علوم القرآن

علوم القرآن11%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 219598 / تحميل: 19579
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المرجع الوحيد الذي يرجع إليه معظم المسلمين في شؤونهم الدينية.

علل الأحكام:

وكشف الإمام محمد الجوادعليه‌السلام النقاب عن العلّة في تشريع بعض الأحكام وكان من بينها ما يلي:

١ - سئل محمد بن سليمان عن العلّة في جعل عدّة المطلّقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر، وصارت عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن ذلك:

( أمّا عدّة المطلّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد، وأمّا عدة المتوفى عنها زوجها فإنّ الله تعالى شرط للنساء شرطاً، وشرط عليهن شرطاً فلم يجابهن فيما شرط لهنّ، ولم يجر فيما اشترط عليهنّ، أما ما شرط لهنّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول الله عزوجل:( للذين يؤلون من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر ) فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك اسمه إنّه غاية صبر المرأة عن الرجل، وأمّا ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشراً فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الإيلاء، قال الله عزّ وجل: ( يَتَرَبَّصنَ بأنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهُرٍ وعَشْراً ) ولم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلاّ مع الأربعة أشهر، وعلم أنّ غاية المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع فمن ثمّ أوجبه عليها ولها.. )(١) .

٢ - سأل محمد بن سليمان الإمام الجواد عن العلّة فيما إذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا تكون شهادته أربع شهادات بالله، وإذا قذفها غيره سواءً كان قريباً لها أم بعيد جلد الحدّ أو يقيم البيّنة على ما قال، فأجابهعليه‌السلام :

( قد سئل أبو جعفر - يعني الإمام الباقرعليه‌السلام - عن ذلك فقال: إن الزوج إذا

____________

١ - وسائل الشيعة: ج ١٥: ٤٥٢، علل الشرائع: ص ١٧٢، المحاسن: ص ٣٠٣.

١٠١

قذف امرأته فقال: رأيت ذلك بعيني كانت شهادته أربع شهادات بالله، وإذا قال: إنّه لم يره. قيل له أقم البيّنة على ما قلت: وإلاّ كان بمنزلة غيره، وذلك أنّ الله تعالى جعل للزوج مدخلاً لا يدخله غيره والد ولا ولد يدخله بالليل والنهار فجاز له أن يقول: رأيت، ولو قال غيره: رأيت قيل له: وما أدخلك المدخل الذي ترى هذا فيه وحدك، أنت متّهم فلابدّ من أن يقيم عليك الحدّ الذي أوجبه الله عليك.. )(١) .

هذا بعض ما أثر عنه في بيان علل بعض الأحكام التي شرعها الإسلام.

التبشير بالإمام المهدي:

والشيء المحقّق الذي لا يمكن إنكاره، ولا إخفاءه هو ما بشّر به الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أمّته بخروج المصلح العظيم الإمام المنتظر الذي يقيم اعوجاج الدين، وتحقّق في ظلال حكمه العدالة الاجتماعية الكبرى فيأمن المظلومون والمضطهدون، ويعمّ الحقّ جميع أنحاء الدنيا، ويقضى على الغبن الاجتماعي، وتزول عن الناس جميع أفانين الظلم والجور، ويكون حكمه الزاهر امتداداً ذاتياً لحكومة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحكومة الإمام أمير المؤمنين رائد الحقّ والعدل في الأرض.

إنّ الاعتقاد بضرورة خروج الإمام المنتظر ( عجّل الله فرجه ) جزء من رسالة الإسلام وعنصر هام من عناصر العقيدة الإسلامية، فإنّ الإسلام بمفهومه الصحيح لابدّ أن يسود الأرض، ولابدّ للمبادئ الوضعيّة من أن تتحطّم لأنّها جرّت المحن والخطوب للإنسان، وأخلدت له المشاكل والمتاعب، ولابدّ أن ينقذ الله عباده من شرورها واستبدادها على يد هذا الإمام العظيم.

وعلى أي حال فقد تواترت الأخبار عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة الطاهرين

__________________

١ - وسائل الشيعة: ج ١٥ ص ٥٩٤.

١٠٢

بحتمية خروج قائم آل محمدعليه‌السلام وكان ممّن بشر به الإمام الجوادعليه‌السلام وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

١ - روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: دخلت على سيدي محمد بن عليّ بن موسىعليه‌السلام وأنا أريد أن اسأله عن القائم هل هو المهدي أو غيره؟ فابتدأني قائلاً:

( يا أبا القاسم إنّ القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً بالنبوة وخصّنا بالإمامة إنه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر كليمه موسى، إذ ذهب يقتبس ناراً فرجع وهو رسول نبي، وأضاف الإمام الجواد قائلاً: أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج )(١) .

٢ - روى عبد العظيم الحسني قال: قلت لمحمد بن علي: إنّي لأرجو أن يكون القائم من أهل بيت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً؟

فأجابه الإمام الجواد:

( يا أبا القاسم ما منّا إلاّ وهو قائم بأمر الله عزوجل، وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهّر الله عزوجل به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، هو سميّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكنيّه، وهو تطوى له الأرض، ويذلّ له كل صعب ويجتمع إليه أصحابه عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي

__________________

١ - إكمال الدين وإتمام النعمة: ج ٢ ص ٤٨ - ٤٩، والكفاية والنصوص من مخطوطات مكتبة كاشف الغطاء العامّة.

١٠٣

الأرض وذلك قول الله عزوجل:( أينَ ما تكُونُوا يأتِ بكمُ اللهُ جميعاً إنّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ ) (١) . فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره )(٢) .

لقد أخبر الإمام الجواد عن بعض خصائص الإمام المنتظر من غياب شخصه وحجبه عن الأنظار، كما أخبر عن عدد أصحابه بعد ظهوره وأنّهم كعدد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر فقد استطاع بتلك القلّة المتسلّحة بالإيمان والوعي أن يقضي على معالم الجاهلية، ويدمّر القوى الباغية، ويرفع كلمة الله عالية في الأرض، كذلك وصيّه الأعظم الإمام المنتظرعليه‌السلام فإنّه بأصحابه القلّة المؤمنة سوف يغيّر مجرى الحياة فيبسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي في ربوع الأرض ويحقّق للإنسانية أعظم الانتصارات، ويقضي على معالم الجاهلية التي طغت في هذه العصور التي خضع الناس فيها للمادة، ولم يعد للقيم الروحية والمثل الكريمة أي ظلّ في النفوس، أرانا الله الأيام المشرقة من أيام حكمه.

من واقع الإيمان:

للإمام أبي جعفر الجوادعليه‌السلام بعض النصائح الرفيعة الهادفة إلى الإيمان بالله والثقة به والتوكّل عليه ومن بينها:

١ - الثقة بالله:

قالعليه‌السلام : ( إنّ من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل على الله كفاه الأمور، والثقة بالله حصن لا يتحصّن فيه إلاّ المؤمن، والتوكّل على الله نجاة من كلّ سوء

__________________

١ - سورة البقرة: الآية ١٤٨.

٢ - إكمال الدين وإتمام النعمة: ج ٢ ص ٤٩، الكفاية والنصوص.

١٠٤

وحرز من كلّ عدو.. )(١) .

وحفلت هذه الكلمات الذهبية بأروع ما يحتاج إليه الناس في حياتهم وهو الثقة بالله خالق الكون وواهب الحياة، فمن وثق به أراه السرور، ومن توكّل عليه كفاه الأمور.

٢ - الاستغناء بالله:

ودعا الإمام الجوادعليه‌السلام إلى الاستغناء بالله تعالى، ورجائه دون غيره، قالعليه‌السلام :

( من استغنى بالله افتقر الناس إليه، ومن اتّقى الله أحبه الناس )(٢) .

إنّ من يستغني بالله فقد استغنى عن غيره، ويفتقر إليه الناس لأنّه يكون داعية ومصدر عطاء لهم.

٣ - الانقطاع إلى الله:

وحثّ الإمام الجواد على الانقطاع إلى الله الذي لا ينقطع فيضه ولا لطفه أمّا من ينقطع إلى غيره فقد باء بالخيبة والخسران قالعليه‌السلام :

( من انقطع إلى غير الله وكّله الله إليه.. ).

٤ - القصد إلى الله بالقلوب:

إنّ من واقع الإيمان القصد إلى الله تعالى في أعماق القلوب ودخائل النفوس ومن الطبيعي أنّ ذلك أبلغ بكثير من أتعاب الجوارح ومعاناتها بالأعمال وقد أعلنعليه‌السلام ذلك بقوله: ( القصد إلى الله تعالى بأعماق القلوب أبلغ من أتعاب الجوارح.. )(٣) .

__________________

١ - الفصول المهمة لابن الصباغ: ص ٣٧٣.

٢ - جوهرة الكلام: ص ١٥٠.

٣ - الدر النظيم، ورقة ٢٢٣.

١٠٥

مكارم الأخلاق:

ودعا الإمام الجوادعليه‌السلام إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وكان ممّا أوصى به:

١ - قالعليه‌السلام : ( من حسن خُلق الرجل كفّ أذاه، ومن كرمه برّه لمن يهواه، ومن صبره قلّة شكواه، ومن نصحه نهيه عمّا لا يرضاه، ومن رفق الرجل بأخيه ترك توبيخه بحضرة من يكره، ومن صدق صحبته إسقاطه المؤنة، ومن علامة محبّته كثرة الموافقة وقلّة المخالفة.. )(١) .

ووضععليه‌السلام بهذه الكلمات الرائعة الأسس لحسن الأخلاق ومكارم الأعمال، والدعوة إلى قيام الصداقة والصحبة على واقع من الفكر والمرونة.

٢ - قالعليه‌السلام : ( حسب المرء من كمال المروءة أن لا يلقى أحداً بما يكره.. ومن عقله إنصافه قبول الحقّ إذا بان له.. ).

قضاء حوائج الناس:

وكان ممّا دعا إليه الإمام الجوادعليه‌السلام السعي والمبادرة في قضاء حوائج الناس وذلك لما لها من الآثار التي تترتّب عليها والتي منها دوام النعم قالعليه‌السلام :

( إنّ لله عباداً يخصّهم بدوام النعم فلا تزال فيهم ما بذلوا لها، فإذا منعوها نزعها عنهم، وحوّلها إلى غيرهم.. )(٢) .

وأكّدعليه‌السلام ذلك في حديث آخر له قال:

( ما عظمت نِعم الله على أحد إلاّ عظمت إليه حوائج الناس، فمن لم يحتمل تلك

__________________

١ - الاتّحاف بحبّ الأشراف: ص ٧٧، الدرّ النظيم: ورقة ٢٢٣.

٢ - الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص ٢٥٨.

١٠٦

المؤنة عرّض تلك النعمة للزوال.. )(١) .

من آداب السلوك:

ووضع الإمام الجواد البرامج الصحيحة لحسن السلوك وآدابه بين الناس وكان من بين ما دعا له:

١ - قالعليه‌السلام : ( ثلاث خصال تجلب فيهن المودّة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدّة، والانطواء على قلب سليم.. )(٢) .

٢ - قالعليه‌السلام : ( ثلاثة من كنّ فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكّل على الله تعالى عند العزيمة، ومن نصح أخاه سرّاً فقد زانه، ومن نصحه علانية فَقَدَ شأنه.. )(٣) .

٣ - قالعليه‌السلام : ( عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه، وعنوان صحيفة السعيد حسن الثناء عليه، والشكر زينة الرواية، وخفض الجناح زينة العلم، وحسن الأدب زينة العقل، والجمال في اللسان، والكمال في العقل.. )(٤) .

وحفلت هذه الكلمات بأصول الحكمة وقواعد الأخلاق والآداب، ولو لم تكن له إلاّ هذه الكلمات لكانت كافية في التدليل على إمامته إذ كيف يستطيع شاب في مقتبل العمر أن يدلي بهذه الحكم الخالدة التي يعجز عن الإتيان بمثلها كبار العلماء.

__________________

١ - الفصول المهمة لابن الصبّاغ: ص ٢٥٨.

٢ - جوهرة الكلام: ص ١٥٠.

٣ - الإتّحاف بحبّ الأشراف: ص ٧٨.

٤ - الإتّحاف بحبّ الأشراف.

١٠٧

الدعوة إلى فعل المعروف:

ودعا الإمام الجوادعليه‌السلام إلى اصطناع المعروف قالعليه‌السلام : ( أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه؛ لأنّ لهم أجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنّه يبتدأ فيه بنفسه )(١) .

من مواعظه:

وأثرت عن الإمام الجوادعليه‌السلام بعض المواعظ ومنها ما يلي:

١ - قالعليه‌السلام : تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والإصرار على الذنب أمن لمكر الله ( فَلا يَأْمَنُ مَكرَ اللهِ إلاَّ القَومُ الخاسِرُونَ )(٢) .

٢ - قال له رجل: أوصني، فأوصاهعليه‌السلام بهذه الوصية القيّمة:

( توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم انّك لن تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون.. )(٣) .

٣ - كتب الإمام الجوادعليه‌السلام إلى بعض أوليائه هذه الرسالة الموجزة وهي حافلة بالوعظ والإرشاد وقد جاء فيها:

( أمّا هذه الدنيا فإنّا فيها معترفون، ولكن من كان هواه هوى صاحبه ودان بدينه فهو معه حيث كان(٤) والآخرة هي دار القرار.. )(٥) .

__________________

١ - الدرّ النظيم.

٢ - تحف العقول: ص ٤٥٦.

٣ - نفس المصدر.

٤ - في نسخة: فإذا كان ميلك وهواك إليّ وتحبّني كنت معي حيث كنت أنا.

٥ - تحف العقول: ص ٤٥٦.

١٠٨

هذه بعض مواعظه الحافلة بالدعوة إلى العمل بما يقرّب الإنسان من ربّه، ويبعده عن عقابه، وفيها التحذير من اتّباع النزعات الشريرة القائمة في نفس الإنسان، وهي تدفعه إلى الهلكة والمخاطر، والانجراف في ميادين الرذائل والجرائم.

لقد عنى الإمام محمد الجوادصلى‌الله‌عليه‌وآله في وعظ الناس وإرشادهم كما عنى آباؤه بذلك، فقد كانت هذه الظاهرة من ألمع ما نقرأه في سيرتهم وحياتهم.

رسائله:

وتبادل الإمام الجوادعليه‌السلام مع جماعة من القائلين بإمامته جملة من الرسائل تناولت مختلف القضايا ومن بين تلك الرسائل:

١ - بعث الإمام الجوادعليه‌السلام رسالة إلى رجل من أهل الحيرة جاء فيها بعد البسملة:

( الحمد لله الذي انتجب من خلقه، واختار من عباده، واصطفى من النبيّين محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فبعثه بشيراً ونذيراً ودليلاً على سبيله الذي من سلكه لحق، ومن تقدّمه مرق، ومن عدل عنه محق، وصلى الله على محمد وآله.

أما بعد: فإني أوصي أهل الإجابة بتقوى الله الذي جعل لمن اتّقاه المخرج من مكروهه، إن الله عزّ وجل أوجب لوليّه ما أوجبه لنفسه ونبيّه في محكم كتابه بلسان عربي مبين.. وقد بلغني عن أقوام انتحلوا المودّة ونحلوا بدين الله، ودين ملائكته شكوا في النعمة، وحملوا أوزارهم وأوزار المقتدين بهم، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وما ورثوه من أسلاف صالحين، أبصروا فلزموا، ولم يؤثروا دنيا حقيرة على آخرة مؤبّدة، فأين يذهب المبطلون؟ سوف يأتي عليهم يوم يضمحل عنهم فيه الباطل، وتنقطع أسباب الخدائع، وذلك يوم الحسرة إذ القلوب لدى

١٠٩

الحناجر(١) والحمد لله الذي يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.. )(٢) .

ولم تشر المصادر التي بأيدينا إلى أسماء هؤلاء الأشخاص الذين انحرفوا عن الحقّ، وضلوا عن الطريق، ولم نعلم الأسباب التي دعتهم إلى رفضهم لمبدأ أهل البيتعليهم‌السلام وانتحال دين آخر.

٢ - وردت على الإمام أبي جعفرعليه‌السلام رسالة رواها بكر بن صالح قال: كتب صهر لي إلى أبي جعفر الثاني رسالة جاء فيها: ( إنّ أبي ناصب خبيث الرأي، وقد لقيت منه شدّة وجهداً، فرأيك جعلت فداك في الدعاء لي، وما ترى جعلت فداك، أفترى أن أكاشفه أم أداريه؟ ).

فأجابه الإمامعليه‌السلام بعد البسملة:

( قد فهمت كتابك، وما ذكرت من أمر أبيك، ولست أدع الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خير لك من المكاشفة، ومع العسر يسراً، فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين، ثبّتك الله على ولاية من تولّيت، نحن وأنتم وديعة الله التي لا تضيع ودايعه.. )(٣) .

ودلّت هذه الرسالة على لزوم البرّ بالأب، وإن كان ناصبياً مبغضاً لأهل البيتعليهم‌السلام وأمرت الولد بالصبر على ما يلقاه من أبيه من جهد وعناء، وبهذه الأخلاق الرفيعة كان الأئّمة يوصون أتباعهم بالتحلّي بها ليكونوا قدوة إلى الناس.

٣ - كان إبراهيم بن محمد وكيل الإمام الجوادعليه‌السلام بهمدان لتعليم الناس معالم دينهم، وقبض الحقوق الشرعية منهم، وإرسالها للإمامعليه‌السلام وكان قد بعث ما قبضه للإمامعليه‌السلام فأرسلعليه‌السلام له هذه الرسالة:

__________________

١ - هكذا في الأصل ولعلّ الصحيح بلغت الحناجر.

٢ - الدرّ النظيم: ورقة ٣٢٢ - ٣٢٣.

٣ - بحار الأنوار ج ١٢ ص ١١٢.

١١٠

( قد وصل الحساب تقبّل الله منك، ورضي عنهم، وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة، وقد بعثت لك من الدنانير بكذا، ومن الكسوة بكذا، فبارك الله فيك، وفي جميع نِعم الله إليك، وقد كتبت إلى النصر أمرته أن ينتهي عنك، وعن التعرّض لك، ولخلافك، وأعلمته بوضعك عندي وكتبت إلى أيّوب أمرته بذلك أيضاً، وكتبت إلى موالي بهمدان كتاباً أمرتهم بطاعتك، والمصير إلى أمرك، وأن لا وكيل سواك.. )(١) .

وأعربت هذه الرسالة عن مزيد ثقة الإمامعليه‌السلام بوكيله إبراهيم، ودعمه الكامل له فقد اتّصل بالمناوئين له وأمرهم بطاعته، والمصير إلى أمره، وتقوية مركزه.. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض رسائله.

التوبة:

وفتح الله باب التوبة لعباده، ودعاهم إلى طهارة نفوسهم، وإنقاذهم ممّا اقترفوه من عظيم الجرائم والذنوب، وقد روى أحمد بن عيسى في نوادره عن أبيه أنّ رجلاً أربى دهراً(٢) ، فخرج قاصداً أبا جعفر الجوادعليه‌السلام ، وعرض عليه ما ارتكبه من عظيم الإثم فقالعليه‌السلام له:

( مخرجك من كتاب الله، يقول الله:( فَمَن جَاءَهُ مَوْعظَةٌ من ربِّه فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) والموعظة هي التوبة، فجهله بتحريمه، ثمّ معرفته به، فما مضى فحلال وما بقي فليستحفظ.. )(٣) .

أمّا الأموال الربوية التي أخذها - بغير حقّ - فيجب عليه أن يردّها إلى أربابها

____________

١ - بحار الأنوار: ج ١٢ ص ١٦٢.

٢ - أربى دهراً: أي كان يتعاطى الربا زمناً.

٣ - وسائل الشيعة: ج ١٢ ص ٤٣٣.

١١١

ولا تبرأ ذمّته منها بالتوبة والرواية ناظرة إلى الحكم التكليفي.

من وحي الله لبعض أنبيائه:

وروى الإمام الجوادعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام أنّ الله تعالى: ( أوحى إلى بعض الأنبياء أمّا زهدك في الدنيا فتعجلك الراحة، وأمّا انقطاعتك إليّ فيعزّزك بي، ولكن هل عاديت لي عدوّاً، وواليت لي وليّاً؟.. )(١) .

ما يحتاج إليه المؤمن:

وتحدّث الإمام الجوادعليه‌السلام ، عمّا يحتاج إليه المؤمن في هذه الحياة بقوله: ( المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممّن ينصحه )(٢) .

روائع الحكم والآداب:

للإمام أبي جعفر الجوادعليه‌السلام مجموعة من الكلمات الذهبية التي تُعدّ من مناجم التراث الإسلامي ومن أروع الثروات الفكرية في الإسلام، وقد حفلت بأصول الحكمة، وقواعد الأخلاق وخلاصة التجارب، وفيما يلي بعضها:

١ - قالعليه‌السلام : (لا تعاجلوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولنَ عليكم الأمل فتقسوا قلوبكم، وارحموا ضعفاءكم، واطلبوا الرحمة من الله بالرحمة منكم .. ).

وحفل هذا الحديث بأمور بالغة الأهمّية، وقد جاء فيه:

أ - النهي عن العجلة والتسرّع في الأمور قبل أن يتبيّن حالها، وذلك لما تجرّ من

__________________

١ - تحف العقول: ص ٤٥٥ - ٤٥٦.

٢ - تحف العقول: ص ٤٥٧.

١١٢

الندامة والخسران.

ب - النهي عن طول الأمل لأنّه ممّا يوجب قسوة القلب، والبعد عن الله.

ج - الحثّ على رحمة الضعفاء، والإحسان إلى المحرومين، فإنّ ذلك مفتاح لطلب الرحمة من الله.

٢ - قالعليه‌السلام : (ثلاثة يبلغن بالعبد رضوان الله تعالى: كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة، وثلاث من كنّ فيه لم يندم: ترك العجلة، والمشورة، والتوكّل على الله عند العزم .. ).

وحفل هذا الحديث بالدعوة لما يقرّب الإنسان من ربّه، فقد حثّ على كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة، وهذه الخصال يحبّها الله، ويبلغ بها العبد رضوانه تعالى كما حفل الحديث بما يسعد به الإنسان في هذه الحياة، فقد دعاه إلى الاتّصاف بهذه الخصال الثلاث وهي:

أ - ترك العجلة، فإنّ العجلة تسبّب للإنسان كثيراً من المشاكل والخطوب وقد قيل:    

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

 ب - المشورة في الأمور، وعدم الاستبداد فيها، فإنّ الإنسان كثير ما يخطئ.

ج - التوكّل على الله تعالى عند العزم على ما يريد أن يفعله الإنسان، والابتعاد عن التردّد الذي يسبّب القلق النفسي، والاضطراب في الشخصيّة.

٣ - قالعليه‌السلام : ( كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه؟.. ).

وفي هذا الحديث الشريف دعوة إلى الاتصال بالله، والوثوق بقدرته تعالى فإنّ من المستحيل أن يضيع من يكفله الله، كما إنّ من المستحيل أن ينجو من كان الله يطلبه.

١١٣

٤ - قالعليه‌السلام : ( يوم العدل على الظالم أشبه من يوم الجور على المظلوم.. ).

وحذّر الإمامعليه‌السلام من الظلم والاعتداء على الناس، فإنّ الله تعالى لابدّ أن ينتقم من الظالم إن عاجلاً أو آجلاً، وإنّ يوم العدل والقصاص الذي يمرّ عليه يكون شبيهاً في شدّته وقسوته باليوم الذي كان على المظلوم.

٥ - قالعليه‌السلام : (ما هدم الدين مثل البدع، ولا أزال الوقار مثل الطمع، وبالراعي تصلح الرعية، وبالدعاء تصرف البلية .. ).

وصوّرت هذه الكلمات بعض الجوانب الدينية، والاجتماعية والسياسية، وهي:

أ - البدع التي تلصق بالدين فإنّها تشوّه واقعه، وتلحق به الخسائر لأرصدته الروحية والفكرية.

ب - الأطماع التي تقضي على أصالة الشخص، وتجرّه إلى ميادين سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

ج - صلاح الراعي ممّا يوجب صلاح الشعب، وتطوّره، وتنميته الفكرية والاجتماعية.

د - الدعاء إلى الله فإنّه من موجبات صرف البلاء ودفع القضاء.

٦ - قالعليه‌السلام : (اعلموا أنّ التقوى عزّ، وإنّ العلم كنز، وإنّ الصمت نور ).

ولاشك في هذه الحقائق التي أدلى بها الإمام العظيمعليه‌السلام فإنّ تقوى الله عز وشرف للإنسان، كما أن العلم من أعظم الكنوز وأثمنها في هذه الحياة، أمّا الصمت فإنه نور لأنّه يعود على صاحبه بأفضل النتائج ويجنّبه كثيراً من المشاكل والخطوب.

٧ - قالعليه‌السلام : (ما استوى رجلان في حسب ودين إلاّ كان أفضلهما عند الله أدبهما.. إلى أن قال: بقراءته القرآن كما أنزل، ودعائه الله من حيث لا يلحن، فإنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله .. ).

١١٤

وأشادت هذه الكلمات بالآداب وجعلتها من مميّزات الشخص، ومن موجبات القرب إلى الله تعالى، كما جعلت من صميم الآداب قراءة القرآن الكريم بعيداً عن اللحن، الذي يوجب كثيراً تشويه المعنى وتحريفه كما شجب الإمامعليه‌السلام اللحن وإنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله تعالى.

٨ - قالعليه‌السلام : (من شتم أجيب، ومن تهوّر أصيب .. ).

ما أروع هذه الكلمة التي حكت الواقع الاجتماعي، فإنّ من يتعرّض للناس بالسباب والشتم فإنه - حتماً - يُجاب بالمثل، كما أنّ المتهوّر يُصاب من جرّاء تهوّره بالهلاك والدماء.

٩ - قالعليه‌السلام : (العلماء غرباء لكثرة الجهّال بينهم .. ).

العلماء غرباء في المجتمع الذي يسوده الجهل فإنّ بضاعتهم لا يقيّم لها الجهّال وزناً بل ويزدرون بها، وأي غربة للعالم أعظم من هذه الغربة.

١٠ - قالعليه‌السلام : (من طلب البقاء فليُعدّ للمصائب قلباً صبوراً ).

إنّ من أراد البقاء وطول الحياة فليتسلّح بالصبر، ولا يجزع من المصائب والأحداث التي تمرّ به فإنّ الجزع يقضي على الإنسان، ويعرّضه للفناء والأسقام.

١١ - قالعليه‌السلام : (من عمل بغير علم كان ما أفسد أكثر ممّا أصلح ).

إنّ العمل بغير هدى وبغير علم لا يوصل إلى نتيجة صحيحة، ويكون مدعاة إلى الخطأ وعدم إصابة الواقع، ففي الحقيقة إنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.

١٢ - قالعليه‌السلام : (من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنّة ).

إنّ من يستفيد أخاً في الله فقد ظفر بأفضل النعم وذلك لما يستفيد منه من التوجيه نحو الخير والبعد عن الشرّ، وكلّ ما يزيّنه، ويبلغ به رضوان الله.

١٣ - قالعليه‌السلام : (من أطاع هواه أعطى عدوّه مناه ).

١١٥

إنّ إطاعة الهوى والانقياد للشهوات تحقّق للعدو أعظم أمانيه، فإن أطاع إبليس فقد تحقّق ما يبتغيه من حيلولة العبد عن ربّه، وإن كان غيره فإنّ إطاعة الهوى ممّا تسقط الشخص اجتماعياً، وهذا أعظم سرور الأعداء.

١٤ - قالعليه‌السلام : (راكب الشهوات لا تقال عثرته .. ).

إنّ من انقاد لشهواته صار أسيراً لها فإنّه لا تقال له عثرة، ولا يمنح العذر في ذلك.

١٥ - قالعليه‌السلام : (عزّ المؤمن غناه عن الناس .. ).

إنّ أهم ما يعتزّ به المؤمن إذا أغناه الله عن الناس، ولم تكن له أيّة مصلحة عندهم، فإنّه يكون حرّاً بذلك قد ملك عزّه وشرفه.

١٦ - قالعليه‌السلام : (لا يكن ولي الله في العلانية عدواً له في السرِّ ).

إنّ الذي يتولى الله ويؤمن به إنّما يكون صادقاً فيما إذا خاف الله في علانيّته وسرّه، أمّا إذا تولاّه أمام الناس، وعصاه سرّاً فإنّه لم يكن في إيمانه صادقاً وإنّما كان كاذباً ومنافقاً.

١٧ - قالعليه‌السلام : (اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحقّ، واصطبر عمّا لا تحب فيما يدعوك إلى الهوى. . ).

أمرعليه‌السلام الناس بالانقياد للحقّ وإن كان مخالفاً للرغبات والميول كما أمر بمجانبة الهوى والابتعاد عنه.

١٨ - قالعليه‌السلام : (قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعاً لما يهواه ).

عرضعليه‌السلام بذلك إلى بعض الأذناب والعملاء من أتباع السلطة الذين يحجبون عن المسؤولين ما تحتاج إليه الأمّة من الإصلاح الشامل، ففي الحقيقة هؤلاء هم الأعداء، وإن أظهروا المودّة والإخلاص.

١١٦

١٩ - قالعليه‌السلام : (إيّاك ومصاحبة الشرير فإنّه كالسيف المسلول، يحسن منظره، ويقبح أثره .. ).

حذّر الإمامعليه‌السلام من مصاحبة الشرير وذلك لما تترتّب على مصاحبته من الآثار السيئة التي منها الوقوع في المهالك، وإنّه مهما حسن سمته فهو كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره.

٢٠ - قالعليه‌السلام : (الحوائج تُطلب بالرجاء، وهي تنزل بالقضاء ).

إنّ حوائج الناس إنّما تُطلب بالرجاء من الله، وهي تنزل بقضائه، ولا دخل في ذلك لسعي الإنسان وإرادته.

٢١ - قالعليه‌السلام : (العافية أحسن عطاء .. ).

إنّ من أفضل نعم الله التي أسبغها على عباده هي الصحّة والعافية، فهي الثروة والغنى، ومن حرم العافية فقد حُرِم كلّ شيء في الحياة.

٢٢ - قالعليه‌السلام : (إذا نزل القضاء ضاق الفضاء .. ).

إنّ قضاء الله إذا نزل بالإنسان واختاره تعالى إلى جواره فإنّ الفضاء على سعته يضيق به.

٢٣ - قالعليه‌السلام : (لا تعادي أحداً حتى تعرف الذي بينه وبين الله فإن كان محسناً لم يسلمه إليك، وإنّ كان مسيئاً فعلمك به يكفيكه فلا تعاده ).

وحذّر الإمامعليه‌السلام من العداوة للنّاس، وإنّ المسلم ينبغي أن يغرس في نفسه الحبّ والولاء لأخيه المسلم، وأمر بالفحص عمّن نعاديه فإن كانت علاقته قويّة مع الله تعالى فإنّه لا يسلمه لنا، وإن كان مسيئاً فعلمنا بإسائته يكفينا عن عدوانه.

٢٤ - قالعليه‌السلام : (التحفّظ على قدر الخوف، والطمع على قدر النيل .. ).

إنّ الحذر والتحفّظ من أي شيء كان إنّما هو على قدر الخوف منه، فالتحفّظ

١١٧

- مثلاً - من الوقوع في المعاصي إنّما هو على قدر الخوف من الله فإن كان الخوف قوياً فيمتنع الإنسان امتناعاً كلّياً من اقتراف أي ذنب أو مخالفة لله وإن كان ضعيفاً فإنه قد يقع في الإثم والحرام، كما أنّ الطمع في الشيء على قدر النيل منه، فإن كان النيل متوفّراً له كان الطمع قوياً وبالعكس.

٢٥ - قالعليه‌السلام : (كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة .. ).

إنّ أعظم دليل على خيانة المرء لنفسه وأمته أن يكون أميناً للخونة ومعيناً لهم.

٢٦ - قالعليه‌السلام : (ما شكر الله أحد على نعمة أنعمها عليه إلاّ استوجب بذلك المزيد قبل أن يظهر على لسانه .. ).

إنّ الله تعالى الذي بيده الخير والحرمان قد وعد - وهو لا يخلف الميعاد - من شكره بالمزيد قال تعالى:( لئن شكرتم لأزيدنّكم ) وهو يعطي المزيد فيما إذا نوى العبد الشكر قبل أن يظهره بلسانه.

٢٧ - قال الإمامعليه‌السلام : (من أمل فاجراً كان أدنى عقوبته الحرمان .. ).

لا ينبغي لأيّ إنسان يملك وعيه واختياره أن يأمّل غير خالقه، فإذا أمّل فاجراً فأقلّ ما يعاقب به الحرمان وعدم قضاء حاجته.

٢٨ - قال الإمامعليه‌السلام : (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبرّ أكثر من حياته بالعمر .. ).

يشير الإمامعليه‌السلام إلى الحياة المعنوية، فمن يقترف الذنوب والجرائم فهو ميّت بين الأحياء ومن يعمل البرّ ويسدي الخير لأمته وبلاده فهو حيّ ومخلّد ذكره وإن مات.

٢٩ - قالعليه‌السلام : (من أخطأ وجوه المطالب خذلته وجوه الحيل ).

يريد الإمامعليه‌السلام إنّ من يخطئ في سلوكه فإنّ وجوه الحيل وطرقه تخذله ولا يصل إلى نتيجة صحيحة.

١١٨

٣٠ - قال الإمامعليه‌السلام : (من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه ).

إنّ من يستحسن القبيح، أو يدافع عنه فإنّه يتحمّل وزره وإثمه ويكون شريكاً لفاعله.

٣١ - قال الإمامعليه‌السلام : (من كتم همّه سقم جسده .. ).

لا إشكال أنّ كتمان الهمّ، وعدم نشره بين الأهل والإخوان ممّا يوجب تدهوّر الصحّة وإذابة الجسم، وإشاعة السقم فيه.

٣٢ - قال الإمامعليه‌السلام : (أربع خصال تعين المرء على العمل: الصحّة، والغني، والعلم والتوفيق .. ).

هذه الأمور الأربعة: التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام من المقدّمات التمهيدية لإيجاد فعل الخير وتحقّقه في الخارج.

٣٣ - قال الإمامعليه‌السلام : (العامل بالظلم، والمعين عليه، والراضي به شركاء .. ).

إنّ هؤلاء الأصناف الثلاث كلّهم يشتركون في الإثم، والعقاب، فإنّ الظلم الذي هو أبغض شيء إلى الله تعالى يستند إلى بعض هؤلاء بالمباشرة، وإلى البعض الآخر بالرضا.

٣٤ - قال الإمامعليه‌السلام : (الصبر على المصيبة مصيبة للشامت ).

إنّ الصبر على المصيبة وعدم إبداء الجزع عليها تكون من أعظم المصائب على الشامت الذي يريد أن تحرق المصيبة من شمت به.

٣٥ - قال الإمامعليه‌السلام : (لو سكت الجاهل ما اختلف الناس ).

إنّ انطلاق الجاهل في المواضيع التي يجهلها هي التي أوجدت الاختلاف بين الناس.

٣٦ - قال الإمامعليه‌السلام : (مقتل الرجل بين فكّيه ).

١١٩

إنّ هلاك الإنسان بمنطقه فكثيراً ما يجرّ الكلام الدمار لصاحبه، وقد لاقى أحرار العالم القتل بسبب ما أدلوا به من النقد لحكّام الظلم والجور.

٣٧ - قال الإمامعليه‌السلام : (الناس أشكال، وكلّ يعمل على شاكلته ).

وألمت هذه الكلمة بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناس، فهم أصناف مختلفة في الميول والاتّجاهات، وكلّ يعمل وفق اتّجاهه الفكري، والعقائدي.

٣٨ - قال الإمامعليه‌السلام : (الناس إخوان فمن كانت اخوّته في غير ذات الله، فإنّها تعود عداوة، وذلك قوله عزّ وجل :( الأخِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَ الْمُتَّقِينَ ) .

إن الصداقة إذا لم تقم على أساس المحبة في الله وقامت على أساس المنافع والمصالح الشخصية فإنها – حتماً – تنقلب إلى العداوة والبغضاء حينما تتأثّر المصالح القائمة بينهما بمؤثرات أخرى.

٣٩ - قال الإمامعليه‌السلام : (كفر النعمة داعية للمقت .. ).

لا شك أن الكفر بالنعمة وعدم الشكر لها مما يوجب المقت عند الله والناس.

٤٠ - قال الإمامعليه‌السلام : (من جازاك بالشكر فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك ).

إن مجازاة المحسن بالشكر وإذاعة فضائله ومعروفه هي في الحقيقة أكثر من عطائه لأنها توجب له الذكر الحسن الذي هو أعظم مكسب للإنسان.

٤١ - قال الإمامعليه‌السلام : (من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه ).

إن موعظة الأخ والصديق إذا كانت سرّاً فإنّها تنمّ عن الإخلاص والصدق في الموعظة وإذا كانت علانية فإنها لا تخلو من التشهير به.

٤٢ - قال الإمامعليه‌السلام : (ما أنعم الله على عبد نعمة يعلم أنّها من الله إلاّ كتب الله

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

يُفهم من الآية، وأشار إليه الشيخ محمد عبده، مع أنّ هذا التفسير لا ينسجم مع النقطة التي ذكرها الشيخ عبدة؛ لأنّه افترض في أصل إثارة السؤال وجود العلم الناقص إلى جانب الإدارة؛ فكيف يكون هذا العلم - بالشكل الذي ذكره الشيخ محمد عبده، وهو علم ناقص على أيِّ حال - جواباً لهذا السؤال؟

نعم لو افترضنا أنّ العلم الذي علّمه الله تعالى لآدم هو الرسالات الإلهيّة الهادية للصلاح والرشاد والحق والكمال - كما أشار الشيخ محمد عبده إلى ذلك في النقطة الثالثة - فقد يكون جواباً لسؤال الملائكة؛ لأنّ مثل هذا العلم يمكن أن يصلح شأن الإرادة والاختيار الذي أثار المخاوف، ولكن هذا خلاف الظاهر، حيث يُفهم من ذيل هذا المقطع الشريف:

( ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) أنّ هذا الهدى الذي هو الرسالات الإلهيّة الهادية جاء بعد هذا التعليم لآدم.

وأمّا لو افترضنا أنّ الذي أثار السؤال لدى الملائكة هو الإرادة والاختيار فقط - كما اختاره أُستاذنا الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه) - أصبح بيان الامتياز بالعلم والمعرفة جواباً للسؤال وتهدئةً للمخاوف التي انثارت لدى الملائكة؛ لأنّ هذا العلم يهدي إلى الله تعالى ويتمكّن هذا الإنسان بفطرته من أن يسير في طريق التكامل.

وأمّا العلاّمة الطباطبائي فقد اعتبر الانتماء إلى الأرض والتزاحم بين المصالح فيها هو الذي يؤدّي إلى الفساد، ويكون العلم بالأسماء طريقاً وعلاجاً لتجنّب هذه الأخطار؛ لأنّ الأسماء بنظره موجودات عاقلة حيّة.

وفي النقطة الثالثة يفترض الشيخ محمد عبده أنّ العلم هو الذي جعل الإنسان مستحقّاً للخلافة، وهذا العلم ذو بُعدين:

أحدهما: العلوم الطبيعية التي يمكن للإنسان أن يحصل عليها من خلال

________________________

(١) البقرة: ٣٨.

٤٦١

التجارب والبحث، والتي يتمكّن الإنسان بواسطتها من الهيمنة على العالم المادّي الذي يعيش فيه، كما نشاهد ذلك في التاريخ وفي عصرنا الحاضر بشكلٍ خاص.

والآخر: العلم الإلهي المنزل من خلال الشريعة، والذي يمكن للإنسان من خلاله أن يعرف طريقه إلى الكمالات الإلهيّة ويُشخّص المصالح والمفاسد والخير والشر.

وهذا التصور ينسجم مع إطلاق كلمة العلم في الآية الكريمة، ومع فرضيّة أنّ الجواب الإلهي للملائكة إنّما هو تفسير لجعل الإنسان خليفة؛ لأنّ الجواب ذكر خصوصيّة (العلم) كامتيازٍ لآدم على الملائكة.

كما ينسجم هذا التصوّر مع ما أكّده القرآن الكريم في مواضع متعدّدة من دور العقل ومدركاته في حياة الإنسان ومسيرته وتسخير الطبيعة له، وكذلك دور الشريعة في تكامل الإنسان ووصوله إلى أهدافه.

ولكنّ هذا التصوّر نلاحظ عليه - ما ذكرنا - من أنّ الشريعة قد افترض نزولها في هذا المقطع الشريف بعد هذا الحوار:

( ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

كما أنّ الظاهر أنّ الإرادة والاختيار يمثّلان ميزةً أُخرى لآدم والإنسان بشكلٍ عام على الملائكة، وأنّ هذه الخصوصية هي التي أثارت مخاوف الملائكة وسؤالهم، كما نبّهنا عليه وأشار إليه الشيخ محمد عبده.

وبذلك يكون استحقاق آدم للخلافة وجود هاتين الخصوصيتين فيه.

وأما العلاّمة الطباطبائي فهو افترض أنّ هذا الاستحقاق إنّما كان باعتبار العلم بالأسماء، ولكنّه فسّر الأسماء بأنّها موجودات عاقلة لها مراتب من الوجود، حيث يمكن من خلال العلم بها أن يسير الإنسان في طريق التكامل.

ولكن هذا التفسير فيه شيءٌ من الغموض ولعلّه يعتمد على بعض المذاهب

٤٦٢

الفلسفية التي تؤمن بوجود العقول التي هي واسطة في العلم والخلق والتكامل بين الله تعالى والوجود، ومنه الإنسان.

نعم هناك فرضيّة تُشير إليها بعض الروايات المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام) وهي أنّ الأسماء عبارة عن أسماء العناصر والذوات الإنسانية الموجودة في سلسلة امتداد الجنس البشري من الأنبياء والربّانيّين والأحبار الذين جعلهم الله تعالى شهوداً على البشريّة والإنسانية، واستحفظهم الله تعالى على كتبه ورسالاته (١) .

ويكون وجود هذا الخط الإنساني الإلهي الكامل هو الضمان الذي أعدّه الله تعالى لهداية البشرية والسيطرة على الهوى، وتوجيه الإرادة نحو الخير والصلاح والكمال.

ويكون العلم بهذه الأسماء معناه تحقّق وجودها في الخارج باعتبار مطابقة العلم للمعوم، وتعليم آدم الأسماء إنّما هو إخباره بوجودها.

أو يكون العلم بالأسماء معناه معرفة هذه الكمالات التي يتّصف بها هؤلاء المخلوقون، وهي صفات وكمالات تمثّل نفحةً من الصفات والكمالات الإلهيّة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ كلمة الأسماء في القرآن تُطلق على الصفات الإلهيّة بنحو من الإطلاق.

والظاهر أنّ هذه الفرضيّة هي التي ذهب إليها أُستاذنا الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

الفصل الثاني: مسيرة الاستخلاف:

وهي مسيرة تحقّق الخلافة في الأرض، فيقع الكلام فيه - أيضاً - في جانبين:

الأوّل:

تشخيص مجموعة من المفاهيم والتصوّرات التي وردت في القرآن

________________________

(١) ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء... ) المائدة: ٤٤.

٤٦٣

الكريم حول هذه المسيرة.

الثاني:

بيان الصورة النظريّة الكاملة حول هذه المسيرة.

الجانب الأوّل: المفاهيم والتصوّرات:

السجود لآدم:

في البداية يواجهنا السؤال عن الأمر الإلهي للملائكة في السجود لآدم، حيث إنّه في الشريعة المقدّسة يحرم السجود لغير الله تعالى، فكيف صحّ أن يطلب من الملائكة السجود لآدم؟ وما هو المقصود من هذا السجود؟

وهذا السؤال ينطلق من فكرة وهي أنّ السجود بحدّ ذاته عبادة، والعبادة لغير الله شرك وحرام؛ حيث تُقسم الأفعال العباديّة إلى قسمين:

أحدهما: الأفعال التي تتقوّم عبادتها بالنيّة وقصد القربة كالإنفاق (الزكاة والخمس) أو الطواف بالبيت الحرام أو القتال، أو غير ذلك، فإنّ هذه الأفعال إذا توفرّت فيها نية القربة وقصد رضا الله تعالى تكون عبادة لله تعالى، وبدون ذلك لا تكون عبادة، ومن ثمَّ فهي تتبع نيّتها في تشخيص طبيعتها.

والآخر: الأفعال التي تكون بذاتها عبادة ويُذكر (السجود) منها، حيث إنّه عبادة بذاته، ولذا يحرم السجود لغير الله؛ لأنّه يكون بذاته عبادة لغير الله.

ولكن هذا التصوّر غير صحيح، فإنّ السجود شأنه شأن الأفعال الأُخرى التي تتقوّم عباديّتها بالقصد والنيّة، ولذا فقد يكون السجود سخريةً واستهزاءً، وقد يكون لمجرّد التعظيم، وقد يكون عبادةً إذا كان بنيّتها.

ولذا نجد في القرآن الكريم في بعض الموارد الصحيحة يستخدم السجود تعبيراً عن التعظيم، كما في قصّة أُخوة يوسف؛ قال تعالى:

( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... ) (١) .

________________________

(١) يوسف: ١٠٠.

٤٦٤

وإنّما كان السجود لغير الله حراماً؛ لأنّه يستخدم عادة في العبادة، فأُريد للإنسان المسلم أن يتنزه عمّا يوهم العبادة لغير الله تعالى.

وأمّا إذا كان السجود للتعظيم وبأمرٍ من الله تعالى، فلا يكون حراماً، بل يكون واجباً.

ولكن يبقى السؤال: أنّ هذا السجود ماذا كان يعني؟

فقد ذكر بعض المفسِّرين - انطلاقاً من فكرة أنّ هذا الحديث لا يُراد منه إلاّ التربية والتمثيل وليس المصاديق المادّيّة لمفرداته ومعانيه - أنّ السجود المطلوب إنّما هو خضوع هذه القوى المتمثّلة بالملائكة للإنسان، بحيث إنّ الله تعالى أودع في شخصية هذا الإنسان وطبيعته من المواهب ما تخضع له هذه القوى الغيبيّة وتتأثر بفعله وإرادته:

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا... ) (١) .

كما أنّه يمكن أن يكون هذا السجود سجوداً حقيقيّاً بالشكل الذي تناسب مع الملائكة، ويكون طلب السجود منهم لآدم من أجل أن يعبِّروا بهذا السجود عن خضوعهم أو تقديسهم لهذا المخلوق الإلهي المتميّز، بما أودع الله فيه من روحه ووهبه العلم والإرادة والقدرة على التكامل والصعود إلى الدرجات الكماليّة العالية.

ولعلّ هذا المعنى الثاني هو الظاهر من مجموعة الصور والآيات القرآنية التي تحدّثت عن هذا الموضوع، حيث نلاحظ أنّ امتناع إبليس عن السجود إنّما كان بسبب الاستكبار لتفضيل هذا المخلوق، حيث كان يطرح في تفسير عدم السجود أنّه أفضل من آدم: ( ... قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) (٢) ، كما أنّ

________________________

(١) فصلت: ٣٠.

(٢) الأعراف: ١٢.

٤٦٥

القرآن الكريم يُشير إلى أنّ الإنسان الصالح المخلص يكون خارجاً عن قدرة إبليس ومكره، ومن ثمَّ فهو مهيمن على هذه القوّة الشيطانية:

( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (١) .

إبليس من الملائكة أم لا:

وهناك سؤالٌ آخر عن حقيقة إبليس وأنّه من الملائكة أو الجن، حيث ورد في القرآن الكريم وصفه بكلا هذين العنوانين:

فإذا كان من الملائكة فكيف يعصي الله تعالى، وقد وصف الله تعالى الملائكة بأنّهم ( ... عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) (٢) لا يخالفون و ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ) (٣) ، وهم بأمره يعلمون.

وإذا كان من الجن فلماذا وُضع إلى جانب الملائكة في هذه القصّة؟

وتُذكر عادةً للاستدلال على أنّ إبليس من الجن وليس من الملائكة ويختلف عن طبيعة الملائكة عدة شواهد، إضافةً إلى وصف القرآن الكريم له بذلك، ومن هذه الشواهد أنّ أوصاف الملائكة لا تنطبق على إبليس، حيث إنّهم وُصفوا بالطاعة وقد تمرّد إبليس، ووُصفوا بأنّهم رُسُل:

( ... جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ... ) (٤) ، ومن هذه الشواهد أنّ الملائكة لا ذرّيّة لهم، إذ لا يتناسلون ولا شهوة لهم، وأمّا إبليس فله ذرّيّة كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك:

( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي... ) (٥) .

________________________

(١) ص: ٨٢ - ٨٣.

(٢) الأنبياء: ٢٦.

(٣) التحريم: ٦.

(٤) فاطر: ١.

(٥) الكهف: ٥٠.

٤٦٦

ولكنّ هذه الشواهد لا تكفي في عدّ إبليس من الجن في مقابل الملائكة؛ وذلك لأنّ وصف القرآن لإبليس بأنّه من الجن يمكن أن يكون من ناحية أنّ بعض الملائكة يوصف بأنّه جن، إن لم يكن هذا الوصف عامّاً لهم؛ لأنّ الجن مأخوذ من الخفاء والستر، والملائكة مستورون عن عوالمنا ومشاهدنا.

كما نُلاحظ هذا الوصف في نسبة الملائكة إلى الله تعالى عند المشركين، حيث افترضوا أنّ الملائكة هم بنات الله - على ما ورد في القرآن الكريم - وفي نفس الوقت يصف القرآن الكريم هؤلاء الملائكة بأنّهم جِنّة:

( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً... ) (١) .

كما أنّ الطاعة ليست صفةً لازمةً لعنوان الملائكة، بل نلاحظ في القرآن الكريم حصول التمرّد لدى بعض الملائكة كما في المَلَكين هاروت وماروت (٢) .

وكذلك موضوع (الذرّيّة) فإنّها يمكن أن تكون من الخصوصيّات التي أُختصّ بها إبليس ليقوم بهذا الدور الخاص له في حياة الإنسان.

نعم يوجد في بعض الروايات ما يُشير إلى أنّ إبليس كان من الجن وليس من الملائكة، وإنّما كان يعاشرهم وأنّهم كانوا يظنون أنّه منهم، ولكن لا يمكن الاعتماد على مثل هذه الروايات.

هل خُلِق آدم للجَنَّة أم للأرض؟

وهناك سؤال آخر وهو آدم هل خُلِق للأرض كما يبدو ذلك في أوّل المقطع الشريف:

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... ) (٣) ، أو أنّه مخلوق للجنّة وبعد العصيان طُرد للأرض، كما يُفهم ذلك من القِسم الثاني من هذا

________________________

(١) الصافات: ١٥٨.

(٢) البقرة: ١٠٢.

(٣) البقرة: ٣٠.

٤٦٧

المقطع الشريف:

( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) .

وقد حاول بعض الملحدين أن يُثير الشبهات حول هذا الموضوع بدعوى أنّ هذا المقطع القرآني يبدو وكأنّ إدخال آدم للجنّة والتوبة عن فعله إنّما هما عمليّة شكليّة وصوريّة لطرده منها وإنزاله إلى الأرض.

ولكنّ الجواب عن هذا السؤال واضح وهو:

أنّ آدم إنّما خُلق للأرض وخلافة الله فيها، وكان وجوده في الجنّة هو مرحلة متقدّمة (تأهيليّة) تؤهّله للقيام بدور الخلافة، حيث لم يكن من الممكن لآدم أن يقوم بهذا الدور بدون التأهيل والتجربة التي خاضها في الجنّة، على ما سوف نوضح هذا الأمر في بيان الجانب الآخر.

على أنّ هذه الجنّة يمكن أن تكون جنّةً أرضية وليست جنة (الخُلْد)، إذ لا يوجد دليل على أنّها جنّة الخُلْد، وكان هبوطه وإخراجه منها يعني بداية دور تحمّل المسؤولية والتعب والجهد من أجل الحياة واستمرارها؛ فهو منذ البداية كان على الأرض ولكن في مكان منها لا تعب ولا عناء فيه، وقد تهيّأت له جميع أسباب العيش والراحة والاستقرار، وبعد المعصية بدأت حياةٌ جديدة تختلف عن الحياة السابقة في خصوصيّاتها ومواصفاتها وإن كانت على الأرض أيضاً.

وبذلك يمكن أن نجيب على سؤال آخر هو أنّه كيف تسنّى لإبليس أن يغوي آدم في الجنّة مع أنّ دخولها محرّم على إبليس؟

حيث يمكن أن تكون هذه الجنّة أرضيّةً ولم يُمنع من دخولها، ولعلّ ضمير الجمع في قوله تعالى:

( ... وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ... ) (١) يشير إلى ذلك.

على أنّ عملية الإغواء يمكن أن تكون من خلال وجوده في خارج الجنّة، لأنّ

________________________

(١) البقرة: ٣٦.

٤٦٨

الخطاب بين أهل الجنّة وغيرهم ممّن هو في خارج الجنّة ميسور، كما دلّ على ذلك القرآن الكريم في خطاب أهل الجنّة وأهل النار:

( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) .

وفي خطاب أصحاب الجنّة لأصحاب النار:

( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٢) .

خطيئة آدم:

والسؤال الآخر هو عن خطيئة آدم وغوايته وعصيانه: ( ... وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (٣) .

حيث دلّت بعض الروايات على أنّ آدم كان نبيّاً، وإن لم يُذكر ذلك في القرآن الكريم، والأنبياء معصومون من الذنب والزلل والغواية منذ بداية حياتهم.

ومع غض النظر عن الشك والمناقشة في صحّة هذه الفرضيات (فرضيّة أن يكون آدم نبيّاً) و(فرضيّة أن يكون الأنبياء معصومين من الذنب منذ بداية حياتهم)، يمكن أن نفسِّر جدّيّة هذه المخالفة والعصيان على أساس اتجاهين:

الاتجاه الأوّل:

أن يكون النهي الإلهي هنا هو نهي (إرشادي) (٤) أُريد منه

________________________

(١)الأعراف: ٥٠.

(٢) الأعراف: ٤٤.

(٣) طه: ١٢١.

(٤) تُقسم الأوامر والنواهي في الشريعة إلى قسمين: مولوي وإرشادي؛ والمراد من (المولوي) ما يصدر من المولى، باعتباره مولىً له حق الطاعة، ويكون فيه إرادة جدّيّة للطلب والتحرّك نحو المطلوب أو الزجر عن المنهي عنه، كما في أوامر الصلاة والزكاة والجهاد والحج والنهي

٤٦٩

الإرشاد إلى المفاسد الموجودة في أكل الشجرة وليس نهياً (مولويّاً) يُراد منه التحريك والطلب الجدّي.

والمعصية المستحيلة على الأنبياء والتي تُوجب العقاب هي في الأوامر المولويّة وليست الإرشادية.

الاتجاه الثاني:

أن يكون النهي الإلهي هنا نهياً مولويّاً كما - هو الظاهر - وحينئذٍ فيُفترض بأنّ الأنبياء معصومون من الذنوب المتعلّقة بالأوامر والنواهي التي يشتركون فيها مع الناس، وأمّا الأوامر والنواهي الخاصّة بهم فلا يمتنع عليهم صدور الذنب بعصيانها وليسوا معصومين تجاهها، وهذا النهي الذي صدر لآدم إنّما هو خاصٌّ به، ولذا لم يحرم على ذرّيّته من بعده أكل الشجرة.

ومن هنا نجد القرآن الكريم ينسب الظلم والذنب أحياناً لبعض الأنبياء، باعتبار هذه الأوامر الخاصّة، كما حصل لموسى (عليه السلام):

( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

مع أنّ قتل الفرعوني الظالم الكافر ليس ذنباً وحراماً على الناس بشكلٍ عام، وإنّما كان حراماً على موسى لخصوصيّةٍ في وضعه.

ومن هنا ورد أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين باعتبار أنّ لهم تكاليف خاصّة بهم تتناسب مع مستوى الكمالات التي يتّصفون بها.

وهذا التفسير للعصمة أمر عرفي قائم في فهم العقلاء لمراتب الناس، فبعض

________________________

عن شرب الخمر والزنا والسرقة؛ و(الإرشادي) هو الذي يكون للإرشاد إلى المصلحة أو المفسدة، كما في الأوامر والنواهي في موارد المعاملات غالباً، حيث يكون إرشاداً لبطلان المعاملة أو صحّتها، أو كما في أوامر الأطباء والمهندسين والعلماء التجربيين فإنّهم لا يستحقون الطاعة بما هم سادة، وأُولوا الأمر والولاية؛ بل لأنّ متعلّقات أوامرهم ونواهيهم فيها مصالح ومفاسد، فعندما يُأمر بشرب الدواء فهذا يعني أنّ شرب الدواء فيه مصلحة، وكذا عندما يُنهى عن أكل شيءٍ فإنّه يعني أنّ أكله فيه ضرر ومفسدة.

(١) القصص: ١٦.

٤٧٠

الأُمور هي من العلماء والفضلاء ذنب يُؤاخذون عليه، ولكنّه ليس كذلك بالنسبة إلى العامّة من الناس، وبعض الإنفاقات القليلة ذنب من الأغنياء يُؤاخذون عليها وليست كذلك بالنسبة إلى الفقراء.

الجانب الثاني: التصوّر العام لمسيرة الخلافة:

وهنا نشير إلى تصورين:

التصوّر الأوّل:

ما ذكره العلاّمة الطباطبائي (قُدّس سرّه) في الميزان، حيث يُفترض أنّ هذه المسيرة بدأت من وضع آدم وزوجه في الجنّة من أجل أن ينتقل إلى الأرض بعد ذلك، وكان لا بُدّ له من التعرّض إلى المعصية من أجل أن يتحقّق هذا النزول إلى الأرض، إذ لا يمكن أن يحصل على التكامل الإنساني الذي يؤهّله لهذه الخلافة ما لم يتعرّض إلى المعصية والنزول إلى الأرض بعد ذلك.

وذلك لأنّ تكامل الإنسان إنّما يحصل من خلال توفّر عنصرين وعاملين أساسيّين:

أحدهما: شعور الإنسان بالفقر والحاجة والمسكنة والذلّة، أو بتعبيرٍ آخر: شعور الإنسان بالعبوديّة لله تعالى الذي يدفعه للحركة والتوجّه إلى الله تعالى والمصير إليه.

والآخر: هو عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته وتوفيقه لهذا الإنسان، وإمداده بالعطاء والفضل الإلهي.

فشعور الإنسان بالحاجة يجعله يتحرّك لسدّ هذه الحاجة، والفضل والعطاء الإلهي هو الذي يحقّق الغنى النسبي للإنسان ويسد النقص والحاجات لدى هذا الإنسان فيتكامل.

وإذا لم يشعر الإنسان بالحاجة فلا يسعى إلى الكمال حتّى لو كان محتاجاً في واقع الحال، وإذا لم يتفضّل الله على هذا الإنسان بالعفو والرحمة والعطاء يبقى هذا

٤٧١

الإنسان ناقصاً ومتخلّفاً في حركته.

وما ذُكر في قصّة آدم إنّما يمثّل هذين الأمرين معاً.

فلو لم ينزل الإنسان إلى الأرض لا يشعر بالحاجة، حيث كان يعيش في الجنّة يأكل ويشرب وبدون تعب أو عناء، فطبيعة هذه الجنة:

( إِنَّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) (١) .

ولو لم تصدر من آدم المعصية فلا يمكن أن يحصل على تلك الدرجات العالية من الرحمة والمغفرة التي حصل عليها الإنسان في حالات الرجوع والتوبة، حيث يفترض العلاّمة الطباطبائي وجود درجات من الرحمة والمغفرة مرهونة بالتوبة والإنابة؛ قال:

(فللّه تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلاّ المذنبون... فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين وتقويم الملّة) (٢) .

فالقصّة وراءها قضاءان قضاهما الله تعالى في آدم:

القضاء الأوّل:

الهبوط والخروج من الجنّة والاستقرار على الأرض وحياة الشقاء فيها، وهذا القضاء لازم حتّى لأكل الشجرة، حيث بدت سوآتهما، وظهور السوءة لا يناسب حياة الجنة، بل الحياة الأرضيّة، ومن هنا كان إخراجهما من الجنّة بعد العفو عنهما، ولولا ذلك لكان مقتضى العفو هو بقاؤهما في الجنّة.

القضاء الثاني:

إكرام آدم بالتوبة حيث طيّب الله تعالى بها الحياة الأرضية التي هي شقاء وعناء، وبها ترتّبت الهداية إلى العبودية الحقيقية، فتآلفت الحياة من

________________________

(١) طه: ١١٨ - ١١٩.

(٢) تفسير الميزان ١: ١٣٤، طبعة جماعة المدرّسين - قم.

٤٧٢

حياةٍ أرضيّة وحياةٍ سماويّة (١) .

فنزول آدم إلى الأرض وإن كان فيه ظلمٌ للنفس وشقاء، إلاّ أنّه هيّأ لنفسه بنزوله درجةً من السعادة، ومنزلةً من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل، وكذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

التصوّر الثاني:

ما ذكره أُستاذنا الشهيد الصدر (قُدّس سرّه):

أنّ الله سبحانه قدّر لآدم الذي يمثّل أصل الجنس البشري أن يمرّ بدور الحضانة التي يمرّ بها كلُّ طفلٍ ليتعلّم الحياة وتجاربها، فكانت هذه الجنّة الأرضية التي وُجدت من أجل تربية الإحساس الخلقي لدى الإنسان والشعور بالمسؤولية وتعميقه من خلال امتحانه بما يوحيه إليه من تكاليف وأوامر.

وقد كان النهي عن تناول الشجرة هو أوّل تكليف يوجّه إلى هذا الخليفة ليتحكم في نزواته وشهواته، فيتكامل بذلك ولا ينساق مع غريزة الحرص وشهوة حب الدنيا التي كانت الأساس لكل ما يشهده مسرح التاريخ الإنساني من ألوان الاستغلال والصراع.

وقد كانت المعصية التي ارتكبها آدم هي العامل الذي يولّد في نفسه الإحساس بالمسؤوليّة من خلال مشاعر الندم فتكامل وعيه بهذا الإحساس، في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة من خلال وجوده في الجنّة.

وكان الهدى الإلهي يتمثّل بخط الشهادة وهو الوحي الإلهي الذي يتحمّل مسؤوليّته الأنبياء لهداية البشرية.

وبذلك تتكامل المسيرة البشرية ويتطوّر الإنسان ويسمو على المخلوقات؛ من خلال التعليم الرباني والهدى الإلهي الذي يجسّده شهيدٌ ربّانيٌّ معصوم من الذنب يحمله إلى الناس من أجل تحصينهم من الضلال:

( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ

________________________

(١) المصدر نفسه.

٤٧٣

هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) .

ويمكن أن نُشير في نهاية هذا العرض لهذين التصوّرين إلى عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأولى:

إنه يمكن تكميل الصورة : بأنّ الإسكان في الجنّة في الوقت الذي يمثّل مرحلة الإعداد والتهيّؤ يُعبّر في نفس الوقت عن هدفٍ إلهيٍّ وهو: أنّ مقتضى الرحمة الإلهيّة بالإنسان هو أن يعيش حياة الاستقرار والسعادة بعيداً عن الشقاء، وأنّ مسيرة الشقاء إنّما هي اختيار الإنسان؛ ولذا بدأ الله تعالى حياة الإنسان بالجنّة وشمله برحمته الواسعة من خلال التوبة والسداد الإلهي بالهدى الذي أنزله على الأنبياء.

كما أنّ الخطيئة هي التي فجّرت في الإنسان - إضافةّ إلى إحساسه بالمسؤولية - إدراكه للحسن والقبح والخير والشر، ولعلّ هذا هو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:

( ... فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ... ) .

وكان هذا الإدراك ضروريّاً للإنسان من أجل أن يكون قادراً على مواجهة مشكلات الحياة وألوان الصراع فيها، وتمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، والمصلحة من المضرّة، ويخلق فيه حالة التوازن الروحي والنفسي في مقابل ضغوط الشهوات والغرائز.

وقد كان من الممكن أن يحصل هذا الإدراك من خلال الحضانة الطويلة والتجربة الذاتية في حياته في الجنّة، ولعلّ هذا هو الهدف من وضعه في الجنّة ليمرّ بهذه الحضانة الطويلة، كما يحصل للإنسان في تجاربه في الطفولة، حيث تنمو فيه هذه المعرفة تدريجاً، ولكن كان هناك طريق أقصر محفوف بالمخاطر وبالخطيئة والذنب.

________________________

(١) البقرة: ٣٨.

٤٧٤

ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليختار للإنسان طريق الخطيئة بالرغم من قِصَره؛ لأنّه طريقٌ خطير، ولكن عندما اختار الإنسان ذلك وأصبح يدرك هذه الحقائق صار مؤهّلاً للبدء في الحياة الدنيا.

وقد فتح الله سبحانه وتعالى أمامه باب التوبة والرجوع إليه؛ ليتمكن الإنسان من مواصلة طريقه عندما يضعف ويقع في الخطيئة؛ وبذلك يتكامل عندما يكون قادراً على التغلّب على شهواته والسيطرة على رغباته.

الملاحظة الثانية:

إنّ العلاّمة الطباطبائي لم يوضّح دور الخطيئة في معرفة السوءات، كما لم يوضّح عدم انسجام السوءات مع حياة الجنّة، ولعلّه يريد من دور الخطيئة في معرفة السوءات ما أشرنا إليه من دورها في الإحساس الخلقي للإنسان في إدراكه للحسن والقبح؛ وكذلك لأنّ حياة الجنّة يراها حياةً طاهرةً ونظيفة لا تنسجم مع السوءات، وهو معنىً عرفاني حيث لم يُشر القرآن الكريم إلى أنّ آدم (عليه السلام) لم تكن لديه سوءة قبل الخطيئة، أو أنّها وُجدت بعد الخطيئة، وإنّما أشار إلى أنّ إدراكه للسوءة إنّما كان بعد الخطيئة والذنب.

الملاحظة الثالثة:

إنّ الشهد الصدر (قُدّس سرّه) لم يذكر في تكوّن مسار الخلافة على الأرض دور التوبة في هذا المسار، مع أنّ التوبة لها دور أساس يمكن من خلاله أن يستأنف الإنسان عمله وتجربته في هذه الحياة، ويصعد بسببها في مدارج الكمال.

الملاحظة الرابعة:

إنّ الكمالات الإنسانية يمكن أن نتصوّرها بدون خطيئة ويتكامل فيها الإنسان من خلال الطاعة والإحساس بالعبودية لله سبحانه وتعالى، إلاّ إذا كان مقصوده من الخطيئة ليس مجرّد المخالفة، وإنّما إحساس الإنسان بالحاجة والتقصير في حق الله تعالى وشكره لنعمه، الأمر الذي يدفعه إلى الاستزادة من الأعمال الصالحة والرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه.

٤٧٥

الملاحظة الخامسة:

إنّ العلاّمة الطباطبائي (قُدّس سرّه) تصوّر أنّ الجنّة سماويّة، والشهيد الصدر (قُدّس سرّه) تصوّرها أرضيّة، وهذا التصوّر الثاني في الوقت الذي ينسجم مع بعض الروايات، يتوافق - أيضاً - مع فرضيّة خلق الإنسان للأرض، والله سبحانه أعلم (١) .

________________________

(١) الإسلام يقود الحياة: ١٥٢ - ١٥٣.

٤٧٦

الفهارس الفنّيّة

٤٧٧

دليل الفهارس

١ - فهرس الآيات                                                                       ٤٨٥

٢ - فهرس الأحاديث                                                                    ٥٠٩

٣ - فهرس أسماء المعصومين (عليهم السلام)                                            ٥١٧

٤ - فهرس الأعلام                                                                       ٥٢١

٥ - فهرس المذاهب والفِرَق                                                              ٥٢٧

٦ - فهرس الأُمم والقوميّات والجماعات                                                  ٥٢٩

٧ - فهرس البلدان والأماكن                                                             ٥٣٣

٨ - فهرس الموضوعات                                                                   ٥٣٥

٤٧٨

فهرس الآيات الكريمة

الفاتحة (١)

رقم الآية                                                                          رقم الصفحة

٦، ٧ ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ )               ٥٤

البقرة (٢)

٢ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ )                                             ٢٣٩، ١٧

٦-١٨ ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ... لاَ يَرْجِعُونَ )                                   ٨٤

٢٣-٢٥ ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى... خَالِدُونَ )                                       ٣٤، ٥

٢٤ ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ... )                                                  ٨٢

٣٠ ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... )                                  ٤٧١

٣٠ - ٣١ ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء )                                        ٤٥١

٣٠ - ٣٩ ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ... تَكْتُمُونَ )                                    ٤٤٩

٣٤ ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ... )                                  ٢٩٩

٣٦ ( ... وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ... )                                               ٤٧٢

٣٨ ( ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ... )                               ٤٧٧، ٤٦٥

٤٠ ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ... )                                ٣٨١

٤٧٩

رقم الآية                                                                          رقم الصفحة

٤٩ - ٥١ ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ... ظَالِمُونَ )                               ٣٨٠

٦١ ( ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ... )                            ٨٤

٧٤ ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ... )                               ٣٨٠

٧٥ ( ... وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ... )                               ٢٣٤

٧٥ - ١٢٢ ( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ... الْعَالَمِينَ )                                 ٣٨١

٩٠ ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ... )                                                  ٨٥

٩٨ ( مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ... )                                          ٢٩٥

١٠٦ ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا... )                                ٢٥٨، ١٩٣

١٠٩ ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم... )                                             ٢٠٧

١٢٧ - ١٢٩ ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ... الحَكِيمُ )                                ٣٧٥

١٣٥ ( وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ... )                                    ٣٧٥

١٤٤ ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً... )                                  ١٦٣

١٥١ ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ... )                                       ٢٥٣

١٥٨ ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ... )                                ٣٩

١٥٩ ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... )                                      ٨٥

١٧٠ ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ... )                                                     ٦٨

١٨٥ ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ... هُدًى لِّلنَّاسِ... )                              ٢٢٠، ٢٧

١٨٧ ( ... وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ... )                                  ٢٥٠

١٨٩ ( ... وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا... )                               ٢٧١، ١٧٥

١٩٠ ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ... )                               ٢٠٨

١٩١ ( ... وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ... )                                                        ٢٠٨

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531