• البداية
  • السابق
  • 160 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13851 / تحميل: 4571
الحجم الحجم الحجم
من قضايا النهضة الحسينية

من قضايا النهضة الحسينية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

صحيح من المؤرّخين، والشيخ فخر الدين الطريحي عظيم القدر جليل في العلم، فلا يمكن لأحد أن يتصوّر في حقّه هذه الخرافة، فثبوتها في كتابه المنتخب (والمعروف بالفخري) مدسوسة في الكتاب، وسيحاكم الطريحي واضعها في كتابه.

كما إنّ الدكتور الشيخ الوائلي رأى الحادثة لا تخلو من إشكالات مختلفة، فقال: إنّ الرواية في موضوع الزواج غير معتبرة، يُضاف لذلك أنّ مسألة الزواج يمكن تصورّها على نحوين:

النحو الأوّل: هو الزواج بمعنى الدخول، فهذا أركانه غير متوفّرة؛ فالقاسم صغير لم يبلغ الحلم يومئذ، والمرأة المروي أنّه تزوّج بها كانت ذات بعل يومئذ يوم الطفّ، والجو الذي كان فيه أهل البيتعليهم‌السلام ليس يوم زواج أو فرح.

وأمّا النحو الثاني: فهو بمعنى العقد، أي أنّ الحسينعليه‌السلام قد عقد للقاسم على إحدى بناته، فيمكن أن يرد هنا سؤال وهو أنّه ما هي الغاية من ذلك والإمامعليه‌السلام يعلم أنّ القاسم سيُقتل بعد ساعة؟ بالإضافة إلى إشكالات أخرى(1) .

أقول: جريان الحادثة بالنحو الذي مرّ ذكره في نصّ الفخري، والذي نقله عنه في مدينة المعاجز بعيد؛ فالمعروف أنّ عمر القاسم بن الحسن يوم كربلاء أنّه لم يبلغ الحلم، أي لم يصل إلى عمر الخامسة عشر، بينما استشهد الإمام الحسنعليه‌السلام قبل حادثة كربلاء بأحد عشر سنة، فلا يُحتمل بحسب الأوضاع العادية أن يكون الإمامعليه‌السلام قد أوصى إلى ولده القاسم وحدّثه بكلّ ذلك الحديث وهو في الثالثة من العمر، وأنّه قد استوعب ذلك، وطوال هذه المدّة كان ناسياً للموضوع وللعوذة حتّى إذا حصل أمر كربلاء تذكّر كلّ تلك الاُمور فانحلّت المشكلة!

أو أنّ الحسينعليه‌السلام كان أيضاً غافلاً عن وصية الزواج حتّى إذا تذكّر القاسم

____________________

1 - تجاربي مع المنبر / 130.

١٠١

أمر العوذة وذكّر الحسينعليه‌السلام بها ذكر الحسين الوصية الأُخرى! خصوصاً إذا تمّ ما نُقل من أنّ الحسينعليه‌السلام قد أخبر أصحابه بمصارعهم ليلة العاشر، ومن ضمن مَنْ أخبرهم كان القاسم أيضاً.

وكذا في قول الحسينعليه‌السلام له بناءً على ما سبق أنّه يريده أن يبقى له ليتسلّى به، فهل كان الحسين باقياً حتّى يتسلّى به، أو أنّه سيستشهد بعد قليل؟

ثمّ الطريقة التي دار فيها الحوار بين القاسم وبين سكينة، فهي في البداية لا تريده أن يخرج وإنّما تريد العرس والزواج، بينما المعروف عنها (أنّ الغالب عليها الاستغراق مع الله).

وقد أضافت بعض المصادر كلمة (فلا تصلح لرجل)، لو ثبتت فهل تلك التي لا تصلح لرجل تمنع القاسم عن نصرة الإمامعليه‌السلام في ذلك اليوم العصيب، بدعوى أنّها تريد الزواج؟

وكيفية المعرفة في يوم القيامة والآخرة هل طريقها الردن، وهو طرف الكم المقطوع؟

سؤال: ماذا لو لم يخرج الحسينعليه‌السلام ضدّ يزيد؟

الجواب: حقّاً هو سؤال جميل، فالعادة أن يتمّ السؤال عن أنّه لماذا ثار الحسينعليه‌السلام ضدّ يزيد، وهذا السؤال يتناول القضية من طرفها الآخر. ما هي الآثار التي يمكن أن تحصل لو لم يخرج الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم يقم بثورته؟

ويمكن تصوّر الآثار في عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: في حدود الفكر الإسلامي، في حدوده الزمنية، في

١٠٢

تلك الفترة وللمستقبل: فلو لم يقم الحسينعليه‌السلام بثورته تلك لكان لدينا معضلة في كيفية التعامل مع الحاكم الجائر، الذي يصل به الأمر إلى حدود التصريح بمخالفة العقائد الدينية، كما صدر من يزيد بن معاوية.

فكيف يتعامل المسلمون مع مثل هذا الحاكم؟ هل يخضعون له ويتبعونه؟ أو أنّهم ينهضون ضدّه؟

لقد سعى الأمويون وأتباعهم إلى إشاعة الفكرة الأولى، ودعموها بروايات نسبوها للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حاصلها: أنّه عليهم السمع والطاعة مهما بلغ الأمر، وأنّ خروجهم عليه فيه من المفاسد ما هو أكثر من ولايته.

ولقد سُخّر لهذه الفكرة من الأموال والرجال؛ لتكون الفكرة العامّة السائدة بين المسلمين ما يفوق الوصف والعدّ.

وكان كلّ حاكم يأتي يحلم بأُمّة الإسلام وهي خائرة العزيمة، مقيّدة الحركة، لا تستطيع غير الصبر الذليل، والخنوع الدائم سبيلاً.

ولولا خروج الحسينعليه‌السلام وتضحيته بالغالي والنفيس لما أمكن للمسلمين أن ينطلقوا من أسر ذلك الجبت الفكري.

بينما الفكرة الثانية تصطدم بسلوك الإمام الحسينعليه‌السلام فيما لو لم يخرج، فلو كان الخروج والثورة مشروعة لما تركها الإمام الحسينعليه‌السلام .

المستوى الثاني: في حدود الوضع التاريخي الذي كان يعيشه الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنّ تشخيص الإمام للوضع الإسلامي آنئذ، هو ما قاله: «وعلى الإسلام السّلام إذا بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد».

إنّ وجود شخص مثل يزيد وهو «رجل فاجر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق» على رأس الحكم والقيادة، يشبه أن تعطي قيادة حافلة مليئة بالركاب في طريق جبلي إلى سائق ثمل، لا يعرف من السكر موضع قدميه، بل هو أعظم.

إنّ ما رآه المسلمون في السنوات العجاف الثلاث، التي تسلّط فيها

١٠٣

يزيد على الأُمّة، وما ارتكب من مخازٍ ومآثم؛ حيث قتل الحسينعليه‌السلام وصحبه في الأولى، وأباح المدينة في الثانية، وهدم الكعبة في الثالثة، ولو مُدّ له في العمر لمدّ حبل الموبقات.

لنشير بالصراحة إلى أنّه لم يكن هناك مجال آخر أمام الحسينعليه‌السلام من الناحية الدينية، حفاظاً منه على مسيرة الأُمّة إلاّ الخروج والثورة.

المستوى الثالث: انسجام العمل الثوري الذي قام به الحسينعليه‌السلام مع الأصول الدينية التي يؤمن بها.

فهو من جهة روى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعلٍ، ولا بقولٍ كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».

وقد طبّق هذا على الوضع الموجود آنئذ: «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَنْ غيّر».

ولو لم يفعل ما فعله لكان متناقضاً (والعياذ بالله)، فكيف يقول من جهة أنّ يزيد هكذا، ثمّ يُسالمه ويبايعه، ويترك الأمر له؟!

إنّ مبايعة الحسينعليه‌السلام ليزيد وسكوته عنه، يعني إمضاء الخطأ الذي ارتكبه معاوية بتولية ابنه يزيد شؤون الخلافة، وهو الخطأ الذي وقف أمامه الحسينعليه‌السلام في أيّام معاوية عندما قال له: «لعلك تصف غائباً، أو تنعت محجوباً، فخلّ بين يزيد وبين الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، ودع عنه ما تحاول من الخلافة».

فهل يمضي اليوم ما رفضه بالأمس؟! وهل يمضي ببيعته ليزيد أعماله المخالفة للدين؟!

إنّه حينئذ يفقد صفات الإمامعليه‌السلام .

قد يقول قائل: أنّ الحسينعليه‌السلام لو ترك يزيد وشأنه، فلا هو يثور عليه،

١٠٤

ولا يبايعه. ألم يكن ذلك مخرجاً مناسباً؟

وجوابه: أنّنا لا نفتّش عن مخارج للحسينعليه‌السلام ، ولم يكن يزيد بالذي يترك الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّ هؤلاء الظالمين لا يحتمّلون أحداً يكون إلى جانبهم وهو أضعف منهم شأناً، فكيف إذا كان أعلى منهم منزلة، وأرفع شأناً عند الخلائق؟

وقد بيّن الإمامعليه‌السلام أنّ الأمر قد انتهى بقوله: «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة(1) والذلّة، وهيهات منّا الذلة!».

وفي ذلك إشارة إلى سياسة يزيد، وإلى رسالته لواليه على المدينة؛ فإنّ يزيد قد أرسل رسالة ليقرأها على الناس، وأرسل إليه في صحيفة كأنّها أذن فأرة: أمّا بعد، فخذ حسيناً، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة، حتّى يبايعوا، والسّلام(2).

سؤال: هل يجوز تمثيل الواقعة الحسينيّة سينمائيّاً أو غير ذلك؟

يُستفاد من كلمات علمائنا (أعلى الله درجاتهم) أنّ تمثيل الواقعة سينمائيّاً لو لم يلزم منه محرّم آخر، كالهتك أو التوهين مثلاً، أو الكذب على المعصوم بنقل ما ليس صحيحاً عنه فلا يحرم.

بل قد يكون من المهم في بعض الحالات أن يُصار إلى استخدام وسائل التأثير الإعلامي الحديثة؛ لنقل القضية الحسينيّة بواسطتها، كالمسرح والقصّة، والتصوير السينمائي(3) .

____________________

1 - أي استلال السيوف.

2 - مقتل الحسين - للأزدي.

3 - تمّ إعداد فيلم سينمائي عن حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وظهور الإسلام وانتصاره، وهو (الرسالة: محمّد رسول الله)، وكان له من الأثر في تعرّف غير المسلمين على =

١٠٥

سؤال: عن وجود الإمام الباقرعليه‌السلام في كربلاء وبعدها، وكيف يمكن تفسير قول الحسينعليه‌السلام لزينب عن السجّادعليهما‌السلام : «احبسيه لئلاّ ينقطع نسل آل محمّد». أفلا يعتبر الباقرعليه‌السلام من نسل الرسول؟

الجواب: لم أجد هذه الكلمة في ما لدي من المصادر حتّى يتمّ التحقيق في صدورها من الناحية السنديّة والتاريخية، ولكن على فرض صدورها فإنّ توجيهها واضح، وهو أنّ المقصود ليس مطلق النسل النبويّ، وإلاّ فقد كان أحفاد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من سبطه الحسنعليه‌السلام موجودين؛ إذ إنّه بناءً على كون أبناء الإمام الحسنعليه‌السلام خمسة عشر، فإنّ الذكور منهم كانوا ثمانية(1) ، ولم يشترك هؤلاء كلّهم في كربلاء، وإنّما المقصود منه النسل النبويّ الفاعل الذي يُمثّل امتداد النبوّة في العلم والتوجيه والإرشاد للأُمّة، فلو قُتل الإمام السجّادعليه‌السلام حينئذ لما بقي ذلك النسل.

وهذا غير حاصل بالنسبة لأبناء وأحفاد الإمام الحسنعليه‌السلام ؛ باعتبار أنّ الإمامة كانت في نسل الحسينعليه‌السلام ، وأبناء الحسن وإن كان بعضهم علماء أو مجاهدين إلاّ أنّ مقاييس الإمامة الإلهية لا تنطبق عليهم، ولم تكن فيهم.

والإمام الباقرعليه‌السلام كان حتّى ذلك الوقت صغير السنّ جدّاً، حيث إنّه لم يكن له على ما قيل في أكثر الروايات التاريخية غير ثلاث سنين، وهذه سنّ لم يكن ممكناً في الحالات الطبيعية أن يقوم صاحبها بالتصرّف الخارجي المباشر مع الناس، والإرشاد والتوجيه، والأخذ والعطاء، لا سيّما في تلك الظروف الصعبة التي أعقبت ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

____________________

= الإسلام الشيء الكثير، وأيضاً تمّ تصوير فيلم آخر بعنوان الإمام عليعليه‌السلام في إيران، وكان موفّقاً في عرض تلك الفترة من التاريخ الإسلامي، وبعده حول حياة الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام .

1 - هذا على رواية، وعلى الأُخرى أنّ الذكور كانوا ثلاثة عشر.

١٠٦

سؤال: أحداث المعركة أخذت زمناً طويلاً، فهل هي أكثر من يوم؟

مع أنّه قد احتمل بعض العلماء كما نقل عنهم الفاضل الدربنديرحمه‌الله (1) في كتابه (أسرار الشهادة) ذلك الأمر، إلاّ أنّه لا يمكن قبوله؛ فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين قاطبة، والروايات الواردة من طريق أهل البيتعليهم‌السلام على أنّ المعركة بدأت بصباح اليوم العاشر من شهر المحرّم لعام 61 هـ وانتهت قبل غروب ذلك اليوم بشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقبله أصحابه (رضي الله عنهم) وأهل بيتهعليهم‌السلام .

نعم، ربما يتصوّر البعض ما ذُكر من خلال حجم التفاصيل المذكورة في السيرة والكتب التأريخية؛ فيتوهّم أنّها تحدث مترتّبة، بينما هي قد تحدث متزامنة وفي وقت واحد، لكنّ الناقل لا يستطيع إلاّ أن ينقل القضية من جهات مختلفة، ويفرد لكلّ خبر منها جهة مستقلة.

فمثلاً: قد يكون الحوار الذي يجري في داخل الخيمة بين الحسين

____________________

1 - المولى، آقا ابن عابدين بن رمضان بن زاهد الشيرواني الدربندي، المعروف ب‍ـ (الفاضل الدربندي)، الحائري. ت 1285، فقيه أصولي، متكلّم محقّق مدقّق، جامع للمعقول والمنقول.

كان من تلاميذ شريف العلماء المازندراني. له (خزائن الأصول)، و (خزائن الأحكام) شرح منظومة بحر العلوم، و (قواميس القواعد) مشتمل على دراية الحديث والرجال وطبقات الرواة، وغيرها.

توفى في طهران سنة 1285 أو 1286، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في الصحن الحسيني.

وهو مع تبحّره الكامل في الفقه والأصول والرجال إلاّ أنّ كتابه (أسرار الشهادة)، والذي خصّصه لما جرى في كربلاء يحتوي على غير قليل من الروايات غير الثابتة.

واحتمل بعضهم أنّه يرى تعميم قاعدة التسامح في أدلّة السنن إلى الروايات التاريخية، بأنّه حتّى لو جاء بها خبر غير مسند فإنّه لا مانع من نقلها.

١٠٧

وزينبعليهما‌السلام مثلاً قد حدث في نفس الوقت الذي يكون فيه حبيب يخطب في أنصاره، ويشجّعهم على القتال غداً، وهو في نفس الوقت الذي يكون فيه بعض الهاشميين يتعبّدون أو يقرؤون القرآن، وهذه كلّها في وقت واحد، أو حينما يحمل عدد من الأنصار في الحملة الأولى ويُقاتل كلّ منهم في جهة، وينشد من شعر الحماسة ما هو أهله، فإنّ المؤرّخ أو الراوي لا يستطيع أن ينقل ذلك إلاّ بإفراد خبر لكلّ واحد منهم، بينما قد تكون حملتهم في وقت واحد.

ولتقريب الأمر نضرب مثال الفيلم التلفزيوني؛ فإنّه قد يستطيع المخرج أن يختصر فيه عدداً من المشاهد والأفكار من خلال الصورة، فيستطيع بذلك أن ينقل أكثر من معنى في مشهد واحد، بينما لو أراد أن يتحدّث متكلّم عن ذلك لاحتاج إلى صفحات متعدّدة.

سؤال: ما معنى كلمة الإمام الحسينعليه‌السلام بالنسبة إلى نسائه: (شاء الله أن يراهنّ سبايا على أقتاب المطايا)؟ هل فيها دلالة على الجبر، وأنّ هذا الأمر كان مكتوباً عليهنّ؟

الجواب: في البداية نقول: إنّ النصّ الوارد في اللهوف ليس فيه (على أقتاب المطايا)، وإنّما بهذا المقدار «شاء الله أن يراهنّ سبايا» في حادثة ينقلها(1).

____________________

1 - اللهوف في قتلى الطفوف: قال السيد ابن طاووس الحسني / 39: ورويت من كتاب أصل لأحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد الثقة، وعلى الأصل إن كان لمحمّد بن داود القمّي بالإسناد عن أبى عبد اللهعليه‌السلام قال: سار محمّد بن الحنفية إلى الحسين في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَنْ قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك كحال مَنْ مضى، فإن رأيت أن تُقيم؛ فإنّك أعزّ مَنْ في الحرم =

١٠٨

وهناك تعبيرات في القرآن عن المشيئة والإرادة الإلهية تنتهي إلى أنّ لله إرادتين ومشيئتين:

تكوينية: وهي لا تتخلّف، فإن شاء شيئاً كان من غير معالجة، وإذا أراده تحقّق( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) .

ولتقريب المعنى، مع ملاحظة الفارق نقول: إنّ الإنسان لو أراد أن يصوّر شيئاً في ذهنه فلا يحتاج هذا التصوير إلاّ إلى لمحة التفاتة فيحضر المعنى المصوّر في ذهنه فوراً، فلو أراد أن يتصوّر بحراً أو شجرة أو غيرها فإنّه لا يحتاج إلى معالجات وإعدادات، وإنّما يكفي أن يتصوّرها ويوجّه ذهنه إليها.

فخلق الله للأشياء يكفي أن يريد ذلك؛ لكي يتحقّق الموجود ويصبح مخلوقاً خارجيّاً. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه المشيئة والإرادة التكوينية فقال:( لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) (2) ،( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) (3) ،( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

____________________

= وأمنعه.

فقال: «يا أخي، قد خفتُ أن يغتالنى يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت».

فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن، أو بعض نواحي البرّ؛ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد.

فقال: «أنظر فيما قلت».

فلمّا كان السحر ارتحل الحسينعليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

قال: «بلى».

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟

فقال: «أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين، أخرج؛ فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً».

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟

فقال له: «قد قال لي (أي الرسول) إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا». وسلّم عليه ومضى.

1 - سورة يس / 82.

2 - سورة الأنعام / 112.

3 - سورة البقرة / 20.

١٠٩

الرِّجْسَ... ) (1) .

وتشريعية: وهي أن تتعلّق مشيئة الله بفعل العبد، فهو لا يجبر العبد عليها، وإنّما يحثّه عليها تارة، ويزجره عنها أُخرى بأوامره ونواهيه، ولا يقسره على فعلها ولا يجبره على تركها، وإنّما يبين له بالرسل، ويهديه بالعقول، ويزوّده بالإرادة والاختيار؛ لكي يختار، و( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (2) ، وهي التكاليف الشرعية، وقد تحدّث عنها القرآن الكريم أيضاً بلسان الإرادة الإلهية فقال:( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (3) ، و( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (4) ، و( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) (5) .

وهذه الثانية تبقي للإنسان مجال الاختيار، ولا يكون مسيّراً فيها إلى جهة برغم إرادته، وإنّما يكون في كلّ حالاته مختاراً يستطيع الاستمرار ويستطيع التراجع، ومثل هذه الإرادة قول الإمام الحسينعليه‌السلام : «شاء الله أن يراني قتيلاً، وشاء الله أن يراهنّ سبايا».

كيف نعرف أنّ هذه إرادة تشريعية لا تكوينية (أن يراهنّ...)؟

- لمخالفة ذلك لعقيدة الاختيار التي يدين بها الإسلام، ويُعرف بها أهل البيتعليهم‌السلام ، هذا مع أنّها كان يمكن أن تتخلّف بتغيير الحسينعليه‌السلام رأيه، أو

____________________

1 - سورة الأحزاب / 33.

2 - سورة الشمس / 9 - 10.

3 - سورة البقرة / 185.

4 - سورة النساء / 26.

5 - سورة المائدة / 6.

١١٠

مسيره، بينما التكوينية لا تتخلّف.

والشاهد عليه: أنّ محمّد بن الحنفية، والذي يُعرف عنه القول بالاختيار والإرادة تبعاً لما أخذه من أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لم ينكر على الإمامعليه‌السلام مقالته، هذا مع ملاحظة كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام لمّا سأله [ شيخ ]: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر؟ [قال]: «... ويحك! لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً؟ ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، وأنّ الله سبحانه أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً. ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطع مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً،ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» (1) .

ومعنى الكلمة: أي شاء الله أن أخرج على القوم فيحاربونني فأكون قتيلاً، وشاء أن أصحب النساء لتكميل المسيرة فيكنَّ سبايا بعد قتلي، ويقمنَّ بدورهنَّ في تكميل الثورة.

وبالفعل، فقد كان لذلك السبي أكبر الأثر في بقاء الثورة الحسينيّة، وتعريف الناس لحقيقة الحكم الأموي ومخالفته لأحكام الدين ممّا أنتج الثورات المضادّة له إلى أن سقط الحكم الجائر ذاك.

سؤال: ما هي الفوائد المترتّبة على زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام ؟

الجواب: نقل ثقة الإسلام الشيخ الكليني بسند صحيح عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة».

____________________

1 - سورة ص / 27.

١١١

ونقل أيضاً بسند صحيح عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «مروا شيعتنا بزيارة الحسين؛ فإنّ إتيانه فرض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة».

وروى شيخ الطائفة بسند معتبر عن عبد الله بن سنان، عن الصادقعليه‌السلام : «بينا الحسين بن علي في حجر رسول الله إذ رفع رأسه فقال: يا أبه، ما لِمَنْ زارك بعد موتك؟ فقال: يا بُني، مَنْ أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومَنْ أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومَنْ أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة»(1) .

في البداية لا بدّ من التنبيه على حقيقة هي: اختيار الله مجموعةً من الناس واصطفاؤه إيّاهم، وهذا وإن لم يقبله البعض حسداً أو جهلاً، إلاّ إنّه حقيقة واقعة، فقد قال الله سبحانه:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ، وعرّف النبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمصطفى والمختار لهذه الجهة.

تماماً مثلما أنّه يمكن أن يختار الله زماناً كرمضان فيشرّفه ذلك التشريف العظيم، بحيث تكون إحدى لياليه أفضل من ثمانين عاماً ليس فيها ذلك الشهر وتلك الليلة، أو يختار مكاناً كمكّة مع أنّه بحسب الظاهر( غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) ، ولا ضرع، ولا ميزة ظاهرية، أو أشخاصاً كمَنْ ذكر، فيتعبّد الله الناس باحترام تلك الأماكن والأزمنة التي اختارها وتقديسها، ويتعبّدهم أيضاً بتقدير وتقديس واتّباع اُولئك الناس الذين اختارهم( عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ، ويجعل صلواته وصلوات ملائكته عليهم( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ

____________________

1 - قد مر بيان الوجه في ترتب ثواب عظيم على عمل - بحسب الظاهر - قليل.

2 - سورة آل عمران / 33.

3 - سورة إبراهيم / 37.

4 - سورة الدخان / 32.

١١٢

عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) ، حتّى لقد أصبح أمر الصلاة على النبي وآله من واجبات الصلاة عند جميع المسلمين، ومن ذلك أمر زيارة قبورهم.

أمّا مشروعية زيارة القبور: فلا شك فيها عند المسلمين؛ وذلك لما ورد من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنّها تذكركم الآخرة»(2) .

وقد دعا (صلوات الله عليه) إلى زيارة قبره بعد وفاته، فقد نُقل عنه: «مَنْ زار قبري بعد موتي وجبت له شفاعتي»(3)، و «مَنْ زارني في مماتي فكأنّما زارني في حياتي»، بل حتّى غير قبر النبي، وقد ثبت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد زار قبر أُمّه فبكى وأبكى(4) .

وكان (صلوات الله عليه) يخرج فيزور قبور المسلمين في البقيع، كما كانت فاطمة الزهراءعليها‌السلام تخرج إلى المسجد فتزور أباها، ثمّ تخرج إلى أُحد فتزور عمّها حمزة بن عبد المطلب(5) .

____________________

1 - سورة الأحزاب / 56.

2 - مسند أحمد 1 / 145، ويحتمل أن يكون النهي عن زيارة القبور، لو فُرِض صحة الحديث في هذه الجهة، كان راجعاً إلى زيارة المسلمين لقبور آبائهم المشركين، وهو ممّا لا ينبغي منهم؛ فإنّه إذا كان بالنسبة للمنافقين(... وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) فهو بالنسبة للمشركين من باب أولى.

3 - ألّف الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي كتاباً كاملاً بخصوص رجحان واستحباب زيارة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ردّاً على ما زعمه بعض من خلاف ذلك، وسمّاه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام).

4 - ذخائر العقبى في مودّة أهل القربى - لأحمد بن عبد الله الطبري.

5 - وفي فعلها ذاك ردّ على مَنْ يدّعي وجود الكراهة، فضلاً عن الحرمة في زيارة النساء للقبور. وأمّا ما تمسّك به بعض من أنّ مجيئهنّ يكون سبباً لارتفاع =

١١٣

وأمّا معنى الزيارة: ففي أصلها اللغوي هي: بمعنى المَيل والقصد كما ورد في القرآن الكريم في قصّة أهل الكهف:( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ... ) (1) ، وسمّيت شهادة الزور بذلك؛ لأنّها مائلة عن الحقّ.

أهداف الزيارة:

1 - تكريم المزور وأداء حقّه.

2 - ارتباط بين الناس وبين المعصومين.

3 - تسليط الضوء على جهاد الصالحين وعملهم؛ ولذلك كان المطلوب (عارفاً بحقّه...).

____________________

= أصواتهنّ بالنياحة، أو اختلاط الرجال بالنساء.

ففيه أنّه لو تمّ ذلك لكان ينبغي منع الحجّ لِما فيه من الاختلاط و....

والعجيب أنّه كيف تؤسس الفتاوى على مثل هذه المستندات؟!

1 - سورة االكهف / 17.

١١٤

ملاحظات على قضايا تأريخية

* هل التقى الركب الحسيني بجابر بن عبد الله الأنصاري؟

بعد رحلة متعبة ومجهدة إلى الكوفة، ثمّ إلى الشام، استمرّت قرابة أربعين يوماً، عاد الركب الحسيني محمّلاً بأثقال الألم، إلى جانب أكاليل النصر وتحقيق هدف النهضة الحسينيّة (وهل كانت ولادة الأهداف السامية من غير ألم؟!)، واتّجه إلى كربلاء حيث موطن الذكريات، وهناك التقى عند المصرع بجابر بن عبد الله الأنصاري.

فقد روى الشيخ عماد الدين محمّد بن أبي القاسم محمّد بن علي الطبري في كتابه (بشارة المصطفى) قصّة الحادثة كما يلي: أخبرنا الشيخ الأمين أبو عبد الله محمّد بن شهريار الخازن، بقرائتي عليه في مشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في شوال سنة اثني عشرة وخمسمئة قال: أملى علينا أبو عبد الله محمّد بن محمّد البرسي قال: أخبرني أبو طاهر محمّد بن الحسين القرشي المعدّل قال: حدّثنا

١١٥

أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن حمران الأسدي قال: حدّثنا أبو أحمد إسحاق بن محمّد بن علي المقري قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن الأيادي قال: حدّثنا عمر بن مدرك قال: حدّثنا يحيى بن زياد الملكي قال: أخبرنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش، عن عطية العوفي قال: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل، ثمّ اتزر بإزار، وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه.

ثمّ لم يخطُ خطوة إلاّ ذكر الله تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء.

فلمّا أفاق قال: يا حسين، ثلاثاً.ثمّ قال: حبيب لا يُجيب حبيبه، ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب؛ وقد شحطت أوداجك على أثباجك، وفُرّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنّك ابن خاتم النبيّين، وابن سيّد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة سيّدة النساء، وما لك لا تكون هكذا؟! وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين، ورُبّيت في حجر المتّقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفُطمت بالإسلام، فطبت حيّاً، وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك، ولا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثمّ جال بصره حول القبر، وقال: السّلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين، وأناخت برحله، وأشهد أنّكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين. والذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

١١٦

قال عطية: فقلت له: يا جابر، كيف ولم نهبط وادياً، ولم نعلُ جبلاً، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرِقَ بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم، وأُرملت أزواجهم؟!

فقال: يا عطية، سمعت حبيبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «مَنْ أحبّ قوماً حُشر معهم، ومَنْ أحبّ عمل قوم أُشرك في عملهم». والذي بعث محمداً بالحق نبيّاً، إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسينعليه‌السلام وأصحابه.

خذني نحو إلى أبيات كوفان، فلمّا صرنا في بعض الطريق، قال: يا عطية، هل أوصيك؟ وما أظن أنّني بعد هذه السفرة ملاقيك، أحبب محبّ آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ما أحبّهم، وابغض مبغض آل محمّد ما أبغضهم وإن كان صوّاماً قوّاماً، وأرفق بمحبّ محمّد وآل محمّد؛ فإنّه إن تزلّ له قدم بكثرة ذنوبه ثبتت له أُخرى بمحبّتهم؛ فإنّ محبّهم يعود إلى الجنّة، ومبغضهم يعود إلى النار(1).

وقد شكك الشهيد الشيخ المطهريرحمه‌الله في الملحمة الحسينيّة بأمر لقاء الركب الحسيني بجابر بن عبد الله الأنصاري، وذكرها تحت عنوان التحريفات اللفظية: قصّة زيارة الأُسراء لقبر الحسين في كربلاء، وملاقاة السجّاد لجابر، وذلك بعد أن وصل الأسرى إلى مفترق طريق بين المدينة والعراق، والاستعانة بالنعمان بن بشير لمعرفة طريق كربلاء، في حين أنّ حقيقة الزيارة المعروفة هي زيارة جابر وعطية العوفي لقبر الحسين لا غير. (هذا على فرض كون كلّ ما جاء في الطبعة العربية المترجمة صحيح النسبة إلى الشهيد المطهري، وهو ما لم يقبله المحقّق السيد جعفر العاملي في كتابه الجديد كربلاء فوق الشبهات).

ولم يذكر الشهيد المطهريرحمه‌الله ، وهو المحقّق المتتبّع، ما يدلّ على كون الواقعة غير حقيقية، أو جهة كونها من التحريفات اللفظية!

ولعل

____________________

1 - بشارة المصطفى / 75.

١١٧

حرصه على أن تكون الاُمور محقّقة، وحماسه ضدّ المبالغات غير المقبولة في السيرة الحسينيّة، كما يلحظ ذلك قارئ الملحمة، أدّى به لذلك.

فمع أنّنا لا نجد تأريخاً صريحاً للواقعة في المصادر التاريخية القديمة - في الباقي منها - كما هو الحال في الباقي من مقتل أبي مخنف الأزدي، والذي نقل منه الطبري كثيراً، ولم ينقله بكامله، وإنّما نقل ما يرتبط بالقضية التأريخية التي تنفعه في كتابه.

ولا يضرّ عدم ذكره الواقعة؛ فإنّه لم يذكر أصل زيارة جابر الأنصاري، كما لا يضرّ عدم ذكرها في المصادر التاريخية القديمة؛ فإنّ أوّل مَنْ ذكر الزيارة هو صاحب (بشارة المصطفى) المتوفى بعد سنة 553 هـ فإنه قد التزم الشيخ الطبري بأنّني (سمّيته بكتاب بشارة المصطفى لشيعة المرتضى (صلوات الله عليهم) ولا أذكر فيه إلاّ المُسنَد من الأخبار عن المشايخ الكبار، والثقاة الأخيار).

والشيخ الطبري وهو من تلاميذ ابن شيخ الطائفة الطوسي (أعلى الله مقامهم) في تلك الطبقة، يمكن أن تُقبل شهادته في التوثيق، وأنّها عن حس لا عن حدس واجتهاد. ومع هذا يمكن الاطمئنان إلى وثاقة مَنْ هم في سند هذه الرواية التي نقلها في كتابه؛ فإنّهم يتحدّثون في علم الرجال في باب التوثيقات العامّة عن كتاب (بشارة المصطفى) كواحد من الكتب التي تفيد وثاقة مَنْ ورد في أسانيد رواياته؛ إمّا كلّ مَنْ ورد في سلسلة السند، كما لعلّه الأظهر؛ باعتبار أنّ صاحب الكتاب وهو الضليع في هذا الفنّ يريد أن يصحح رواياته، وهذا لا يتمّ إلاّ بالحكم بوثاقة مَنْ هم في السند جميعاً، وإمّا خصوص مشايخه على الخلاف المبحوث في بابه.

كما ذكر الشيخ الجليل نجم الدين جعفر بن محمّد بن جعفر أبي البقاء هبّة الله بن نما الحلّي، (وهو الشيخ الفقيه الذي كان من الفضلاء والأجلّة، وكبراء الدين والملّة، عظيم الشأن، جليل القدر، وأحد مشايخ

١١٨

آية الله العلاّمة... كما ذكر المحدّث القمّي في الكنى والألقاب، وغيره في غيره)، والمتوفّى سنة 645 هـ في كتابه (مثير الأحزان ص 76، طبع المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، بنحو الاختصار موضوع اللقاء بين جابر وبين ركب السبايا، فقال: ولمّا مرّ عيال الحسين بكربلاء وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمة الله عليه) وجماعة من بني هاشم قدموا لزيارته في وقت واحد، فتلاقوا بالحزن والاكتياب، والنوح على هذا المصاب المقرح لأكباد الأحباب). وقد طبع هذا الكلام في حاشية مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي ص 220.

وقد ذكر الموضوع أيضاً السيد علي بن طاووس الحلّي، المتوفّى سنة 664 هـ في كتابه (اللهوف) في صفحة 196 فقال: ولمّا رجع نساء الحسين وعياله من الشام، وبلغوا العراق قالوا للدليل: مرّ بنا على طريق كربلاء، ووصلوا إلى المصرع فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريرحمه‌الله وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة قبر الحسين، فوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم.

ونحن لا نرى وجود مانع يمنع من الالتزام بالرواية المذكورة؛ فمن الناحية التاريخية كان دخول السبايا إلى الشام في أوّل يوم من صفر، كما رواه الكفعمي والبهائي والمحدث الكاشاني، وكان بقاؤهم في الشام خمسة أو سبعة أيام، ثمّ عودتهم إلى كربلاء، مع ملاحظة أنّ ذهابهم كان أكثر من ذلك؛ لتوقّفهم في الكوفة، ولأنّهم كانوا يريدون التفرّج عليهم في رحلة الذهاب، بخلاف ذلك في رحلة العودة.

وعلى أيّ حال، فإنّ خمسة عشر يوماً، أو ثلاثة عشر يوماً كافية للوصول إلى كربلاء في رحلة العودة.

هذا، ولكنّي عثرت فيما بعد على كلام لشيخ الطائفة الطوسيرحمه‌الله يشير فيه إلى يوم الأربعين، باعتباره اليوم الذي عاد فيه

١١٩

حرم الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، وهو نفسه اليوم الذي زار فيه جابر بن عبد الله قبر الحسين، فأحببت إضافته إلى هذه الصفحات.

وربما يتوهّم أنّه اليوم (كتاريخ ومناسبة) لا اليوم الشخصي، لكنّه بعيد جدّاً من سياق الخبر كما ستلاحظ.

قال الشيخ في مصباح المتهجد: (وفي اليوم العشرين منه كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام من الشام إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (ورضي عنه) من المدينة إلى كربلاء؛ لزيارة قبر أبي عبد اللهعليه‌السلام ، فكان أوّل مَنْ زاره من الناس، ويستحبّ زيارتهعليه‌السلام فيه، وهي زيارة الأربعين)(1).

هل كانت أُمّ البنين موجودة بعد كربلاء؟

جرت عادة الخطباء على ذكر أُمّ البنين فاطمة بنت حزام الكلابية، واستقبالها بشر بن حذلم، ثمّ استقبالها للركب الحسيني والنساء، وهكذا خروجها لندبة أبنائها، ولكن استبعد المحقّق المقرّم في كتابه القيّم (مقتل الحسين) بقاء أُمّ البنين، وأنّها كانت موجودة إلى يوم الطفّ.

ونحن لا نرى استبعاد العلاّمة المحقّق السيّد المقرّمرحمه‌الله في محلّه؛ فإنّه بعد أن قال: لم أعثر على نصّ يوثق به، يدلّ صراحة على حياة أُمّ البنين يوم الطفّ، ثمّ بدأ بمناقشة رواية أبي الفرج الأصفهاني عن محمّد بن علي بن حمزة عن النوفلي، عن حمّاد بن عيسى، عن معاوية بن عمّار، عن الصادقعليه‌السلام أنّ أُمّ البنين كانت تخرج إلى البقيع تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها، فيجتمع الناس إليها؛ ليسمعوا منها، وكان مروان يجيء فيمَنْ يجيء؛ لذلك فلا يزال يسمع ندبتها.

ثمّ شرع في مناقشة رواة

____________________

1 - نقله في الوسائل 14 / 479، وقال: إنّه قد روى المفيد ذلك أيضاً مرسلاً، في (مسارّ الشيعة).

قلت: ليس عندي هذا الكتاب حتّى أرى عبارته.

١٢٠