منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93224
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93224 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

يعني نقص الشريعة وعدم إبلاغ النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله للرسالة، وهذا ما لا يقول به مسلم، ويستلزم منه القول بمعرفة الصحابة حكماً عامّاً خفي على المشرّع وجهه، وهذا يعني كذلك اختصاص بعضهم بطائفة من الأحكام أخْفَوها عن الآخرين، ومعناه: أنّ النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله لم يبلِّغها للآخرين - والعياذ بالله - أو أنّ بعض الصحابة قد وقف على وجه تشريع الحكم وغايته من قبل الله تعالى، في حين أنّ رسول الله لم يبيّنها لهم وهو المبيّن لأحكام الله.

إنّ القول بمعرفة الصحابة لغايات الأحكام ومصالحها ومفاسدها المبتناة عليها، كانت من النقاط التي رُسمت لتصحيح الرأي والاجتهاد.

لأنّا نعلم أنّ العقول الناقصة من الرجال لا تستطيع الإحاطة بجميع مصالح ومفاسد الأحكام، ومن هنا لم يجعل سبحانه وتعالى لأحدٍ حقّ الجعل والتشريع، واختصّ ذلك بذاته المقدّسة؛ لأنّه العالم المحيط بالمصالح والمفاسد.

إذاً لم يبق إلاّ أن يقال: إنّ الشريعة المحمّديّة متكاملة الأحكام، دقيقة الإحكام، ليس فيها حكم إلاّ وقد استبان بنحو من أنحاء الدلالة التي أرشد إليها النبيّ مَنْ اختصّه بالعلم، فكان على الراسخين في العلم أن يُبَيّنوه للناس، ويستنبطوه من الكتاب والسنّة وفق ما أراده الله، لا بما اعتقدوا فيه من المصالح وأرادته العقول غير الكاملة.

وهذه الحقيقة صرّح بها الكثير من لامعي الصحابة، فخذ على سبيل المثال: الإمام عليّ بن أبي طالب وابن مسعود، فإنّهما قد أوضحا هذه الحقيقة، وأشارا إلى أنّ فهم الرجال يعجز عن إدراك الحكم الإلهيّ وغايته، لا أنّ الحكم ليس موجوداً في الكتاب.

جاء عن عليّ بن أبي طالب ‏عليه السلام:(ما من شيء إلاّ وعلمه في القرآن، ولكنّ رأي الرجال يعجز عنه) (١) .

وعن عبد الله بن مسعود: ما من شيء إلاّ [ بُيِّنَ ] لنا في القرآن حكمه، ولكنّ فهمنا

____________________

(١) انظر حجّيّة السنّة: ٣٢٩ عن الحجّة للمقدسيّ، وهو في ينابيع المودة للقندوزي ٣: ٢١٨ وفيه: عقول الرجال تعجز عنه، وفي الكافي ١: ٦٠ ح ٦ عن الصادق عليه السلام:(ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال) .

١٦١

يقصر عن إدراكه؛ فلذلك قال تعالى:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) .

إنّ كلامَي عليّ بن أبي طالب وابن مسعود صريحان الدلالة على أنّ الأحكام موجودة في كتاب الله، وأنّ رسوله‏ صلّى الله عليه وآله مكلّف بتبيين ذلك للناس، وقد أمر سبحانه المؤمنين بالرجوع إليه‏ صلّى الله عليه وآله، بقوله:( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ ) (٢) .

نعم، إنّ الآية تؤكّد بصراحة ووضوح: أن حكم كلّ ما تنازع فيه المؤمنون موجود في كتاب ربّ العالمين وسنّة سيّد المرسلين، فلو لم يكن كذلك لما أمر سبحانه الناس بالردّ إليهم؛ إذ من الممتنع عقلاً أن يأمر الله بالردّ عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع!

بَيْدَ أنّنا لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه إسماعيل أدهم، وأحمد توفيق شوقي، وغيرهما من الداعين إلى الاقتصار على القرآن ومنكري السنّة، الآمرين بلزوم اتّباع القرآن وحده!

بل نريد التنويه إلى أنّ الصحابي الواعي الذي عايش النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله، يمكنه أن يقف على حكم الله في كتابه، ويهتدي إلى الصواب فيه، وإذا أعياه رجع إلى السنّة، إذا كان ملمَّاً بها وبحزئيّاتها، وليس هناك حكم لا يمكن استنباطه من الكتاب والسنّة حتّى يصل الأمر إلى القياس والقول بحجّيّة الرأي.

إنّ عدم وقوف الصحابيّ على الدليل ليس دليلاً على العدم، إذ يمكن وجود الحكم المتنازع فيه عند الآخرين، وقد وقفت على نماذج من ذلك، ورجوع الخليفة وغيره إليهم لينقلوا له سنّة رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، فكيف يقول الخليفة عمر: (ولم يسنّ رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس)؟!

وهل كلّ ما لا نعرفه من حكم الله ورسوله هو ممّا لم يسنّ، حتّى يصحّ القول: فإن

____________________

(١) حجّيّة السنّة: ٣٢٩ عن ابن أبي حاتم، والآية: ٤٤ من سورة النحل، وانظر تفسير الطبري ١٤: ١٦٢، تفسير ابن كثير ٢: ٥٨٣.

(٢) النساء: ٥٩.

١٦٢

شئت أن تجتهد برأيك فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر؟!

ألم يكن ذلك هو الرأي المنهيّ عنه في الروايات؟

أما خالف الخليفة بقوله هذا ما قاله في نصّ آخر:

أيّها الناس! اتّهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني أرُدُّ أمر رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله برأيي اجتهاداً، فو الله ما آلُو عن الحقّ، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل مكّة فقال: (اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم) فقالوا: ترانا قد صدّقناك بما تقول؟ ولكنَّك تكتب (باسمك اللّهمّ)، فرضي رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وأبيت، حتّى قال لي رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله: (تراني أرضى وتأبى أنت) قال: فرضيت(١) .

ألا ترى أن يكون القائل بالرأي هو ممّن تنقصه المعرفة بالسنّة، لقول عمر: (إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا)(٢) .

ما يعني هذا التهافت بين أقوال عمر بن الخطاب؟ فتارة نراه يحمي الرأي ويشرّعه أمام نصّ رسول الله وكلامه، ويقف أمام إتيان الصحابة بالدواة إليه ‏صلّى الله عليه وآله، ويقول: إنّه ليهجر، وأُخرى نسمعه يقول بما مرّ أعلاه؟!

أتكون هذه النصوص معبّرة عن مرحلتين مرّ بهما الخليفة، فتارة يتّخذ الرأي وثانية يخالفه؟

وماذا سيفعل القائس - على رأي عمر - إذا اشتبهت عليه الوجوه ولا يدري أيّها أحبّ إلى الله؟

ولو صحّ القياس في شريعة السماء فلِمَ لا يوجب الشرع جلد القاذف بالكفر دون القاذف بالزنا؟!

____________________

(١) المعجم الكبير للطبرانيّ ١: ٧٢، ح ٨٢، المدخل إلى السنن الكبرى ١: ١٩٢، ح ٢١٧، وانظر فتح الباري ١٣: ٢٨٩.

(٢) سنن الدارقطني ٤: ١٤٦، كتاب النوادر، ح ١٢، اعتقاد أهل السنّة ١: ١٢٣، ح ٢٠١، فتح الباري ١٣: ٢٨٩، المدخل إلى السنن الكبرى ١: ١٩٠، ح ٢١٣.

١٦٣

ولماذا نراهم يفرّقون بين حكم خروج المني ودم الحيض في إعادة الصلاة، وكلاهما ممّا يُوجَبُ الغسل فيه، وكذا تفريقهم بين المذي والبول والمني في الغسل ومخرجها واحد؟!

وحرّموا النظر إلى شعر المرأة وأباحوا النظر إلى وجهها، وسوّوا بين قاتل الصيد عمداً وخطأً، وفرّقوا بينهما في قاتل النفس(١) .

ألا يكون القياس مبتنياً على الظنّ، والشارع قد نهى عن اتّباعه بقوله تعالى:( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ) ؟!(٢) وقوله عزّ وجلّ:( إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ) (٣) .

أليس القياس مُبْتنياً على اختلاف الأنظار في تعليل الأحكام، والشرع لا تناقض بين أحكامه؟

قال الوافي المهدي: (وقد استعمل الصحابة) رضي الله عنهم (القياس، فقد قاسوا خلافة أبي بكر لرسول الله بعد موته على إنابته في الصلاة حين مرض الرسول مرضه الأخير، قائلين: (رضيه رسول الله لأمر ديننا، أفلا يرضاه لأمر دُنيانا)؟! وقد قاس أبو بكر الزكاة على الصلاة وقال: لأقاتلنّ مَن فرّق بين الصلاة والزكاة، وقاس أبو بكر كذلك العهد على العقد حينما عهد إلى عمر بالخلافة من بعده...)(٤) .

إن التفصيل في مثل هذه الأمور يستدعي مزيداً من الوقوف عنده، لكنّا نكتفي بهذا القدر ليكون القارئ على صورة من الاتّجاهات الفكريّة السائدة في الصدر الإسلاميّ الأوّل، وليتعرّف على جذور بعض الأصول عند النهجين.

____________________

(١) مناظرات في الشريعة الإسلاميّة بين ابن حزم والباجيّ: ٤١٦ عن الأحكام لابن حزم.

(٢) الإسراء: ٣٦.

(٣) النجم: ٢٨.

(٤) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: ٦٣.

١٦٤

نظرة في الموضوع

إنّ الإمام الصادق بيّن سبب لجوء الشيخين - ومَن حذا حذوهما - إلى الرأي والقياس، ووردت عنه عدّة روايات في هذا السياق، منها:

ما حكاه القاضي النعمان محمّد بن منصور التميميّ المغربيّ، قاضي مصر:

إنّ سائلاً سأل الإمام الصادق فقال: يا ابن رسول الله، من أين اختلفت هذه الأمّة فيما اختلفت فيه من القضايا والأحكام [ من الإحلال والإحرام ] ودينهم واحد، ونبيّهم واحد؟

فقال ‏عليه السلام:هل علمت أنّهم اختلفوا في ذلك أيّام حياة رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله؟

فقال: لا، وكيف يختلفون وهم يردّون إليه ما جهلوه واختلفوا فيه؟!

فقال:وكذلك، لو أقاموا فيه بعده مَن أمَرهم بالأخذ عنه لم يختلفوا، ولكنَّهم أقاموا فيه مَن لم يعرف كلّ ما ورد عليه، فَرَدُّوه إلى الصحابة، يسألونهم عنه، فاختلفوا في الجواب، فكان سبب الاختلاف . ولو كان الجواب عن واحد والقصد في السؤال عن واحد كما كان ذلك لرسول الله‏ صلّى الله عليه وآله لم يكن الاختلاف(١) .

وجاء في تفسير العيّاشيّ، والخبر طويل نقتطف منه هذا المقطع: فظنّ هؤلاء الذي يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأمّة إليه وصح لهم عن رسول الله وعلموه ولفظوه.

وليس كلّ علم رسول الله عَلِموُه، ولا صار إليهم عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله ولا عرفوه.

وذلك أنّ الشي من الحلال والحرام والأحكام، يَرِدُ عليهم فيسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، ويستحيُون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا، فيطلبوا العلم من معدنه؛ فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله، وتركوا الآثار ودانوا الله بالبدع، وقد قال رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله:(كلّ بدعة ضلالة) ، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله

____________________

(١) شرح الأخبار، للقاضي النعمان‏ المغربيّ ١: ٩٠.

١٦٥

وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد...(١) .

وأخرج القاضي نعمان بسنده عن محمّد بن قيس، عن أبيه قال: كنّا عند الأعمش فتذاكرنا الاختلاف، فقال: أنا أعلم من أين وقع الاختلاف.

قلت: من أين وقع؟

قال: ليس هذا موضع ذكر ذلك.

قال: فأتيته بعد ذلك فخلوت به، فقلت: ذكرنا الاختلاف الواقع، وذكرت أنّك تعلم من أين وقع، فسألتك عن ذلك، فقلت: ليس هذا موضع ذلك، وقد جئتك خالياً، فأخبرني من أين وقع الاختلاف؟

قال: نعم، وَليَ أمر هذه الأمّة مَنْ لم يكن عنده علم، فَسُئل فسأل الناس فاختلفوا(٢) .

الصحابة وأخذهم عن الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله)

وقد أشار ابن حزم وغيره من الأعلام إلى أنّ الحياة وضنك العيش كانا لا يسمحان للصحابة بالاستزادة من علم الرسول، فقال:

(وقد علم كلّ أحد أنّ الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا حوالَي رسول الله بالمدينة مُجتمعين، وكانوا ذَوي معايشَ يطلبونها، وفي ضنك من القُوت شديد - قد جاء ذلك منصوصاً - وأنّ النبيّ وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا من متحرّف في الأسواق، ومَن هو قائم على نخله، ويحضر رسول الله في كلّ وقت منهم الطائفة، إذا وجدوا أدنى فراغ ممّا هم بسبيله. هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد ذكر ذلك أبو هريرة، فقال: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإنّ

____________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢: ٣٣١ - ٣٣٢ وعنه في وسائل الشيعة ٢٧: ٦١، ح ٣٣١٩٩، والبرهان ٢: ٤٧٦، ح ٦، وبحار الأنوار ١٣: ٣٠٤، الباب العاشر، ح ٣١، وفي كتاب (اختلاف أُصول المذهب) للقاضي النعمان المغربيّ - طبعة دار الأندلس / بيروت ١٩٧٣ م: (... وقد سئل أبو عبد الله جعفر بن محمّد عن علّة اختلاف الناس بعد رسول الله، وكيف يختلفون بعد رسول الله...).

(٢) شرح الأخبار للقاضي للنعمان المغربي ١: ١٩٦ وفي كتاب سليم بن قيس ٢: ١٠٥ ما يقارب هذا.

١٦٦

إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنتُ امرءاً مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني(١) ، وقد أقرّ بذلك عمر فقال: فأتَني مثل هذا من حديث رسول الله، ألهاني الصَّفق في الأسواق...).

وجاء عنه أنّه كان يتناوب النُّزول إلى رسول الله للاستزادة منه مع أخ له نِزاريّ، فيومٌ كان هو ينزل لأخذ الأحكام، أمّا اليومُ الآخر فكان حصّة الآخر النِّزاريّ(٢) .

وبهذا عرفت أنّ النصوص وضّحت أمراً آخر غير ما هو في مخيّلتنا، وهو أنّ الشيخين كانا يهتمّان بأمر التجارة أكثر من الاستزادة من علم الرسول، وذلك ما نقله أبو هريرة في الحديث السابق، وفي قبال ذلك نرى وجود صحابة قد دعا لهم رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله بالعلم والفهم كقوله لابن مسعود: إنَّك غلام مُعَلَّم(٣) ، ودعائه لابن عبّاس بقوله: اللّهمّ فقّهه في الدين(٤) ، وهكذا رهط آخرون من الصحابة، على أنّ هؤلاء الممدوحين المخصوصين بمقدار من العلوم لم يكن عند أحد منهم سوى علي بن أبي طالب العلم بكل القرآن والسنّة الشريفة، فَقَد نصَّ في أكثر من مرّة على أنّه عرف جميع علم الرسول واختصّ به، وأنّه كان يخلو برسول الله في اليوم مرّتين صباحاً ومساء وكان يُناجيه(٥) ، حتّى جاء عنه:(سَلُوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم بِلَيلٍ نَزَلت أم بنهار، في سهلٍ أم في جبل) (٦) .

ولتأكيد الموضوع خُذْ نصوصاً أُخرى:

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ٥٥، باب حفظ العلم، ح ١١٨، ٢: ٨٢٧، باب ما جاء في الغرس، ح ٢٢٢٣، واللفظ عنه، صحيح مسلم ٤: ١٩٣٩، باب فضائل أبو هريرة، ح ٢٤٩٢، مسند أحمد ٢: ٢٤٠، ح ٧٢٧٣.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٢: ٢٤٥.

(٣) صحيح ابن حبّان ١٤: ٤٣٣: ١٤، ح ٦٥٠٤، ١٥: ٥٣٦، ح ٧٠٦١، مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٣٢٧، ح ٣١٨٠١.

(٤) صحيح البخاري ١: ٦٦، باب وضع الماء ثم الخلاء، ح ١٤٣، صحيح مسلم ٤: ١٩٢٧، باب فضائل عبد الله بن عباس ح ٢٤٧٧، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٦١٥، ح ٦٢٨٠.

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٤٢: ٣٨٦، شواهد التنزيل ١: ٤٨.

(٦) تفسير الصنعاني ٣: ٢٤١، الطبقات الكبرى ٢: ٣٣٨، تاريخ دمشق ٤٢: ٣٩٨، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ١: ٨٣، الصواعق المحرقة ٢: ٣٧٥، فتح الملك العلي: ٧٥، وغيرها من المصادر الأخرى.

١٦٧

أخرج البخاريّ، عن عُبَيد بن عُمَير: أنّ أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً، فكأنّه وجده مشغول، فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس - يعني به أبا موسى -؟ ائذنوا له، فدعي له فقال: ما حَمَلك على ما صنعت؟

قال: إنّا كنّا نؤمر بهذا.

قال: لَتُقِيمَنّ على هذا بيِّنةً أو لأفعلنّ - وفي لفظ آخر: لأوجِعَنّ ظهرَك وبطنك - فخرج، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلاّ أصغرنا.

فقام أبو سعيد: فقال: كنّا نُؤمر بهذا.

فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ألهاني عنه الصَّفق بالأسواق(١) .

وعلَّق النوويّ على كلام أبي سعيد بقوله: فمعناه أنّ هذا الحديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتّى أنّ أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله(٢) .

وقد أنزل سُبحانه آيات في ذلك منها قوله تعالى:( فَلا تَدْخُلُوها حتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (٣) و( إلاّ أن يُؤْذَنَ لكُم ) (٤) .

والاستئذان قبل أنْ يكون أمراً إلهيّاً فهو خُلُق إنسانيّ.

وليتني أعرف سبب تهديد أبي موسى بالضرب، وهل التثبُّت في الحديث يستوجب ذلك؟

فلو لم يشهد أبو سعيد الخدريّ بنهي النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنّه لم يدخل عليه إلاّ بعد الاستئذان، فماذا كان يفعل بأبي موسى؟!

ألا يشكّك هذا الموقف من الخليفة، فيما قيل عن عدالة الصحابة؟

فلو كان أبو موسى صحابيّاً عدلاً، فما معنى التثبُّت؟

____________________

(١) صحيح البخاري ٦: ٢٦٧٦، باب الحجة على من قال...، ح ٦٩٢٠، صحيح مسلم ٣: ١٦٩٤، باب الاستئذان، ح ٢١٥٣، والنص عنه، مسند أحمد ٤: ٤٠٠، ٤٠٣، سنن ابن ماجة ٢: ١٢٢١، باب الاستئذان، ح ٣٧٠٦، مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٢٦٨، ح ٢٥٩٦٨.

(٢) شرح النووي على صحيح مسلم ١٤: ١٣١، عون المعبود ١٤: ٥٧، عنه.

(٣) النور: ٢٨.

(٤) الأحزاب: ٥٣.

١٦٨

ولماذا لا يتأَنَّى الخليفة في إصدار أحكامه على الصحابة ولا يتثبَّت فيما يقول؟

ولو تَنَزَّلنْا وقبلنا أنّ الخليفة كان يريد التثبُّت في هذا الخبر، فأيّ معنىً للخبر الآتي؟!

نقل الدواليبيّ في المدخل إلى علم أُصول الفقه، عن أبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب (الأموال) فقال: (أتى أعرابيّ عمرَ، فقال: يا أمير المؤمنين! بلادنا قاتَلْنا عليها في الجاهليّة وأسلمنا عليها في الإسلام، علامَ تحميها؟

قال: فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كربه أمر فَتَل شاربه ونفخ(١) ، فلمّا رأى الأعرابيّ ما به جعل يردّد ذلك عليه.

فقال - عمر متمسكّاً في ذلك بفكرة المصلحة وحده، من غير بحث عن سند من نصّ قرآنيّ أو سُنّة نبويّة -: (المال مال الله والعباد عباد الله، واللهِ لولا ما أحمل عليه في سبيل الله...)(٢) .

وأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس والبيهقيّ في السُّنن والقُرطبيّ في تفسيره عن بجالة: أنّ عمر بن الخطّاب مرّ بغلام وهو يقرأ في المصحف: (النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمّهاتهم، وهو أب لهم).

فقال: يا غلام حُكَّها!

فقال: هذا مصحف أُبيّ.

____________________

(١) انظر خبر أبو عبيد في الطبقات الكبرى ٣: ٣٢٦، المغني ٥: ٣٣٨، وقد نقله بنفس اللفظ، وفتح الباري ٦: ١٧٧، تاريخ المدينة المنوّرة ٣: ٨٣٩، مواهب الجليل ٦: ١٠، وجاء في العلل ومعرفة الرجال لأحمد ٢: ٧٣ بسنده (عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير: إنّ عمر بن الخطاب كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ)، وعنه في المعجم الكبير ١: ٦٦، وانظر الآحاد والمثاني ١: ١٠٠، فتح الباري ١٠: ٣٤٨ - ٣٤٩.

(٢) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي: ٧٤ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه: ١٠٠ وهو في المهذب ١: ٤٢٧، فصل لا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع الأحياء، المغني ٥: ٣٣٨، فصل في الحِمى.

١٦٩

فَذَهَبَ إليه فسأله.

فقال له أُبيّ: إنّه كان يُلهيني القرآن، و يُلهيك الصَّفْق بالأسواق، وأغلظ لعمر(١) .

وفي الدر المنثور: قرأ أُبيّ بن كعب (ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سبيلاً، إلاّ مَن تاب فإنّ الله كان غفوراً رحيماً)، فذُكِر لعمر فأتاه، فسأله فقال: أخذتُها من فِي رسول الله، وليس لك عمل إلاّ الصَّفْق بالبقيع(٢) .

وفي نصّ ثالث: أنّ عمر سمع رجلاً يقرأ بالواو، فقال: مَنْ أقرأك؟

قال: أُبيّ.

فدعاه، فقال أُبيّ: أقْرَأنِيه رسولُ الله، وإنّك لتَبيعُ القرظ بالبقيع.

فقال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا(٣) .

وعن أبي إدريس الخولانيّ، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أنّه كان يقرأ: (إذ جَعَل الذين كفروا في قُلوبِهمُ الحَميّةَ حميّة الجاهليّة، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام، فأنزلَ اللهُ سكِينَتَهُ على رسولهِ) فبلغ ذلك عمر، فاشتدّ عليه، فبعث إليه، وهو يهنأ ناقة له، فدخل عليه، فدعا ناساً من أصحابه، فيهم: زيد بن ثابت، فقال: مَن يقرأ منكم سورة الفتح؟

فقرأ زيد على قراءتنا اليوم، فغلّظ له عمر.

فقال أُبيّ: أأتكلم؟

قال: تكلّم.

قال: لقد علمتَ أنّي كنت أدخل على النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله ويُقرئني وأنتم بالباب، فإن أحببت أن أقرئ الناس على ما أقرأني قرأتُ، وإلاّ لم أقرأ حرفاً ما حييت!

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٢: ٤٥٠، ح ٢٥٥٦، مختصراً وفيه: وهو أب لهم وأزواجه أُمّهاتهم. انتهى، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٦٩، ح ١٣١٩٧، تفسير القرطبي ١٤: ١٢٦، واللفظ له.

(٢) الدر المنثور ٥: ٢٨٠، قال: أخرجه أبو يعلى وابن مردويه عن أُبيّ بن كعب، وكنز العمال ٢: ٥٦٨، ح ٤٧٤٤، عن ابن مردويه، فتح القدير للشوكاني ٣: ٢٢٥.

(٣) انظر تفسير القرطبي ١٨: ١٠٢، الدر المنثور ٤: ٢٦٩.

١٧٠

قال: بل أقْرِئِ الناس(١) .

وفي لفظ آخر: قال أُبيّ: واللهِ يا عمر إنّك لتعلم أنّي كنت أحضر وتَغيبون، وأُدعى وتُحْجَبون ويُصنع بي، واللهِ لئن أحببتَ لألزمنّ بيتي، فلا أُحدّث أحداً بشي(٢) .

قد يتصوّر القارىُ - عند وقوفه على الأخبار السابقة - أنّ أُبيّ بن كعب هو ممَّن يقول بتحريف القرآن، لأنّ قراءته تخالف قراءتنا اليوم، وأنّ عمر بن الخطّاب جاء لِيُصَحِّح له قراءته، لكنّ حقيقة الأمر ليست كذلك، حيث جاء في صحيح البخاريّ، كتاب (فضائل الصحابة)، باب مناقب أُبيّ بن كعب، أنَّ النبيّ قرأ عليه القرآن، فعن أنس بن مالك قال: قال النبيّ لأبيّ: إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك( لم يكن الذين كفروا... ) قال: وسمّاني؟ قال: نعم، فبكى(٣) .

وإنّ توضيحنا لأمثال هذه النماذج قد يخرجنا عمّا نريد من الاستشهاد به وهو: أنّ علم الخليفة لم يكن كما حاول البعض تصويره، إذ كان يقضي أغلب أوقاته في السوق والبقيع، ولم يختصّ بالنبيّ، بل كان يتناوب النُّزول إليه صلّى الله عليه وآله يوماً فيوم، وثبت عنه القول: (وكان يلهيني الصَّفق بالأسواق) أو قول أُبيّ له (وكان يُلهيك الصَّفق في الأسواق)، وفي ثالث (إنّك تَبِيع القَرَظَ بالبقيع).

إنّ التصريح بهذا الرأي لا يعني الإزراء بالخليفة، بل هو تبيان للحالة التي كان يعيشها الخليفة والمسلمون في الصدر الأوَّل بعيداً عمّا رُسِمَ لهم متأخِّراً من هالة، والكلام عن أُبيّ وقراءته، له مجال آخَر.

إنَّ ما قِيل عن الخليفة من حنكة في فتوحاته ولياقاته العسكريّة شيء، وبيان دوره

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٢: ٢٤٥، ح ٢٨٩١، قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الدر المنثور ٧: ٥٣٥، كنز العمّال ٢: ٥٦٨، ح ٤٧٤٥، عن (ن وابن أبي داود في المصاحف) وروى ابن خزيمة بعضه.

(٢) كنز العمّال ٢: ٥٩٥، ح ٤٨١٦، عن (ابن أبي داود).

(٣) صحيح البخاري ٣: ١٣٨٥، باب مناقب أُبيّ بن كعب، ح ٣٥٩٨، و ٤: ١٨٩٦، باب تفسير سورة إنّا أنزلناه في ليلة القدر، ح ٤٦٧٦، صحيح مسلم ١: ٥٥٠، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل، ح ٧٩٩، سنن الترمذي ٥: ٦٦٥، ح ٣٧٩٢، مسند أحمد ٣: ١٣٠، ٥: ١٢٢.

١٧١

في منع تدوين حديث رسول الله وأمره بحرق المدوّنات شيء آخر(١) .

ونحن في الوقت الذي لا نتناسى الفتوحات الإسلاميّة، لا نرتضي ما أصدره من أوامر في الإقلال من الحديث أو منع تدوينه!

نعم، قد خلط الكثير من الأعلام بين هاتين الناحيتين، فإنّك إذا اعترضت على دوره في الإفتاء أجابوك بفتوحاته، إنّ هذا ليدلُّ على تفكير غائم تنقصه الدقّة والتمييز.

إنّ اللياقة الشخصيّة في الإدارة العسكريّة، لا تعني بالضرورة القُدرة على امتلاك ناصية الإفتاء.

والدفاع عن حياض الدولة وتوسيع رقعة الخلافة، هي ممّا يطلبه الخليفة وممّا يعود عليه بالنَّفع كما يعود على المسلمين، ولا علاقة لهذا بالتكوين الثقافيّ للشخصيّة، فقد أطبق التاريخ على سموّ ورفعة موقف المعتصم حين استغاثت باسمه امرأة من المسلمين، لكنّ ذلك لم يمنع التاريخ من أن يشهد بأنّ المعتصم كان قليل الثقافة لا يملك رصيداً من العلم والفقه.

إلى هنا برزت أسماء آخرين من الذين خالفوا فقه عمر وآرائه في الصدر الأوّل الإسلاميّ، هم:

١٣ - عمّار بن ياسر.

١٤ - أبو سعيد الخدريّ والأنصار.

١٥ – أُبيّ بن كعب.

المصلحة والنصوص

قال الأستاذ خالد محمّد خالد:

لقد ترك عمر بن الخطّاب النصوص الدينيّة المقدّسة من القرآن والسنّة عندما دَعَتْه المصلحة لذلك، فبينما يقسِّم القرآن للمؤلّفة قلوبهم حظّاً في الزكاة ويؤدّيه

____________________

(١) انظر تاريخ التمدّن الإسلاميّ لجرجي زيدان - (حرق مكتبة الإسكندريّة).

١٧٢

الرسول ويلتزمه أبو بكر، يأتي عمر فيقول: (إنّا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر).

وبينا يُجيز الرسول وأبو بكر بيع أمّهات الأولاد، يأتي عمر فيحرّم بيعهن، وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنّة والإجماع، جاء عمر فترك السنّة وحطّم الإجماع(١) .

قال ابن قُدامة: ولنا كتاب الله وسنّة رسوله؛ فإنّ الله تعالى سمّى المؤلّفة في الأصناف الذين سمّى الصدقة لهم، والنبيّ صلّى الله عليه وآله قال:(إنّ الله تعالى حكم فيه، فجزّأها ثمانية أجزاء) . وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يعطي المؤلّفة كثيراً في أخبارٍ مشهورة، ولم يَزَل كذلك حتّى مات.

ولا يجوز ترك كتاب الله وسنّة رسوله إلاّ بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثمّ إنّ النسخ إنّما يكون في حياة النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله؛ لأنّ النسخ إنّما يكون بنصّ، ولا يكون النصّ بعد موت النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله وانقراض زمن الوحي، ثمّ إنّ القرآن لا يُنسخ إلاّ بقرآن، وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنّة، فكيف يترك الكتاب والسنّة بمجرّد الآراء والتحكّم؟ أو بقول صحابي أو غيره على أنّه قول الصحابي في حجّة يترك بها قياس، فكيف يتركون به الكتاب والسنّة؟(٢) .

وقال صاحب المنار: إنّنا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين، وفي ردّهم عن دينهم يخصّصون من أموال دولهم سهماً للمؤلّفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم مَن يؤلّفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومُشاقّة الدول الإسلاميّة والوحدة الإسلاميّة، أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟!

إنّ منطق عمر بن الخطّاب ليوحي بأنّ سهم المؤلّفة قلوبهم يُعطى لهم كرشوة على الإسلام، أو هو بعبارة أُخرى معنى آخر لمنطق المبشِّرين الذين ينطلقون من سياسة

____________________

(١) الديمقراطيّة أبداً: ١٥٥ - طبعة المطبعة العموميّة بدمشق.

(٢) المغني، لابن قدامة ٢: ٢٨٠.

١٧٣

إعطاء الغذاء والدواء للناس كي يعتنقوا النصرانيّة، غافلاً عن أنَّ النبيّ لا يريد بعمله هذا دعوتهم إلى الإسلام بالمال، بل يريد أن يهيّئَ قلوبهم ليستقبلوا منه الدعوة، وأن يؤمنوا إيمان قلب وعقيدة، فهو صلّى الله عليه وآله يتألّفهم مرّة بوضعهم على رأس سَرِيّة من السرايا، وأُخرى يتألّفهم بمشاورتهم في بعض الأمور، وثالثة يتألّفهم بالمال، وهكذا.

ولم تختصّ هذه المسألة بضعف الإسلام وعزّته، بل إنّه صلّى الله عليه وآله كان يريد أن يُهيّئهم كي يقبلوا الإسلام قبولَ إيمان وعقيدة، لا لقلقة لسان.

وهنا أتساءل: لو صحّ تعليل الخليفة في سهم المؤلّفة قلوبُهم، وأنّ الإسلام قد قوي فلا حاجة إليهم إذَنْ، فما معنى ما نقله الدكتور محمّد عجاج الخطيب عن مسند أحمد في النصّ الآتي:

كان رسول الله قد أمر الصحابة ومَن معه يوم الفتح بأن يكشفوا عن مناكبهم ويُهرولوا في الطواف، ليرى المشركون قوّتهم وجَلَدهم، وقوّة دولة الإسلام، ورأى عمر أنّ هذا الأمر قد ذهبت عِلّته، ولكنّه قال: فيم الرَّمَلان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطَّأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟!

ومع ذلك لا ندع شيئاً كنّا نفعله على عهد رسول الله(١) .

فالخليفة إمّا من المتعبّدين - كما يوحي هذا النصّ - وإمّا من المجتهدين الذين قد تعرّفوا المصالح كما ثبت ذلك عنه، فلو كان من المتعبّدين فلِمَ لا يأخذ بفعل الرسول في سهم المؤلّفة قلوبهم؟! و إن كان من المجتهدين، فما الذي يرجّح في اجتهاده هذا على ذاك؟!

هذا، وقد أفردت الدكتورة نادية العمريّ للطلاق ثلاثاً بحثاً في (أمثلة من اختلافهم في الاجتهاد بالرأي) من كتابها (اجتهاد الرسول)، فقالت:

(الأصل في الطلاق أن يكون متفرّقاً، مرّة بعد مرّة، قال الله تعالى:( الطلاقُ مرّتان

____________________

(١) السنّة قبل التدوين: ٨٦ عن مسند أحمد ١: ٤٥، ح ٣١٧ بإسناد صحيح، وعنه في سنن أبي داود ٢: ١٧٨، ح ١٨٨٧.

١٧٤

فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان ) (١) والحكمة في تفريق الطلقات أن يكون للزوج فرصة يراجع فيها نفسه في أمر هذه العلاقة التي يحرص الشارع على استمرارها، وبعد المرّتين يقول الله تعالى:( فإنْ طلّقها فلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيْرَهُ ) (٢) .

هذا هو الطلاق كما شرّعه الله في القرآن، مفرَّقاً واحدة بعد واحدة، لكن ما الحكم إذا ضيّع الزوج على نفسه هذه الفرصة المتكرّرة، وتعجّل الفراق النهائيّ، فجمع الثلاث في لفظ واحد.

إنّنا لا نجد في القرآن الكريم كلاماً عن جمع الثلاث في لفظ واحد أو مجلس واحد، لكنّا نجد في السنّة أنّ ركانة بن عبد يزيد طلّق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله الرسول: كيف طلّقتها؟

قال: ثلاثاً.

قال صلّى الله عليه وآله: في مجلس واحد؟

قال: نعم.

قال الرسول: فإنّما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت، فرجَعَها(٣) .

ولكنّ الناس في عهد عمر بن الخطّاب استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم...)(٤) .

إلى أن تقول:

(ولكن هل أفتى العلماء بمقتضى ما فعله عمر رضي الله عنه على مرّ العصور؟ وافق كثير من العلماء عمر رضي الله عنه وخالفه آخرون(٥) .

____________________

(١) البقرة: ٢٢٩.

(٢) البقرة: ٢٣٠.

(٣) مسند أحمد ١: ٢٦٥، ح ٢٣٨٧، السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٣٣٩، ح ١٤٧٦٤، بداية المجتهد ٢: ٥٠، أعلام الموقّعين ٣: ٣٢، نيل الأوطار ٧: ١٧.

(٤) اجتهاد الرسول: ٢٤٠.

(٥) انظر تفسير القرطبيّ ٣: ١٢٩.

١٧٥

وأعتقد أنّ مصالح الناس هي الحكم في ذلك، فإذا رأى أُولو الأمر - كما رأى عمر - أنّ إمضاءها ثلاثاً يحقّق المصلحة أمضَوه، و إن رأوا المصلحة العامّة في إيقاعها واحدة فهي واحدة كما كانت حتّى سنتين من خلافة عمر.

ولذا ذهب ابن القيّم: إلى أنّ إيقاعها واحدة في العصور المتأخّرة أكثر مراعاة للمصلحة، وقطعٌ لذريعةِ فسادٍ اجتماعيّ وهو انتشار التحلّل حين كان يفُتى بوقوعها ثلاثاً، فيلجأ الزوجان إلى ما كان عليه في زمن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله وخليفته من الإفتاء، بما يعطّل سوق التحليل أو يقلّلها أو يخفّف شرّها(١) .

ويقارن ابن القيّم بين العصور المختلفة واختلاف المصلحة باختلاف ظروف الناس، فيقول: إنّ الثلاث مجموعةً على عهد رسول الله وأبي بكر كانت تقع واحدة، وكان التحليل محرّماً وممنوعاً منه، ثمّ صارت في بقيّة خلافة عمر ثلاثاً، والتحليل ممنوع منه، ثمّ صار التحليل كثيراً منتشراً ومشهوراً، والثلاث ثلاث. فالعقوبةُ إذا ترَكَت مفسدةً أكثر من الفعل المعاقب عليه وجب تركها)(٢) .

وقد أثّر اجتهاد الخليفة عمر بن الخطّاب في فقه المسلمين لا محالة.

فذهبت المالكيّة والحنابلة إلى أنّ فاعل هذا [ أي الطلاق ثلاثاً ] آثم يفوّت الغرض الذي من أجله شرّع التعدّد، ويرى الشافعيّ وابن حزم أنّ ذلك خلاف الأولى وليس محظوراً لعموم النصّ، ويرى الحنفيّة أنّه طلاق بدْعيّ إذا كان بلفظ واحد أو بألفاظ متفرّقة في طُهر واحد(٣) .

وقال الدكتور مصطفى البغا، بعد نقله رأي عمر في الطلاق: فهذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان، وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به وصرّحوا لمن استفتاهم بذلك(٤) .

____________________

(١) أعلام الموقّعين ٣: ٤٨.

(٢) اجتهاد الرسول: ٢٤٢.

(٣) مناهج الاجتهاد الإسلام للدكتور مدكور: ١٧٧.

(٤) أثر الأدلّة المختلف فيها في الفقه الإسلاميّ: ٢٧٧ وقال بها أغلب علماء أهل السنّة قديماً وحديثاً.

١٧٦

والآن أتساءل: كيف يعرف عمر المصلحة ويقف على روح التشريع في المؤلّفة قلوبهم، وقد وقفتَ على أجوبة ابني قدامة وصاحب المنار له؟!

وهل يصحّ أن يعرف الخليفة المصلحة ولا يعرفها النبيّ وأبو بكر؟!

أم هل يعقل جهلهما بالمصالح، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ النبيّ متّصل بالوحي؟! و إذا سمح للبشر - غير المعصوم - الإفتاء بتغيّر الزمان والمكان فإلى أين ستصل فتاواه؟!

نعم إنّنا لا ننفي تغيّر بعض الأحكام الجزئيّة إذا زاحم أمراً آخر أهمَّ منه.

وكذا لا ننكر - بنحو الإطلاق - تبدّل الأحكام لتبدّل موضوعاتها، لكنّ سؤالنا: كيف يمكن الاطمئنان بقول مَن يدّعي أنّ هذا الحكم قد تغيّر لتبدلّ موضوعه، مع علمنا بأنَّ مبادئ الأحكام وغاياتها من عند الله ولا يعرفها إلاّ المعصوم؟

بلى؟ لو عرَّفَنا المعصوم تبدّل موضوع حكم، فلا محيص عن الأخذ به؛ باعتباره صادراً عن الله وما المعصوم إلاّ مبلّغ مأمون، وأمّا احتمالنا ذلك عن طريق الحدس والتخمين والظن الذي لا يغني من الحق شيئاً فلا يوجب الاطمئنان، وكذا الحال بالنسبة إلى اعتبار العلّة في الأحكام، فإنّها في الغالب حكمة وليست بعلّة تامّة، فمثلاً: قولنا في تحريم الزنا إنّه جاء لأجل عدم اختلاط المياه، فهذا القول ليس بعلّة الحكم فيه بل هو الحكمة فيه، والحكمة في العدّة، هي عدم اختلاط المياه كذلك، وقد وردت هذه في روايات كثيرة، ولكن ماذا نقول: لو رُفع رحم المرأة بعمليّة جراحيّة، أو علمنا يقيناً أنّها عقيم، هل يجب عليها الاعتداد أم لا؟!

نعم يجب ذلك؛ لأنَّ الله فرض ذلك لمصلحة ملحوظة في اللوح المحفوظ لم يطّلع عليها البشر، فمن المجازفة والتساهل بأحكام الله القول بعدم لزوم العدّة، بدليل أنّ العلّة المتخيّلة - وهي عدم اختلاط المياه - قد انقضت في الفرض المذكور.

ولا يفوتنا القول بوجود علل منصوصة في التشريع - ولكنّها قليلة جداً - كالإسكار في الخمر مثلاً، فمتى وُجِدَتْ فيه علّة الإسكار حرم ومتى ارتفعت حلّ،

١٧٧

فكُلّ ما أسكر قليله فكثيره حرام، لكن أين هذا ممّا كان يقدم عليه الشيخان، من إطلاق أحكام ليس لها وجود، أو نراها تتعارض مع أحكام موجودة ثابتة في الذكر الحكيم، فنراه يضيّق دائرة حكم أو يوسّعه في حين آخر بتصوّر وجود مصلحة في جعل الحكم الفلاني أو مفسدة في إلغاء الحكم الفلاني، في حين نعلم أنّ هذا لا يمكن أن يصدر إلاّ ممّن له إحاطة تامّة بكلّ مبادئ الأحكام وغاياتها ومَن اختصّه الله بعلمه، والخليفة لم يختصّ بذلك كما عرفت، وإنّه بتشريعه الطلاق ثلاثاً أو رفعه سهم المؤلّفة قلوبهم أو المنع من المتعة، كان يريد منعها إلى الأبد لما رأى فيها المصلحة الوقتيّة، ولم يكن منعه وقتيّاً ليقال إنّه بالعنوان الثانويّ وإنّ ذلك من صلاحيّات الخليفة.

ولو سلّمنا أنّ الأحكام تتغيّر بتغيّر المصالح... فأين المصلحة في مثل هذه الأحكام؟ ومَن هو الذي يحدّدها؟ وهل جاءت الأحكام طبق الهوى والرأي، أم طبق التعبّد والدليل؟ فلو كان فيه نصّ ودليل، فما هو هذا النصّ والدليل؟

قال الشيخ خلاّف في (علم أُصول الفقه) عند ذكره شروط المصالح المرسلة، وهي ثلاث:

أوّلها: أن تكون مصلحة حقيقيّة وليست مصلحة وهميّة، والمراد بهذا أن يتحقّق من أنّ تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، وأمّا مجرّد توهُّم أنّ التشريع يجلب نفعاً من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر فهذا بناء على مصلحة وهميّة.

ثانيها: أن تكون مصلحة عامّة وليست مصلحة شخصيّة. والمراد بهذا أن يتحقّق من أنّ تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعاً لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضرراً عنهم، وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم، فلا يشرّع الحكم لأنّه يحقّق مصلحة خاصّة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم، فلابد من أن تكون لمنفعة جمهور الناس.

ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكماً أو مبدأً ثبت بالنصّ أو

١٧٨

الإجماع(١) .

بعد هذا نقول: هل ما قاله عمر كان يجلب النفع لأكبر عدد من الناس أو يدفع الضرر عنهم، مع معرفتنا بملابسات الحياة ومشاكلها ومافيها من ضغوط توفّر إمكان تخطّي المرء ما كان يألفه؟

فلو ضيّع الزوج على نفسه هذه الفرصة المذكورة، وتعجّل الفراق النهائيّ، فجمع الثلاث بلفظ واحد - حسب قول الدكتورة نادية - فهل يجب عليه أن يرضخ لحكم عمر وتَبِين زوجته منه؟ مع أنّا قد عرفنا بأنَّ الدكتورة قد صرّحت:

بأنّ الحكمة في تفريق الطلقات إنّما هو من أجل أن يراجع الزوج نفسه، وقولها: هذا هو الطلاق كما شرّعه الله في القرآن، مفرّقاً واحدة بعد واحدة(٢) .

لكن ماذا نقول للذين يعلمون بأنّ الحكمة في تفريق الطلقات وأنّه من أجل أن يراجع الزوج نفسه، ثمّ يقولون إنّ الطلاق ثلاثاً قد صدر عن مصلحة؟! إنّه التعصّب ولا ريب، إذ كيف يمكن أن تُجعل الحكمة في التفريق وتذهب في الوقت نفسه إلى أنّ ما قاله الخليفة عمر بن الخطّاب جاء عن مصلحة؟!

نعم، إنّها قالت بهذا القول وهي تعلم أنّ الحكم قد رجع إلى عمر، لا إلى القرآن ولا إلى السنّة، وأن العقوبة ستشمل الزوجة والأطفال الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا تقصير على الأزواج وحدهم.

وبعد هذا هل يمكن لأحد أن يقول: إنّ حكم الخليفة مستقىً من القرآن؟! أو إنّ تشريعه لم يخالف النصّ بعد أن عرفنا أنّ المصلحة التي ارتضاها الخليفة قد خالفت القرآن؟!

إنّ كلمة (ثلاثاً) لا توجب البينونة؛ لتخالفها مع الشرع والعقل، وهي بمنزلة القول: إنّ كلمة (خمساً) أو (سبعاً) بعد (الله أكبر) تكفي في صلاة العيدَين دون أدائها على التعاقب!!!

____________________

(١) علم أُصول الفقه، لعبد الوهّاب خلاّف: ٨٦ - ٨٩.

(٢) اجتهاد الرسول: ٢٤٠.

١٧٩

وكذا القول (سبحان الله، مائة مرّة): إنّها تمنح قائلها ثواب تكرارها مائة مرة؟

ومثله القول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، مرّتين) تكفي عن ترديدها في الأذان مرّتين!

وكذا رمي الحصيات السبع مرّة واحدة أنّها تكفي في رمي الجمرات!

ومثله الشهادات الأربع في اللعان. وهكذا، حتّى ينجرّ الأمر إلى سائر الأحكام.

وقد صرّح أكثر من واحد من الأعلام بأنّ الطلاق مرّتان يقتضي التفريق، قال الجصّاص في شرحه للآية:( الطلاق مرّتان ) ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنّه لو طلّق اثنين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، وكذلك لو دفع إلى رجل آخر درهمين لم يَجُز أن يقال: أعطاه مرّتين حتّى يفرّق الدفع، فحينئذٍ يُطلق عليه.

و إذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين؛ إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرّة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكره للمرّتين إنّما هو أمرٌ بإيقاعه مرّتين ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة(١) .

نعم، قد أثّر فقه الخليفة في الأحكام، والكلّ يعرف أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب جعل الحكم تابعاً للمصلحة التي يرتأيها ويتصوّرها، أو يصوّرها على أنّها علّة تامّة يكون الحكم تابعاً لها ومرتّباً عليها، فتراه يغيّر الحكم تبعاً لتغيّر ما يراه مناسباً من المصالح دون المصالح الواقعيّة التي لا يحيط بها إلاّ الله.

قال الدكتور مصطفى البغا عند ذكره لأدلّة الاستصلاح: إنّ الصحابة (شرّعوا لهذه الحوادث من الأحكام ما رأوا أنّ فيه تحقيق المصلحة ممّا يجلب النفع أو يدفع الضرر، حسبما أدركته عقولهم، واعتبروا ذلك كافياً لبناء الأحكام والتشريع، وحوادثهم في ذلك كثيرة ومشهورة)(٢) .

وقال الوافي المهدي: لمّا توالت الفتوحات الإسلاميّة في عصر الخلفاء، وعلى

____________________

(١) أحكام القرآن للجصّاص ٢: ٧٣.

(٢) أثر الأدلّة المختلف فيها للدكتور البغا: ٥٤.

١٨٠