منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93158
تحميل: 6490

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93158 / تحميل: 6490
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

نعم، إنّ أمثال هؤلاء قد نَهَوا عبدَ الله بن عمرو بن العاص من تدوين حديث رسول الله، وهم الذين أشاعوا أفكاراً وآراءً عُدّت لاحقاً من ضمن شريعة سيّد المرسلين(١) .

موقف الشيخين من المنهجين:

ولمّا كان بحثنا يدور حول بيان سبب منع التحديث والكتابة والتدوين، فالذي يَهُمُّنا هو معرفة موقف الشيخَين من النصوص، وهل كان الشيخان من أنصار التعبّد المحض، أم من أصحاب الاجتهاد والرأي؟ كي يمكن رسم رؤيتنا في المنع على ضوئه، ونحن وإن كنّا لا نحبّذ الدخول في بحوث من هذا النوع، خوفاً من إثارة أُمور طائفيّة نحن في غنىً عنها، إلاّ أنّ الدراسة ألزمتنا بحث هذا الموضوع وغيره، لأنّ تركه يعني كتمان بعض الحقائق وإسدال الستار عليها، وعدم العثور على السبب الحقيقيّ الكامن وراء منع التحديث والكتابة والتدوين، بل تحجيم الفكر والعقيدة وعدم الحرّيّة في إبداء النظريّات والأسباب.

وهذه النقاط هي التي ألزمتنا بعدم ترك هذا الجانب وإن ارتبط بمكانة الشيخين وبعض الصحابة، وإليك بعض النصوص في ذلك:

منها: ما جاء في قصّة الرجل المتنسّك التي رواها أبو سعيد الخدريّ وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وغيرهم من أعيان الصحابة، واللفظ للثاني، قال: ذكر رجل لرسول الله صلّى الله عليه وآله له نكاية في العدو واجتهاد.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لا أعرف هذا!!

قال: بل نعته كذا وكذا.

____________________

(١) منها قولهم إنّ رسول الله خَفِي عليه أمر الوحي حتّى أخبره ورقة بن نوفل بذلك، وهذا يخالف ما جاء في خصائص النبيّ وأنّ خاتم النبوّة مكتوب على كتفه، ومعناه أنّه صلّى الله عليه وآله لا يحتاج إلى شهادة ابن نوفل وغيره على نبوّته!! انظر خبر ورقة في صحيح البخاري ١: ٤ ح ٣، ٣: ١٢٤١ ح ٣٢١٢، ٤: ١٨٩٤ ح ٤٦٧٠، ٦: ٢٦٥١ ح ٦٥٨١.

١٠١

قال: ما أعرفه!!

فبينما نحن كذلك إذ طلع الرجل، فقال: هذا هو يا رسول الله.

قال: ما كنت أعرف هذا!!، هذا أول قرن رايته في أمتي إنّ فيه لسعفة من الشيطان.

فلمّا دنا الرجل سلّم فرد عليه السلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنشدك بالله هل حدّثت نفسك حين طلعت علينا أن ليس في القوم أحد أفضل منك؟

قال: اللّهمّ نعم.

فدخل المسجد فصلّى.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبي بكر: قم فاقتلهُ، فدخل أبو بكر فوجده يصلّي، فقال أبو بكر في نفسه: إنّ للصلاة حرمة وحقاً لو أنّي استأمرت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فجاء إليه، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله: أقتلته؟ قال: لا، رأيته يصلّي ورأيت للصلاة حرمة وحقاً إن شئت اقتلهُ، قتلته، قال: لست بصاحبه. اذهب أنت يا عمر فاقتله.

فدخل عمر المسجد فإذا هو ساجد فانتظره طويل، ثم قال في نفسه إنّ للسجود حقاً ولو أنّي استأمرت رسول الله صلّى الله عليه وآله فقد استأمره مَن هو خير منّي، فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله، فقال صلّى الله عليه وآله: أقتلته؟ قال: لا، رأيته ساجداً ورأيت للسجود حقاً وإن شئت أن اقتله، قتلته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لست بصاحبه، قم يا علي أنت صاحبه إن وجدته.

فدخل فوجده قد خرج من المسجد، فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: أقتلته؟ قال: لا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لو قتل اليوم ما اختلف رجلان من أُمّتي حتى يخرج الدجّال، ثم حدثهم رسول الله عن الأمم، فقال: تفرقت أُمّة موسى على إحدى وسبعين ملّة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنّة، وتفرقت أُمّة عيسى على اثنتين وسبعين ملّة إحدى وسبعين منها في النار وواحدة في الجنّة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وتعلوا أُمّتي على الفرقتين بملّة، اثنتين وسبعين في النار وواحدة في الجنّة(١) .

____________________

(١) مسند أبي يعلى ٦: ٣٤١، ح ٣٦٦٨، حلية الأولياء ٣: ٢٢٧، سبل الهدى والرشاد ١٠: ١٥٧، وعن أبي سعيد الخدري في مسند أحمد ٣: ١٥، ح ١١١٣٣، البداية والنهاية ٧: ٢٩٩.

١٠٢

فالحقيقة أنّ موقف أبي بكر كان منطلقاً من الاجتهاد وتعرّفه على المصلحة، وهو بحضرته صلّى الله عليه وآله لعدم ارتضائه قتل الرجل، لصلاته وخشوعه! ولم يكن خاضعاً ومتعبّداً بأمر الرسول صلّى الله عليه وآله كما هو بيّن.

وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب، فإنّه قد قدّر المصلحة ولم يرتضِ قتل الرجل مع تأكيد الرسول على قتله بعد سماعه تعليل أبي بكر.

والآن نتساءل: ماذا يعني تأكيد رسول الله صلّى الله عليه وآله على قتل الرجل المتنسّك بعد سماعه تعليل أبي بكر وسبب انصرافه عن تنفيذ أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله بقتله؟!

وهل يجوز أن يأمر رسول الله بقتل المصلّي الخاشع ومن لم يستحقّ القتل؟! وكيف يمكن تصوّر خطِئه صلّى الله عليه وآله والأمر يتعلّق بالنفوس؟!

وإذا جاز قتله أو وجب، لقوله صلّى الله عليه وآله (قم فاقتله) فلِمَ توانى الشيخان عن أمره؟

ألم يكونا يعلمان أنّ الله سبحانه قال:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) وقال:( إنَّهُ لَقولُ رسولٍ كريم * ذي قوّة عند ذي العرش مكين * مُطاعٍ ثَمّ أمين * وما صاحبكم بمجنون ) (٢) .

وقال:( وما هو بقولِ شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تَذَكّرون ) (٣) .

وقال:( ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحيٌ يوحى ) (٤) .

إنّ عدم تعبّد الشيخين - في امتثال أمر الرسول - واجتهادهم بالرأي وتعرّفهم على المصلحة وهم بحضرة الرسول لأَمر يجب الوقوف عنده، وهو جدير بالدرس والتحليل.

ومن ذلك: اعتراض عمر على رسول الله في صلح الحديبيّة وقوله له: ألَسْتَ نبيّ

____________________

(١) الحشر: ٧.

(٢) التكوير: ١٩ - ٢٢.

(٣) الحاقّة: ٤٠ - ٤١.

(٤) النجم: ٢.

١٠٣

الله حقّاً؟

قال: بلى.

قال: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟

قال: بلى.

قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا؟

فقال: إنّي رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري.

قال: أوَ ليس كنت حدَّثتنا، أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟

قال: بلى، أفأخبرتُك أنّا نأتيه العام؟!

قلت: لا.

قال: فإنّك آتيه ومطوّف به.

قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبيّ الله حقّاً؟

قال: بلى.

قلت: فلمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذَنْ؟

قال: أيّها الرجل! إنّه رسول الله، وليس يعصي ربّه، وهو ناصُره، فاستمسك بغرزه فو الله إنّه على الحقّ.

قلت: أليس كان يُحَدِّثنُا، أنّا سنأتي البيت ونطوّف به؟

قال: أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟

قلت: لا.

قال: فإنّك آتيه ومطوّف به(١) .

____________________

(١) الخبر مشهور بل متواتر ورواه أغلب المفسّرين والمؤرّخين، وللتأكيد انظر صحيح البخاري ٢: ٩٧٨، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب...، ح ٢٥٨١ عن طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وفي ٣: ١١٦٢، باب إثم مَن عاهد ثم غدر...، ح ٣٠١١ عن سهل بن حنيف وعنه أيضاً في صحيح مسلم ٣: ١٤١١، باب صلح الحديبية، ح ١٧٨٥، ورواه مختصراً الطبراني في المعجم الكبير من طريق عمر نفسه ١: ٧٢، ح ٨٢، وكذا البيهقي في المدخل ١: ١٩٢، ح ٢١٧، وقال ابن حجر ٥: ٣٤٧

=

١٠٤

فالشكّ في صحّة قول الرسول وعدم الاطمئنان بكلامه صلّى الله عليه وآله واضح في كلام عمر بن الخطّاب، ولا يمكن لأحد أن يماري في ذلك؛ لأنّ تكرار عمر ومعاودة مسائلة أبي بكر، يعني عدم الاطمئنان بما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقول أبي بكر لعمر (أ يُّها الرجل! إنّه رسول الله وليس يَعصي ربّه) ليؤكّد ذلك الأمر، وكذا تأكيده بلزوم التمسّك بغرزه (فاستمسك بغرزه فو الله إنّه على الحقّ).

ثمّ إنّ عمر ومع سماعه كلام أبي بكر، نراه يصرّ على السؤال ويشكّك للمرّة الثالثة فيقول: (أليس كان يُحَدِّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوّف به...).

فهذا النصّ يوضّح أنّ عمر بن الخطّاب لم يكن من أتباع مسلك التعبّد المحض، فإنّه لو كان من أتباع هذا المسلك لامتثل كلامه صلّى الله عليه وآله، ولما احتاج إلى قول أبي بكر أو غيره من الصحابة ولمّا يشكك، إذ صرح بذلك في قوله: والله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ.

وثمّة مواقف أُخرى يفهم منها أنّه كان لعمر آراء خاصّة، كان يجدّ في ترسيخها ويلزم بها الصحابة، على الرغم من معرفته بمواقف الرسول منها.

منها: أنّه كان لا يرتضي البكاء على الميّت، وقد ضرب أم فروة بنت أبي بكر لبكائها على أبيها وبعضَ الباكين على رقيّة بنت النبيّ(١) وإبراهيم ابنه بحضرته صلّى الله عليه وآله، دون إعارة أي اهتمام لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ القلب ليحزن والعين لتدمع(٢) ، مشيراً إلى عدم جواز ضرب المصدومين والمنكوبين، بل يجب اتّخاذ أُسلوب الرحمة معهم لا الشدّة والضرب، وقد جاء عنه أنّه صلّى الله عليه وآله مسح عين فاطمة لمّا كانت تبكي على أُختها رقيّة، وأمَرَ نساء الأنصار بالبكاء على عمّه حمزة وقوله صلّى الله عليه وآله(ولكنّ حمزة لا بواكي له) (٣) وقد بكى صلّى الله عليه وآله عليه،

____________________

=

وهو عند البزار عن ابن عمر عن عمر (مسند البزّار ٢٥٤: ١، ح ١٤٨) وعند الواقدي عن ابن عباس قول عمر وعنده من حديث أبي سعيد عن عمر كذلك، وانظر تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: ٥٨.

(١) مسند أحمد ١: ٢٣٧، ح ٢١٢٧ ١: ٣٣٥، ح ٣١٠٣، طبقات ابن سعد ٣: ٣٩٨، مسند الطيالسي ١: ٣٥١، ح ٢٦٩٤.

(٢) صحيح البخاري ١: ٤٣٩/ ١٢٤١، طبقات ابن سعد ١: ١٣٩، الإصابة ١: ١٧٥.

(٣) المستدرك على الصحيحن ١: ٥٣٧ و ٣: ٢١٥، ح ٤٨٨٣، السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٧٠، ح ٦٩٤٦، مصنف ابن أبي شيبة ٣: ٦٣، ح ١٢١٢٧.

١٠٥

وجاء عن عمر أنّه اعترض على رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا أراد أن يصلّي على منافق، وأخذ بثوبه صلّى الله عليه وآله وقال له: أتصلّي عليه وهو منافق؟!(١) ثمّ ندم عمر على ما فعله معه صلّى الله عليه وآله.

ولا تنحصر مواقف عمر بهذه المفردات بل تتعدّاها إلى أبعد من ذلك، فإنّه أنكر على رسول الله أخذه الفداء من أسرى بدر؛ لأنّه كان يرى أن يعمد حمزة إلى أخيه العبّاس فيقتله، ويأخذ عليّ أخاه عقيلاً فيقتله، وهكذا كلّ مسلم له قرابة في أسرى المشركين يأخذ قريبه ويقتله بيده حتّى لا يبقى منهم أحد(٢) .

فأعرض رسول الله عن هذا الرأي تعبُّداً بالوحي الموافق للرحمة والحكمة.

ولمّا كان التاريخ والفقه - في بعض مدارسه - ممّا رسمته ريشة الحُكّام بعد أن اختطّت أُصوله في زمن الشيخين، كان لا بدّ أن نجد من المؤرّخين والمحدّثين مَن ينال مِن رسول الله صلّى الله عليه وآله، كي يبرّر ما فعله الشيخان تجاهه صلّى الله عليه وآله، فيذهب إلى القول بأنّ ما قالاه هو تفسير لما نزل من القرآن في تلك الواقعة، وأنّه نزل قوله تعالى:( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) (٣) في التنديد برسول الله وأصحابه حيث آثروا - حسب زعم هؤلاء - عَرَض الحياة الدنيا على الآخرة فاتَّخذوا الأسرى، وأخذوا منهم الفداء قبل أن يُثخنوا في الأرض، وزعموا أنّه لم يَسْلم يومئذٍ من الخطيئة إلاّ عمر. ونحن لا نريد التفصيل في تفسير هذه الآية، بل نكتفي بما قاله السيّد شرف الدين في ذلك، فقال:

(وكذب مَن زعم أنّه صلّى الله عليه وآله اتّخذ الأسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الأرض، فإنّه بأبي وأُمّي إنّما فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض، وقتل صناديد قريش وطواغيتها: كأبي جهل، وعُتبة، وشيبة، والوليد، وحنظلة، إلى سبعين من رؤوس الكفر وزعماء

____________________

(١) صحيح البخاري ٤: ١٧١٦، ح ٤٣٩٥.

(٢) صحيح مسلم ٣: ١٣٨٥، ح ١٧٦٣، مسند أبي عوانة ٤: ٢٥٥، ح ٦٦٩٢، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٣٢٠، ح ١٢٦٢٢.

(٣) الأنفال: ٦٧.

١٠٦

الضلال، كما هو معلوم بالضرورة الأوّليّه، فكيف يمكن بعد هذا أن يتناوله صلّى الله عليه وآله اللَّوم المذكور في الآية، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً؟!

والصواب أنّ الآية إنّما نزلت في التنديد بالذين كانوا يودّون العير وأصحابه، على ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الواقعة فقال عزّ من قائل:

( وإذ يعدكم اللهُ إحدى الطائفتَين أنّها لكم وتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذاتِ الشوكةِ تكون لكم ويُريدُ الله أن يُحِقّ الحَقَّ بكلماتِه ويَقْطَعَ دابرَ الكافرين ) (١) وكان صلّى الله عليه وآله قد استشار أصحابه، فقال لهم: إنّ القوم قد خرجوا على كلّ صعب وذلول فما تقولون: العير أحبُّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ، وقال بعضهم حين رآه صلّى الله عليه وآله مُصرّاً على القتال: هلاّ ذكرت لنا القتال لنتأهّبَ له، إنّا خرجنا للعير لا للقتال! فتغيّر وجه رسول الله فأنزل الله تعالى:

( كَمَا أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيِتكَ بالحَقّ و إنّ فَريقاً مِنَ المؤمنينَ لكارِهُونَ * يُجادلِونَك في الحقّ بعدَما تَبيّنَ كأنّما يُساقون إلى الموت وهُمْ يَنْظُرون ) (٢) .

وحيث أراد الله عزّ وجلّ أن يقنعهم بمعذرة النبيّ صلّى الله عليه وآله في إصراره على القتال، وعدم مبالاته بالعير وأصحابه قال عزّ من قائل:( ما كان لنبيّ ) من الأنبياء المرسلين قبل نبيّكم محمّد صلّى الله عليه وآله( أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض ) .

فنبيُّكم لا يكون له أسرى حتّى يُثْخِنَ في الأرض على سنن غيره من الأنبياء، ولذلك لم يبالِ إذ فاته أسر أبي سفيان وأصحابه( تُرِيدُونَ عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) باستئصال ذات الشوكة، من أعدائه (والله عزيز حكيم) والعزّة والحكمة تقتضيان يومئذ اجتثاث عزّ العدوّ و إطفاء جمرته، ثمّ قال تنديداً بهم وتهديداً لهم( لو لا كتاب من الله سبق ) في علمه الأزليّ بأن يمنعكم من أخذ العير وأسر أصحابه لأسرتم القوم وأخَذْتُم عيرهم، ولو فعلتم ذلك( لَمَسّكم فيما أخَذْتُم ) قبل أن تثخنوا في الأرض( عذاب عظيم ) (٣) هذا معنى الآية الكريمة وحاشا الله أن يريد منها ما ذكره أُولئك الجهلاء(٤) .

____________________

(١) الأنفال: ٧.

(٢) الأنفال: ٥ - ٦.

(٣) الأنفال: ٦٧ - ٦٨.

(٤) الفصول المهمّة: ١١٣.

١٠٧

وقال كذلك: ولهم في أُحُد حالات تشهد بما قلناه، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد استقبل المدينة في هذه الغزوة وترك أُحداً خلف ظهره وجعل الرُّماة وراءه، وكانوا خمسين رجلاً أمَّرَ عليهم عبد الله بن جبير؛ وقال له - فيما نَصَّ عليه المُؤِّرخون والمُحدِّثون كافّة -: انضح عنّا الخيل بالنَّبل لا يأتونا من خلفنا واثبتْ مكانك إن كانت لنا أو علينا.

وحضّهم على ذلك بما لا مزيد عليه، وشدّد عليهم الأمر في طاعة أميرهم عبد الله بن جبير، لكنّهم وا أسفاه لم يتعبّدوا يؤمئذٍ بأوامره ونواهيه صلّى الله عليه وآله ترجيحاً لآرائهم عليه، وذلك حيث حمي الوطيس واشتدّ بأس المسلمين على فيالق المشركين وعلى أصحاب لوائهم، فقتلهم أمير المؤمنين واحداً بعد واحد، وبقي لواؤهم مطروحاً على الأرض لا يدنو منه أحد، فانكشف الكفّار حينئذٍ عن المسلمين هاربين على غير انتظام، ودخل المسلمون عسكرهم ينهبون ما تركوه من أسلحة وأمتعة وذخائر ومؤن، فلمّا نظر الرماة إلى المسلمين وقد أكبّوا على الغنائم دفعهم الطمع في النهب إلى مفارقة محلّهم الذي أُمروا أن لا يفارقوه، فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير؛ عنه فلم ينتهوا، وقالوا: ما مقامنا ها هنا وقد انهزم المشركون؟! فقال عبد الله: والله لا أجاوز أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، وثبت مكانه مع أقلّ من عشرة، فنظر خالد بن الوليد المخزوميّ إلى قلّة مَن في الجبل من الرُّماة فكرّ بالخيل عليهم ومعه عكرمة بن أبي جهل فقتلوهم ومَثَّلوا بعبد الله بن جبير فأخرجوا حشوة بطنه وهجموا على المسلمين وهم غافلون، وتنادوا بشعارهم يا للعزّى يا لهبل!... إلى آخر أخبار واقعة أُحد(١) .

ومن الطريف هنا أن أُشير إلى نكتة قال بها أنصار مدرسة (اجتهاد النبيّ) و(اجتهاد الصحابة)، وهي: إنَّ للمجتهد أجرين إن أصاب الواقع، وأجراً إن أخطأ، فإنّهم ومع قولهم بهذا يذهبون إلى أنّ الله عاتب رسوله لأخذ الفداء على أسرى بدر، فإن كان

____________________

(١) الفصول المهمّة: ١١٦.

١٠٨

رسول الله صلّى الله عليه وآله قد اجتهد في هذه المسألة - حسب زعمهم - وأنّ المجتهد مأجور، فما معنى بكائه صلّى الله عليه وآله وقرب العذاب منه وقوله صلّى الله عليه وآله (إنّ العذاب قَرُبَ نُزوله، ولو نزل لَما نَجا منه إلاّ عمر)(١) .

بهذا فقد عرفنا: أنّ من بين الصحابة مَن كان يعتدّ برأيه قبال قول النبيّ وفعله، فيسعى جادّاً لتصحيح فعل النبيّ! مُذكِّراً إيّاه صلّى الله عليه وآله بخطِئهِ وأنّ ما فعله يخالف شريعة السماء، والعياذ بالله!

وهناك - في الاتّجاه المقابل - جماعة آخرون من الصحابة يعتقدون بلزوم امتثال أوامر الرسول، وعدم جواز مخالفة قول النبيّ وفعله وتقريره؛ لاعتقادهم بقوله تعالى:( ما كان لهم الخيرة..... ) (٢) .

وفي الذكر الحكيم الكثير من الآيات التي توضّح هذا المعنى، منها قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) (٣) .

وقوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٤) .

وعن الزبير بن العوام في تفسير قوله:( واتّقوا فتنة ) :... ونحن مع رسول الله وما ظننّا أنّا خُصصنا بها خاصّة(٥) .

وعنه أيضاً: لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها(٦) .

____________________

(١) المستصفى للغزالي: ١٧٠ و ٣٤٧، الإحكام للامدي ٤: ١٧٣ و ٢٢١، المبسوط للسرخسي ٥: ٤٧٥، شرح فتح القدير ٥: ٤٧٥، وغيرها من المصادر.

(٢) القصص: ٦٨.

(٣) النور: ٦٢.

(٤) الأنفال: ٢٤ - ٢٥.

(٥) تفسير ابن كثير ٢: ٤٨٨ - ٤٨٩.

(٦) تفسير ابن كثير ٢: ٣٠٠.

١٠٩

وقال السدّيّ: نَزَلت في أهل بدر خاصّة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا(١) .

ومن تلك الأمور التي عدّت من المصلحة وتَعَرَّفها الخليفة عمر بن الخطّاب وهو بحضرة الرسول هو ما وقع عند موته صلّى الله عليه وآله وقوله صلّى الله عليه وآله: ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً، فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر، حسبنا كتاب الله(٢) .

وأودّ هنا أن أُلفت نظر القارئ إلى نكتة في هذه المسألة وهي: أنّ طلب الدواة والكتف من أجل الكتابة كانت بأمر من النبيّ صلّى الله عليه وآله لئلا تضلّ أُمّته من بعده. وقد رأيت مخالفة عمر له صلّى الله عليه وآله، وذلك تماماً بعكس ما حدث عند موت أبي بكر، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي، فذكر بعض الكلمات فأُغمي عليه، فأضاف عثمان بن عفّان اسم عمر كخليفة لأبي بكر، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان(٣) . فتثبيت اسم عمر هنا لم يَعدّوه هجراً، وأمّا تدوين رسول الله صلّى الله عليه وآله كتاباً، كي لا تضلّ أُمّته بعده فهو حسب زعمهم الهجر؟!!

أتسائَلُ: لماذا لا يُرمى أبو بكر بالهجر ورُمي به الرسول؟! في حين كانت حالة أبي بكر لدى احتضاره أشدّ من حالة النبيّ صلّى الله عليه وآله؟! وكيف بهم يأخذون بكلام عمر في تسمية أعضاء مجلس الشورى وهو مريض، ولا يأخذون بكلام رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى؟!

ولِمَ انقسموا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله ولم ينقسموا بين يدي عمر؟ ولماذا لا نسمع أحداً يقول عن الفاروق إنّه قد هَجَرَ في فعله وقراره، مع لحاظ الفارق بين منزلة عمر ومنزلة النبيّ؟!

ألم يكن من حقّ كلّ مسلم أن يوصي، فَلِمَ وقف عمر بن الخطّاب أمام وصيّة رسول ربّ العالمين إذن؟ فهل هو - والعياذ بالله - أقلّ شأناً من أيّ مسلم عاديّ؟!

إن كان رسول الله لم يوصِ وترك الأُمّة لتنتخب قائدها، فلِمَ يُعَيِّن أبو بكر مَن

____________________

(١) تفسير ابن كثير ٢: ٣٠٠.

(٢) صحيح مسلم ٣: ١٢٥٩، ح ١٦٣٧، مسند أبي عوانة ٣: ٤٧٨، ح ٥٧٦٢.

(٣) انظر تاريخ الطبري ٢: ٣٥٣، مآثر الإنافة ١: ٤٩، المنتظم لابن الجوزي ٦: ١٢٦.

١١٠

يَخْلفهُ في الأمر؟ أليس هذا الفعل هو مخالفة لسنّة رسول الله؟!

وهل تصدّق أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله ترك أُمّته سدى مع أنّه صلّى الله عليه وآله هو الذي أخبرها بسيرة الأنبياء السالفين في تركهم الأوصياء من بعدهم ليحفظوا أممهم وشرائعهم من الانحراف والتبديل؟!

إنّ سيرة الأنبياء السالفين تدل على لزوم الوصاية، وسيرة نبينا الأكرم لم تنفك عن ذلك، إذ ما كان النبي صلّى الله عليه وآله يترك المدينة المنورة إلاّ ويخلّف عليها مَن يقوم مقامه فيها(١) ، كما أنّ نبي الله موسى عليه السلام لم يذهب لميقات ربّه إلاّ وترك عليهم أخاه هارون(٢) ، فهل من المعقول بعد هذا أن يترك النبي صلّى الله عليه وآله أُمّته هملاً ودون راع؟! خصوصاً إذا لاحظت التصريحات القائلة بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله أراد أن يكتب في ذلك الكتاب أمر الخلافة من بعده، لكي لا يقع فيها الاختلاف(٣) .

وممّا تقدّم ويأتي يستبين لك أنّ الشيخين لم يكونا من المتعبّدين بكلّ ما قاله الرسول، بل كانا يتعرّفان المصلحة وهم بحضرته، وأنّ الروحية القبلية القريشية كانت وراء تشديد هذه الأُمور.

وقد اصطلحنا خلال بحثنا هذا على نهجِ كلِّ مَن أخذ بقول الرسول وامتثل أمره، دون نهج الشاكّ السائل عن العلّة والمصلحة فيه اسم (التعبّد المحض).

وأمّا نهج الذين كانوا يعتدّون بآرائهم ويرون لأنفسهم حقّ التدخّل في الأحكام فقد أطلقنا عليه اسم: (الاجتهاد والرأي)(٤) .

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٢: ٣٦٧، ح ٣٢٩٤، قال الحاكم: الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) صحيح البخاري ٤: ١٦٥٢، ح ٤١٥٤، صحيح مسلم ٤: ١٨٧١، ح ٢٤٠٤، سنن الترمذي ٥: ٦٣٨، ٣٧٢٤.

(٣) صحيح البخاري ١: ٥٤، ح ١١٤، ٣: ١١١١، ٢٨٨٨ و ١١٥٥، ح ٢٩٩٧، ٤: ١٦١٢، ح ٤١٦٨، ٥: ٢١٤٦، ح ٤١٦٨، ٦: ٢٦٨٠، ح ٦٩٣٢، صحيح مسلم ٣: ١٢٥٧، ح ١٦٣٧، ٣: ١٢٥٩، ح ١٦٣٨، شرح النووي على مسلم ١١: ٨٩، الديباج على مسلم للسيوطي ٤: ٣٣٠.

(٤) للمزيد انظر كتابنا تاريخ الحديث النبوي، المؤثرات في عهد أبي بكر.

١١١

وكان كلا الاتّجاهين قائماً في عهد الرسول ثمّ من بعده، فلو أخذنا حكم صيام الدهر مثلاً، لرأينا البعض من الصحابة يصومه غير مُبالٍ بتكرار النهي عن النبيّ فيه، وقوله:(مَن صام أوّل الشهر ووسطه وآخره كأنَّما صام الدهر) (١) .

نعم، إنّ من بين الصحابة مَن كان يصوم الأيّام الثلاثة في كلّ شهر امتثالاً لأمر الرسول صلّى الله عليه وآله؛ كي يحصل على فضيلة صيام الدهر، ومنهم مَن كان يصومها في جميع الأيّام مع سماعه نهي رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ذلك.

وكذا الحال بالنسبة إلى نحر الإبل وأكل لحومها يوم تبوك، فمع إجازة النبيّ لنحرها برز هناك من الصحابة مَن أنكر نحرها(٢) .

ومثله الحال بالنسبة إلى غزوة أُحد، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله لمّا هجم عليه خمسة من المشركين، فأصاب أحدهم جبهته، وكسر آخر رباعيّته، وفَكَمَ ثالث وَجْنَتَهُ. الخ، لم يرتضِ النبيّ صلّى الله عليه وآله إعلام المشركين بأنّه حيّ لم يمت كي لا يعاودوا الكرّة على المسلمين، فلمّا عرف كعب بن مالك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، حيّ نادى: يا معشر المسلمين! أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يُقتل، فأشار إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله أن أنْصِت، مخافة أن يسمعه العدوّ فيثب عليه، فسكت الرجل.

ثمّ أشرف أبو سفيان على المسلمين فقال: أفي القوم محمّد؟

فقال رسول الله: لا تجيبوه، مرتين؛ مخافة أن يعرف أنّه حيّ فيشدَّ عليه بمن معه من أعداء الله ورسوله.

ثمّ نادى: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمّد؟

فقال عمر: اللّهمّ لا، وإنّه والله لَيسمع كلامك الآن.

____________________

(١) صحيح البخاري ٢: ٦٩٧، باب حق الجسم في الصوم، ح ١٨٧٤، وصحيح مسلم ٢: ٨١٢، باب النهي عن صوم الدهر، ح ١١٥٩، صحيح ابن حبان ٢: ٦٥، باب ذكر الأمر للمرء بإتيان الطاعات على رفق، ح ٣٥٢.

(٢) صحيح مسلم ١: ٥٦، باب الدليل على من مات على التوحيد دخل الجنة قطع، ح ٢٧، مسند أحمد ٣: ١١، ح ١١٠٩٥، مسند أبي عوانة ١: ٧، مسند أبي يعلى ٢: ٤١٢، ح ١١٩٩.

١١٢

فقال أبو سفيان: أنت أصدق من ابن قصيئة وأبر(١) .

نعم، أجاب عمر أبا سفيان مع تأكيد الرسول على عدم إجابته ونهيه عنه، وما كان فعل عمر إلاّ لكونه تأوّل فأخطأ!

وكذا الحال بالنسبة إلى قسمة قسمها رسول الله من الصدقات، فأتاه عمر قائلاً: يا رسول الله! لَغير هؤلاء أحقّ منهم؛ أهل الصفة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّكم تخيروني بين أن تسألوني بالفحش، وبين أن تبخلوني ولست بباخل(٢) .

وفي البخاريّ: قال عبد الله: قَسَمَ النبيُّ قسمةً كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الأنصار: والله إنّها لقسمة ما أُريدَ بها وجه الله. قلت: أ مّا لأقولن للنبيّ، فأتيته وهو في أصحابه فساررته، فشقّ ذلك على النبيّ وتغيّر وجهه وغضب حتّى وددت أنّي لم أكن أخبرته، ثمّ قال: قد أُوذي موسى عليه السلام بأكثر من ذلك فصبر؟!(٣) .

وعن طلحة وصحابي آخر - هو عثمان على التحقيق برواية السدي - أنّهما قالا: أينكح محمّد نساءنا إذا متنا ولا ننكح نساءه إذا مات؟! لو مات لقد أجلنا على نسائه بالسهام(٤) . وبمثل قول طلحة في نص آخر (لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة)(٥) .

____________________

(١) سيرة ابن إسحاق ٣: ٥١٣، تاريخ الطبري ٢: ٧١، ثقات ابن حبان ١: ٢٣٢، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ٢: ٨٠.

(٢) صحيح مسلم ٢: ٧٣٠، باب إعطاء من سئل بفحش وغلظة، ح ١٠٥٦، ومثله في مسند أحمد ١: ٢٠، ح ١٢٧ و ١: ٣٥، ح ٢٣٤، معجم الصحابة لابن قانع ١: ٢٨٦.

(٣) صحيح البخاري ٥: ٢٢٦٣، كتاب الآداب، باب الصبر على الأذى، ح ٥٧٤٩، الأدب المفرد ١: ١٤١، باب الصبر على الأذى، ح ٣٨٩، مسند أحمد ١: ٤١١، ح ٣٩٠٢ و ٤٤١، ح ٤٢٠٤.

(٤) تفسير القرطبي ١٤: ٢٢٩، روح المعاني ٢٢: ٧٤، وقد زاد قائل: ورأيت بعض الأجلة أن طلحة الذي قال ما قال.

(٥) تفسير الرازي ٢٥: ٢٢٥، تفسير القرطبي ١٤: ٢٢٩، تفسير ابن كثير ٣: ٥٠٦، الدر المنثور ٦: ٦٣٩، تفسير البغوي ٣: ٥٤١، معاني القرآن للنحاس ٥: ٣٧٣، روح المعاني ٢٢: ٧٣، غاية السؤل في سيرة الرسول: ٢٢٣، السيرة الحلبية ١: ٤٤٨، طبقات ابن سعد ٨: ٢٠١، زاد المسير ٦: ٤١٦، غوامض الأسماء المهمّة لابن‏ شكوال ٢: ٧١٢، وروى السدي بان عثمان قال هذه المقولة كذلك (انظر دلائل الصدق ٣: ٣٣٧ - ٣٣٩).

١١٣

وكان طلحة يريد عائشة، وعثمان يريد أُمّ سلمة، وكانا يريدان بفعلهما إيذاء الرسول، فأنزل سبحانه قوله:( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ الله عَظِيمًا ) (١) . وقوله تعالى:( إن تُبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكل شي عليماً... ) (٢) . وقوله تعالى:( إن الذين يؤذون الله ورسوله لَعَنهم اللهُ في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً ) (٣) . وقوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (٤) .

ومن تلك النصوص الكثيرة ما أخرجه البخاريّ في كتاب الآداب: أنّ النبيّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس، فبلغ النبيّ فغضب ثمّ قال: ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه، فو الله إنّي لأعلمُهم وأشدُّهم خشية(٥) .

وبهذا فقد عرفنا أنّ القرآن قد صرّح بوجود رجال من الصحابة يَلْمِزُونَهُ في الصدقات(٦) ، وبينهم مَن إذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوه صلّى الله عليه وآله قائماً(٧) ، ومنهم من يؤذي‏ الرسول،(٨) ومنهم من يتخلّف عن الجهاد(٩) ، ويرفع صوته على صوت الرسول ولا يمتثل أمره(١٠) و... ومنهم مَن رمى فراش الرسول بالإفك(١١) ، ومنهم

____________________

(١) الأحزاب: ٥٣.

(٢) الأحزاب: ٥٤.

(٣) الأحزاب: ٥٧.

(٤) الأحزاب: ٦.

(٥) صحيح البخاريّ ٥: ٢٢٦٣، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعقاب، ح ٥٧٥٠، ٦: ٢٦٦٢، باب ما يكره من التعمق والتنازع بالعلم...، ح ٦٧٦٩، معتصر المختصر لأبي المحاسن ١ ٩٧.

(٦) التوبة: ٥٨.

(٧) الجمعة: ١١.

(٨) الأحزاب: ٥٣ - ٥٧.

(٩) التوبة: ٣٨ - ٨٦.

(١٠) الحجرات: ١ - ٦، وانظر صحيح البخاري ٤: ١٥٨٧، باب وفد بني تميم، ح ٤١٠٩، ٦: ٢٦٦٢، باب ما يكره من التعمق والتنازع بالعلم...، ح ٦٨٧٢.

(١١) النور: ١١.

١١٤

مَن تواطئوا على اغتيال رسول الله ليلة العقبة(١) .

ومنهم مؤمنون يتّبعونه على أمرٍ جامع، مطيعين لأوامره منتهين عن نواهيه، غير مخالفين لحكمه صلّى الله عليه وآله، فحنظلة (غسيل الملائكة) لم يتخلّف عن المعركة إلاّ بعد حصوله على إجازة من الرسول في البقاء عند زوجته ليلة الزفاف(٢) ، في الوقت نفسه نرى تخلُّف عدد كثير من الصحابه عن الجهاد دون استئذان أو...

ألا يعني موقف حنظلة (غسيل الملائكة) أنّه كان من أتباع التعبُّد المحض، وأنّ الآخرين من أتباع الاجتهاد والرأي والمصلحة؟

وممّا يخطر بالبال: أنّ النبيّ وبتأكيده على بعض المفردات، كان يريد امتحان رجال معنيين من أُمّته، فما قصّة الرجل المتنسّك ذي الثديّة، وطلب تدوين كتاب عند موته صلّى الله عليه وآله، وتأمير أُسامة بن زيد - وهو شابّ لم يتجاوز الثامنة عشرة - على رجال أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، إلاّ نقاط جديرة بالوقوف عندها.

ونحن أطلقنا على الآخرين اسم الاجتهاد والمصلحة؛ نظراً إلى استخدامهم تلك العبارات في تبرير مخالفاتهم بها، فإن قيل لهم: لِمَ تخلّف فلان عن الجهاد؟ قالوا: تعرَّف المصلحة ولأجلها تخلَّف، أو تأوَّل فأخطأ، أو اجتهد، ولكلّ مجتهد إن أصاب أجران و إن أخطا أجر واحد و...

ويبدو لنا أنّ غالب المسائل المطروحة سابقاً كانت بمثابة الامتحان الإلهيّ لهؤلاء

____________________

(١) التوبة:٧٤، وانظر شرح النووي على مسلم ١٧: ١٢، المعجم الأوسط ٤: ١٤٦، ح ٣٨٣١، ٨: ١٠٢، ح ٨١٠٠، الأحاديث المختارة ٨: ٢٢١، ح ٢٦٠ وقال إسناده صحيح، مجمع الزوائد ١: ١٠٩، باب منه في المنافقين، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات، البداية والنهاية ٥: ٢٠، وقد رواه مسلم مختصراً في صحيحه ٤: ١٢٤، باب صفات المنافقين، ح ٢٧٧٨ و ح ٢٧٧٩، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ١٩٨، باب ما يحرم به الدم من الإسلام، مسند أحمد ٤: ٣١٩، مسند البغوي ٢: ٣٠٧.

(٢) صحيح ابن حبان ٤: ١٥، ح ٧٠٢٥، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٢٢٥، ح ٤٩١٧، قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، السنن الكبرى للبيهقي الكبرى ٤: ١٥، باب المجنب يستشهد في المعركة، ح ٦٦٠٥ تحفة المحتاج ١: ٦٠٢، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة ١: ٣١٠، الترجمة رقم ١٠٨٠ لحنظلة بن أبي عمر، السيرة الحلبية ٢: ٥٢٥، تاريخ الطبري ٢: ٦٩.

١١٥

الصحابة ولتمييز المؤمن المتعبّد من غيره؛ لأنّ الثابت في الشريعة هو لزوم إطاعة أوامر الرسول والانتهاء عن نواهيه، وليس للمؤمنين الخِيَرة في أمرهم، ولم يختصّ الامتثال ولزوم الطاعة فيما صدر بالتبليغ والأحكام الشرعيّة حسب، بل هو حكم مطلق عامّ شامل؛ فإنّ حكم الآية بل الآيات النازلة في ذلك مطلق وليس فيه قيد التبليغ وتبيين الأحكام( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) وبه يلزم أن يسلِّم المؤمن بما قضى به الرسول ولا يجوز له التخلُّف عمّا أمر به.

وعليه فمن المحتمل القريب أن تكون رزيّة يوم الخميس بعد طلب النبيّ صلّى الله عليه وآله الكتف والدواة وامتناع عمر من جلبهما للنبيّ صلّى الله عليه وآله، ثمّ رميه بالهجر إنّما كان - مضافاً إلى هداية الأُمّة التي هي مضمون الكتاب - لأجل أن يتعرّف الآخرون على موقف هؤلاء الصحابة من رسول الله، وكذا الحال بالنسبة إلى تأميره أُسامة بن زيد وهو ابن ثمان عشرة سنة على رجال كبار السن أمثال أبي بكر وعمر، فإنّها جاءت لمعرفة المطيع والمتخلّف!

فجاء عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال:(أيّها الناس، ما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أُسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبل) (٢) .

فاتَّضح جليَّاً وجود اتّجاهين في عصر الرسول، أحدهما يُشَرِّع المصلحة ويقول بالرأي قبال نصّ الرسول، ولا يتعبَّد بقوله بل يعترض على فعله صلّى الله عليه وآله، ويتعرّف المصلحة مع وجود النصّ، كما رأيت في كثير من القضايا التي ذكرناها.

وهناك رجال يتعبّدون بقوله صلّى الله عليه وآله، ويرتضون المبيت على فراشه ليدرؤوا بأنفسهم الخطر عن رسول الله! وقد تبيّن أنّ الشيخين كانا من أتباع نهج الاجتهاد والرأي.

____________________

(١) الأحزاب: ٣٦.

(٢) صحيح البخاري ٤: ١٥٥١، باب غزوة زيد بن حارثة، ح ٤٠٠٤، صحيح مسلم ٤: ١٨٨٤، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، ح ٢٤٢٦، مسند أحمد ٢: ٢٠، ح ٤٧٠١.

١١٦

تحليلٌ واستنتاج

إذا اتّضح ذلك؛ نقول: إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد حَدَّد سبب نهيه عن التدوين - النابع عن عدم التعبّد المحض - بأمرين:

أحدهما: التأثّر بأهل الكتاب.

والثاني: الخوف من الأخذ بأقوال الرسول وترك القرآن.

لكنّ ابن حزم استبعد أن يكون نهي عمر قد تعلَّق بالسُّنَّة النبويّة، وحمَلَ نهيه على خصوص الأخبار عمَّن سلف من الأمم السابقة.

فقال:... وإنّما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، لو صحّ فهو بيّن في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة(١) ، و إنّما نهى عن الحديث بالأخبار عمَّن سلف من الأمم وعمّا أشبه.

وأمّا بالسنن عن النبيّ صلّى الله عليه وآله فإنّ النهي عن ذلك هو مجرّدٌ، وهذا ما لا يَحِلُّ لمسلم أن يظنّه بِمَنْ دون عمر من عامّة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه. ودليل ما قلنا: إنّ عمر قد حدّث بحديث كثير عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروه، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحلّ لمسلم أن يظنّ بعمر أنّه نهى عن شيء وفعله...(٢) .

واستبعد آخرون منهم الدكتور محمّد عجاج الخطيب - تبعاً لابن حزم - أن يكون عمر بن الخطّاب قد منع الصحابة من التحديث، أو أنّه سجن ابن مسعود وغيره، لعدم قبول العقل صدور ذلك من خليفة كعمر بن الخطّاب!(٣) .

لكنّ الواقف على مُجريات الأحداث في الصدر الأوّل يعرف سُقم كلام ابن حزم ومَن تبعه من الأعلام، وبُعده عن الواقع؛ لأنّ توارد الروايات عن عمر بالمنع ممّا لا

____________________

(١) مفاد الحديث: أنّ عمر أرسل قرظة بن كعب مع مجموعة من الصحابة وفداً إلى الكوفة، فأمرهم بالإقلال من الحديث، فقال لهم: أقلّوا الرواية عن رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله وأنا شريككم.

(٢) الإحكام في أُصول الأحكام ٢: ٢٦٦، وقد ذهب الدكتور امتياز أحمد في دلائل التوثيق المبكر: ٢٣٠ إلى صحّة أخبار الحبس.

(٣) السنّة قبل التدوين: ١٠٦ - ١٠٧.

١١٧

يمكن إنكاره أو دفعه. وقد وردت روايات المنع مطلقة لم تخصّ صحابيّاً دون آخر، ولا نوعاً من الحديث دون نوع آخر، بل ثبت أنّ عمر كان شديد العنف على الُمحَدّثين والكاتبين للحديث، وهذا ممّا لا ينكره إلاّ مُكابر، فلذلك راح ابن حزم ومن حذا حذوه يختلقون الأعذار ويضعون المبرّرات لفعل الخليفة، ولم يكن عندهم أكثر من مجرّد الاستبعاد والاستغراب الذي لا يقوم على أساس علميّ.

وأمرُه قُرْظة وأصحابه بالإقلال من الرواية عن النبيّ لا يخلو من وجهين:

الأوّل: أن يكون الخليفة عمر بن الخطّاب يتّهمهم جميعاً بالكذب على الرسول.

الثاني: أن يكون الخليفة قد أمر بكتمان ما أنزل الله على لسان نبيّه.

وهذان الوجهان لا يلتزم بهم، ولا بواحد منهما ابن حزم وأتباعه، وإن كنّا نميل إلى الأوّل منهما - مع ضميمة شي آخر معه - بقرينة اتّهام عمر لعمّاله ومُشاطرته أموالهم، وبملاحظة سيرته؛ من شدّته على الصحابة وضربه إيّاهم، فمُجمل سيرة عمر مع الصحابة تدلّ بوضوح على أنّه كان لا يثقُ بالصحابة، وأنّه كان يجابههم بأنواع الكلام اللاذع، وكان يظهر معايبهم على ملأ من المسلمين.

وعلى كلِّ حال، فإنَّ ابن حزم ومَن جرّ جرّه لا يرتضي هذين الوجهين؛ لذلك اضطرّوا إلى حمل نهي عمر على النهي عن التحديث بأخبار الأمم السالفة، وهذا حَمْلٌ تَبَرّعيّ لم يدلّ عليه دليل من روايات منعه؛ لأنّها جميعاً مطلقة، ولأنّ سيرته في المنع أعمّ من هذا التخصيص، ولأنّ قسوته بلغت حدّاً لا يفرّق بين التحديث بالسنّة أو بأخبار الأُمم، حتّى أنّه منع عمّاراً في تحديثه بواقعة قطعيّة وقعت له في زمن النبيّ - التيمّم - كان عمر نفسه شاهِدَه.

وعليه، فالخبر لا يمتّ بصلةٍ إلى ما قيل عن الأمم السالفة إلاّ بنحوِ عناية، وهي أحدى البواعث التي نذهب إلى أنّها أثّرت في منع الخليفة عمر بن الخطّاب عن التحديث والكتابة والتدوين. وذلك يتّصل بخلفيّات نفسيّة الخليفة عمر، إذ الثابت عنه أنّه كان قد واجه منعاً نبويّاً صارماً من كتابة كتب أهل الكتاب على عهد رسول الله،

١١٨

وذلك بعد أن نهاهُ صلّى الله عليه وآله عن تتبّعه لأخبار اليهود، وتحديثه بها في بدء الدعوة، فيحتمل أن يكون نهيه اليوم هو نتيجة ردّة فعل سلبيّة مُني بها من عهد الرسول، فصار عمر يكره التحديث والتدوين بشكل مطلق، سواء كان من سنّة النبيّ أو غيره، وسواء كان من صحيح ما ورد من أخبار الأُمم السالفة أو سقيمه، فقد ورد عن خالد بن عرفطة أنّ عمر قال: انطلقتُ أن... فانتسخت كتاباً من أهل الكتّاب ثمّ جئت به في أديم.

فقال لي رسول الله: ما هذا في يدك يا عمر؟

قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته لنزداد به علماً إلى علمنا.

فغضب رسول الله حتّى احمرّت وجنتاه، ثمّ نودي بـ (الصلاة جامعة)، فقالت الأنصار: أُغضِبَ نبيّكم! السِّلاح السِّلاح، فجاؤوا حتّى أحدقوا بمنبر رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فقال‏ صلّى الله عليه وآله:(يا أيّها الناس! إنّي قد أُوتيت جوامع الكَلِم وخواتيمه، واخْتُصِرَ لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقيّة، فلا تَتَهوَّكوا (١) ولا يغرّنكم المُتَهَوِّكون) .

قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً، ثمّ نَزَل رسول الله صلّى الله عليه وآله(٢) .

وفي آخر عن عبد الله بن ثابت، قال: جاء عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله! إنّي مررت بأخٍ لي من يهود، فكتب لي جوامع من التوراة، قال: أفلا أعرضها عليك؟

فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال عبد الله [ بن ثابت ]: مَسَخ الله عقلك! ألا ترى ما بوجه رسول الله؟!

فقال عمر: رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً(٣) .

وقد ثبت أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب وقع منه الاختلاط باليهود، وأنّه كَتَب من

____________________

(١) التهوّك: التحيّر، أو التردّد والسقوط وقول النبي:(أمتهوّكون أنتم في الإسلام...) أي: أمتحيرون أنتم في الإسلام. انظر العين ٤: ٦٤، الصحاح مادة (هوك)، غريب الحديث لابن سلام ٣: ٢٩ وعنهم في لسان العرب ١٠: ٥٠٨، مادة (هوك).

(٢) تقييد العلم: ٥٢.

(٣) المصنّف لعبد الرزّاق ٦: ١١٣، ح ١٠١٦٤، ١٠: ٣١٣، ح ١٩٢١٣، ومجمع الزوائد ١: ١٧٤ وفيه: يا رسول الله! جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق، فتغيّر وجه رسول الله...

١١٩

كتبهم، وأنّه كان يقرأ ويكتب، فأحبّ ما ورد عنهم، ولم يكن قرأه ليردّ عليه أو يُفنّده، وإنّما قرأه معجَباً به وليزداد علماً إلى علمه؛ لذلك غَضب رسول الله هذا الغضب الشديد؛ لأنّه صلّى الله عليه وآله كان قد حذّر من اليهود، وبَيَّنَ القرآن الكريم في أكثر من سورة مَكرهم وخداعهم، منها قوله تعالى:( يا أيُّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهودَ والنصارى أولياء بعضُهم أولياءُ بعض ومن يَتَولّهم منكم فإنّهُ منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين ) (١) .

وقوله تعالى:( لَتجدَنّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود... ) (٢) .

فكأنّ الخليفة عمر - بعد هذه الواقعة - حدثت في داخله هزّة عنيفة وردّة فعل سلبيّة، جعلته يتّخذ تلك المواقف القاسية من المحدّثين والمدوّنين، فيحبس هذا و يضرب ذاك، وتراه يؤكّد في منعه (أُمنية كأُمنية أهل الكتاب)، وغيرها.

و يؤكّد هذا ما جاء في أوّل خبر خالد بن عرفطة، آنف الذكر، قال: كنت جالساً عند عمر إذ أُتي برجل من عبد قيس، مسكنه بالسُّوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبديّ؟ قال: نعم.

قال: وأنت النازل بالسوس؟

قال: نعم، فضربه بقناةٍ معه؟

فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟!

فقال له عمر: اجلس، فجلس فقرأ عليه:

( بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آياتُ الكتاب المبين * إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون * نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) إلى( لَمِن الغافلين ) (٣) فقرأها عليه ثلاثاً، وضربه ثلاثاً.

فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟!

فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟

____________________

(١) المائدة: ٥١.

(٢) المائدة: ٨٢.

(٣) يوسف: ١ - ٣.

١٢٠