي هذه الضربة إلى الموت، ولذلك ندم على هذا العمل المتسرّع الذي انساق إليه، فاستغفر ربّه عليه.

وأصبح موسى في المدينة خائفاً يترقّب أن ينكشف أمره فيؤخذ بدم الفرعوني، فينزل إلى المدينة مرّةً أُخرى فإذا به يواجه قضيّةً أُخرى متشابهة، وإذا الذي استنصره بالأمس فنصره يستصرخه اليوم أيضاً، فعاتبه موسى على

________________________

(١) القصص: ٧ - ١٤، طه: ٣٧ - ٤٠.

٤٠٧

عمله ووصفه بأنّه غويٌّ مبين يريد توريطه وإحراجه، ثمّ لمّا ( أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا ) (موسى والإسرائيلي) ظنّ الإسرائيلي أنّ موسى يقصد البطش به لا بالفرعوني، فقال لموسى:

( أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ )

وبذلك كشف الإسرائيلي عن هويّة قاتل الفرعوني الأوّل، وفضح قتل موسى له، فعمل الملأ - وهمّ عليَّة القوم - على قتله بدم الفرعوني.

( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) وأعاليها يُخبر موسى بالأمر، يقول له: ( إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) وطلب منه المبادرة إلى الخروج والهروب من الفرعونيين.

فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقّب أن يوافيه الطلب أو تصل إليه أيدي الفرعونيّين فدعا ربّه أن ينجيه من القوم الظالمين (١) .

موسى في أرض مَدْين:

وانتهى السير بموسى إلى أرض مدين فلمّا وصلها أحسَّ بالأمن وانتعش الأمل في نفسه فقال:

( عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ* وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ ) وهم: الرعاة يسقون

( وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ ) في حيرة من أمرهما تذودان الأغنام وتجمعانها ولا تسقيان، فأخذه العطف عليهما فقال لهما:

( مَا خَطْبُكُمَا ) ولماذا لا تسقيان؟

قالتا له: ( لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء ) وينتهوا من السقي؛ لأنّنا امرأتان ( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) لا يتمكّن من القيام بهذه المهمّة الشاقّة.

فتولّى موسى عنهما هذه المهمّة، فسقى لهما، ثمّ انصرف إلى ناحية الظل، وهو يشكو ألم الجوع والغربة والوحدة فقال:

( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

________________________

(١) القصص: ١٥ - ٢١، وطه: ٤٠.

٤٠٨

ولمّا رجعت الامرأتان إلى أبيهما الشيخ وعرف منهما قصّة هذا الإنسان الغريب الذي سقى لهما، بعث إلى موسى إحداهما لتدعوه إليه فجاءته ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) .

فأجاب موسى الدعوة وحين انتهى إلى الشيخ طلب منه أن يخبره عن حاله، فقصّ موسى عليه قصّة هربه وسببها، وحينئذٍ آمنه الشيخ وقال له: ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وقد طلبت إحدى ابنتي الشيخ من أبيها: أن يستأجر موسى للعمل عنده وليقوم عنهما ببعض المهام الملقاة على عاتقهما نتيجة عجز الشيخ وضعفه؛ وذلك نظراً لقوّة موسى وقدرته على القيام بالعمل مع إمانته وشرف نفسه.

فقال له الشيخ: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ) شريطة أن تأجرني نفسك ثماني حجج (سنين) فإذا اتممتها عشراً فذلك من عندك، فوافق موسى على هذا الزواج وتمّ العقد بينهما (١) .

بعثة موسى (عليه السلام) ورجوعه إلى مصر:

وبعد أن قضى موسى الأجل (السنوات العشر) بينه وبين صهره سار بأهله فإذا به يشاهد ناراً من جانب الطور الأيمن: وهو جبل صغير، وقد كان بحاجةٍ إليها.

( فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى* فَلَمَّا أَتَاهَا )

وجد شجرةً وجاء نداء الله سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من جانب الشجرة: ( إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ* فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) إليك.

ثم قال الله له: ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى )

قال الله له: ( أَلْقِهَا يَا مُوسَى ) فإذا هي تتحوّل إلى ( حَيَّة تَسْعَى ) ( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ )

________________________

(١) القصص: ٢٢ - ٢٨، طه: ٤٠.

٤٠٩

فناداه الله: ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) ( إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (١) سنعيدها سيرتها الأُولى.

ثمّ قال له: ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) (٢)

ومرض، فأدخل يده وإذا بها تخرج بيضاء، ثمّ ردّها فعادت كما كانت.

وبعد ذلك أمره الله سبحانه أن يذهب بهاتين الآيتين المعجزتين إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى الله سبحانه، فخاف موسى من تحمّل هذه المهمّة، فقال: ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ ) وذلك من أجل أن ( يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) .

قال الله له: ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ) ( فَأْتِيَاهُ (فرعون) فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ) (٣) .

وحينما عاد موسى إلى مصر توجّه مع أخيه هارون إلى فرعون، فقالا له: إنّا رسولا ربّك ربّ العالمين، ولا يمكن أن نقول على الله غير الحق الذي أرسلنا به وقد جئناك ببيّنةٍ من ربّك فارسل ( مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وارفع عنهم العذاب الذي تنزله فيهم، وقد قالا له ذلك بشكلٍ ليّنٍ وبأُسلوبٍ استعطافيٍّ هادئ (٤) .

وكأن فرعون قد استغرب هذه الرسالة من موسى وأخيه؛ لأنّه كان يعرف

________________________

(١) القصص: ٢١ والنمل: ١٠.

(٢) النمل: ١٢.

(٣) الإسراء: ٢ - ٣، طه: ٩ - ٤٧، الفرقان: ٣٥ - ٣٦، القصص: ٢٩ - ٣٥، الشعراء: ١٠ - ١٦، النازعات: ١٥ - ١٩.

(٤) الأعراف: ١٠٤ - ١٠٥، الشعراء: ١٧ و ٢٢.

٤١٠

موسى وأحواله، فقال لموسى:

( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) ، ثمّ بعد ذلك ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) بأن قتلت رجلاً من الفرعونيّين؟ فأجابه موسى: نعم لقد فعلت ذلك، ولكنّي لمّا خفتكم على نفسي فررت منكم ( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (١) .

فرعون يجادل موسى في ربوبيّة الله:

وبعد أن رأى فرعون إصرار موسى وهارون على الرسالة ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا )

قال له موسى ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وهو ربّ السماوات والأرضين ( وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) ، قال فرعون ( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ) وما هو مصيرها؟

فأجابه موسى ( عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ، وهو ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ) مختلف ألوانه وأشكاله.

وقد استنكر فرعون هذه الدعوة الجديدة وهو يعتقد بنفسه الإلوهيّة فتوجّه لمن حوله مستنكراً، وقال: ألا تسمعون؟

ولمّا رأى الإصرار من موسى وأخيه اتّهم موسى بالجنون وهدّده بالسجن إذا اتخذ إلهاً غيره (٢) .

ولم يستسلم موسى وأخوه أمام هذه التهمة والتهديد وإنّما حاولا أن يسلكا إلى فرعون طريقاً آخر لاقناعة أو إحراجه، وهذا الطريق هو استثمار السلاح الذي وضعه الله بيد موسى (معجزة العصا واليد)، فقال موسى لفرعون: إني قد جئتك من ربّي بآية تبيّن لك الحق الذي انا عليه؛ قال فرعون: إذا كنت صادقاً فأت بهذه الآية والحجّة

( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ) .

ولم يتمالك فرعون وملؤه أنفسهم أمام هذا الموقف إلاّ أن اتّهموه بالسحر والشعوذة

________________________

(١) الشعراء: ١٨ - ٢١.

(٢) طه: ٤٩ - ٥٥، الشعراء: ٢٤ - ٢٩.

٤١١

وأنّه إنّما جاء بهذا السحر من أجل أن يخرجهم من أرضهم ويجلوهم عنها (١) .

مباراة موسى مع السَّحَرة:

وقد أشار قوم فرعون وخاصّته عليه بأن يواجه موسى بالسحرة من بلاده، فيجمعهم في يومٍ يشهده الناس جميعاً ليتباروا، وسوف يغلبونه وهم كثيرون فيفتضح أمره ويترك دعوته، وعمل فرعون بهذه النصيحة فطلب من موسى وأخيه أن يعطياه مهلةً إلى وقتٍ معيّن لمواجهته بالسحرة.

وجمع فرعون كيده وحشد جميع السحرة من بلادهم، وعرض عليهم الموقف وطلب منهم أن يحرجوا موسى ويغلبوه، وجمع الناس لهذه المباراة ظنّاً منه أنّه سوف ينتصر، وقد شجّعه على ذلك تأكيد السحرة أنّهم سوف يغلبون موسى وما طلب منه السحرة من أجر وأُعطيات إذا كانوا هم الغالبين.

وحين اجتمع موسى بالسحرة خيّروه بين أن يلقي قبلهم أو يكونوا هم الملقين قبله، فاختار أن يكونوا هم الملقين، فألقى السحرة ( حِبَالهُمْ وَعِصِيّهُمْ ) وإذا بها تبدو لأعين الناس - من سحرهم - كأنّها تسعى كالحيّات، وعندئذٍ أوجس موسى ( فِي نَفْسِهِ خِيفَةً ) إذ لم يكن ينتظر أن يواجه بالأُسلوب الذي اتبعه في معجزته مع فرعون فأوحى الله سبحانه له أن لا تخف فأنك أنت الذي سوف تنتصر علهيم، وإنّما عليك أن تلقي عصاك وحينئذٍ تتحوّل إلى حيّةٍ تلقف جميع ما صنعوا؛ لأنّ ما صنعوه ليس إلاّ ( كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ) .

وعندما رأى السحرة هذا الصنع من موسى انكشفت لهم الحقيقة التي أُرسل بها، وأنّ هذا العمل ليس عمل ساحر وإنّما هو معجزة إلهيّة، فآمنوا وقالوا: ( آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) .

وأمام هذا الموقف الرائع من السحرة في هذا المشهد العظيم من الناس وجد

________________________

(١) الأعراف: ١٠٦ - ١٠٩، الشعراء: ٣٠ - ٣٥، يونس: ٧٥ - ٧٨.

٤١٢

فرعون نفسه في وضعٍ مخزٍ ومحرج، الأمر الذي اضطرّه لأن يلجأ إلى الإنذار والوعيد والتهديد باستخدام أساليب القمع والإرهاب؛ فقال للسحرة:

( آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ) ، ولم يكن موقف السحر - بعد أن انكشفت لهم الحقيقة وهداهم الله إليها - إلاّ ليزداد صلابة وثباتاً واستسلاماً لله رجاء مغفرته ورحمته (١) .

إصرار فرعون وقومه على الكفر ومجيء موسى بالآيات:

وقد أصرّ فرعون وقومه على الكفر وصمّموا على مواصلة خط اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم، حيث قال الملأ من قومه ( أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) .

وواجه موسى وبنو إسرائيل ذلك بالصبر والثبات انتظاراً للوقت الذي يحقّق الله سبحانه فيه وعده لهم بوراثة الأرض.

ولكن الله سبحانه أمر موسى أن يعلن لفرعون وقومه بأنّ العذاب سوف ينزل بهم عقاباً على تكذيبهم له وتعذيبهم لبني إسرائيل وامتناعهم عن إطلاقهم وإرسالهم، فجاءت الآيات السماويّة يتلو بعضها بعضاً فأصابهم الله بالجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وكانوا كلّما وقع عليهم العذاب والرجز.

( قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (٢) .

________________________

(١) الأعراف: ١١٠ - ١٢٦، يونس: ٨٠ - ٨٩، طه: ٥٧ - ٧٦، الشعراء: ٣٤ - ٥٢.

(٢) الأعراف: ١٢٧ - ١٣٥، غافر: ٢٣ - ٢٧، الإسراء: ١٠١ - ١٠٢، طه: ٥٩، النمل: ١٣ - ١٤، القصص:

٣٦ - ٣٧، الزخرف: ٤٦ - ٥٠، القمر: ٤١ - ٤٢، النازعات: ٢٠ - ٢١.

٤١٣

الائتمار بموسى (عليه السلام) لقتله وطغيان فرعون:

وأمام هذه الآيات المتتاليات التي جاء بها موسى، لم يجد فرعون وقومه أُسلوباً يعالج به الموقف، غير الائتمار بموسى لقتله وادّعاء القدرة على مواجهة آلهته، فنجد فرعون يأمر هامان بأن يتّخذ له صرحاً ليطّلع منه على أسباب السماوات ويتعرّف على حقيقة إله موسى.

ولكنّ فرعون يفشل في كلا الجانبين، فلم يتمكّن من أن يحقّق غايته من وراء بناء الصرح، كما لم تصل يده إلى موسى؛ لأنّ أحد المؤمنين من آل فرعون يقف فيعظهم ويؤنّبهم على موقفهم من موسى، ويبادر إلى إخباره بنبأ المؤامرة فينجو (١) .

خروج موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل من مصر:

وحين واجه موسى محاولة اغتياله ورأى إصرار فرعون وقومه على اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم، ووجد أنّه لم تنفع بهم الآيات والمواعظ، صمّم على الخروج ببني إسرائيل من مصر والعبور بهم إلى جهة الأرض المقدّسة، وقد نفّذ موسى هذه العملية وسار ببني إسرائيل متّجهاً إلى سيناء.

ولم يقف فرعون - وقومه معه - أمام هذه الهجرة مكتوف اليدين، بل جمع جنده من جميع المدائن وقرّر ملاحقة موسى وبني إسرائيل وإرجاعهم إلى عبوديّته بالقوّة.

ووجد موسى وبنو إسرائيل - نتيجة هذه المطاردة - أنفسهم : أنّ البحر من إمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، وارتاع بنو إسرائيل من الموقف وكادوا يكذبون ما وعدهم به موسى من الخلاص، ولكنّ موسى بإيمانه الوطيد أخبرهم أنّ الله سبحانه سوف يهديه طريق النجاة، وتحقّق ذلك إذ أوحى الله :

( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (٢) ، ويظهر بينهما طريق

________________________

(١) القصص: ٣٨، غافر: ٢٨ - ٤٦.

(٢) الشعراء: ٦٣.

٤١٤

يبس يعبر من خلاله بنو إسرائيل ويحاول فرعون وجنوده أنّ يتبعوهم من هذا الطريق أيضاً، وإذا بجانبي البحر يلتقيان فيغرق مع جنده (١) .

موسى مع بني إسرائيل:

وتتوالى بعد ذلك الأحداث على موسى وإذا به يواجه المشاكل الداخلية منفرداً مع قومه بني إسرائيل، فيسمع طلبهم وهم يمرّون على قومٍ يعبدون الأصنام بأن يتّخذ لهم أصناماً يعبدونها كما أنّ لهؤلاء أصناماً، ثمّ بعد ذلك يتفضّل الله سحبانه على بني إسرائيل عندما استسقوا موسى، فيأمره بضرب الحجر فتتفجّر منه العيون كما ينزل علهيم المنّ والسلوى، ويبدلهم عنه ببعض المآكل الأُخرى، ويواجه موسى ردّة من بني إسرائيل عند ذهابه لميقات ربّه لتلقّي الشريعة في ألواح التوراة، فيخبره الله تعالى بعادتهم للعجل الذي صنعه السامري، فيرجع ( إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ) ويعتب بقسوة على أخيه هارون، حيث كان قد استخلفه عليهم مدّة ذهابه، ويطرد السامري ويفرض عليه عقوبة المقاطعة، ويحرق العجل وينسفه، ثمّ يتوب الله على بني إسرائيل بعد أن فرض عليهم عقاباً صارماً.

وعلى هذا المنوال يذكر لنا القرآن الكريم أحداثاً مختلفة عن حياة موسى مع بني إسرائيل، كقضيّة البقرة ونتق الجبل والدعوة للدخول إلى الأرض المقدسة وذهابهم للمواعدة عندما طلبوا رؤية الله جهرة، وقصّة قارون وتآمره مع المنافقين على موسى، وفي بعض هذه الأحداث لا نجد القرآن الكريم يحدّد المتقدّم منها على الأحداث الأُخرى بشكلٍ واضح.

________________________

(١) الأعراف: ١٣٦ - ١٣٧، يونس: ٩٠ - ٩٢، الإسراء: ١٠٣ - ١٠٤، طه: ٧٧ - ٧٩، الشعراء: ٥٢ - ٦٦، القصص: ٣٩ - ٤٠، الزخرف: ٥٥ - ٥٦، الدخان: ١٧ - ٣١، الذاريات: ٣٨ - ٤٠.

٤١٥

وبهذا القدْر نكتفي من سرد القصّة حسب تسلسلها الزمني (١) .

٣ - دراسة عامّة مختصرة لقصّة موسى (عليه السلام):

بعد أن انتهينا من بحث قصّة موسى بحسب ذكرها في القرآن الكريم وعرضها بتسلسلها التأريخي، يجدر بنا أن ندرسها من جانبين يختلفان عن جانب دراستنا السابقة للقصّة:

الجانب الأوّل:

هو ملاحظة ميزات وخصائص المراحل العامّة التي مرّ بها موسى في حياته.

الجانب الثاني:

هو ملاحظة الموضوعات التي تحدّثت عنها القصّة بشكلٍ عام.

الأوّل: مراحل حياة موسى (عليه السلام):

وبصدد الجانب الأوّل نجد موسى (عليه السلام) قد مرّ بمراحل ثلاث رئيسة خلال حياته؛ حيث تبدأ المرحلة الأُولى بولادته وتنتهي ببعثته إلى فرعون وقومه، وتبدأ الثانية من البعثة وتنتهي بالعبور، وتبدأ الثالثة بالخروج وتنتهي بنهاية حياته.

ويعتمد هذا التحديد في المراحل الثلاث على المقدار الذي تحدّث القرآن الكريم فيه عن حياة موسى (عليه السلام).

وتتمثّل المرحلة الأُولى من حياة موسى في دورين:

الأوّل:

ينتهي بخروجه من مصر خائفاً.

الثاني:

هو الذي ينتهي برؤيته النار عند بعثته.

وحين نلاحظ الظواهر العامّة في هذين الدورين يبرز لنا موسى في شخصيّته

________________________

(١) تراجع (قصص الأنبياء) لعبد الوهاب النجّار بصدد الأحداث التي وقعت لموسى مع قومه بني إسرائيل، وإن كنّا قد لا نتّفق معه في بعض الخصوصيّات التي يسردها.

٤١٦

ذلك الإنسان الذي يريد الله سبحاه أن يعدّه لأعباء مهمّة تخليص بني إسرائيل من الظلم الاجتماعي الذي حاق بهم، وتخليص شعب مصر من عبوديّة الأوثان وهدايتهم لوحدانيّة الله سبحانه.

وتتلخّص هذه الظواهر بميزات ثلاث لها دور كبير في شخصيّة الإنسان القائد، وهي كالتالي:

الأُولى:

المركز الاجتماعي الذي كان يتمتّع به موسى - دون بني إسرائيل - نتيجةً لتبنّي العائلة المالكة في مصر تربيته ورعايته.

وهذا المركزالاجتماعي الفريد وإن كان قد فقد تأثيره - إلى حدٍ كبير - بعد هروب موسى من مصر بسبب قتله الفرعوني، ولكنّنا يمكن أن نتصوّره عاملاً مهمّاً في إظهار موسى - في المجتمع بشكلٍ عام، والإسرائيلي بشكلٍ خاص - شخصيةً تتبنّى قضيّة الدفاع عن بني إسرائيل وتعمل من أجلها.

ولعلّ ضياع هذا المركز الاجتماعي المهم بسبب قتل الفرعوني، هو الذي يفسِّر لنا نظرة موسى إلى قتل الفرعوني - نظرته - إلى ذنبٍ يستحقّ الاستغفار والتوبة منه إلى الله تعالى، حيث ضيّع موسى بهذا العمل الارتجالي - الذي صدر منه بدوافع نبيلة وصحيحة - فرصةً ثمينةً كان من الممكن استثمارها في سبيل استنقاذ الشعب الإسرائيلي، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ موسى كان يتّصف بالعلم والحكمة في هذه المرحلة كما وصفه القرآن الكريم.

الثانية:

الشعور الإنساني والحس النبيل الذي كان يحسّ به موسى بوصفه إنساناً يتحلّى بالأخلاق الكاملة.

ويتمثّل لنا هذا الخلق الإنساني في ثلاثة مواقف لموسى جاءت ضمن هذه المرحلة من حياته، وهي:

قتله الفرعوني، ومحاولته لضرب الفرعوني الآخر، وتبرّعه بمعاونة ابنتي الشيخ الذي أصبح صهراً له بعد ذلك، وما يُشعر به وصف ابنة الشيخ له بأنّه قويٌّ أمين.

٤١٧

فإنّ هذه المواقف تعبّر عن المحتوى الداخلي والشعور الإنساني الذي كان يعيشه موسى (عليه السلام)، فهو يبادر لنجدة المظلوم بالرغم من تربيته في البيت الفرعوني المالك، هذه التربية التي كان من الممكن أن تعطيه الشعور بالتميّز الطبقي الذي يختلف عن عمله الإنساني هذا، ثمّ لا يكتفي بأن يرتكب ذلك مصادفةً بل يندفع ليقوم بنفس العمل حين يجد من يستصرخه إليه مع شعوره بحراجة موقفه الاجتماعي نتيجةً لهذا العمل.

وفي موقفه من ابنتي الشيخ، نجد موسى تدفعه ذاته الخيّرة النبيلة للسؤال عن تلكئهما في السقاية، ويعرض المعاونة عليهما في حالة الحاجة إليها، ونجده يخفّ إلى تنفيذ ذلك دون أن ينتظر منهما أجراً أو مثوبةً ماديّة، على الرغم من ظروفه الموضوعيّة الخاصّة الصعبة.

الثالثة:

القوّة البدنيّة والشجاعة التي كان يتمتّع بها موسى، ويكشف لنا عن ذلك موقفه من الفرعوني وقضاؤه عليه بوكزةٍ واحدة، والالتزام الذي أخذه على نفسه بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين، حتّى بعد قتله الفرعوني الأوّل وشعوره بحراجة موقفه، ووصف ابنة الشيخ له بأنّه (قوي)، خصوصاً إذا أخذنا بالتفسير الذي يقول: إنّ موسى حين سقى لابنتي الشيخ طرد السقاة عن البئر من أجل أن يعجّل بالسقاية لهما.

وهذه الميزات الثلاث تحقّق شروطاً ضروريةً لحمل أعباء الرسالة التي أراد الله سبحانه لنبيّه موسى القيام بها، ولعلّ في الإمداد الإلهي في قصّة مولده ونجاته من الذبح عاملاً جديداً في خلق الأجواء النفسيّة والاجتماعية والروحية، والظروف المناسبة لتأهيل هذا الإنسان لقيادة شعبه المضطهد.

وتمثّل المرحلة الثانية مسؤوليتين:

إحداهما: هداية قوم فرعون إلى وحدانيّة الله والإيمان بربوبيّته.

٤١٨

والأُخرى: دعوة بني إسرائيل للخلاص من الاضطهاد والظلم الذي كانوا يعانونه في مصر.

وقد توسّل موسى من أجل تحقيق هذين الهدفين البارزين في حياة دعوته بأساليب مختلفة ومتعددة، كانت تبتدئ بالمناقشة الهادئة والكلام الليّن والحجّة التي تعتمد على المنطق والعقل، وتنتهي بالعذاب والرجز الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليهم في آيات عديدة.

كما أنّه من جانبٍ آخر، كان يدعو بني إسرائيل إلى الاستعانة بالله، والصبر على المكاره ومواصلة الطريق من أجل الخلاص.

والقرآن الكريم وإن كان لا يتحدّث عن المدّة التي عاشها موسى من أجل تحقيق ذلك، ولكن من الممكن أن نتبيّن أنّ هذه المدّة كانت طويلةً نسبيّاً، خصوصاً إذا لاحظنا الآيات القرآنية التي تُشير إلى المعجزات التي جاءت على يد موسى، وأنّها كانت في سنين متعددة.

كما يؤيّد ذلك - أيضاً - أمر الله سبحانه لموسى بأن يتّخذ بيوتاً مع قومه ويجعلها قبلة تنطلق منها الدعوة.

ويبدو أنّ موسى لم يصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بصدد تحقيق الهدف الأوّل مع فرعون وقومه، لذا قرّر الهجرة ببني إسرائيل، والعبور بهم إلى الجانب الآخر من البحر.

ولا يُشير القرآن بشكلٍ قاطعٍ إلى أنّ هذه الحركة في بدايتها كانت برضا فرعون، بعد أن شاهد هذه المعجزات وآيات العذاب، أو أنّها كانت بدون رضاه، ولكن قد يكون في قصّة مطاردة فرعون بجنوده لموسى وبني إسرائيل، دلالة على أنّ الحركة كانت رغماً على فرعون وبدون رضاه.

ونحن يمكن أن نلاحظ في هذه المرحلة أُموراً ثلاثة:

٤١٩

الأوّل:

إنّ بني إسرائيل كانوا يلتفّون حول موسى دون أن يكون هناك خلاف في صفوفهم، أو دون أن يبرز هذا الخلاف إلى السطح الاجتماعي، والقرآن وإن كان لا يصرّح بشيءٍ من ذلك، ولكن تدعونا إلى هذا الحكم طبيعة الأشياء، حيث كان الإسرائيليّون بالأصل أهل كتاب ونبوّات، كما أنّهم كانوا يتعرّضون لأشدّ ألوان العذاب، وبذلك هم ينشدون الخلاص.

إضافةً إلى سكوت القرآن عن إبراز أي خلاف بين بني إسرائيل وبين موسى في هذه المرحلة، واستجابة بني إسرائيل إلى متابعة موسى في هذه الهجرة من مصر.

نعم يُشير القرآن إلى نقطتين قد يُفهم الخلاف منهما؛ هما: قلّة الأشخاص الذين آمنوا بموسى من قومه، واعتراضهم عليه بنزول الأذى، فيهم قبل موسى وبعده.

الثاني:

إنّ موسى كان يعمل بوسائل شتّى من أجل إنجاح دعوته، فكان يتوصّل إلى ذلك بالمناقشات الهادئة مرّةً، وبالمعاجز والآيات ذات الطابع الانتقامي الشديد ثانية، وبالصبر والصمود والانتظار ثالثة.

وقد توصّل نتيجةً لذلك إلى تحقيق بعض أهدافه، حيث نجد الدعوة تحقّق نجاحاً في صفوف بعض الفرعونيّين - أيضاً - كإيمان السحرة له ووجود ظاهرة مؤمن آل فرعون وإيمان زوجة فرعون.

الثالث:

إنّ موسى كان يعتمد للحماية من الغضب والانتقام الفرعوني على جهاتٍ متعدّدةٍ يمكن أن نلحظ منها التفاف بني إسرائيل حوله وهم يمثّلون أُمّةً كبيرةً من الناس وإن كانت مضطَهدة، ومركزه الاجتماعي السابق في البيت الفرعوني المتميّز، واستجابة بعض الفرعونيّين لدعوته وخصوصاً زوجة فرعون؛ ولعلّ موقف مؤمن آل فرعون من الائتمار بموسى لقتله يُشير إلى العنصر الأخير من الحماية؛ وكذلك قبول فرعون بالدخول معه في مناقشة ومباراة تمثّل العنصر الثاني، إضافةً إلى قضيّة الآيات والمعاجز وإيمان السحرة به.

٤٢٠

وتمثل المرحلة الثالثة:

جانب استقلال الجماعة والحكم وما يستتبعه من مضاعفات وخلافات؛ ذلك لأنّ الدعوة في مرحلتها الأُولى تعمل من أجل تحقيق أهداف عامّة، وترفع شعارات معيّنة، وفي هذه الأهداف والشعارات قد تلتقي آمال الشعب كلّه وتتجمّع تدريجاً، وأمّا حين يأتي دور تحديد هذه الأهداف في صيغ معيّنة وطريقة خاصّة، وتطبيق هذه الشعارات في نهج وأُسلوب خاص وتجسيدها عمليّاً فقد نجد بعض الأعضاء في المجموعة لا يلتقي مع هذا التحديد والتطبيق في مصالحه الخاصّة أو أفكاره وعقليّته الاجتماعية، بل قد تتعارض المصالح الخاصّة أو المنافع التي يحصل عليها الإنسان في مسيرة عمله أو المواقع التي ينتهي إليها مع هذه الأهداف والشعارات، حيث إنّ الأهداف والشعارات الإلهيّة الرساليّة تنطلق من المبادئ ومتبنّيات الفطرة الإنسانية التي أودعها الله تعالى في الإنسان وهي في البداية لا تبدو أنّها متناقضة مع رغبات الإنسان وميوله، بل هي محبوبة وحسنة في نظر الإنسان خصوصاً المظلومين من الناس.

وأمّا في دور التطبيق والتجسيد حيث تتحوّل هذه المبادئ إلى واقع خارجي وحدود وقيود لهذه الحركة أو ذلك الموقف أو لتلك المصلحة، فعندئذٍ تتناقض مع الهوى والشهوات والطموحات الذاتية للإنسان.

ولذلك نجد في هذه المرحلة بوادر الخلاف تبدو في الشعب الإسرائيلي، وتطفو على السطح اتجاهات شتّى: فكريّة ومصلحيّة ونفسيّة و... حتّى أنّها تتحوّل أحياناً إلى المروق عن الدين أو إلى التمرّد على الجماعة والنظام.

ففي جانب الفكر والعقيدة - مثلاً - نجد تأثيرات المجتمع الوثني على الإسرائيليّين تظهر بشكلٍ واضح، حيث يطلبون من موسى - عندما مرّوا على جماعةٍ يعبدون الأوثان - أن يتّخد لهم أصناماً وآلهةً كما لهؤلاء القوم آلهة، مع أنّ الإسرائيليّين بالأصل هم ذريّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين حملوا رسالة التوحيد ورفضوا

٤٢١

الوثنيّة والأصنام؛ كما تبرز هذه الرواسب والمخلّفات مرّةً أُخرى عندما اتّخذوا العجل إلهاً لمجرّد أنّهم رأوا فيه ظاهرةً غير طبيعية، وفي موقفهم في الميقات عند الاستغفار - أيضاً - حينما طلبوا أن يروا الله جهرة.

وفي جانب المصالح نجد موقف قارون وجماعته وإيذاءهم موسى وتمرّدهم على أوامره وغير ذلك من الإشارات القرآنية التي تُشير إلى عوامل النفاق والمعارضة.

وفي جانب الواقع الروحي والنفسي تُشير قصّة الدخول إلى الأرض المقدّسة وغيرها من الإشارات القرآنية إلى رواسب الضعف والاستخذاء والخوف.

فالميزة الرئيسة لهذه المرحلة هي: ظهور هذه الخلافات المتعدّدة ومعاناة النبي موسى منها على اختلاف اتجاهاتها ودوافعها، وهذه الظواهر هي من مستلزمات المجتمع الذي تتحكّم فيه عقيدة جديدة ونظام جديد.

ونجد موسى في كلّ هذه الخلافات مثال القائد الحكيم، والنبي العطوف الذي يأخذ قومه بالشدّة في مروقهم عن الدين كما في قضيّة العجل، وباللين في جوانب أُخرى؛ فيدعو الله سبحانه لهم بالرحمة والمغفرة كما في قضيّة الميقات.

الثاني: موضوعات القصّة:

وبصدد الجانب الثاني من دراسة القصّة: نجد القصّة تحدّثت عن ستّة موضوعات رئيسة، وهي كالتالي:

1 - بعثة موسى ومعاجزه.

2 - أساليب الدعوة وأدلّتها.

3 - مواجهة الكافرين له من فرعون واتباعه.

4 - التحريفيّة في العبادة.

5 - الحياة الشخصيّة لموسى.

٤٢٢

6 - الأوضاع العامّة للشعب الإسرائيلي.

وقد جاءت هذه الموضوعات الرئيسة المتعدّدة في مواضع من القرآن مختلفة ومتفرّقة، ويجدر بنا أن نُشير إلى الأهداف العامّة التي توخّاها القرآن الكريم من وراء الإشارة أو تأكيد هذه الموضوعات مع بيان المهم منها..

1 - بعثة موسى ومعاجزه:

لا شكّ أنّ من الأهداف الرئيسة التي تواخّاها القرآن الكريم هو ربط الإنسان بعالم الغيب، وتأكيد إيمانه وتوجيه فطرته الأصيلة التي فطره الله تعالى على الإيمان به وجهةً صحيحة؛ لأنّ الإنسان بدأ من الغيب وينتهي بعالم الآخرة الذي هو غيب ويبقى مرتبطاً ومتفاعلاً من الناحية الواقعية مع الغيب في كلّ أدوار حياته وشؤونها.

ومن أجل هذا الهدف الرئيس نجد القرآن يتحدّث في مواضع كثيرة عن عالم الغيب وجوانبه المتعدّدة وبعض القوانين العامّة التي تتحكّم فيه، والعلاقات التي تسوده، إضافةً إلى طرحه مفاهيم معيّنة عن هذا العالم قد لا يكون لها أثرٌ كبير في حياته الدنيويّة غير هذا الربط الذي يهدف إليه القرآن الكريم، كما عرفنا ذلك في طرح مفاهيم اللوح والقلم والكرسي والعرش عندما تناولنا تفسير المعنى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نرى أنّ هذا الهدف مما استهدفه القرآن من قصّة موسى.

ولعلّ في هذا ما يُبرّر الاهتمام القرآني في تكرار هذا الموضوع وإعطاء تفصيلاتٍ كثيرة عنه في القصّة، وإذا أردنا أن نقارن بين الآيات التي جاءت تتحدّث عن هذا الموضوع، والآيات التي تحدّثت عن بقيّة الموضوعات الأُخرى في القصّة لوجدنا هذا الموضوع يكاد يطغى على بقيّة الموضوعات، من حيث ما ذكر فيه من تفصيلات.

فقد وجدنا أنّ هذا الموضوع يُشار إليه في مواطن عديدة منها: كيفيّة البعثة.

٤٢٣

وفي معجزة العصا واليد، وفي توالي الآيات على الفرعونيّين من الدم والجراد والقمل والطوفان ونقص السنين، وفي انفلاق البحر لبني إسرائيل، وفي موت الأشخاص الذين اختارهم موسى لميقات ربّه ثمّ بعثهم، وفي قضيّة قارون وخسف الأرض به، وفي نتق الجبل وغيرها من الآيات الأُخرى، وتكاد قصّة موسى تستوعب هذه الأُمور أكثر من غيرها.

وإضافةً إلى هذا الهدف القرآني العام لاحظنا في دراستنا السابقة أهدافاً ثانويّة فرضها السياق القرآني، وكان من أهمّها:

إيضاح فكرة أنّ صدود الكافرين عن الدعوة وعدم انخراطهم فيها لم يكن نتيجة سبب موضوعي مرتبط بالدعوة نفسها أو شخصيّة النبي، وإنّما يكون بسبب الظروف النفسيّة والاجتماعية التي يعيشها الكافرون أنفسهم، حيث تتحوّل المواقف السلبية اليوميّة من خلال الصراع، أو العادات والتقاليد الموروثة، أو الانحرافات الجزئيّة، إلى حالةٍ نفسيّةٍ تغلّف القلب والعقل، وتختم عليه فيصبح الجحود هو الموقف العام دون أن يستخدم الإنسان عقله أو فطرته.

وبذلك يكون إيضاح هذا القانون الاجتماعي له تأثير كبير على فهم المواجهة بين المسلمين والكافرين أيام النبي محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وما بعدها.

كما أنّ الإشارة إلى تفاصيل الآيات بشكلٍ خاصٍّ في عصر موسى وغيره يبيّن بوضوح المبرّر لعدم مجيء الآيات في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، حيث يصبح من الواضح أنّ الأنبياء السابقين بالرّغم من أنّهم جاؤوا بالآيات ولكنّهم لم يتمكّنوا من خلالها أن يكسروا هذا الحاجز النفسي والقلبي، وأنّ هذه الآيات إنّما جاءت للعذاب والانتقام.

2 - أساليب الدعوة وأدلّتها:

لا شكّ أنّ العقيدة في الدعوة الإلهيّة تمثّل جانبين:

٤٢٤

الجانب الإلهي فيها وهو الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته، وهذا جانب يمكن أن يعتمد في معرفته على العقل والدليل والبرهان.

والجانب الآخر الذي يعبّر عن ارتباط الداعية (الرسول) بالله سبحانه وصدوره عن أمره تعالى، وهذا الجانب قد لا يمكن إثباته مبدئيّاً إلاّ عن طريق المعجزة (1) .

فالمعجزة تعبير عن الاستجابة إلى الحاجة في هذا الجانب من الدعوة - كما شرحنا ذلك في بحث المعجزة - بخلاف الجانب الأوّل الذي يمكن فيه الاعتماد على أُسلوب الأدلّة والبراهين المنطقيّة والوجدانية.

وعلى هذا الأساس - أيضاً - لم يترك الأنبياء هذه الأدلّة المنطقيّة والوجدانية في مخاطبتهم للناس بالدعوة إلى الله وتوحيد الإله، ولم يكتفوا بالإتيان بالمعجزات على أساس أنّها الدليل الوحيد لإثبات ذلك وإن كنّا لا ننكر ما للمعجزة من تأثيرٍ كبيرٍ في الجانب الأوّل من العقيدة أيضاً.

وفي قصّة موسى نجد في الموضوعات التي تحدّثت عنها القصّة هذه الأساليب والأدلّة وأكّدتها في مواضع عديدة، حيث تناولت بعض الأدلّة والبراهين التي اعتمدها موسى في مخاطبة فرعون إضافةً إلى المعجزات.

بل نجد أنّ هذه المخاطبة (مخاطبة العقل والوجدان) جاءت قبل أن يستند موسى إلى دليلٍ آخر من الآيات والمعجزات؛ لأنّ التسلسل المنطقي للتفكير والانفعال كان يفرض ذلك، فإنّ النبي يخاطب العقل والوجدان في بداية الأمر، ثمّ يعمل بعد ذلك على كسر الحواجز النفسيّة والروحيّة التي تمنع العقل والوجدان من الإدراك والفهم.

________________________

(1) قد يكون إخبار النبيّ وهو إنسان عاقل وموثوق، وعلى مستوىً عالٍ من الكمال كافياً في تصديقه والإيمان به، ولكنّ هذا الأمر لا يمكن أن يكون عامّاً؛ لأنّه قد يكون في موضع الاتّهام ولذا احتاج الأنبياء إلى المعجزة.

٤٢٥

كما نجد موسى في هذه المخاطبة يتبع الأساليب المختلفة التي كانت تتّصف باللين والرفق تنفيذاً لأمر ربه، فكان يتوسّل إلى فرعون أحياناً، ويذكّره بآيات الله أحياناً أُخرى، كما قد يُشير إلى عذاب الآخرة وعاقبة الإصرار على الكفر والطغيان، كلّ ذلك من أجل أن يحقّق النبيُّ غاياته التي يرمي إليها وهي هداية الناس إلى الله سبحانه.

ويهدف القرآن الكريم من تناول هذا الموضوع في القصّة وغيرها إلى هدفٍ من أهدافه الرئيسة وهو: تأكيد أنّ مسألة الإيمان بالله سبحانه ليست مسألةً غريبةً في حياة الإنسان، غرابة المعاجز والآيات، وإنّما هي شيءٌ فطريٌّ ينبع من ذات الإنسان ويهديه إليها عقله وحسه ووجدانه، ولذلك اعتمد الأنبياء مخاطبة الناس عن هذا الطريق قبل أن يخاطبوهم عن طريق المعجزة والآية.

كما أنّه يهدف - أيضاً - إلى أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) حين يدعو الناس إلى الله لا يكتفي بطرح الفكرة فحسب، ويطلب منهم الإيمان المقلّد الساذج نتيجةً لوجود المعجزة، وإنّما يحاول أن يصل إليهم ويتوسّل إلى إيمانهم عن طريق الدليل والبرهان العقلي والمخاطبة الوجدانية.

وإضافةً إلى الأدلّة والبراهين، نجد في القصّة إشارات إلى عدّة قضايا مهمّة ترتبط بالدعوة ونجاحها:

الأُولى:

قضيّة الصبر والصمود، والأمل بالمستقبل والثقة بالله والتوكّل عليه.

الثانية:

قضيّة الطاعة للقيادة والنظم في العمل.

الثالثة:

الاطّلاع على موقف الأعداء وحركتهم، كما يظهر ذلك في قضيّة مؤمن آل فرعون ومجيء الرجل من أقصى المدينة.

3 - مواجهة الكافرين والمنافقين:

يعطينا القرآن الكريم صوراً وألواناً من المواجهة التي تحصل بين النبي وجماعته

٤٢٦

من جانب، والكافرين بدعوته أو أُولئك المنافقين المتظاهرين بقبولها، ولكنّهم يعادونها في مواقفهم وأعمالهم من جانبٍ آخر.

وتتّخذ هذه المواجهة صوراً وألواناً مختلفة متفاوتة على اختلاف مدى نجاح النبي في الدعوة، وسعة أهدافه، ومقدار معارضته للمفاهيم الاجتماعية السائدة.

وتكاد تكون هذه المواجهة شيئاً طبيعيّاً نتيجة الصراع الذي يدور بين الفكرة الجديدة وأنصارها والفكرة السائدة في المجتمع وحماتها.

والقرآن الكريم حين يعرض هذا الموضوع في قصّة موسى يريد أن يؤكّد هذا المفهوم الاجتماعي والسنّة التأريخية في الصراع، وأنّ هذه المعارضة التي حصلت للنبي (صلّى الله عليه وآله) ليست بدعاً في التأريخ، وإنّما هي النتيجة الطبيعية للصراع الفكري والسياسي؛ كما أنّنا نجد في هذا العَرْض للموضوع في القصّة إيضاحاً للأعباء التي يتحمّلها النبيُّ في سبيل الدعوة، وأنّها ليست أعباءً عاديّةً يتمكّن أيُّ إنسانٍ من أن يتحمّلها، وإنّما هي تحتاج إلى إرادةٍ قويّةٍ وعزمٍ شديد وتصميم عميق الجذور على السير في خط الدعوة، حتّى في أشدّ الظروف الموضوعيّة قسوة وأبعدها ملائمة، ويتعرّض فيها الرسول إلى ألوان من العذاب النفسي والجسدي، والأخطار التي ترتبط بحياته وسمعته وشخصيّته، بل قد ينتهي الأمر بأن يتعرّض النبيُّ إلى القتل والاغتيال نتيجةً لذلك.

وهذه الآلام قد تكون بسبب الموقف الخارجي للأعداء الظاهرين العلنيين، وقد تكون من مرضى القلوب والنفوس أو ضعفاء الإيمان والبسطاء والجهّال من الناس.

وحين يُشير القرآن إلى ألوان المواجهة وأساليبها في هذه القصّة نجد أنفسنا أمام الواقع الاجتماعي الذي كان يواجه به النبي (صلّى الله عليه وآله) في دعوته وأمام الأساليب

٤٢٧

والألوان نفسها، فكأنّ قصّة موسى (عليه السلام) إنّما هي تعبيرٌ عن مسيرة دعوة النبي وآلامه، ولعلّ هذا هو الذي يفسِّر لنا مجيء قصّة موسى بهذا القدْر من التفصيل في القرآن الكريم.

4 - الجانب التحريفي في العبادة:

من الموضوعات المهمّة التي تعرّضت لها القصّة هو: الجانب التحريفي في العبادة، فإنّ بني إسرائيل وغيرهم - كما يبدو من انقيادهم لموسى - آمنوا به وبدعوته، ولكنّ هذا الإيمان بالشعارات العامّة التي كان يرفعها موسى لا يعني أنّهم كانوا يعرفون محتواها الأصيل بأدق معانيه، الأمر الذي لو حصل كان من الممكن أن يصدّهم عن الانسياق وراء أفكارٍ وثنيّةٍ أُخرى؛ لذلك نجدهم وهم قد خلصوا من عذاب فرعون ومطاردته تطفو على أفكارهم ومشاعرهم الكثير من الرواسب الوثنيّة ذات المدلول المنحرف، هذه الرواسب التي كانوا قد تأثّروا بها في المجتمع الفرعوني الذي كانوا يعيشون فيه.

وهي حين تطفو على السطح لا يعني أنّهم كانوا قد تنازلوا عن شعاراتهم السابقة ومدلولاتها أو تخلّوا عن عقيدة التوحيد، وإنّما يعني ذلك أنّهم كانوا يفهمون مدلول الشعارات بالشكل الذي ينسجم مع هذا العمل المنحرف؛ فالعجل في نظرهم هو تجسيد للإله الذي دعا إليه موسى، والأصنام هي الوسائط المادّيّة للتعبير عن العبادة للإله الذي دعا إليه موسى... وهكذا.

ولعلّ القرآن الكريم يهدف في هذه الإشارة إلى ناحيتين:

الأُولى:

مناقشة أفكار الجاهليّين المعاصرين لنزول القرآن، حين كانوا يقولون في أصنامهم ويعلّلون عبادتهم لهم: بأنّهم اتخذوها واسطةً وزلفى إلى الله.

الثانية:

إنّ الإنسان حين يؤمن بالرسول ويحظى بصحبته ويستمع إليه لا يعني أنّه قد تجرّد دفعةً واحدةً عن جميع محتوياته الداخلية، وقضى على كلِّ الرواسب

٤٢٨

التي لا تلتقي في واقعها مع أصالة الرسالة والدعوة التي يدعو إليها الرسول، وإنّما غاية ما يدلّ عليه ذلك هو الإيمان بالمدلول الحرفي للشعار ممّا أشار إليه القرآن في بعض الموارد حين ميّز بين ادّعاء الإسلام والإيمان:

( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... ) (1) .

وهذه المظاهر من أخطر الظواهر التي واجهت الأديان الإلهيّة حيث تعرّضت للتحريف في العبادة والعلاقة مع الله تعالى مع الاحتفاظ بنفس المفاهيم والشعارات الأصليّة، ووجد المحرِّفون دائماً المسوغات والذرائع والعناوين التي يوجّهون فيها هذه الانحرافات.

ومن أجل ذلك تبنّى الإسلام مبدأ التوقيفيّة في العباد والتزم بأنّها منهجٌ معيّنٌ يضعه الله سبحانه للإنسان ليصوغ به غريزة التديّن وإحساسه بالدين، ويحدّد فيه شكل العلاقة بالله تعالى وصيغتها، ولا يصح للإنسان أن يتصرّف في هذا الأمر بحسب ميوله أو اجتهاده للتعبير عن هذه العلاقة؛ والسر في ذلك كلّه هو أنّ طبيعة هذه العلاقة بين الله تعالى والإنسان إنّما هي علاقة غيبيّة؛ لأنّ طرفها الآخر هو الله تعالى ولا يمكن للإنسان - وهو موجود مادّي - أن يدرك الطريق الذي يوصله للتقرّب إلى الله تعالى بنفسه، فلا بُدّ له من أجل تحقيق ذلك أن يشخّص الله تعالى هذا الطريق، فقد يكون ما يتصوّره الإنسان مقرِّباً إلى الله مبعداً عنه، كما جاء ذلك في بعض النصوص التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام).

5 - الحياة الشخصيّة لموسى:

لقد تناولت الموضوعات السابقة من قصّة موسى بعض التفاصيل عن الحياة والسيرة الشخصيّة لموسى خصوصاً الوقت الذي سبق بعثته (عليه السلام).

________________________

(1) الحجرات: 14.

٤٢٩

ولعلّ القرآن الكريم استهدف من وراء عرض هذا الموضوع في قصّة موسى هدفين:

الأوّل:

ما أشرنا إليه سابقاً في تحليلنا مقاطع القصّة من سورة القصص من أنّ هذه التفصيلات قد تدل على جانبٍ من إعجاز القرآن، حيث يدلّ الاطّلاع عليها على مدلولٍ يختلف عن مدلول الاطّلاع على أحوال موسى (الرسول)؛ لأنّ أحوال موسى (الرسول) كانت تتحرّك في المجتمع العام، وبذلك تكون معروفةً بشكلٍ طبيعيٍّ ويتناقلها التأريخ، على خلاف أحوال موسى (الرسول) قبل البعثة، خصوصاً إذا كانت هذه التفاصيل ممّا ينفرد به القرآن، الكريم عن الكتب السماوية الأُخرى.

الثاني:

ما أشرنا إليه في بحث مراحل الدعوة من أنّ هذا الجانب يبرز لنا موسى في صورة الإنسان الذي قد أعدّه الله تعالى للقيام بأعباء الرسالة، وأنّه يتمكّن بما يتمتّع به من خلق وعاطفة وجرأة ومكانة على تحمّل أعباء الدعوة.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك - أيضاً - أنّ من خلال تعرّف حياة موسى الشخصيّة سوف تتكشّف لنا بعض الأوضاع الاجتماعية السائدة حينذاك في المجتمع الفرعوني، ومستوى الظلم الذي كان يعاني منه الإسرائيليّون واستسلامهم لهذا الواقع المرير، وما أنعم الله به سبحانه على بني إسرائيل عامّةً وموسى بشكلٍ خاص.

6 - الأوضاع العامّة للشعب الإسرائيلي:

لقد تناول القرآن الكريم بعض الأوضاع والصفات العامّة للشعب الإسرائيلي، وأشرنا إلى بعضها عند دراستنا للمرحلة الثالثة من دعوة موسى، ويمكن أن نلخّص ما تكشف عنه هذه الأوضاع والصفات التي تناولها القرآن في: أنّ الشعب الإسرائيلي كان يتّصف بازدواجيّةٍ مريعة نتيجةً لمختلف الظروف التأريخية

٤٣٠

والاجتماعية التي مرّ بها، والتي تراكمت آثارها المتنوّعة والعميقة في سلوكه الاجتماعي ومحتواه النفسي والروحي.

وكانت تتمثّل هذه الازدواجية في الشعور بالعظمة والامتياز والقربى من الله بوحيٍ من تأريخه المجيد الذي عاشه آباؤه وأجداده، كتأريخ النبوّات والمقام الاجتماعي المتميّز الذي كان ليوسف (عليه السلام) وانقاذه للمجتمع من الكوارث الطبيعية، والتخطيط الاقتصادي الرائع الذي قام به، في الوقت الذي قاسى هذا الشعب حياةً طويلةً من الاضطهاد والاستعباد ورزح في ظلِّ مستلزماتها من جهلٍ وفقرٍ وانحطاطٍ خُلُقي ونفسي واجتماعي.

ولعلّ هذه الازدواجيّة هي التي تفسّر لنا تململ الإسرائيليين وعدم تحمّلهم لأعباء الرسالة وعمليّة الخلاص والإنقاذ من ناحية، وتمادي الإسرائيليّين في الطلبات وكثرة تمنيّاتهم على موسى وعدم استجابتهم للخط الذي رسمه لهم لإنقاذهم من ناحيةٍ أُخرى، على ما يتمتّع به موسى من مكانةٍ عظيمةٍ عندهم؛ لأنّه كان مخلّصهم ومنقذهم من الظلم الفرعوني.

وقد استهدف القرآن من وراء إعطاء هذه الصورة للشعب الإسرائيلي تسليط الأضواء على واقع اليهود الذين كانوا يعايشون المسلمين، وكان ينظر إليهم قبل ظهور الإسلام على أنّهم أهل الكتاب والمعرفة بالأديان وبكلّ ما يتّصل بعالم الغيب؛ وحيث تتكشّف هذه الصورة الواقعيّة لهذا الشعب (الازدواجية) وتتّضح معالمها فسوف يظهر للمسلمين مدى إمكان الاعتماد عليهم وعلى نظرتهم للأشياء، ويتّضح تفسير موقفهم من الرسالة والنبي (صلّى الله عليه وآله).

كما يمكن أن نلاحظ - أيضاً - مدى الأثر الذي تركته سنوات الاضطهاد والظلم على الأوضاع النفسيّة والروحيّة للإسرائيليّين، والشعور بالضعف والحذر، ومعاناة موسى (عليه السلام) في محاولة التغلّب على ذلك؛ حيث يظهر هذا الأمر بشكلٍ واضحٍ في

٤٣١

قضيّة دعوة موسى قومه للدخول إلى الأرض المقدّسة التي كانت هدفهم وأملهم، خصوصاً أنّ هذه الدعوة جاءت بعد الانتصارات العظيمة التي حقّقها لهم موسى، والاستقلال والعزّة والكرامة الإنسانية، ومع ذلك رفضوا هذه الدعوة بسبب الخوف.

ويبدو هذا الأمر واضحاً - بالمقارنة - مع دعوة النبي للمسلمين إلى قتال الروم في معركة (تبوك) حيث استجاب عامّة المسلمين لذلك باستثناء نفرٍ منهم، كانوا يشعرون بهذا اللون من الخوف والضعف.

٤٣٢

فواتح السور (1)

من الموضوعات القرآنية التي تناولها الباحثون هو: فواتح السور، ونعني بفواتح السور: هذه الحروف المقطّعة الموجودة في فاتحة بعض السور القرآنية؛ وتزداد أهميّة هذا الموضوع عندما نلاحظ ما أُثير حوله من مشاكل وشبهات، قد تؤدّي إلى الشبهة في القرآن الكريم نفسه.

وسوف يُعالج هذا البحث تفسير هذه الظاهرة في القرآن الكريم، ومن خلال ذلك نعرف الجواب الإجمالي على الشبهات التي أُثيرت حول هذا الموضوع، ونترك معالجة الشبهات حولها تفصيلاً إلى بحثٍ قرآنيٍّ آخر.

وقد جاءت هذه الحروف المقطّعة في سورٍ متعدّدةٍ من القرآن وعلى أشكال مختلفة:

منها ما هو ذو حرفٍ واحدٍ مثل:

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) و ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) و ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومنها ما هو ذو حرفين مثل:

( طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) و ( يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) و ( حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) .

ومنها ما هو ذو ثلاثة حروفٍ أو أكثر مثل:

( ألم ) و ( المص ) و ( المر... )

________________________

(1) يراجع في هذا البحث: التبيان 1: 47 - 51، والكشّاف 1: 21 - 25، والتفسير الكبير 2 : 802، وابن كثير 1: 64 - 69، والمنار 1: 122 - 123، ومناهل العرفان 1: 219 - 220، وتفسير القرآن لشلتوت 35: 64.

٤٣٣

و ( كهيعص ) و ( حم* عسق ) (1) ...

وحين نأتي لمعالجة هذه الظاهرة في القرآن الكريم لا نجد العرب قد عرفوا الأُسلوب عند افتتاح كلامهم، كما أنّنا لا نجد لهذه الحروف معنىً بإزائها غير مسمّياتها من الحروف الهجائيّة.

ولم يُؤثَر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) شيءٌ صحيحٌ في تفسير هذه الحروف، بل يكاد لا يُؤثَر عنه شيء في ذلك مطلقاً - إلاّ النزر القليل - ليكون هو القول الفصل فيها، ولعلّ هذا هو السبب في تعدّد آراء العلماء واختلاف وجهات النظر فيما بينهم بصدد تفسير هذه الحروف، الأمر الذي زاد من غموض هذه الظاهرة.

وهناك اتجاهان رئيسان في تفسير هذه الحروف:

الاتجاه الأوّل:

هو الذي يرى أنّ هذه الحروف من الأشياء التي استأثر الله سبحانه بعلمها، ولذا فليس من الممكن لأحدٍ أن يصل إلى معرفة المراد منها، ويؤيّد هذا الاتجاه ما رُوي عن عددٍ من الصحابة والتابعين من أنّ الفواتح سر القرآن، وأنّها سر الله فلا تطلبوه، وذهب إليه كثيرٌ من العلماء والمحقّقين، كما جاء ذلك - أيضاً - في بعض الروايات عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

والاتجاه الثاني:

هو الذي يرى أنّه ليس في القرآن الكريم شيء غير مفهوم لنا، أو غير معروف لدى العلماء والمحقّقين؛ وذلك انطلاقاً من حقيقة أنّ الله سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بصفاتٍ متعدّدةٍ لا تتّفق مع هذا الخفاء والاستتار، فهو جاء : ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (3) ، كما أنّه نزل :

( ... تِبْيَاناً لِّكُلِّ

________________________

(1) في السور الآتية على الترتيب: ص: 1، ق: 1، القلم: 1، طه: 1 - 2، يس: 1 - 2، الجاثية: 1 - 2، البقرة: 1، الأعراف: 1، الرعد: 1، مريم: 1، الشورى: 1 - 2.

(2) التبيان 1: 48، مجمع البيان 1: 32.

(3) الشعراء: 195.

٤٣٤

شَيْءٍ... ) (1) وهدى للناس وغير ذلك، وحين يكون القرآن بهذه الصفة لا يمكن إلاّ أن يكون مفهوماً للناس وواضحاً لهم.

وقد نُسب هذا الاتجاه إلى المتكلّمين من علماء الإسلام (2) .

وعلى أساس هذا الاتجاه نجد كثيراً من العلماء يحاولون تفسير هذه الحروف المقطّعة، الأمر الذي استلزم تعدّد مذاهبهم في ذلك؛ وقد ذكر الشيخ الطوسي مذاهب مختلفة في تفسير هذه الحروف، وعدّ منها الفخر الرازي واحداً وعشرين تفسيراً، وسوف نقتصر على ذكر المهم منها، إضافةً إلى أنّ بعضها يمكن إرجاعه إلى بعض الآخر.

مذاهب تفسير فواتح السور:

المذهب الأوّل:

ما نُسب إلى ابن عبّاس من أنّ هذه الحروف ترمز إلى بعض أسماء الله وصفاته وأفعاله، فقد رُوي عنه في ( ألم ) : (أناالله أعلم)، وفي ( المر ) : (أنا الله أعلم وأرى) (3) إلى غير ذلك.

ويؤيّده ما رُوي عن معاوية بن قرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أنّها حروف من أسماء الله (4) .

الثاني:

أنّها أسماء للقرآن الكريم: كالكتاب والفرقان والذكر، وإلى هذه المذهب صار جماعة من التابعين: كقتادة ومجاهد وابن جريج والكلبي والسدّي (5) .

ويُناقش هذان المذهبان بأنّهما لا يستندان إلى دليلٍ علمي أو قرينةٍ معتمدة.

________________________

(1) النحل: 89.

(2) التفسير الكبير 2: 3، وقد فصّلنا هذا الموضوع في بحث التفسير.

(3) المصدر السابق: 6.

(4) التبيان 1: 51.

(5) التفسير الكبير 2: 6، والتبيان 1: 47.

٤٣٥

وإنّما هما من الرجْم بالغيب، فلا مناسبات الظروف الموضوعيّة، ولا مناسبات الكلام اللُّغويّة هي التي تُشير إلى هذا المعنى، وحالهما حال كلّ تفسيرٍ أو فرضيّةٍ أُخرى يمكن أن تُذكر في هذا المجال، شريطة أن لا تتنافى مع بديهيّات العقيدة القرآنية.

الثالث:

إنّ هذه الحروف مقتطعة من أسماء لها دلالة معيّنة بحسب الواقع، وهي مجهولة لنا معلومة للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ويؤيّد ذلك أنّ هذه الطريقة كانت معروفةً لدى بعض العرب في مخاطباتهم وأحاديثهم؛ وقد رُوي ذلك عن ابن عبّاس وابن مسعود وجماعة من الصحابة (1) .

كما أنّ ما ذهب إليه الطبري ورُوي عن ابن أنس يكاد يتّفق مع هذا المذهب أيضاً، وهذا المذهب قريب إلى المذهب الأوّل الذي رُوي عن ابن عبّاس أيضاً.

ويمكن أن يُناقش هذا المذهب بنفس مناقشتنا للمذهبين السابقين.

الرابع:

إنّها أسماءٌ للسور التي جاءت فيها، فـ ( الم ) اسم لسورة البقرة و ( كهيعص ) اسم لسورة مريم و ( ن ) اسم لسورة القلم وهكذا...

وقد اختار هذا الرأي أكثر المتكلّمين وجماعةٌ من اللُّغويّين (2) واستحسنه الشيخ الطوسي كما رجّحه الطبرسي، ودافعا عنه بعد أن أوردا عليه بعض الشبهات (3) كما اختاره - أيضاً - الشيخ محمد عبده (4) .

وتحمّس الفخر الرازي في تأييده وأطنب في بيان الشبهات التي أوردوها عليه

________________________

(1) التبيان 1: 47 - 48.

(2) التفسير الكبير 2: 5.

(3) التبيان 1: 49.

(4) المنار 1: 122.

٤٣٦

ونقضها (1) .

وأهم ما أورد عليه الشبهتان التاليتان:

الشبهة الأُولى:

إنّ الاسم إنّما يوضع للتمييز بين المسمّيات، وهذا لا يتّفق مع تسمية عدّة سِوَر باسمٍ واحدٍ، كما حدث في البقرة وآل عمران، فأنّه وردفي أوّلهما ( الم ) وحدث في السجدة وغافر وفصّلت فأنّه أوّلها ( حم ) .

الشبهة الثانية:

إنّ الاسم لا بُدّ أن يكون غير المسمّى في الوقت الذي قام الإجماع على أنّ هذه الحروف جزءٌ من السور التي جاءت فيها.

وقد أجاب الشيخ الطوسي عن الشبهة الأُولى: بأنّه لا مانع من تسمية عدّة أشياء باسمٍ واحدٍ مع التمييز بينهما بعلامةٍ مميّزة، وقد وقع هذا في الأعلام الشخصيّة كثيراً.

كما أجاب عن الشبهة الثانية: بأنّه لا مانع من تسمية الشيء ببعض ما فيه، كما حدث في تسمية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من السور.

ولكن مع كلّ هذا - قد يُلاحظ على هذا الرأي - :

إنّ الحروف تُقرأ مقطّعةً بذكر أسمائها (ألف - لام - ميم) لا مسمّياتها، وهذا لا يناسب أن تكون أسماءً للسور، وإلاّ لكانت قراءتها بمسمّياتها كما هي مكتوبة، وهذه الكيفيّة من القراءة تناسب أن تكون الحروف مقصودة في نفسها بالذكر لا أنّها أسماء لأشياء أُخرى، وقد أشار الزمخشري (2) إلى هذه الملاحظة ولكن بصياغةٍ أُخرى ثمّ ردّها.

فقد قال الزمخشري:

فإن قلت فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها؟

________________________

(1) التفسير الكبير 2: 8 - 11.

(2) الكشّاف 1: 28.

٤٣٧

قلتُ: لأنّ الكَلِم لمّا كانت مركبةً من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تُهجّيت، ومتى قيل للكاتب اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء، وتقع في الكتابة الحروف أنفسها عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح (1) .

وهذا الردُّ الذي ذكره الزمخشري يؤكّد ملاحظتنا - بصيغتها الصحيحة - في أنّ هذه الكيفيّة من النطق تعني: أنّ الحروف هي المقصودة بذاتها، لا أنّ المقصود الإشارة إلى السورة المسمّاة بهذه الحروف، وإلاّ لنُطقت الحروف بنفسها لا بأسمائها، ولذا نرى صحّة هذه الملاحظة بهذه الصيغة.

الخامس:

إنّ هذه الحروف إنّما جيء بها ليُفتتح بها القرآن الكريم، وليُعلم بها ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها، وقد اختار هذا الرأي البلخي ورُوي عن مجاهد أيضاً، وذكر له الشيخ الطوسي بعض الأمثلة من استعمالات العرب (2) ، ويؤيّده قول أحمد بن يحيى بن ثعلب: إنّ العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيءٍ غير الكلام الذي يريدون استئنافه فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأوّل واستئناف الكلام الجديد (3) .

وقد يُلاحظ على هذا الرأي بعدم شمول هذه الطريقة لجميع سور القرآن الكريم، ويبقى الاختصاص حينئذٍ سرّاً نحتاج إلى إيضاحه والكشف عنه.

نعم قد يُقال: إنّ هذه الطريقة إنّما كانت الحاجة إليها موجودة في السور الطوال التي كانت تنزل تدريجيّاً وليس في جميع سور القرآن الكريم، حيث كان بعضها ينزل دفعةً واحدةً، كما في السور القصار.

ولكنّ الملاحظة الأساسيّة الأُخرى على هذا الرأي هي أنّ البسملة يمكن أن

________________________

(1) الكشّاف 1: 28.

(2) التبيان 1: 47.

(3) التفسير الكبير 2: 7.

٤٣٨

تقوم بهذا الدور في تمييز الانتهاء من السورة والشروع بالسورة الأُخرى، حيث وردت الأحاديث التي تؤكّد أنّ البسملة كان لها دور تمييز انقضاء السورة من ابتدائها (1) .

السادس:

إنّها أسماء للحروف الهجائيّة المعروفة، وإنّما جيء بها تنبيهاً للناس على أنّ القرآن الكريم الذي عجزوا عن مباراته والإتيان بمثله، ليس إلاّ مؤلَّفاً من هذه الحروف ومركّباً منها، فلم يكن التحدّي به لأنّه يحتوي على مادّةٍ غريبةٍ عنهم وإنّما كان بشيءٍ مركّبٍ من هذه الحروف التي يتكلّمون ويتحادثون بها، وقد عجز عن الإتيان بمثله أهل الفصاحة والبلاغة؛ وقد ذهب المبرّد وجمعٌ كبيرٌ من المحقّقين إلى هذا المذهب (2) .

وقد يُناقش هذا المذهب بأنّ مجرّد ذكر الحروف في أوّل السورة بهذا الشكل المتقطّع لا يكفي في إيضاح هذه الحقيقة، وقد لا يشعر الناس بذلك فلا يحقّق حينئذ القرآن هدفه من ذكرها، إلاّ إذا كانت القرائن الخارجيّة والحاليّة التي تحيط الكلام لها دور في الإفهام وتحقيق هذا الهدف، وهذا ما لا يمكن أن نعرفه من نفس هذه الحروف.

وقد كان من الممكن أن يصل القرآن إلى ذلك عن طريق إيضاح الفكرة ببيان قضيّةٍ عامّةٍ تستوعب هذا المضمون وتشرحه؛ فالفكرة التي يتبنّاها هذا المذهب

________________________

(1) الدرُّ المنثور 1: 7، أخرج أبو داود والبزّار والطبراني والحاكم وصحّحه البيهقي في المعرفة عن ابن عبّاس؛ قال: كان النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يعرف فصل السورة (يعني خاتمتها) حتّى تنزّل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وزاد البزّار والطبراني فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد خُتمت واستُقبلت أو ابتدأت سورة أُخرى، إضافةً إلى أحاديث أُخرى لها مثل هذه الدلالة.

(2) ن، م 2: 6.

٤٣٩

وإن كانت صحيحة ولكنّها تحتاج إلى إبراز القرائن الحاليّة التي كانت تؤدّي دور الإفهام، كما سوف نُشير إلى ذلك.

السابع:

إنّ هذه الحروف إنّما جاءت في أوّل السور؛ ليفتح القرآن أسماع المشركين الذين تواصوا بعدم الإنصات إليه؛ كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى - على لسانهم - : ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (1) فكانت هذه الحروف - بطريقة عرضها وغموضها - سبباً للفت أنظار المشركين إلى استماع القرآن الكريم رجاء أن يتّضح لهم منه هذا الغموض والإبهام عند استماعهم له.

ويزداد هذا المذهب وضوحاً إذا لاحظنا الحالة النفسيّة التي كان يعيشها المشركون آنذاك، حيث ينظرون إلى القرآن الكريم على أنّه صورة المعجزة المدّعاة وأنّه ذو صلةٍ بالغيب وعوالمه العجيبة، فهم ينتظرون في كلِّ لحظةٍ أن تحدث ظاهرة غريبة تفسّر لهم الموقف وتأتيهم بالأُمور العجيبة.

الثامن:

إنّها حروف من حساب الجمل؛ لأنّ طريقة الحساب الأبجدي المعروفة الآن كانت متداولةً بين أهل الكتاب آنذاك، فهذه الحروف تُعبّر عن آجال أقوامٍ معيّنين.

ومن هنا نجد - كما رُوي عن ابن عبّاس - أبا ياسر ابن أخطب اليهودي يحاول أن يتعرّف على أجل الأُمّة الإسلامية وعمرها من خلال هذه الحروف (2) .

وقد لاحظ ابن كثير على هذا الرأي بقوله:

(وأمّا من زعم أنّها دالّة على معرفة العدد وأنّه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادّعى ما ليس له، وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك

________________________

(1) فُصّلَت: 26.

(2) الدر المنثور 2: 7.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531