منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93168
تحميل: 6490

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93168 / تحميل: 6490
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

قال: مُرْني بأمرك أتّبِعْه؟

قال: انطلقْ فامْحُه بالحميم والصوف الأبيض، ثمّ لا تقرأه ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنّك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس لأنهكنّك عقوبة. ثمّ قال: اجلس، فجلس بين يديه، وعند ذلك نقل له قصّته المارّة مع رسول الله، فقال: انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب... إلى آخره(١) .

والواقع أنّ المنع في هذه الرواية - إن لم يكن الناسخ يريد بيان بطلان المنتسخ أو الإجابة عليه - جيّد و صحيح، وهو الأسلوب الصحيح لو اقتُصر عليه، لكنّ المأسوف له أنّ التدوين قد لحقه من الاجتهاد والرأي شيء غير قليل من التدخّل الذي أربك مسيرته ومحتواه.

وقد حدَثت مثل هذه الردّة السلبيّة عند أُسامة بن زيد حين قتل امرءاً مسلماً؛ لأنّه ظنّ أنّه أسلم خوفاً من السيف، فرجَع أُسامة وقد نَزَل قوله تعالى:( ولا تقولوا لِمَنْ ألقى إليكم السلام لستَ مُؤمناً تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا... ) ؟(٢) فصار أُسامه متخوّفاً وَجِلاً حتّى امتنع من الخروج والقتال مع عليّ بن أبي طالب ضدّ الناكثين والقاسطين والمارقين؛ متذرّعا بذريعة أنّه لا يقتل المسلمينَ، متناسياً الآيات والسيرة النبويّة والأحاديث وإجماع الصحابة على قتل الزاني المحصن المسلم، والمنكر ضروريّة من ضروريّات الدين من المسلمين، وقتل الباغي من المسلمين و...، تناسى كلّ ذلك ورأى واجتهد في عدم جواز قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وعمل طبق ذلك وإن كان اجتهاده مخالفاً للكتاب والسنّة!!

فإذا جَمَعْتَ هذا مع اتّهامه الصحابة بالخيانة والكذب، وتهديده وسجنه جماعة من المحدّثين، وضربه آخرين...

إذا جمعت هاتين المقدّمتين عرفت سرّ إباحة الخليفة عمر التَّحديث لنفسه ومنعه

____________________

(١) تفسير ابن كثير ٢: ٤٦٨، الأحاديث المختارة ١: ٢١٦، ح ١١٥.

(٢) النساء: ٩٤.

١٢١

الآخرين منه. فهو يرى لنفسه الأهليّة الكاملة والحقّ المطلق في ذلك لأنّه خليفة، ولا يرى ذلك للآخرين؛ لأنّهم موضع للشَّكّ وعدم الاطمئنان، أو أنّهم معرّضون للخطأ والزلل.

على أنّ السيرة العملية لعمر بن الخطاب تكذّب ابن حزم في تعليله؛ لأنّا نرى عمر كان مولعاً بأخبار أهل الكتاب، ومَن أسلموا من اليهود وظلّت عندهم التوراة، وخصوصاً كعب الأحبار، فإنّه أتى عمر بن الخطاب بكتاب قد تشرّمت نواحيه فيه التوراة فاستأذنه أن يقرأه(١) ، فأجازه عمر أن يقرأه آناء الليل والنهار(٢) ، فلم يأمره بمحوه ولا حرقه ولا ردعه عن ذلك.

ولمّا فتح بيت المقدس، قال له كعب: إنّه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: أبشري أورى شلم عليك عليك الفاروق ينقّيك ممّا فيك(٣) .

وفي رواية أنّه قال له: إنّه مكتوب في التوراة أنّ هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها مفتوحة على رجُلٌ من الصالحين، فحمد الله على ذلك(٤) .

وقال كعب لعمر: إنّا لنجدُ (ويل لملك الأرض من ملك السماء) فقال عمر: (إلاّ مَن حاسب نفسه)، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنّها في التوراة لتابعته، فكبّر عمر ثم خرّ ساجداً(٥) .

وأدّعى رجلٌ غاب أربعة أيام في القَلْت(٦) أنّه دخل الجنّة، قال: فدعا عمرُ كعبَ الأحبار وقال: أتجد في كتبكم أنّ رجلاً من أُمّتنا يدخل الجنّة ثم يخرج؟ قال: نعم وإن كان في القوم أنبأتك به، فقال عمر: هو في القوم، فتأمّلهم كعب فقال: هذا هو(٧) .

وأرسل عمر إلى كعب فقال له: يا كعب كيف تجد نعتي، قال: أجد نعتك قرن من

____________________

(١) ومعنى النص أنّ كعباً أتى عمر بعد إسلامه وأيام خلافة عمر.

(٢) انظر غريب الحديث لابن سلام ٤: ٢٦٢، وغريب الحديث للحربي ٣: ٩٥، والنهاية الأثيرية ٢: ٤٦٨.

(٣) انظر تاريخ الطبري ٤: ١٦٠.

(٤) انظر تاريخ دمشق ٥٠: ١٦٢.

(٥) كنز العمّال ١٢: ٥٧٥، ح ٣٥٧٩٧.

(٦) القَلْْت: نقرة في الجبل تمسك الماء.

(٧) انظر معجم البلدان ٤: ٣٨٦.

١٢٢

حديد، قال: ثم مه؟ قال: ثم يكون من بعدك خليفة تقتله فئة ظالمة، قال: ثم مه؟ قال: ثم يكون البلاء(١) .

وظل يستشير كعباً في أخطر أمرٍ من الأمور وهو الخلافة، فسأله عن خلافة علي قائلاً له: فما تقول في عَليّ أشِرْ عَلَيَّ برأيك: فقال كعب: أمّا طريق الرأي فإنّه لا يصلح، إنّه رجل متين الدين لا يغض على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل باجتهاد رأيه(٢) .

وجاء كعب إلى عمر ليُنبِئَه عبر التوراة بمقتله، فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنّك ميت في ثلاثة أيّام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله التوراة(٣) .

هذا كلّه، يضاف إليه أنّ البخاري روى ما يفنّد التعليل المطروح، حيث روى جواز التحديث عن بني إسرائيل، فقد روى عن أبي هريرة أنّه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبونهم وقولوا (آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما انزل إليكم...)(٤) الآية.

وقال ابن كثير: إنّ كعب الأحبار لمّا أسلم في زمن عمر كان يتحدّث بين يدي عمر بن الخطاب بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيستمع له عمر تأليفاً له وتعجّباً ممّا عنده... فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا، ولما جاء الإذن في التحديث عن بني إسرائيل، لكن كثيراً ما يقع ممّا يرويه غلط كبير وخطأ كثير(٥) .

فلم يبق عذر لابن حزم في التمحُّل واختلاق الأعذار وتوجيه ما وقع فيه الخليفة عمر بن الخطّاب.

وقد بيّنا وجه ما وقع فيه الخليفة للباحثين، مع أنّنا لسنا بمسؤولين عن تهافت الخليفة، واختلاف فعله مع قوله، بعد ثبوت ذلك عنه بلا خلاف.

____________________

(١) المعجم الكبير ١: ٨٤، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩: ٦٥ قائلاً: (رواه الطبراني ورجاله ثقات).

(٢) شرح النهج ١٢: ٨١.

(٣) تاريخ الطبري ٣: ٢٦٤.

(٤) صحيح البخاري ٨: ١٦٠.

(٥) البداية والنهاية ١: ١٩.

١٢٣

تبريران آخران

هذا وقد حمل بعضهم نهي عمر عن التحديث والتدوين بقوله:

فهو إذ يطلب الإقلال من الرواية، فإنَّما يطلبُه من باب الاحتياط لحفظ السُّنن والتَّرهيب في الرواية.

وأمّا مَنْ كان يتقن ما يحدَّثُ به، ويعرف فقهه وحكمه فلا يتناوله أمر عمر؟(١) .

إنّ اللبيب ليعجب من مثل هذه الأقوال؛ لأنَّ الاحتياط هنا لا مورد له، إذ المحدِّث إن كان ثقة صدوقاً فلا معنى لمنعه عن التحديث ولا معنى للاحتياط، خاصّة وأنَّ بعض هؤلاء المنهيين من التَّحديث قد ورد فيهم نصّ عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، يدلّ على جلالة قدرهم وصدق قولهم.

إنّ الاحتياط كلّ الاحتياط هو أن يحثّ الخليفة أمثال هؤلاء على التحديث وتناقل كلّ ما سمعوه وتلقَّوه عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله؛ لكي لا تبقى بعض سنّة النبيّ مجهولة للناس، ولكي لا يبقى المسلمون في دوّامة من الجهل بالأحكام.

وأمّا الاحتياط بمعنى احتمال خطأ الراوي أو سهوه أو نسيانه أو... فهذا وارد في كلام الخليفة نفسه، ولا يمكنه إلزام الآخرين دون إلزام نفسه به.

ولا نكاد نقضي العجب ممّن زعم أنّ نهي الخليفة لا يتناول مَن تيقّن ما يحدِّثُ به ويعرف فقهه وحكمه، مع أنّه قد سجن أبا ذرّ وابن مسعود وأبا مسعود الأنصاريّ وأبا الدرداء، ونهى عمّاراً وأبا موسى الأشعري وأمثالهم مع كون أغلبهم من عيون الصحابة والرعيل الأوّل في الإسلام.

وأبعد شيء يقال هنا: هو أنّ النهي والحبس والضرب والمنع لا يتناغم ولا يتلاءم مع نفسيّة عمر، باعتباره خليفة وصحابيّاً كبيراً، فلا بُدّ أن نَرْبأ به عن ارتكاب مثل تلك الأعمال.

إلاّ أنّ الواقع الذي لا يمكن دفعه هو أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان معروفاً منذ

____________________

(١) السنّة قبل التدوين: ١٠٥.

١٢٤

زمن رسول الله بالشدّة والغِلظة(١) ، وكذلك في خلافة أبي بكر(٢) . ولمّا انبسطت يده في خلافته راح يحمل الدِّرَّة فيضرب هذا ويُعاقب(٣) ذاك ويسجن ثالثاً(٤) وينفي ويُغرّب رابعاً(٥) وقد دعا الله - أوّل خلافته - أن يلينه(٦) ، ممّا يمكن علاجه بدون ذلك من التهذيب والإرشاد!

وقد نقل لنا المؤرّخون صوراً متعدّدة من أُسلوب الخليفة، حتّى جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد أنّه كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاءً وعنجهيّةً ظاهرة(٧) . وأنّه كان شديد الغلظَة، وَعْر الجانب، خشَن الملمس، دائم العبوس، وكان يعتقد أنّ ذلك هو الفضيلة، وأنّ خلافه نقص(٨) .

فلا غرابة ولا بِدْع إذا اتَّخذ الخليفة ذلك الموقف الصارم المتشدّد من مخالفيه في التحديث، خصوصاً بعد ردعه من قِبل النبيّ لاستنساخه كتب اليهود، كلّ ذلك مع لحاظ الروح القبليّة التي كانت طافحةً عليه، مضافاً إلى مساس هذا التحديث بأصل مشروعيّة خلافته.

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٣: ١٧١، ح ١٣٥٢، حياة الحيوان للدميري ١: ٧١.

(٢) سنن سعيد بن منصور ٥: ١٣٢، باب تفسير سورة الأعراف، ح ٩٤٢، مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٣٥٨، ح ٣٢٠١٣، ٧: ٤٣٤، ح ٣٧٠٥٦، السنة للخلال ١: ٢٧٥، ح ٣٣٧.

(٣) تاريخ الطبري ٢: ٢٧٠، شرح النهج ١: ١٨١، ١٢: ٧٥، مآثر الانافة ٣: ٣٣٩، وفيات الأعيان ٣: ١٤ الترجمة رقم ٣١٧.

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٢٩٤، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ١: ١٩٣، ح ٣٧٤، تذكرة الحفّاظ ١: ٧، تاريخ دمشق ٤٠: ٥٠١، معتصر المختصر ٢: ٣٨٠.

(٥) مسائل الإمام أحمد ١: ٤٨٩، الطبقات الكبرى ٣: ٢٨٥، ٢: ٦٠٩، الاستيعاب ١: ٣٢٦، الإصابة ٦: ٤٨٥ الترجمة رقم ٨٨٤٥ و ٦: ١٨٢ الترجمة ٨١٤٢، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة ١: ٢٦٤، تاريخ دمشق ٦٢: ٢٧، تذكرة الحفاظ ٢: ٦٠٩، غريب الحديث لابن قتيبة ٢: ٥٤٤، ٥٤٥، باب حديث عروة بن الزبير، اعتقاد أهل السنة ٤: ٦٣٥، ح ١١٣٨، الإكمال لابن ماكولا ٦: ٢٠٨، تاريخ دمشق ٢٣: ٤٠٨، ٥٩: ٣٦١، تصحيفات المحدثين ٢: ٨٩٦، السنن الكبرى للبيهقي ٣: ٢٣١، ح ١٥٨٦، فتح الباري ٧: ٤، التمهيد لابن عبد البر ٩: ٨٩، الإصابة ٢: ٥٢١، الترجمة ٢٧٥٤.

(٦) الطبقات الكبرى ٣: ٢٧٤، مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٥٦، ح ٢٩٥١١، ٧: ٢٥٦، ح ٣٥٨٣٥، صفوة الصفوة ١: ٢٨٠.

(٧) شرح النهج ١: ١٨٣.

(٨) شرح النهج ٦: ٣٢٧.

١٢٥

والأغرب من كلِّ هذا أن نرى الخليفة يسجن أبا الدرداء الذي خالفه في عدَّة مفردات فقهيّة، وأبا ذرّ وابن مسعود اللذين كانا لا يتّفقان معه في تحريمه للمتعة، وهكذا الحال بالنسبة للآخرين الذين لم يسمح لهم بالخروج من المدينة(١) . فيبدو أنّ الخليفة اشتدّ عليهم لتحديثهم بما لا يحلو ولا يروق له، و إلّا لماذا يسجن هؤلاء ويترك أبا هريرة صاحب الـ (٥٣٧٤) حديثاً مطلق العنان دون حبس ولا ضرب ولا تعزير، بل اكتفى بتهديده و إبعاده ثمّ جوّز له التحديث دون غيره؟!

ويلحظ هذا النفس واضحاً عند عمر بن الخطّاب حين أرسل وفداً من الأنصار إلى الكوفة، وشيّعهم إلى موضع قرب المدينة، فقال لهم: أتدرون لِمَ شيّعتكم أو مشيت معكم؟

فقالوا: نعم، لحقّ صحبة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولحقّ الأنصار.

قال عمر: لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به... فأقلّوا الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا شريككم(٢) .

فهو يمنعهم أو يحدّ من تحديثهم؛ لأنّهم من الأنصار، أتباع التعبّد الذين يروون ما لا يعجب الخليفة ولا يحبّ انتشاره بين المسلمين؛ لئلاّ يظهر عجزه العلميّ(٣) .

إنّ المبرّرات المختلقة التي قيلت أو قد تُقال في الدفاع عن الخليفة، لا نراها تصمد أمام النقد، ولا تقوم أمام التحقيق العلميّ كما أثبتنا ذلك.

فلذا ترى محور الاستبعاد يبتني على ما رسموه من هالة لشخص الخليفة في

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٦٧٩ باب ذكر بعض سير عثمان بن عفان.

(٢) الطبقات الكبرى ٦: ٧، سنن الدارميّ ١: ٩٧، ح ٢٧٩، جامع بيان العلم ٢: ١٢٠، تذكرة الحفّاظ ١: ٧، كنز العمّال ٢: ٢٨٤، ح ٤٠١٧ وغيرها.

(٣) وقد أثبتنا في كتابنا (وضوء النبي) بأنّ قرظة كان يتوضأ الوضوء الثنائي المسحي، ولا يرتضي غسل القدمين وأنّه حسب ما حكاه المجلسي في البحار ٣٢: ٣٥٤ عن كتاب (الكافية في إبطال توبة الخاطئة) كان من شيعة علي، فعن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر أنّ أمير المؤمنين لما دنا إلى الكوفة مقبلاً من البصرة خرج الناس مع قرظة بن كعب يتلقونه، فلقوه دون نهر النضر بن زياد فدنوا منه يهنونه بالفتح، وإنّه ليمسح العرق عن جبهته فقال له قرظة بن كعب: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أعزّ وليّك وأذلّ عدوّك ونصرك على القوم الباغين الطاغين الظالمين. إلى آخر الخبر.

١٢٦

نفوسهم، كالملاحظ في قول ابن حزم (وهذا ما لا يحلّ لمسلم أن يظنّه بمن دون عمر من عامّة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه!)

ونرى أيضاً أنَّ ثمّة عوامل أُخرى - ستأتي - هي التي جعلت الخليفة يمنع التدوين والتحديث، و يوسّع دائرة الاجتهاد والرأي وتعرّف المصلحة، وما شابهها من أدلّة كانت مرتسمة في ذهن طائفة من الصحابة منذ زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطّاب. والخليفة بتأكيده على تلك الأُسس جدَّ في ترسيخ هذه الفكرة.

خلاصة ما تقدّم في المحور الأوّل:

١ - إنّ الصحابة كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وآله على نهجين: بعضهم على نهج التعبّد المحض، والبعض الآخر على نهج الاجتهاد بالرأي.

٢ - إنّ أبا بكر وعمر كانا من أتباع النهج الثاني.

٣ - إنّ عمر بن الخطاب خطى خطوات كبيرة في ترسية قواعد ما ذهب إليه أيّام حكومته.

٤ - إنّ من عوامل منع عمر بن الخطاب من التحديث والكتابة والتدوين، هو ردّة الفعل السلبية التي مُني بها من جرّاء استنساخه كتب اليهود.

٥ - إنّ ما علّل به ابن حزم منع عمر من التحديث والكتابة والتدوين، لا يصمد أمام الواقع؛ لأنّ النهي كان عامّاً مطلقاً، بل تكذبه سيرة عمر مع الكتابيين وكعب الأحبار حتى في زمن استخلافه، وكذلك ما قيل في التبريرَين الآخَرَين من دعوى الاحتياط، أو عدم ملائمة المنع لنفسية عمر بن الخطاب.

١٢٧

١٢٨

المحور الثاني

الثابت عند المسلمين هو لزوم امتلاك الخليفة قدرتين:

١ - قدرته السياسيّة وحنكته في إدارة شؤون الأمّة في الحرب والسلم، وبراعته في تحصين ثغور المسلمين، ومجاهدته أعداءَ الدين حتّى يرضخوا للدعوة الإسلاميّة وأحكامه، وما إليها من أُمور الدولة: كجباية الفي، والصدقات، وتقدير العطاء، والخراج، وسدّ عوز المحتاجين، وسواها من مستلزمات الإدارة وشؤون الدولة.

٢ - قدرته العلميّة للتصدّي لأمر الإفتاء بما نزل به القرآن، وجاء به الرسول صلّى الله عليه وآله؛ إذ إنّ الناس قد ألِفوا في عهد رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله أخذ الأحكام عنه‏ صلّى الله عليه وآله، والرجوع إليه فيما يستجدّ من قضايا الحياة، أمّا اليوم - وبعد غياب الرسول الأكرم‏ صلّى الله عليه وآله - فإنّهم يرجعون إلى الخليفة؛ ليقفوا على الأحكام الشرعيّة والأمور المستجدّة عندهم، وليقف من بَعُد عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله على تفاصيل الأحكام؛ لأنّ الكثير منهم لم يتوطّن مكّة والمدينة، وكذلك ليأخذ التابعون - الذين لم يرَوا النبيّ - معالم الدِّين من الصحابة، كلُّ أُولئك كانوا بحاجة إلى أخذ الأحكام من الخليفة بالدرجة الأُولى، ومن يحيط به بالدرجة الثانية، مع لحاظ الفارق بين الخليفة والنبيّ‏ صلّى الله عليه وآله.

إذ عامة الناس كانوا ينظرون إلى رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله على أنّه مشرّع( ما يَنْطِقُ عن الهوى ) فحكمه صلّى الله عليه وآله يكون نافذاً عندهم، لا تجوز مخالفته ولا التردّد فيه؛ لأنّه صدر عن الوحي.

وأمّا الخليفة اليوم فليست له هذه السمة التي كانت للنبيّ‏ صلّى الله عليه وآله ولم يعطوه دوراً

١٢٩

تشريعيّاً في الأحكام(١) ، بل كانوا ينظرون إليه كمحدِّث عن الرَّسول لا غير.

وقد أدرك أبو بكر وعمر هذه الحقيقة، فأخذوا في بداية الأمر ينقلون حكم الشرع من خلال القرآن الحكيم أو السنّة المطهَّرة.

وحين يخفى عليهم أمرٌ م، يخرجون إلى وجوه الصحابة يستفتونهم ويسألونهم عمّا قضى به رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله في مثل هذا الأمر، ليقفوا وليوقفوا السائل على حكم الله ورسوله.

أ - روى ميمون بن مهران قال: (ثم كان أبو بكر إذا ورد عليه خصم نظرَ في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، و إن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي‏ صلّى الله عليه وآله فيه سنّة فإن علمها قضي بها، وإن لم يعلم خرج فسئل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنّة رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله فلم أجد في ذلك شيئاً، فهل تعلمون أنّ نبيّ الله‏ صلّى الله عليه وآله قضى في ذلك بقضاء فربّما قام إليه الرهط، فقالوا نعم، قضى فيه بكذا وكذا فيأخذ بقضاء رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله... إلى أن قال وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به)(٢) .

ب - أخرج مالك، وأبو داود، وابن ماجة والدارميّ وغيرهم: (أنّ جدّة جاءت إلى الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالكِ في كتاب الله شي، وما علمتُ لك في سنّة رسول الله شيء، فارجعي حتّى أسأل الناس؟

فسأل الناس، فقال المغيرة: حَضَرت رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله أعطاها السدس.

فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟

فقام محمّد بن مسلمة الأنصاريّ، فقال مثل ما قاله المغيرة.

فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق)(٣) .

____________________

(١) انظر الإحكام في أُصول الأحكام ١: ١١، ومناهج الاجتهاد للدكتور مدكور. مثلاً.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ١٠: ١١٤، وانظر أعلام الموقّعين لابن قيّم الجوزيّة ١: ٦٢.

(٣) الموطّأ ٢: ٥١٣، ح ٤، سنن أبي داود ٣: ١٢١، ح ٢٨٩٤، سنن ابن ماجة ٢: ٩٠٩، ح ٢٧٢٤، وسنن الدارميّ ٢: ٣٥٩ بتفاوت يسير.

١٣٠

وقد كانت سيرة عمر مثل سيرة أبي بكر، فكان يسأل الصحابة عمّا لا يعرفه ليستثبته منهم كي يثبّته.

ج - روى البيهقيّ بسنده عن السلميّ، قال: (أُتي عمر بن الخطّاب بامرأة جَهِدها العطش، فمرّت على راع فاستسقت، فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكّنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها.

فقال علي رضى الله عنه: هذه مضطرّة، أرى أنْ تخلّي سبيلها، ففعل)(١) .

د - سأل عمرُ بن الخطّاب أبا واقد الليثيّ: عمّا كان يقرؤه رسول الله في صلاة العيدين؟

فقال: بـ (قاف) و (اقتربت)(٢) .

هـ - أخرج الحاكم عن سعيد بن المسيّب: (أنّ عمر بن الخطّاب أتى على هذه الآية( الذين آمنوا ولم يَلبِسوا إيمانَهم بُِظلْم ) (٣) فأتى أُبيّ بن كعب فسأله: أيّنا لم يظلم؟

فقال له: يا أمير المؤمنين إنّما ذاك الشرك، أما سمعت قول لقمان لابنه: (يا بنيّ لا تُشرك بالله إنّ الشِّرك لظلم عظيم)(٤) .

و - (أُتي برجل من المهاجرين الأوّلين وقد كان شرب، فأمر به أن يُجلد فقال: لِمَ تجلدني، بيني وبينك كتاب الله عزّ وجلّ.

فقال عمر: في أيّ كتاب الله تجدُ أنّي لا أجلدك؟

فقال: إنّ الله تعالى يقول في كتابه:( لَيْسَ على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات

____________________

(١) السنن الكبرى للبيهقيّ ٨: ٢٣٦، وذخائر العقبى: ٨١، والطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة ١: ٨٠.

(٢) الموطّأ ١: ١٨٠، ح ٨، صحيح مسلم ٢: ٦٠٧، ح ٨٩١، سنن أبي داود ١: ٣٠٠/ ح ١١٥٤، سنن الترمذيّ ٢: ٤١٣، ح ٥٣٣، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٤٧٥، ح ١١٥٥١، وسنن ابن ماجة ١: ٤٠٨، ح ١٢٨٢، وسنن النسائيّ ٣: ١٨٣، ح ١٥٦٧.

(٣) الأنعام: ٨٢.

(٤) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٣: ٣٤٥، ح ٥٣٣٠، وانظر تفسير الطبري ٧: ٢٥٧. والآية: ١٣ من سورة لقمان.

١٣١

جُناحٌ فيما طَعِمُوا... ) (١) الآية، فأنا من الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا ثمّ اتّقوا وأحسَنو، شهدتُ مع رسول الله بدراً والحُديبيّة والخندق والمشاهد.

فقال عمر: ألا تردّون عليه ما يقول؟

فقال ابن عبّاس: إنّ هذه الآيات أُنزلت عُذراً للماضين، وحجّةً للباقين؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول:( يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما الخمرُ والَمْيسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ من عَمِلِ الشيطان ) (٢) ثمّ قرأ حتّى أنفذ الآية الأخرى:( إذا ما اتَّقَوا وآمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتَّقَوْا وآمَنوا ثُمِّ اتَّقوا وأحْسَنوا ) (٣) فإنَّ الله عزّ وجلّ قد نَهى أن يُشرب الخمر.

فقال عمر: صدقت، فماذا ترون؟

فقال عليٌّ رضى الله عنه: نرى أنّه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، و إذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدةً. فأمر عمر فَجُلِدَ ثمانين)(٤) .

اتّضح لنا من خلال هذه النصوص وغيرها - ممّا تركنا سرده مخافة الإطالة - أنّ الشيخين لم يدّعيا في بادئ الأمر أنّهما يعرفان جميع الأحكام الصادرة عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، أو أنَّهما قد اختصّا بأحاديثه‏ صلّى الله عليه وآله دون غيرهما، إنّما مَثَلهم مَثَل كثير من الصحابة الذين خَفِيت عليهم الكثير من مسائل التشريع.

وأمّا ما بُولغ فيه من إحاطتهم بجميع الأحكام والعلوم، وأنّهما كانا أخصّ من غيرهما بالرسول صلّى الله عليه وآله، فقد صدر عن موقف عاطفيّ متطرِّف، بعيد عن الواقع التاريخيّ؛ وذلك لأنّ أغلب المنقولات في هذا السياق عرضةٌ للشكّ والتّرديد، ومن هذه النقول ما

____________________

(١) المائدة: ٩٣.

(٢) المائدة: ٩٠.

(٣) المائدة: ٩٣.

(٤) سنن الدارقطني ٣: ١٦٦، ح ٢٤٥، المستدرك على الصحيحين ٤: ٤١٧، ح ٨١٣٢، وقد صحّحه الحاكم، وكذا الذهبيّ في تلخيصه، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٣٢٠، سنن النسائي الكبرى ٣: ٢٥٢، ح ٥٢٨٨.

١٣٢

نسب فيها إلى عليّ بن أبي طالب أنّه قال: كنّا نتحدّث أنّ مَلَكاً ينطق على لسان عمر!(١)

ومنه: ما روي عن ابن مسعود أنّه قال: لو وُضِعَ علم عمر في كفّة ميزان وعلم أحياء أهل الأرض في الكفّة الأخرى لَرَجَحَ علم عمر!(٢)

ومنها ما نُسب إلى رسول الله أنّه قال: لو كان نبيّ بعدي لكان عمر بن الخطّاب!(٣)

أو: قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدَّثون وأنّه إن كان في أمتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب!(٤)

وما سواها الكثير من المبالغات التي كانت وراءها شتّى الدوافع والأسباب.

ومن بيّنات المسائل - في هذا الصدد - أنّ الشيخين لو كانا قد اختصّا بشيء لبادرا إلى بيان الأحكام، ولما سألا الصحابة عمّا خفي عليهم، ولما حدث الاختلاف بين منقولاتهما وآرائهم، ولما رجعا عن فتاواهما إزاء نقولات وآراء الصحابة الآخرين، ولما وصل الأمر بالخليفة عمر بن الخطّاب أن يقول (كلّ الناس أعلم من عمر)(٥) .

____________________

(١) تاريخ واسط ١: ١٦٧، كتاب من حديث خثيمة ١: ٤٢، حلية الأولياء لأبي نعيم ١: ٤٢، الرياض النضرة ١: ٣٧٦، وقد رواه الطبري في المعجم الأوسط ٧: ١٨، ح ٦٧٢٦ من طريق أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنّه قال: وإنه لم يبعث نبياً إلا كان في أمته محدث وإن يكن في أمتي منهم أحداً فهو عمر قالوا: يا رسول الله كيف محدث؟ قال: تتكلّم الملائكة على لسانه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩: ٦٩، باب منزلة عمر ثم الله ورسوله صلّى الله عليه وآله قال: وفيه أبو سعد خادم الحسن البصري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

(٢) المدخل إلى السنن الكبرى ١: ١٢٦، ح ٧٠، التمهيد لابن عبد البر ٣: ١٩٨، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٩٢، ح ٤٤٩٧، تهذيب الكمال ٢١: ٣٢٥، ترجمة رقم ٤٢٢٥ لعمر بن الخطاب، أعلام الموقعين ١: ١٦، ٢: ٢٧٢، وانظر مقدمة فقه عبد الله بن مسعود للدكتور رواس قلعه جي.

(٣) سنن الترمذي ٥: ٦١٩، ح ٣٦٨٦، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٩٢، ح ٤٤٩٥، مسند أحمد ٤: ١٥٤، فتح الباري ٧: ٥١.

(٤) صحيح البخاري ٣: ١٢٧٩، ح ٣٢٨٢، ٣: ١٣٤٩، ح ٣٤٨٦، صحيح مسلم ٤: ١٨٦٤، ح ٢٣٩٨ وفيه: قال ابن وهب تفسير محدَّثون هو ملهمون، المستدرك على الصحيحين ٣: ٩٢، ح ٤٤٩٩، سنن الترمذي ٥: ٦٢٢، ح ٣٦٩٣ وفيه قال سفيان بن عيينة: محدَّثون، يعني مفهمون، السنن الكبرى للنسائي ٥: ٣٩، ح ٨١١٩.

(٥) تفسير الكشاف ١: ٢٥٨، شرح النهج ١: ١٨٢، تفسير القرطبي ١٤، ٢٧٧، الدرّ المنثور ٦: ٦٨٢، الإحكام في أُصول الأحكام ٢: ٢٥٣، تفسير النسفي ١: ٢١٣.

١٣٣

وفي آخر: (حتّى ربّات الحجال)(١) .

إذاً كان التعبّد بحكم الله ورسوله هو الضابط في معرفة الأحكام في الصدر الأوّل، والجميع كانوا يعرفون ذلك ولم يَخْفَ هذا على أحد في تلك الفترة من تاريخ الإسلام، ولم يكن للشيخين ولا لغيرهما حقّ الاجتهاد قبال النصّ. وإن كانا قد تخطَّيا في بعض الأمور أوامر الرسول‏ صلّى الله عليه وآله واجتهدا قبال النصّ.

ونحن نعلم بالضرورة (أنّه‏ عليه السلام كان يفتي بالفتيا، ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وأنّ الحجّة إنّما قامت على سائر مَن لم يحضره‏ عليه السلام بنقل مَن حضره، وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم التواطؤ)(٢) .

وأضاف ابن حزم بعد قوله السابق: ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتأوَّل فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرُّون ويعترفون بأنّهم لم يَبْلُغْهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم(٣) .

ومن هنا يتجلّى أنّ رسم صورة للخليفة تَهَبه تلك المنزلة الخاصّة في علوّها وغلوّها، إنَّما هي نتاج عاطفة مغالية لا يرتضيها الخليفة نفسه، ويبرأ منها، وإليك نصوص بعض الصحابة التي تزيد الأمر جلاءً.

بعض الصحابة والخليفة الثاني

١- معاذ بن جبل:

أ - جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب، فقال: يا أمير المؤمنين! إني غِبْتُ عن امرأتي

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ١: ١٨٢.

(٢) الإحكام في أُصول الأحكام ١: ١٠٨.

(٣) الإحكام في أُصول الأحكام ٢: ١٥١، والحديث أيضاً في صحيح مسلم ٤: ١٩٤٠، ح ٢٤٩٢، وكذا هو في دلائل النبوة للأصبهاني ١: ٨٦، ح ٧٨، وسير أعلام النبلاء ٢: ٥٩٥.

١٣٤

سنتين، فجئت وهي حبلى.

فشاور عمر الناس في رجمه.

فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إنْ كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتّى تضع.

فتركها، فولدت غلاماً قد خرجت ثناياه، فعرف الرجل الشبه فيه.

فقال: ابني وربّ الكعبة.

فقال عمر: عجزت النساء أن يلِدْن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر(١) .

ب - إنّ رجلاً مسلماً شجّ رجلاً من أهل الذِّمّة، فهمّ عمر بن الخطّاب أن يقيده.

قال معاذ بن جبل: قد علمت أن ليس ذلك له، وأُثر ذلك عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله، فأعطاهُ عمر بن الخطّاب في شجّته دينار، فرضي به(٢) .

٢ - زيد بن ثابت:

أ - عن مجاهد قال: قدم عمر بن الخطّاب الشام، فوجد رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذِّمّة، فهمّ أن يقيده، فقال له زيد بن ثابت: أتقيدُ عبدك من أخيك؟!

فجعله عمر دية(٣) .

ب - عن مكحول: أنّ عبادة بن الصامت دعا نبطيّاً يمسكُ له دابّته عند بيت المقدس، فأبى، فضربه فشجّه، فاستعدى عليه عمر بن الخطّاب فقال له: ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟

فقال: يا أمير المؤمنين! أمرته أن يمسك دابّتي فأبى، وأنا رجل فيَّ حدّة فضربته.

فقال: اجلس للقصاص.

____________________

(١) سنن الدارقطني ٣: ٣٢٢، ح ٢٨١، السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٤٤٣، ح ١٥٣٣٥، مصنف عبد الرزاق ٧: ٣٥٤، ح ١٣٤٥٤، مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٥٤٣، ح ٢٨٨١٢، سير أعلام النبلاء ١: ٤٥٢، تهذيب الكمال ٢٨: ١١١، وانظر الاصابة ٦: ١٣٧.

(٢) مصنف عبد الرزاق ١٠: ١٠٠، ح ١٨٥١١، كنز العمال ١٥: ٩٧، ح ٤٠٢٤٣، عنه.

(٣) مصنف عبد الرزاق ١٠: ١٠٠، ح ١٨٥٠٩، وكنز العمال ١٥: ٩٧، ح ٤٠٢٤٢، عنه.

١٣٥

فقال زيد بن ثابت: أتُقيدُ عبدكَ من أخيك؟!

فترك عمر عنه القَوَد، وقضى عليه بالدية(١) .

ج - عن زيد بن ثابت: أنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوم، فأذن له ورأسه في يد جارية له تُرَجِّلَُهُ، فنزع رأسه.

فقال له عمر: دعها ترجّلك.

فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إليّ جئتك.

فقال عمر: إنَّما الحاجة لي، إنّي جئتك لتنظر في أمر الجَدّ.

فقال زيد: لا، والله ما يقولُ فيه.

فقال عمر: ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه وننقص منه، إنّما هو شيء نراه، فإن رأيته وافقني تبعته، و إلاّ لم يكن عليك فيه شيء.

فأبى زيد، فخرج مغضباً، قال: قد جئتك وأنا أظنّك ستفرغ من حاجتي.

ثمّ أتاه مرّة أُخرى في الساعة التي أتاه في المرّة الأولى، فلم يزل به حتّى قال:

فسأكتب لك فيه، فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلاً: إنَّما مَثَله مثل شجرة نبتت على ساق واحد فخرج فيها غُصن، ثمّ خرج في الغُصن غُصن آخر، فالساق يسقي الغُصن، فإن قطع الغصن الأوّل رجع الماء إلى الغصن - يعني الثاني - و إنْ قطعت الثاني رجع الماء إلى الأوّل.

فأتى به فخطب الناس عمر، ثمّ قرأ قطعة القتب عليهم، ثمّ قال: إنّ زيد بن ثابت قد قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته.

قال: وكان أوّل جدّ كان، فأراد أن يأخذ المال كلّه مال ابن ابنه دون إخوته، فقسّمه بعد ذلك عمر بن الخطّاب(٢) .

____________________

(١) السنن الكبرى ٨: ٣٢، تذكرة الحفّاظ ١: ٣١، الترجمة رقم ٦٦ لزيد بن ثابت، كنز العمّال ١٥: ٩٤، ح ٤٠٢٣٢.

(٢) سنن الدارقطني ٤: ٩٣، ح ٨٠، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٤٧ ح ١٢٢٠٨، فتح الباري ١٢: ٢١.

١٣٦

٣ - أبو عبيدة بن الجرّاح:

عن عمر بن عبد العزيز: إنّ رجلاً من أهل الذمّة قُتِلَ بالشام عمداً، وعمر بن الخطّاب إذ ذاك بالشام، فلمّا بلغه ذلك، قال عمر: قد وقعتم بأهل الذمّة؟! لأقتلنّه به!

فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: ليس ذلك لك.

فصلّى، ثمّ دعا أبا عبيدة فقال: لمَ زعمت لا أقتله به؟

فقال أبو عبيدة: أرأيت لو قتل عبداً له، أكنت قاتله به؟!

فصمت عمر، ثمّ قضى عليه بألف دينارٍ مغلّظاً عليه(١) .

٤ - حُذيفة بن اليمان:

عن حذيفة بن اليمان: إنّه لقي عمر بن الخطّاب، فقال له عمر: كيف أصبحت يا بن اليمان؟

فقال: كيف تريدني أُصبحُ؟! أصبحت والله أكره الحقّ، وأُحبّ الفتنة، وأشهد بما لم أرَه، وأحفظ غير المخلوق، وأُصلّي على غير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.

فغضب عمر لقوله وانصرف من فوره، وقد أعجله أمر، وعزم على أذى حذيفة بقوله ذلك، فبينا هو في الطريق إذ مرّ بعليّ بن أبي طالب، فرأى الغضب في وجهه فقال:

ما أغضبك يا عمر؟

فقال: لقيت حذيفة بن اليمان، فسألته: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أكرهُ الحقّ؟

فقال: صدق، يكره الموت وهو حقُّ.

فقال، يقول: وأُحبُّ الفتنة!

قال: صدق، يُحبّ المال، والولد، وقد قال الله تعالى:( إنّما أموالُكم وأولادكم فتنة ) (٢) .

____________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٣٢، كنز العمّال ١٥: ١٤، ح ٤٠٢٣٤.

(٢) التغابن: ١٥، الأنفال: ٢٨.

١٣٧

فقال: يا عليّ! يقول: وأشهدُ بما لم أره؟!

فقال: صدق، يشهد لله بالوحدانيّة، والموت، والبعث، والقيامة، والجنّة، والنار، والصِّراط، ولم يرَ ذلك كلّه.

فقال: يا عليّ! وقد قال: إنّي أحفظ غير المخلوق!

قال: صدق، يحفظ كتاب الله تعالى؛ القرآن، وهو غير مخلوق.

قال: ويقول: أُصلّي على غير وضوء.

قال: صدق، يُصلّي على ابن عمّي رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله على غير وضوء، والصلاة عليه جائزة.

فقال: يا أبا الحسن! قد قال أكبرَ من ذلك.

فقال: وما هو؟

قال: قال إنّ لي في الأرض ما ليس لله في السماء!

قال: صدق، له زوجة وولد، وتعالى الله عن الزوجة والولد.

قال عمر: كاد يهلكُ ابن الخطّاب، لولا عليّ بن أبي طالب(١) .

٥ - عبد الله بن مسعود:

عن إبراهيم النخعيّ: أنّ عمر بن الخطّاب أفتى برجل قد قَتل عمداً، فأمر بقتله، فعفا بعض الأولياء، فأمر بقتله.

فقال ابن مسعود: كانت النفس لهم، فلمّا عفا هذا أحيى النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقَّه حتّى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟

قال: أرى أنْ تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصّة الذي عفا، قال عمر: وأنا أرى ذلك(٢) .

____________________

(١) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ: ٣٥، وكفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ: ٢١٨ - ٢١٩.

(٢) الأم للشافعيّ ٧: ٣٢٩، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٦٠، الحجة للشيباني ٤: ٣٨٥، وله قضيّة أُخرى راجع كنز العمّال ١١: ٣٣، ح ٣٠٥١٣، وعن ابن القيّم في إعلام الموقعين ٢: ٢٣٧ إنَّ ابن مسعود خالف عمر في أكثر من مائة قضيّة.

١٣٨

٦ - أُبيّ بن كعب:

عن الحسن: قال عمر بن الخطّاب: لو أخذنا ما في البيت - يعني الكعبة - فقسمناه.

فقال له أُبيّ بن كعب: والله، ما ذاك لك.

فقال عمر: ولِمَ؟!

قال: لأنّ الله قد بيّن موضع كلّ مال [ وقد ] تركها رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله.

قال عمر: صدقت(١) .

ذكر ابن قيّم الجوزيّة: أنّ عمر أراد أنْ يأخذ مال الكعبة، وقال: الكعبة غنيّة عن ذلك المال. وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول(٢) ، وأراد أن ينهى عن متعة الحجّ.

فقال أُبيّ بن كعب: قد رأى رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وأصحابه هذا المال به وبأصحابه الحاجة إليه فلم يأخذه، وأنت فلا تأخذه.

وقد كان رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وأصحابه يلبسون الثياب اليمانيّة، فلم يَنْهَ عنه، وقد علم أنّها تُصبغ بالبول.

وقد تمتّعنا مع رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله فلم يَنه عنه، ولم يُنزل الله تعالى فيها نهياً(٣) .

٧ - الضَّحّاك بن سفيان الكلابيّ:

عن سعيد بن المُسيّب: أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول: (الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً).

حتّى أخْبَرَه الضحّاك بن سفيان أنّ النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله كتب إليه أن يُورِّث امرأة أشيم الضبابيّ من ديته، فرجع إليه عمر(٤) .

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ٥: ٨٨، ح ٩٠٨٤، وانظر كنز العمّال ١٤: ١٠٠، ح ٣٨٠٥٢، عن (عب والأزرق في أخبار مكة) بلفظ آخر.

(٢) المراد بالبول هو بول الإبل لا بول الإنسان.

(٣) زاد المعاد، لابن قيم الجوزيّة ٢: ٢٠٨.

(٤) الأم للشافعي ٦: ٨٨، باب ميراث الدية، سنن أبي داود ٣: ١٢٩، باب في المرأة ترث من دية زوجها، ح ٢٩٢٧، سنن الترمذي ٤: ٢٧، باب ما جاء في المرأة هل ترث من دية زوجها، ح ١٤١٥، ٤: ٤٢٥، ح

=

١٣٩

٨ - شَيْبة بن عثمان:

عن شقيق، عن شيبة بن عثمان، قال: قعَد عمر بن الخطّاب في مقعدك الذي أنت فيه، فقال: لا أخرج حتّى أُقسم مال الكعبة.

قال: قلت: ما أنت بفاعل!

قال: بلى لأفعلنَّ!

قال: قلت: ما أنت بفاعل!

قال: لِمَ؟

قلت: لأنّ رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله قد رأى مكانه، وأبو بكر، وهما أحوج منك إلى المال فلم يُخرجاه.

فقام فخرج(١) .

٩ - عبد الله بن عبّاس:

عن نافع بن جبير: أنّ ابن عبّاس أخبره قال: إنّي لَصاحب المرأة التي أُتي بها عمر وضعت لستّة أشهر، فأنْكر الناس ذلك، فقلت لعمر: لِم تظلم؟

قال: كيف؟

قلت: اقرأ:( وحملُه وفِصاله ثلاثون شهراً ) (٢) ،( والوالداتُ يُرضعْنَ أولادَهُنّ حَوْلَين كامِلَين ) (٣) .

كم الحَوْل؟

____________________

=

٢١١٠، سنن ابن ماجة ٢: ٨٨٣، باب الميراث من الدية، ح ٢٦٤٢، السنن الكبرى للنسائي ٤: ٧٨، ح ٦٣٦٣، ٦٣٦٤.

(١) سنن أبي داود ٢: ٢١٥، باب مال الكعبة، ح ٢٠٣١، سنن ابن ماجة ٢: ١٠٤٠، باب مال الكعبة، ح ٣١١٦، المعجم الكبير ٧: ٣٠٠، ٧١٩٥، فتح الباري ٣: ٤٥٦ وانظر صحيح البخاري ٢: ٥٧٨، باب كسوة الكعبة، ح ١٥١٧، ٦: ٢٦٥٥، باب الإقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ح ٦٨٤٧، السنن الكبرى للبيهقي ٥: ١٥٩، باب ما جاء في مال الكعبة وكسوتها، ح ٩٥١١، مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٤٦٦، باب ما قالوا في قسمة ما يفتح من الأرض، ح ٣٢٩٧٦، مسند أحمد ٣: ٤١٠.

(٢) الأحقاف: ١٥.

(٣) البقرة: ٢٣٣.

١٤٠