• البداية
  • السابق
  • 160 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 13844 / تحميل: 4569
الحجم الحجم الحجم
من قضايا النهضة الحسينية

من قضايا النهضة الحسينية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أشدّ قراعاً بالسيوف لدى الوغى

ألا كلّ مَنْ يحمي الذمارَ مقارعُ

وذلك الذي قال: ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة، أو الاستيلاء على الملك. فلو كففنا عنها رويداً لأتت على العسكر بكامله، فما كنّا فاعلين لا أُمَّ لك!(1) .

وهلال بن نافع: كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمه أحسن منه، وقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله، فاستسقى في هذه الحال ماء فأبوا أن يسقوه(2) .

(يُشار هنا إلى الفرق بين هلال (المخسوف) بن نافع الأموي، الذي كان عاقبة أمره خُسراً، وبين نافع بن هلال الحسيني الذي نفع نفسه بموقفه، والذي يقول:

أرمي بها معلمة أفواقها

والنفسُ لا ينفعها إشفاقها

وهو الذي تقدّم باللواء للمشرعة يوم السابع، وكان له موقف رائع في انفراده مع الحسينعليه‌السلام ليلة العاشر، كما كان له في المعركة مواقف مشرّفة إلى أن استشهد).

ومثل هاني بن ثبيت الحضرمي: إنّي لواقف عاشر عشرة لما صُرع الحسين، إذ نظرت إلى غلام فأقبل عليه رجل يركض بفرسه حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه وعلاه بالسيف فقتله. مسروق بن وائل الحضرمي: كنت أوّل الخيل؛ لعلّي أُصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد،

____________________

1 - ذوب النضار في الأخذ بالثار - لابن نما الحلي / 9.

2 - مقتل الحسين - للمقرّم / 282.

٢١

فلمّا رأيت ما صُنع بابن حوزة (أو حويرثة في بعض الكتب) علمت أنّ لأهل هذا البيت حرمة؛ فتركت القتال(1) .

3 - وشهود عيان من معسكر الحسينعليه‌السلام ، مثل: الضحّاك بن عبد الله المشرقي(2) ، وعقبة بن سمعان مولى الرباب الذي صحب الحسينعليه‌السلام

____________________

1 - المصدر السابق / 231.

2 - روى أبو مخنف عن الضحّاك بن عبد الله المشرقي، قال: لما رأيت أصحاب الحسينعليه‌السلام قد أُصيبوا، وقد خلص إليه وإلى أهل بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي وبشير بن عمرو الحضرمي، قلت له: يابن رسول الله، قد علمت ما كان بيني وبينك، قلت لك: أُقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أرَ فأنا في حلّ من الانصراف، فقلت لي: نعم.

قال: فقال: «صدقت، وكيف لك بالنجاء؟! قدرت على ذلك فأنت في حلّ».

قال: فأقبلت إلى فرسي، وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تُعقر، أقبلت بها حتّى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت، وأقبلت أُقاتل معهم راجلاً، فقتلت يومئذ بين يدي الحسينعليه‌السلام رجلين، وقطعت يد آخر، وقال لي الحسينعليه‌السلام يومئذ مراراً: «لا تشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله ». فلمّا أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثمّ استويت على متنها، ثمّ ضربتها حتّى إذا قامت على السنابك رميت بها عرض القوم فأفرجوا لي، واتّبعني منهم خمسة عشر رجلاً حتّى انتهيت إلى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات، فلمّا لحقوني عطفت عليهم، فعرفني كثير بن عبد الله الشعبي، وأيوب بن مشرح الخيواني، وقيس بن عبد الله الصائدي، فقالوا: هذا الضحّاك بن عبد الله المشرقي، هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه.

فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم: بلى والله، لنجيبنّ إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبهم.

قال: فلمّا تابع التميميون أصحابي كفّ الآخرون.

قال: فنجّاني الله.

ومع أنّ الضحّاك لم يحظ بشرف الشهادة بين يدي الحسينعليه‌السلام ، وفاته هذا التوفيق العظيم إلاّ أنّ بقاءه نفع في نقل تفاصيل الواقعة من عنصر كان

٢٢

من المدينة إلى مكة، ومنها إلى العراق، (ولم أفارقه حتّى قُتل، وسمعت جميع كلامه، فما سمعت منه ما يذكر الناس من أنّه يضع يده في يد يزيد، وأن يسيّره إلى ثغر من الثغور).

والمرقع بن ثمامة الأسدي الذي أُسر فاستأمنه قومه فنفاه ابن زياد إلى الزارة، والحسن بن الحسن (المثنّى) الذي قاتل إلى جانب عمّه الحسينعليه‌السلام حتّى قتل سبعة عشر من الأعداء ثمّ قُطعت يده، وأخذه أسماء بن خارجة الفزاري؛ لأنّ أُمّه فزارية، وزيد بن الحسن، وعمرو بن الحسن، وهكذا نساء أهل البيتعليهم‌السلام .

4 - أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : فالإمام السجّاد استفاد من جميع الفرص بما هو غير خافٍ، والإمام الصادق في تشجيعه للراثين والرثاء، وعن طريق نقل الأخبار فقد صلّى ركعتين في الحنّانة، وقال: «هاهنا وضِع رأس الحسين عندما أُخذ للكوفة». وعندما شبّت النار في الأخبية نقل موضوع حرق الخيام، وتأتيه جارية بطفل في أثناء الرثاء فيذكّر بمصاب الطفل الرضيع.

5 - الزيارات: مثل الزيارة المنسوبة للناحية المقدّسة(1) ، والتي تعرضت

____________________

شاهداً، وتفاصيل أحداث ما جرى في المخيّم، ولعلّ الناظر إلى مقتل الحسين للأزدي وغيره يرى بوضوح أثر رواياته تلك.

1 - هناك رأيان بالنسبة إلى الزيارة هذه: فهناك مَنْ يرى بأنّ الزيارة صادرة عن صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)؛ ولذا اشتهر اسمها بأنّها زيارة الناحية المقدّسة.

وقد ذكر محمّد بن المشهدي المتوفى في سنة (610هـ): وممّا خرج من الناحيةعليه‌السلام إلى بعض الأبواب قال: تقف عليه (صلّى الله عليه) وتقول:....

وهناك رأي آخر يرى عدم ثبوت كونها كذلك، وإنّما هي من إنشاء بعض العلماء المتقدّمين، كالسيد المرتضى.

أمّا العلاّمة المجلسي في البحار 98 فقد قال: وقد ذكر الشيخ المفيد بعد الزيارة التي نقلناها من المصباح ما هذا لفظه: زيارة

٢٣

في تفصيل جميل لمقدمات الثورة، ووضع المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، والدوافع التي حرّكت الإمام الحسينعليه‌السلام للثورة، وكيف كان مسير المعركة، وأخيراً فيها تفصيل للمقتل ممّا صار على ألسنة الخطباء نصّاً ثابتاً: (... فلمّا رأوك ثابت الجأش، غير خائف ولا خاشٍ، نصبوا لك غوائل مكرهم، وقاتلوك بكيدهم وشرّهم، وأمر اللعين جنوده فمنعوك الماء ووروده، وناجزوك القتال، وعاجلوك النزال، ورشقوك بالسّهام والنبال، وبسطوا إليك أكفّ الاصطلام، ولم يرعوا لك ذماماً، ولا راقبوا فيك آثاماً في قتلهم أولياءك، ونهبهم رحالك، وأنت مقدم في الهبوات، ومحتمل للأذيات، وقد عجبت من صبرك ملائكة السماوات.

وأحدقوا بك من كلّ الجهات، وأثخنوك بالجراح، وحالوا بينك وبين الرواح، ولم يبقَ لك ناصر، وأنت محتسب صابر، تذبّ عن نسوتك وأولادك حتّى نكسوك عن جوادك، فهويت إلى الأرض جريحاً تطؤوك الخيول بحوافرها، وتعلوك الطّغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينُك، واختلفت بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، تدير طرفاً خفيّاً إلى رحلك وبيتك، وقد شُغلت بنفسك عن ولدك وأهلك، وأسرع فرسك شارداً، وإلى خيامك قاصداً، محمحماً باكياً.

فلما رأينَ النساء جوادك مخزيّاً،

____________________

أُخرى في يوم عاشوراء برواية أُخرى.

وقال العلاّمة المجلسي، بعد أن ساق الزيارة إلى آخرها، مثل ناقلاً عن المزار الكبير للمشهدي: فظهر أنّ هذه الزيارة منقولة مرويّة، ويُحتمل أن لا تكون مختصّة بيوم عاشوراء، كما فعله السيد المرتضىرحمه‌الله .

وأمّا الاختلاف الواقع بين تلك الزيارة وبين ما نُسب إلى السيد المرتضى فلعلّه مبني على اختلاف الروايات. والأظهر أنّ السيد أخذ هذه الزيارة وأضاف إليها من قبل نفسه ما أضاف.

أقول: لا يمكن دعوى أنّها - فيما اتفق من لفظ الزيارتين - من إنشاء السيد المرتضى مع ذكرها من قبل أُستاذه الشيخ المفيد (رضوان الله عليهما).

٢٤

ونظرنَ سرجك عليه ملويّاً، برزنَ من الخدور ناشرات الشعور(1) ، على الخدود لاطمات، وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذلّلات، وإلى مصرعك مبادرات، والشمر جالس على صدرك، مولغ سيفه على نحرك، قابض على شيبتك بيده، ذابح لك بمهنده، قد سكنت حواسك، وخفيت أنفاسك، ورُفع على القنا رأسك، وسُبي أهلك كالعبيد، وصُفدوا في الحديد فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق، فالويل للعصاة الفسّاق؛ لقد قتلوا بقتلك الإسلام، وعطّلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السّنن والأحكام، وهدموا قواعد الإيمان، وحرّفوا آيات القرآن، وهملجوا في البغي والعدوان...)(2) .

وزيارة الإمام الحجّة للحسينعليهما‌السلام ، والتي فيها أسماء الشهداء مع الحسينعليه‌السلام مع أسماء قاتليهم، وستأتي في قسم الملحقات.

____________________

1 - سوف يأتي في الأسئلة بيان الوجه في هذا المقطع من الزيارة.

2 - المزار / 503.

٢٥

٢٦

2

أسئلة في السيرة والثورة الحسينيّة

٢٧

٢٨

لماذا لم يستلم مسلم بن عقيل الكوفة؟ ولِمَ لم يقتل ابن زياد عندما زار هذا [الأخير] عبد الله بن شريك الأعور؟

الجواب: أمّا إنّه لماذا لم يستلم مسلم الكوفة بأن يقوم مثلاً بعمل انقلاب عسكري ويسيطر عليها فلأمور:

1 - ما ذكره بعض العلماء من أنّ مهمّته التي كُلّف بها لم تكن إلى هذا الحدّ؛ وذلك أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد عيّن وظيفته في رسالته التي أرسلها معه إلى الكوفة وأهلها، فقال: إلى هذا الحدّ، وذلك أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد عيّن وظيفته في رسالته التي أرسلها معه إلى الكوفة وأهلها حيث كتب: «من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين. أمّا بعد، فإنّ (فلاناً وفلاناً) قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر رسلكم، وفهمت مقالة جلّكم: أنّه ليس علينا إمام فأقبل، لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ. وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم، وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم

٢٩

وقرأته في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله»(1) .

وبهذا يتبيّن أنّ وظيفة مسلم بن عقيل لم تكن السيطرة على الكوفة عسكرياً عن طريق القيام بانقلاب مثلاً، أو البدء في حرب مع أنصار بني أُميّة، وإنّما كانت مهمّته أشبه بالاستطلاعية؛ لكي يرى هل الواقع يتطابق مع ما هو مذكور في رسائل القوم، أو أنّه يختلف، وأنّ عليه أن يكتب للإمامعليه‌السلام ما يرى ويشاهد، حتّى يقرّر الإمامعليه‌السلام ما هو لازم بحسب خبره.

وقد قام مسلم بما طُلب منه، وبالفعل فقد أرسل إلى الإمام الحسينعليه‌السلام بما رأى من اجتماعهم على بيعته، وأرسلها إليه مع عابس بن أبي شيبب الشاكري:... أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي؛ فإنّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأى ولا هوى، والسّلام(2) .

2 - يُحتمل أيضاً أنّ الاُمور جرت بنحو فوجئ به مسلم؛ حيث إنّه بعدما بايعه ثمانية عشر ألفاً، وكان الناس في رأيه، وكما تشير إليه ظواهر الاُمور ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى؛ فإنّ ذلك كان يمثّل تطميناً بالنسبة له لكي لا يبدأ في عملية انقلابية، إضافة إلى ما ذكر سابقاً.

وكان قدوم عبيد الله بن زياد بتلك السّرعة متخفياً يمثّل عنصر المفاجأة التي لم تكن محسوبة بهذه السّرعة.

لقد كانت السّيطرة على الوضع بحسب الظاهر في الكوفة تامّة لمسلم ولأشياعه؛ فالنعمان بن بشير الأنصاري لم يشأ الاصطدام العنيف بمسلم، واكتفى بسيطرته على القصر، والناس كانوا يرغبون ولو على مستوى الرغبة الداخلية والنفسية في تغيير الوضع القائم،

____________________

1 - إعلام الورى بأعلام الهدى 1 / 436.

2 - الطبري 4 / 281.

٣٠

لكنّ الذي غيّر الاُمور بشكل كامل هو مجيء ابن زياد غير المتوقّع أصلاً؛ وذلك أنّه كان على خلاف مع يزيد، ولم يكن يزيد في بداية أمره يميل إليه، لكنّ اقتراح سرجون بن منصور الرومي(1) ، المسيحي الذي كان مستشاراً لأبيه، ثمّ مستشاراً له، بأن يرسل إلى الكوفة ابن زياد خلط الاُمور وغيّر المعادلة.

وكان الأمر بهذا النحو، وبهذه السّرعة مفاجئاً حتّى بالنسبة للنعمان بن بشير، الذي قال لابن زياد لمّا طرق باب القصر: ما أنا بمؤدٍ إليك أمانتي يابن رسول الله.

وأمّا إنّه كيف تمّت السّيطرة على الاُمور بهذه السّرعة لصالح بني أُميّة؛ فذلك لأنّه في أوقات الأزمات الاجتماعيّة لا يمكن أن يبقى الانتظار سيد الموقف للأخير. وصاحب المبادرة هنا والاقتحام ولو كان من أهل الباطل هو الذي يأخذ بزمام الاُمور، فيفرض على المجتمع ولو لمدّة ما يريد.

والمتتبّع للتاريخ منذ ما بعد رسول الله وإلى أيّام الأمويين والعباسيين يرى هذا بوضوح، فضلاً عن التاريخ الإنساني العام. أمّا بالنسبة إلى قتل ابن زياد فقد ذُكرت أمور لامتناع مسلم عن القيام بذلك:

____________________

1 - تاريخ الطبري 4 / 258:... فدعا مولى له يُقال له سرجون، وكان يستشيره فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم.

قال: فاقبل منّي فإنّه ليس للكوفة إلاّ عبيد الله بن زياد فولّها إيّاه، وكان يزيد عليه ساخطاً، وكان همَّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضائه وإنّه قد ولاّه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.

قال: فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتّى قدم الكوفة متلثّماً، ولا يمرّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم إلاّ قالوا: عليك السّلام يابن بنت رسول الله، وهم يظنّون أنّه الحسين بن علىعليه‌السلام حتّى نزل القصر.

٣١

1 - الناحية الأخلاقية والشّرعية: فإنّه قد ذكر حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ «الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مسلم»(1).

وفي هذا تعليم هامّ لجميع المسلمين أن لا يتجاوزوا في صراعاتهم للقواعد الشّرعية، فلأن يكون هدفك شريفاً وسامياً يتطلّب منّك وسيلة وأسلوباً متناسباً مع ذلك الهدف، ولا تبرّر أهميّة الهدف استخدام الوسائل السّيئة.

وهذا ما عُرف اليوم بأنّ الغاية أي الهدف الجيد لا تبرّر الوسيلة (السّيئة).

وهذا ما عُرف به أهل البيتعليهم‌السلام في طريقتهم في العمل، وفي طليعتهم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فهو لا يغدر ولا يفجر وإن انتهى حفاظه

____________________

1 - قد روي هذا الحديث في كثير من مصادر الفريقين بهذا اللفظ في مناسبات مختلفة:

ففي المصنف - لابن أبي شيبة الكوفي 8 / 644، قال: جاء رجل إلى الزبير أيّام الجمل، فقال: أقتل لك عليّاً؟ قال: وكيف؟ قال: آتيه فأخبره أنّي معه ثمّ أفتك به. فقال الزبير: لا، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن».

وفي مسند أحمد أنّ معاوية دخل على عائشة فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلاً يقتلك؟ فقال: ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان، وقد سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول. يعني: الإيمان قيد الفتك.

وفي مسند الشاميين - للطبراني 3 / 350: عن عمرو بن الحمق، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «الإيمان قيد الفتك، مَنْ أمن رجلاً على دمه فقُتل فأنا من القاتل برئ وإن كان المقتول كافراً».

وفي مناقب آل أبي طالب - لابن شهر آشوب 3 / 364: عن أبي الصباح الكناني قلت لأبي عبد الله: إنّ لنا جاراً من همدان يُقال له الجعد بن عبد الله يسبّ أمير المؤمنين، أفتأذن لي أن أقتله؟ قال: «إنّ الإسلام قيد الفتك».

والعجيب أنّ معاوية الذي يروي الحديث المتقدّم، وأنّه سمع ذلك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مارس سياسة الفتك والقتل غيلة، كما لم يمارسها أحد قبله، إلى أن كان يفتخر بقوله: (إنّ لله جنوداً من عسل)!

وعلى هذا النهج سار ابنه يزيد؛ فقد أرسل كما تقول بعض الروايات التاريخية ثلاثين رجلاً، وأمرهم بقتل الحسين غيلة في مكّة ولو كان في البيت الحرام.

٣٢

على القيم إلى أن ينهزم في الظاهر، ويفوز عدوّه الذي لا يلتزم بأخلاق في صراع؛ فهو لا يطلب النصر بالجور والغدر: «والله، ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة»(1).

وربما يفوز هذا الثاني لفترة مؤقتة، ولكنّ النصر النهائي هو لصاحب المنهج الأخلاقي، وربما تقول: إذاً كيف أمر هاني (أو شريك) بذلك وهو أيضاً من شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ومن كبارهم؟

والجواب على ذلك: هو أنّ (هاني) قد نفى أن ينطبق ذلك الحديث عليه، فقال: إنّما الممنوع هو الفتك بالمسلم، بينما ابن زياد في نظره ليس بمسلم، بل كافر فاجر. وسيأتي بعد هذا ذكر ما نقله التاريخ عن الواقعة.

2 - كراهية هاني بن عروة أن يتمّ ذلك الأمر في بيته؛ فإنّه بحسب منطق صفات رؤساء القبائل، وهاني بن عروة واحد منهم، لم يكن يريد أن يُعرف عنه وعن قبيلته أنّهم يغدرون بمَنْ يأتيهم حتّى لو فُرض أنّ هناك استثناء في مسألة الفتك. ولقد لاحظ مسلم بن عقيل هذه الرغبة فلم يشأ أن يتمّ هذا العمل في بيته مع كراهيته.

فقد نقل أبو مخنف حادثتين أعرب فيهما هاني عن كراهية قتله في بيته، فقد قال أبو مخنف إنّه: مرض هاني بن عروة فجاء عبيد الله عائداً له، فقال له عمارة بن عبيد السلولي: إنّما كيدنا قتل هذا الطاغية؛ فقد أمكنك الله منه فاقتله.

قال هاني: ما أحبّ أن يُقتل في داري.

فخرج فما مكث إلاّ جمعة حتّى مرض شريك بن الأعور، وكان كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، (وكان شديد التشيّع)، فأرسل إليه عبيد الله أنّي رائح إليك العشية.

____________________

1 - نهج البلاغة.

٣٣

فقال لمسلم: إنّ هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله، ثمّ اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها.

فلمّا كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وقال له شريك: لا يفوتنّك إذا جلس.

فقام هاني بن عروة إليه فقال: إنّي لا أحبّ أن يُقتل في داري. كأنّه استقبح ذلك.

فجاء عبيد الله بن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكاً عن وجعه، وقال: ما الذي تجد، ومتى اشتكيت؟ فلمّا طال سؤاله إيّاه، ورأى أنّ الآخر لا يخرج خشي أن يفوته، فأخذ يقول: ما تنظرون بسلمى أن تُحيّوها؟ أسقنيها وإن كانت فيها نفسي!

فقال ذلك مرّتين أو ثلاثاً، فقال عبيد الله ولا يفطن: ما شأنه؟! أترونه يهجر؟

فقال له هاني: نعم أصلحك الله، ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتّى ساعته هذه.

ثمّ إنّه قام فانصرف، فخرج مسلم فقال له شريك: ما منعك من قتله؟

فقال: خصلتان؛ أمّا إحداهما فكراهة هاني أن يُقتل في داره؛ وأمّا الأُخرى فحديث حدّثه الناس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «أنّ الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن».

فقال هاني: أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً، كافراً غادراً.

ولبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثاً ثمّ مات(1) .

____________________

(1) مقتل الحسين - للوط بن مخنف الأزدي / 32. (لا يخفى أنّ هذا الكتاب المطبوع مأخوذ من تأريخ الطبري، وقد سبقت الإشارة إلى هذا، وقد طُبع كتاب باسم مقتل أبي مخنف يقول المحققون إنّه موضوع).

٣٤

سؤال: مقالة الحسينعليه‌السلام للحرّ الرياحي: ثكلتك أُمّك، هل تناسب مقام الإمامة؟

الجواب: أصل الحادثة كما نقلها المؤرّخون جرت لمّا التقى الحرّ بن يزيد الرياحي مع الإمام الحسينعليه‌السلام في الطريق إلى كربلاء، فقد نقل الطبري في تأريخه أنّهما لمّا التقيا وأقيمت صلاة الظهر، قام الإمام الحسينعليه‌السلام خطيباً فقال: «أمّا بعد، أيّها الناس، فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم».

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر!

فقال الحسين: «يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ».

فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنشرها بين أيديهم، فقال الحرّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.

فقال له الحسين: «الموت أدنى إليك من ذلك».

ثمّ قال لأصحابه: «قوموا فاركبوا».

فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: «انصرفوا بنا».

فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحرّ: «ثكلتك أُمّك! ما تريد؟».

قال: أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أُمّه بالثكل أن أقوله كائناً مَنْ كان، ولكن والله، مالي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يُقدر عليه(1).

انتهى ما نقله الطبري.

____________________

1 - تاريخ الطبري 4 / 303.

٣٥

والثكل: يعني فقد الولد.

ويبدو أنّ قسماً من الكلمات تتأثّر في معناها المتبادر إلى الذهن العام بالزمان، فقد يكون لفظ عندنا اليوم مستنكراً بينما هو في زمان آخر ليس بتلك الصورة من الاستنكار، ومن ذلك الكلمة المذكورة، أو قولهم: قاتله الله. فإنّها اليوم كلمات مستنكرة بينما لم تكن كذلك في الزمن السّابق.

وإلى ذلك أشار ابن الأثير في كتابه النهاية فقال: يجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يُراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك، وقاتلك الله.

ونحن نلتقي في سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه بهذه الكلمات، كما نُقل عنه في روايات الجمهور. ففي مسند أبي داود الطيالسي روي عن رسول في حديثه مع معاذ:... فقال: يا رسول الله، قولك أولا أدلّك على أملك ذلك كلّه؟

فأشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده إلى لسانه، فقلت: يا رسول الله، وإنّا لنؤاخذ بما نتكلّم بألسنتنا؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ثكلتك أُمّك يا معاذ! وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم؟».

بل نجد بعضهم يدعو على نفسه بذلك، كما نقل ابن قتيبة في غريب الحديث إنّ عمر بن الخطاب سار مع رسول الله ليلاً فسأله عن شيء فلم يجبه، ثمّ سأله فلم يجبه، ثمّ سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أُمّك يا عمر! نزرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً لا يجيبك (أي ألححت عليه).

ونقل الكوفي في مناقب أمير المؤمنينعليه‌السلام كلام حذيفة مع أحدهم عندما استعلم عن فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال حذيفة: يا ربيعة، إنّك لتسألني عن رجل، والذي نفسي بيده لو وضِعَ عمل جميع أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في كفّة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا،

٣٦

ووضِعَ عمل علي يوماً واحداً في الكفّة الأُخرى لرجح عمله على جميع أعمالهم!

فقال ربيعة: هذا الذي لا يُقام له ولا يُقعد!

فقال حذيفة: وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان (لكع)؟ أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أُمّك! وجميع أصحاب محمّد؟ يوم عمرو بن عبد ودٍ ينادي للمبارزة فأحجم الناس كلّهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه، والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أُمّة محمّد إلى يوم القيامة.

بل نجد أمير المؤمنينعليه‌السلام يتحدّث عن أخيه عقيل فيقول له ذلك، كما في نهج البلاغة: «... وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ؛ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَاعَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى وَلا أَئِنُّ مِنْ لَظَى...».

هذه الشواهد، وهي غيض من فيض، تشير إلى أنّ هذه الكلمة في ذلك الوقت لم تكن تُعطي المعنى الذي يتبادر إلى الذهن اليوم، بل حتّى لو فرضنا أنّ هذه الكلمات كانت تعني الدعاء الجدّي والحقيقي على الطرف المقابل بأن تثكله أُمّه، وأن يموت، فلا مانع من الالتزام بها في مورد مخاطبة الإمام الحسينعليه‌السلام مع الحرّ الرياحي؛ فإنّ الحرّ - إلى ذلك الوقت - كان باغياً على إمام زمانه، ومضيّقاً عليه مسيره، وهذا يعني إعلان الحرب عليه، ولو قُتل في تلك الحال لكان مصيره إلى النار دون ريب، وكان حينئذ على مَنْ يناصر الحسينعليه‌السلام أن يشهر

٣٧

سيفه في وجه الحرّ ويقاتله ويقتله لو استمر؛ فلا مانع من الالتزام بهذا المعنى.

سؤال: هل كان الحسينعليه‌السلام يعلم بمقتله أم لا؟ والأمر نفسه بالنسبة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ فإن كان يعلم فهو إلقاء بالنفس في التهلكة، وإن كان لا يعلم فكيف يمكن تفسير ما يُذكر على المنابر من أقوال تفيد علمهماعليهما‌السلام بمقتلهما؟

الجواب: بالرغم من أنّ هذا البحث طويل الذيل، وفيه بعض الجوانب التخصصية، إلاّ أنّنا سوف نسعى بمقدار ما يمكن لتبسيط الجواب، وذكر أهم أجوبة العلماء في المسألة، ثمّ نركّز على الجواب الأسلم بينها:

فقد سُئل الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) عن ذلك، وأجاب بما يلي:

1 - أنّ إجماع الشيعة قائم على علم الإمام بالحكم في كلّ ما يكون دون أن يكون علماً بأعيان ما يحدث تفصيلاً، (أي أنّ إجماع الشيعة منعقد على علمهم التفصيلي بالأحكام، ولا إجماع على ذلك في المواضيع)، ولا نمنع علمه بذلك بإعلام الله له.

2 - علم الإمام بقاتله، وعلمه بأنّه مقتول لا شك فيه، وأمّا علمه بوقت قتله فلم يثبت بأثر(أو خبر تام).

3 - لو أتى عليه أثر لم يكن مشكلاً؛ حيث لا نمنع أن يتعبّده الله بالصبر والاستسلام؛ ليبلغ من المرتبة ما لا يبلغه إلاّ به(1) .

وأمّا جواب الشيخ الطبرسي: أنّ فعله يحتمل وجهين؛ أحدهما: إنّه ظنّ أنّهم لا يقتلونه؛ لمكانه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . والآخر: أنّه غلب على

____________________

1 - المسائل العكبرية / 71.

٣٨

ظنّه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه.

أمّا العلاّمة المجلسي فقد نقل جواب العلاّمة الحلّي (رضوان الله عليهما) من المسائل المهنائية، فقال في جواب عن مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، (ويلاحظ أنّ كلا جوابيه ينتهيان إلى أجوبة الشيخ المفيد):

* بأنّه يحتمل أن يكونعليه‌السلام أُخبر بوقوع القتل في تلك الليلة، ولم يعلم في أيّ وقت من تلك الليلة، أو أيّ مكان يُقتل. (وهذا الجواب هو نفس جواب الشيخ المفيد في أنّه لا يعلم على نحو التفصيل بلحظة المقتل).

* وأنّ تكليفهعليه‌السلام مغاير لتكليفنا، فجاز أن يكون بذل مهجته الشريفة في ذات الله تعالى كما يجب على المجاهد الثبات وإن كان ثباته يُفضي إلى القتل(1).

لكنّ الذي يظهر من السّيد المرتضىرحمه‌الله أنّ الحسينعليه‌السلام ربما كان يُشاهد لوائح النصر، وعلامات النجاح في الثورة؛ وهذا الذي دفعه إلى التحرّك والإقدام، فقال: قد علمنا أنّ الإمام متى غلب في ظنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فوّض إليه بضرب من الفعل وجب عليه ذلك، وإن كان فيه ضرب من المشقّة يُتحمل مثلها تحمّلها. وسيدنا أبو عبد اللهعليه‌السلام لم يسرِ طالباً للكوفة إلاّ بعد توثّق من القوم وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوهعليه‌السلام طائعين غير مكرهين، ومبتدئين غير مجيبين(2).

____________________

1 - بحار الأنوار 42 / 259.

2 - تنزيه الأنبياء / 227.

٣٩

ثمّ قال ما حاصله: إنّ الاُمور قد سارت فيما بعد على خلاف هذا الظنّ، وإنّ الاتفاق السيئ قد عكس هذا الأمر وقلبه حتّى تمّ فيه ما تمّ، ثمّ صار بين أن يكون آخر أمره إلى الذلّ، وربما صار مع ذلك إلى القتل من قبل عبيد الله بن زياد، وبين أن يلجأ إلى المحاربة والمدافعة؛ فاختار الشّهادة والسّعادة.

أقول: هذا الذي ذكره (رضوان الله عليه) يُشمّ منه عدم علم الإمامعليه‌السلام بمصرعه، وهو خلاف ما يذكره التاريخ والروايات؛ ولذا فقد ردّ السيد محسن الأمينرحمه‌الله في كتابه (لواعج الأشجان) بنحو مفصّل ذاكراً الشواهد التاريخية على علم الإمام بمصرعه من كلمات الإمام وغيرها، فقال: وممّا يدلّ على أنّ الحسينعليه‌السلام كان موطّناً نفسه على القتل، وظانّاً أو عالماً في بعض الحالات بأنّه يُقتل في سفره ذلك:

* خطبته التي خطبها حين عزم على الخروج إلى العراق التي يقول فيها: «خُطّ الموت على ولد آدم...» إلخ. فإنّ أكثر فقراتها تدلّ على ذلك.

* ونهي عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام له بمكة عن الخروج، وإقامته البرهان على أنّ ذلك ليس من الرأي، بقوله: إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، وعدم أخذ الحسينعليه‌السلام بقوله، مع اعتذاره إليه واعترافه بنصحه.

* ونهي ابن عباس له أيضاً محتجّاً بنحو ذلك، من أنّ الذين دعوه لم يقتلوا أميرهم، وينفوا عدوّهم، ويضبطوا بلادهم.

* وجوابه لمحمد بن الحنفية حين أشار عليه بعدم الخروج إلى العراق، فوعده النظر ثمّ ارتحل في السحر، فسأله ابن الحنفية، فقال له الحسينعليه‌السلام : «أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك فقال: يا حسين، اخرج فإنّ الله قد

٤٠