منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93211
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93211 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟

قال عمر: لو أردّك إلى كتاب الله أو سنّة رسوله لفعلت، ولكنّي أردّك إلى رأي، والرأي مشترك، ولست أدري أيّ الرأيين أحقّ(١) .

وجاء في (الإحكام) لابن حزم: (قال أبو محمّد: فقد ثبت أنّ الصحابة لم يُفتوا برأيهم على سبيل الإلزام، ولا على أنّه حقّ، لكن على أنّه ظنّ يستغفرون الله تعالى منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين فلا يحل لمسلم أن يحتج بشيء أتى عنهم على هذه السبيل)(٢) .

وقال ابن حزم: وليس في تعليم عمر رضي الله عنه الناس التشهّد على المنبر ما يدلّ على أنّه عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله. وقد نهى عمر وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء، وعلّم الناس ذلك. ولا شكّ عند أحد في أنّ نهيه عن ذلك ليس عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله، وأنّ ذلك من اجتهاد عمر فقط، وقد أقر بذلك في ذلك الوقت، ورجع عن النهي عنه، إذ ذُكِّر أنَّ نهيه مخالف لِما في القرآن.

وأمّا التشّهدات المرويّة عن ابن عبّاس وعائشة وابن مسعود وأبي موسى - رضوان الله عليهم - فهي التي لا يحلّ تعدّيها لصحّة سندها إلى النبيّ. وقد خالف تشهّد عمر - الذي علّمه للناس على المنبر - ابنُه عبد الله وابن مسعود وابن عبّاس وعائشة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شَهِدوه يخطب به...)(٣) .

وقالت الدكتورة نادية العمريّ، وهي بصدد نفي ما قيل عن عمر: إنّه إذا أعياه أن يجد حكماً في القرآن والسنّة نظر: هل فيه لأبي بكر قضاء، فإنْ وجد له قضاء اتّبعه، قالت:

(وبناءً على ذلك لم يكن يلتزم (أي عمر) برأي أبي بكر التزاماً مطلقاً، برغم مكانته الكبيرة في نفسه، إلاّ إذا استند إلى نصّ من كتاب أو سنّة. وهو في هذا الالتزام إنّما يتّبع

____________________

(١) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: ٤٧، لاحظ محاولته إضفاء مشروعية الرأي لكل الصحابة ودَرْج اسم علي بن أبي طالب المتعبّد فيهم.

(٢) الإحكام في أُصول الأحكام ٦: ٢٢٢.

(٣) الإحكام في أُصول الأحكام ٢: ١٨٣ - ١٨٤.

٢٦١

هذا النصّ في الحقيقة، كما حصل بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله عندما ذكّره أبو بكر بآية من القرآن. أمّا حين يصبح الأمر شورى ورأياً خاصّاً، فإنّ الرأي مشترك، كما قال عمر. وقد خالف أبا بكر في مسألة إقطاع المؤلّفة قلوبهم، التي رجع أبو بكر فيها إلى رأي عمر، وخالفه أيضاً في الاستخلاف حين جعل الأمر شورى. وعلى هذا فإنّ عمر كان يستأنس برأي أبي بكر، ولكن لا يأخذه على سبيل الإلزام كالنصوص القرآنيّة والنبويّة، بدليل مخالفته له في أكثر من قضيّة وأكثر من موطن)(١) .

والآن نتساءل كيف يمكننا الأخذ بسيرة الشيخين ونرى الاختلاف بين نُقولهما واجتهاداتهما؟ وكيف يمكن تصحيح ما نُسب إلى رسول الله: (اقتدوا بالذين من بعدي)(٢) وقوله (عضّوا عليها بالنواجذ)(٣) وقد رأيت الاختلاف بينهم واضحاً بيّناً وفي أكثر من قضيّة وموطن؟!

أفَتُرى أنّ رأي أبي بكر في قضيّة خالد هو الحجّة أم رأي عمر؟

وهل يُعقل أن يفرِض علينا النبيّ اتّباع رأي شخص غير معصوم، وهو المطِّلع على آرائه واجتهاداته في الشريعة أيّام حياته صلّى الله عليه وآله؟!

وماذا يمكننا أن نقول عن اجتهاد عمر - كما يقولون - في ردّ سهم المؤلّفة قلوبُهم(٤) ، وصريح القرآن يفرض الصدقات في قوله:( إنّما الصدَقات للفقراء والمَساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبُهم... ) ؟(٥) .

وكيف يمكن تفسير رأيه في ميراث الجدّ مع الإخوة(٦) ، والطلاق ثلاثاً(٧) ، وبيع

____________________

(١) اجتهاد الرسول: ٢٩٩ - ٣٠٠.

(٢) مسند الحميدي ١: ٢١٤، ح ٤٤٩، المعجم الأوسط ٤: ١٤٠، ح ٣٨١٦، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ١٥٣، وغيرها من المصادر.

(٣) مسند أحمد ٤: ١٢٦، سنن الدارمي ١: ٥٧، باب اتباع السنّة، ح ٩٥، سنن الترمذي ٥: ٤٤، باب ما جاء في الأخذ بالسنّة واجتناب البدع، ح ٢٦٧٦، سنن أبي داود ٤: ٢٠٠، ح ٤٦٠٧، سنن ابن ماجة ١: ١٥، ١٦، ح ٤٢ و ح ٤٣.

(٤) انظر فتح القدير للشوكاني ٢: ٣٧٣. (٥) التوبة: ٦٠.

(٦) السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٤٥، باب تشديد الكلام في مسألة الجد مع الاخوة ح ١٢١٩٢، (بسنده عن ابن سيرين عن عبيدة قال: ثم إنّي لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضاً). وانظر أيضاً فتح الباري ١٢: ٢١، وشرح الزرقاني ٣: ١٤٢، باب ميراث الجد.

(٧) صحيح مسلم ٢: ١٠٩٩، باب الطلاق ثلاث، ح ١٤٧٢، المستدرك على الصحيحين ٢: ٢١٤، كتاب الطلاق، ح ٢٧٩٣. حديث صحيح ولم يخرجاه، مسند أحمد ١: ٣١٤، ح ٢٨٧٧.

٢٦٢

أُمّهات الأولاد(١) ، وعول الفرائض(٢) ، وعدم وجوب التيمّم للصلاة مع فقدان الماء(٣) ، ونهيه عن الصلاة بعد العصر(٤) ، وصلاته على الجنائز أربعاً(٥) ، وفي كلّ ذلك نصوص عن النبيّ تخالفه؟!

ليت شعري كيف يُعذر الشيخان ويصير ما قالاه حسناً مع تصريح عمر بن الخطّاب أنَّ صلاة التراويح كانت بدعة، ونعمت البدعة هي؟!

ثمّ يأتي العلماء ليفسّروا البدعة بمعناها اللغويّ لا الشرعيّ فيذكرون خبراً عن الرسول - في شرعيّة صلاة التراويح - مجمله: أنّه خرج ليلاً للصلاة في المسجد فائْتَمَّ به الناس، وفي اليوم الثاني كثر العدد، وفي اليوم الثالث أكثر حتّى خرج بهم إلى خارج المسجد، فترك الرسول الخروج إلى المسجد، ولم يَنْه عنها ثمّ راحوا يفسّرون البدعة بمعناها اللغويّ!

فلو كان الأمر في صلاة التراويح شرعيّاً ولم ينه عنه الرسول صلّى الله عليه وآله فما معنى حمل كلام عمر على معناه اللغويّ عند الأعلام؟!

وإن كان الخليفة عمر بن الخطّاب يعني معنى البدعة الشرعيّ، فما معنى ما يقولونه في تأويل فعل عمر؟ إنّها تناقضات الأخبار والمعاذير المختلقة للأشخاص وهي مشهودة للباحث.

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ٧: ٢٩٢، ح ١٣٢٢٥، سنن الدراقطني ٤: ١٣٤، كتاب المكاتب، ح ٣٣ و ح ٣٤، المبسوط للسرخسي ١٣: ٥، سبل السلام ٣: ١٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤: ٣٧٨، ح ٧٩٨٥، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٥٣، باب العول، ح ١٢٢٣٧، المغني ٦: ١٧٥، منار السبيل ٢: ٧٦.

(٣) مصنف عبد الرزاق ١: ٢٣٨، ح ٩١٥، مسند احمد ٤: ٣١٩، سنن النسائي الكبرى ١: ١٣٣، ح ٣٠٢.

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ٢: ١٣٣، ح ٧٣٤٢، مصنف عبد الرزاق ٢: ٤٣٣، ح ٣٩٧٤، المسند المستخرج على صحيح مسلم ٢: ٤٢٨، ح ١٨٨٥.

(٥) شرح معاني الآثار ١: ٤٩٩، مسند أبي حنيفة ١: ٨٢، المحلى ٥: ١٢٤.

٢٦٣

لا أدري: أتُصَدَّق النصوص وما جاء في تراثنا الغابر، أم ما يقوله الأساتذة من مبرّرات للشيخين؟!

أترى أنّ الله قد عصمهما من الخطأ وخُصّا بدليل يجوّز اجتهادهما ولزوم التعبّد برأيهما دون الآخرين، كما روي من قوله صلّى الله عليه وآله: (عليكم بما عرفتم من سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين...)؟(١)

أكان هذا النقل صحيحاً عن رسول الله؟ أم يُستشمّ منه وجود نهج آخر قِبال سنّة رسول الله؟

وأيُعقل أن يجعل رسولُ الله سنّته عدلاً لسنة الخلفاء الراشدين من بعده وهو العالم باختلاف أُمتّه من بعده والقرآن الكريم يقول:( أفَإنْ ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ ) ؟!(٢) ونرى الاختلاف بين أقوالهم!

ولو ارتضينا هذا الحديث على علاّته، واجهتنا مشكلة أخرى، وهي تضارب وتناقص وتخالف آراء الخلفاء من بعده، فأيّها المأمور بأخذه والالتزام به؟ وأيّ الخلفاء هم المقصودون، الأربعة الراشدون؟ أم كلّ من تسلّم اُمور الخلافة والسلطة؟ وإذا صحّ الحديث فلماذا لا يحمل على الخلفاء الاثني عشر الذابّين عن سنّته والناشرين لحديثه صلّى الله عليه وآله؛ لما روي عن عليّ عليه السلام عن النبي:(اللّهمّ ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنّتي ويعلّمونها الناس) (٣) ، والذي قال عنهم الرسول صلّى الله عليه وآله في حديث آخر:(فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم) (٤) .

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ١٢٦، سنن ابن ماجة ١: ١٥، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح ٤٢، ح ٤٣، المستدرك على الصحيحين ١: ١٧٤ - ١٧٧، ح ٣٢٩، ح ٣٣١، ح ٣٣٢، ح ٣٣٣.

(٢) آل عمران: ١٤٤.

(٣) الفردوس بماثور الخطاب ١: ٤٧٩، ح ١٩٦٠، كنز العمال ١٠: ٢٢١، ح ٢٩١٦٧، وانظر مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٩٩، ح ٢١٤٠٣، فيض القدير ٢: ١٤٩.

(٤) المعجم الكبير للطبراني ٥: ١٦٦، ح ٤٩٧، وعنه في الصواعق المحرقة ٢: ٤٣٩، ٦٥٣، ٦٥٤.

٢٦٤

وقال:(ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) (١) وقال:(.. وأهل بيتي أمان لأُمتي من الاختلاف) (٢) ، وغيرها من النصوص المتواترة.

نعم، قد أوقَفَنا رسولُ الله في (حديث الحوض) على أنّ من بين أصحابه من يُذاد عن الحوض!

وليتني أعرف لِمَ لًمْ يكتفِ صلّى الله عليه وآله بقوله: (عليكم بكتاب الله وسنّتي) - حسب ما نقلوه عنه صلّى الله عليه وآله - حتّى يضيف إليهما شيئاً آخر؟ أيُعقل أن تكون السنّة ناقصة حتّى يلزم إكمالها بسيرة الشيخين؟!

وألا ينمُّ وضع قيد (سنّة الخلفاء من بعدي) أو (اقتدوا بالذين من بعدي) إلى جنب السنّة الشريفة، عن وجود اجتهادات جديدة حدثت في الحياة العلميّة للمسلمين تخالف السنة المطهّرة، أُريد لها وعلى لسان النبيّ تصحيح كلا الاتّجاهين؟

وهل يصحّ عقلاً وشرعاً هذا الذي قيل؟ بل كيف يمكن الجمع بين ما قاله عمر وقول رسول الله؟

فالمتعة - مثلاً - إمّا مشروعة، لقول عمر: (كانتا على عهد رسول الله).. أو محرّمة، لقوله: (أنا أُحرّمهما)! وأمثال هذه المفردات كثيرة في الشريعة.

إنّ ما يُحتمل راجحاً في هذه النصوص - التي جاء فيها ذكر أسماء الخلفاء، أو التأكيد على (الذين من بعدي) مرتَّباً طبق الترتيب الزمنيّ للخلافة (أبو بكر، عمر، عثمان، عليّ) - أنّها قد حرّفت عن أصلها المراد منها، أو وُضعت لاحقاً لتصحيح ما ذهب إليه الشيخان ومَن تابع مدرستهما الاجتهاديّة، ولنا في ذلك أدلّة مفصّلة نُرْجئُها إلى حينها.

____________________

(١) التبصرة للفيروزآبادي:٣٦٩، المبسوط للسرخسي ١٦: ٦٩، وأصوله: ٣١٤.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢: ٤٨٦، ح ٣٦٧٦ و ٣: ١٦٢، ح ٤٧١٥، ٣: ٥١٧، ح ٥٩٢٦، وقد قال الحاكم عنها: أحاديث صحيحة على شرط الشيخين ولم يخرجاها، وانظر مسند الروياني ٢: ٢٥٣، ح ١٥٢.

٢٦٥

تطوّرات وتغييرات

لابدّ هنا من الإشارة إلى ما وصل إليه أمر الأمّة في العصور اللاحقة.

قالت الدكتورة نادية العمريّ في كتابها الاجتهاد في الإسلام: (وممّا ثبت أنّ المتأخّرين من الفقهاء قد غيّروا كثيراً من الأحكام التي نُقلت عن أئمّتهم حين دعت الحاجة إلى التغيير، كما فعل الشافعيّ من قبل حينما انتقل إلى مصر وترك العراق والحجاز؛ فقد غيّر من مذهبه القديم إلى الجديد، وأملى كتابه الأمّ والرسالة، وكما فعل ابن القيّم الجوزيّة)(١) .

وقال الدكتور تركي: (أمّا فيما يتعلّق بالاستحسان - الذي هو طريقة للهرب من القياس لأسباب من التقدير الشخصيّ - فقد ظهر في القرن الثالث للهجرة، على ما ذكره ابن حزم)(٢) .

وقال الوافي المهدي: (وفي هذا الدور (أي زمن تأسيس المذاهب) تأثّر التشريع الإسلاميّ بالعرف، فأصبح الكثير من الفقهاء يعتبرونه مخصِّصاً للنصّ. ومن ذلك تخصيص البعض منهم منع بيع الإنسان ما ليس عنده الوارد فيه المنع بالاستصناع، وهو: أن يتفق شخص مع آخر على صنع شي يوضّحه بالوصف ويقدّر له الثمن، فقد أُجيز هذا العقد مع أنّه من قبيل بيع ما ليس عند الإنسان)(٣) .

وجاء عن الأستاذ رشيد رضا قوله: (من المجازفة في القياس والجرأة على الله القول بنسخ مئات الآيات، وإبطال اليقين بالظنّ وترجيح الاجتهاد على النصّ - ثمّ ذكر كلام الشافعيّ الذي ربّما قاله بنفسه: (إنّ القياس لا يصار إليه إلاّ عند الضرورة كأكل الميتة).

وقال الباحث المصريّ شفيق شحاته: (إنّ ترقية القياس إلى درجة أن يكون مصدراً للشريعة يجب أن تُعزى إلى أسباب تاريخيّة خالصة)(٤) .

____________________

(١) الاجتهاد في الإسلام: ١٠٤ ط ١ مؤسّسة الرسالة ١٤٠١ه - بيروت.

(٢) مناظرات في الشريعة الإسلاميّة بين ابن حزم والباجي: ٣٣٣.

(٣) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: ٢٠٨.

(٤) مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجي: ٣٣٠ عن، Logigue. P.٣٢

٢٦٦

ومن المؤسف أن اختم كلامي بنص لبعض المتطرفين وهو الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين إذ يقول: ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قولَ الصحابة، والحديث الصحيح، والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مضلٌّ، وربّما أدّاه ذلك للكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر(١) .

وهذا يخالف قول روساء المذاهب الأربعة أنفسهم الذين لم يجيزوا الناس الأخذ بأقوالهم لو خالفت الآية والحديث الصحيح، واعتبروا العمل بأي مذهب من المذاهب متروك للناس.

كانت هذه خلاصة لتاريخ التشريع الإسلاميّ وملابسات الفقه، ذكرناها ليكون القارئ على بصيرة من أمره، وليتعرّف على بعض الأصول التي أُوجِدت في الصدر الأوّل الإسلاميّ وجذور الاختلاف بين المسلمين، وكيف أصبحت شريعة الفقهاء من أهل الرأي تجوّز التعدّديّة في الرأي، مع علمنا أنّ الله واحد، ورسوله واحد، وكتابه واحد، وهو سبحانه يدعونا إلى الوحدة في الفقه والعقيدة، ويحذّرنا الاختلاف والفرقة، وقد أكّد رسول الله صلّى الله عليه وآله ونص على أنّ الفرقة الناجية من أُمّته هي واحدة، لا غير.

عود على بدء

الثابت عن رسول الله أنّه تصدّى لأمور الشريعة والدولة معاً، فكان من المحتّم على من يخلفه أن يكون مؤهّلاً في كلا الجانبين. وقد عرفت أن الشيخين كانا حاكمَين ولم يكونا عالِمَين. وبما أنّ مقام الحاكميّة في الإسلام كان يحتاج إلى علم، فلا محيص إذَن من التصرّف في بعض الأصول، حتّى يمكن تشريع أقوالهما وإخراجها عن دائرة اجتهادات شخصيّة يمكن تخطئتها في العصور اللاحقة.

في حين كنّا قد عرفنا أنّ الشيخين لم يكونا يدّعيان - في أوائل خلافتهما - أنهما قد حفظا جميع علم رسول الله، بل نراهما يسألان الصحابة عمّا قال الرسول فيما جهلاه من أحكام كمسائل الجدّة وغيرها، وإذا حدث تخالف بين رأيهما وقول رسول

____________________

(١) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ١٠: ٣ ط دار إحياء التراث العربي، وقد رد الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر على كلام الصاوي في كتاب أسماه (تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران) هذا ما قاله العلاّمة الخليلي مفتي سلطنة عمان في كتابه الحق الدامغ: ١٠.

٢٦٧

الله فإنّهما كانا يتراجعان عمّا أفتيا به، كما حصل في موارد كثيرة، لكنّ عمر - في الفترة الأخيرة من خلافته - لم يرتضِ الرجوع عمّا أفتى به، بل أمر بحبس الصحابة عنده حتّى وافاه الأجل، وادّعى لنفسه أنّه الميزان الأوّل والأخير في الأخذ والردّ.

إنَّ الشيخين - بل عامّة المسلمين - كانوا يعلمون أن المشرِّع هو الله ورسوله، وليس لأحد حقّ التشريع أمام نصّ القرآن والسنّة، وكلّ ما لَهما هو أن يستنبطا الأحكام من القرآن والسنّة. وإنّ تراجعهما عمّا أفتيا به وأخذهما بكلام الصحابة والمحدِّثين عن رسول الله، ينبئ عن أنّ الأصل كان عندهما السنّة لا اجتهاداتهما.

لكنّهم وبمرور الأيّام أخذوا يؤكّدون على حجية آرائهم واجتهاداتهم، وإن كانت مخالفة لقول رسول الله أو مخالفة لاجتهادتهم السابقة، فمثلاً يقول عمر: (تلك على ما قَضَيْنا، وهذه على ما قَضَيْنا)! نعم إنّه يعلم أنّ بيان التخالف بين نُقُول الصحابة عن رسول الله واجتهاداته لو استمرّ فمن شأنه أن يؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة عمّا بينهما، وهذا ممّا لا يقبله الخليفة بأيّ وجه من الوجوه.

إنّ السماح بتناقل حديث رسول الله يودّي إلى رفع مستوى الوعي والتبصّر عند المسلمين بوقوفهم على سنّته صلّى الله عليه وآله. ولمّا كان الخليفة لا يعرف كلّ ما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله فإنّه لا محالة سيخالف باجتهاده قول الرسول، وهذا سيضعه أمام مشكلة مع الصحابة، ويؤدّي إلى تخالف آرائهم في الأحكام. ومن أجل القضاء على كلّ هذا قال لمن جمعهم من الصحابة: (إنّكم أفشيتم الحديث عن رسول الله) وفي آخر: (أكثرتم الحديث عن رسول الله).

لأنّه كان يرى أنّ في الإفشاء والإكثار ثقل المواجهة!

نعم إنّه جاء ليؤكّد على القياس والأخذ بالرأي، كما مرّ في رسالتيه إلى أبي موسى الأشعريّ وشُريح القاضي، وكذا الحال بالنسبة إلى أحاديث الاجتهاد، التي رويت عن معاذ وعمرو بن العاص وغيرهما، عن النبيّ فإنّها جاءت لتصحيح الموقف.

وهذا الذي قلناه من أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي استعمل الاجتهاد واقترحه أكثر

٢٦٨

من أبي بكر، لا يتنافى مع ما قيل من أنّ القياس حدث في العصور المتأخّرة والأزمنة اللاحقة، نتيجة لضرورات زمنيّة مرّت بها الدولة وفقهاؤها آنذاك؛ لأنّ أصل نشوء فكرة الاجتهاد ببذراتها الأولى كان من مبتكرات عمر، كما اتّضح لك في البحوث السابقة، لكنّ ذلك النشوء لم يكن متكامل الجوانب والمباني، بل ظلّ يتعثّر في خطاه ويكبو، واعترض عليه الكثير من الصحابة والتابعين إلى أن اكتملت أُصوله، وصارت له بنيويّة متكاملة خاصّة تميّزه عن غيره من أُصول الاجتهاد التي رسموها، وذلك في العصور المتأخّرة، في أوائل القرن الثاني الهجريّ، فلذا نرى بروز أسماء أُخرى واصطلاحات مستجدّة أُخرى إلى جانبه كالاستحسان والمصالح المرسلة و و.. وهذا واضح لا غبار عليه.

بيان الإمام عليّ ‏عليه السلام

وبذلك صارت الفتاوى تؤخذ عن رأي وقياس، وليس جميعها عن نصّ ورواية؛ فلذلك كان بعض الصحابة - كما قلنا - لا يرتضون الاجتهاد فيما لا نصّ فيه؛ لقربهم من زمن التشريع ولمعرفتهم بمن عنده نصوص عن رسول الله صلّى الله عليه وآله‏في القضايا الحادثة، بَيدَ أنّ خفاءها على الخليفة لا يعذره ليفتح أبواباً واسعة للاجتهاد؛ لأنّ في ذلك خطراً على الفقه والعقيدة الإسلاميّة. وقد جسّم الإمام عليّ بن أبي طالب واقع الأمّة والصدر الأوّل من تاريخ الإسلام وفي هذه الفترة الحسّاسة بقوله في بعض مقاطع الخطبة الشِّقشقيّة:

(... يَكْثُر العِثارُ فيها، والاعْتِذارُ منها، فصاحِبُها كَراكِب الصَّعْبَةِ: إنْ أشْنَقَ لها خَرَمَ، وإنْ أسْلَسَ لها تَقَحَّم، فَمُنِيَ الناسُ لَعَمْرُ اللهِ بِخَبْطٍ وشِماسٍ، وتَلوُّنٍ واعْتِراضٍ، فَصَبَرْتُ على طولِ المُدّة وشِدّة المِحنَة...)(١) .

قال ابن أبي الحديد في شرح: قوله عليه السلام:(ويكثر العثار فيها والاعتذار منها) قال:

____________________

(١) نهج البلاغة: ٣٣، الخطبةرقم ٣ المعروفة بالشقشقية.

٢٦٩

ليست هذه الجهة جَدَداً مهيعاً، بل هي كطريق كثيرة الحجارة، لا يزال الماشي فيه عاثراً، وأمّا قوله عليه السلام: (والاعتذار منها) فيمكن أن تكون (من) على أصلها، يعني أنّ عمر كان كثيراً ما يحكم بالأمر، ثمّ ينقضه ويُفتي بالفُتيا، ثمّ يرجع عنها ويعتذر ممّا أفتى به أوّلاً. ويمكن أن يكون (من) هاهنا للتعليل والسببيّة، أي ويكثر اعتذار الناس عن أفعالهم وحركاتهم لأجلها، قال:

أمِن رسمِ دارٍ مربعٌ ومَصيفُ

لعينيكَ من ماء الشُّؤون وَكِيفُ؟

أي ألأجل أن رَسَمَ المربْعُ والمصيفُ هذه الدارَ وَكَف دمع عينيك؟ والصعبة من النُّوق: ما لم تُرْكُب ولم تُرَض، إن أشنق لها راكبها بالزمام خَرَم أنفها، وإن أسلس زمامها تقحّم في المهالك، فألقته في مهواة أو ماء أو نار، أو ندّت فلم تقف حتّى تُرديه عنها فهلك. وأشنق الرجل ناقته إذا كفّها بالزِّمام وهو راكبها)، إلى أن يقول في معنى قوله ‏عليه السلام (فَمُنِي الناس): أي بُلي الناس، قال:

مُنيتُ بِزَمَّرْدَةٍ كالعصا

و(الخَبْط) السير على غير جادّة. و(الشِّماس) النفار. و(التلوُّن) التبدّل. و(الاعتراض) السير لا على خطّ مستقيم، كأنّه يسير عرضاً في غضون سيره طولاً، وإنّما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط...)(١) .

ويبدو لنا من قوله هذا ما يجسّم مراحل التغيُّر والتبدّل الذي طرأ على الأمّة في زمن حكومة عمر بن الخطّاب، وكيف أنّ الناس (مُنُوا) بهذا الداء العضال الذي أبعدهم عن الجادّة، التي كان يفترض أن يسلكوها في حياتهم الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، فيقول الإمام عليّ في المرحلة الأولى(فمُنيَ الناسُ لعمر الله بخبطٍ) ، وهو السير دون اهتداء وعلى غير الجادّة؛ إذ بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله تبيّن واضحاً عجز من قام بعده في كلّ المجالات الدينيّة والثقافيّة والإرشاديّة، وحتّى السياسيّة، حيث خلطت السياسة آنذاك بين المرتدّين وغيرهم، بُغيَةَ التخلّص من الأعداء السياسيّين للخليفة

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١: ١٧١ - ١٧٣.

٢٧٠

الأوّل، فترى قتل مالك بن نويرة تبقى ظلامة دون رادع من الخليفة، لكنّ قِصَر فترة خلافة أبي بكر غطّت شيئاً مّا من الفجوات، ولم تظهر (الخبط) بمظهر صارخ، بعكس خلافة عمر بن الخطّاب التي امتدّت عمراً طويلاً فتبيَّن فيها من الأمور والأحداث، ما لم يكن بائناً من ذي قبل، وهذا هو الذي جعل الإمام عليّاً يوكّد على فترة خلافة عمر، باعتبار أنّ لها الحصّة العظمى من التغيّر والتبدّل.

وبما أنّ الخليفة يجهل الكثير من الأمور، فقد جهلها الناس تبعاً لذلك؛ لأنّ الخليفة والحاكم هو المقوِّم للرعيّة، فإذا كان هو بحاجة إلى التقويم ومعترفاً بالعجز والقصور، حصل (الخبط) والسير في مناهج الحياة على غير الجادّة التي رسمها النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله للمسلمين، فتشعّبت الآراء والاجتهادات، وراح كلُّ يدّعي أنّ الصواب حليفه وأنّ الخطأ نصيب الآخرين، بل الخليفة نفسه راح يفتي بشي ثمّ يفتي بضدّه أو مخالفه ثمّ يدّعي صحّة الجميع وأنّ كلّ آرائه حجّة ملزِمة، وبذلك ضاعت الجادّة، ولم يبق الطريق مهيعاً لاحباً، فلذلك سار الناس على دروب ملتوية بعد أن فقدت الجادّة التي ينبغي السير عليها.

وهذا بعينه ما أشار إليه الإمام علي في حديث آخر قال فيه:(لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خبّاط جهالات، عاشٍ ركّابُ عَشَوات، لم يعَضّ على العلم بضرس قاطع، يذري الرِّوايات ذَرْوَ الريح الهشيم...) (١) .

بعد ذكر الإمام المرحلة الأولى، جاء ليقول (وشماسٍ)؛ إذ إنّ النتيجة الطبيعيّة للسير على غير الجادّة وبدون هدىً أن يجرّ هذا السير إلى النفار، وإلى ضروب من ردود الفعل غير المدروسة؛ ولذلك نرى بروز أحداث وسلوك غير طبيعيّ عند المسلمين لم يكن من قبل، برز كنتيجة طبيعيّة لتركهم وإضاعتهم للجادّة الدينيّة الصحيحة، فترى ازدياد حالة قتل الأسياد لعبيدهم، ممّا حدا بالخليفة عمر أن يحاول تقنين قانون (قتل

____________________

(١) نهج البلاغة: ٥٣، الخطبة ١٧.

٢٧١

الحرّ بالعبد)(١) خلافاً لما نقل عنه صلّى الله عليه وآله (لا يقتل حرّ بعبد)(٢) ، فترى النفار والتصرّف غير الطبيعيّ من كلا الطرفين من الخليفة أوّلاً إذ أضاع عليهم الجادّة ومنهم ثانياً إذ أساءوا الاستفادة من هذا القانون الإسلاميّ، نتيجة لغياب حالة الوعي الدينيّ المستوحى من النصوص، التي تفرضُ حرمة قتل النفس والإساءة إلى الآخرين، وهذا هو عين النفار، وهي حالة خطيرة في المجتمعات تُراكِبُ فيها العُقَد، وحالات الانتقام والشجار والانفلات الاجتماعيّ.

ومثل ذلك بروز ظاهرة هَتْف النساء بالرجال كما في قضية المتمنية لنصر بن الحجّاج، وظاهرة اشمئزاز المجتمع من بعض المفردات الفقهيّة التي قد لا تتلاءم مع ذوقهم، متناسين حرمة الشارع المقدّس، كتحريمهم للمتعة، التي لها أكبر الأثر في استقرار المجتمع خصُوصاً في حالات الحرب وقلّة الرِّجال و و...

وإذا تأمّلت ما أسلفناه من تصرّفات عمر ومخالفة بعض الصحابة له، وتأييد آخرين له، وحصول الانشقاق، وبروز حالات شاذّة لم تكن في زمن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله رأيت أنَّ الخليفة يقف أمامها موقف العاجز. أو المقوِّم لكن بشكل سلبيّ، كقضيّة مشاطرة عمّاله أموالهم. فمتى كان عمّال النبيّ صلّى الله عليه وآله خونة لمال الله ومال المسلمين!! ومتى كان النبيّ يشاطرهم!! وإن كان بعضه مسروقاً من المسلمين وجب على الخليفة تحرّي ذلك المقدار المسروق وأخذه دون غيره، وعلى كلّ التقادير، فالمهمّ هو حصول حالة (الشماس) أو (النفار) في المجتمع الإسلاميّ بعد أن سار على غير الجادّة.

ثمّ أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى مرحلة ثالثة من مراحل التغيّر، وهي (التَّلوُّن) أي (التبدّل) إذ بدا تبدّل الأحكام في زمن الخليفة الثاني أمراً طبيعيّاً، باعتبار أنّ الخليفة له أن يؤسّس حكماً أو يلغي حكماً، وله أن يقيّد مطلقاً، أو يطلق مقيداً، وله أن ينسخ

____________________

(١) الديات للشيباني ١: ٥٤، باب الحر يقتل العبد، بسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ أبا بكر وعمر كانا يقولان الحر يقتل بالعبد.

(٢) سنن الدارقطني ٣: ١٣٣، كتاب الحدود والديات وغيره، ح ١٥٨، ح ١٦٠، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٣٥، وانظر مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٤٠٩، ح ٢٧٤٧٧، وكذلك في الموطأ لمالك ٢: ٨٧٣.

٢٧٢

آيات القرآن وعمل النبيّ صلّى الله عليه وآله، وله أن ينفي ويغرّب، وله أن يعاقب أو يصفح، كلّ ذلك بدليل أنّه (خليفة) مجتهد له رأيه الخاصّ الذي لا بدّ من احترامه، وأنّه يعرف المصلحة أحسن من غيره.

وقد تركزت هذه الفكرة وترعرعت في نفوس الكثيرين ممّن لم يكونوا بالمستوى المطلوب، أو كانوا من الذين تأثّروا بالصحابة المائلين للرأي على عهد رسول الله، فصار كلّ شيٍ متبدّلاً عمّا هو عليه في واقع الأمّة والتشريع، فضرب الصحابيّ صار أمراً راجحاً باعتباره (تأديباً للمنحرفين)، وتحريم الحلال وتحليل الحرام صار حقّاً طبيعيّاً للخليفة باعتباره (مصلحة للمسلمين)، وصار تعدّد الإفتاءات في الجدّة وغيرها أمراً مألوفاً باعتبار (كلّ ما أفتى به المجتهد فهو حكم الله)، وصار كلُّ حكم صحيحاً في زمانه، كما قال الخليفة (تلك على ما أفتينا العامَ وهذه على ما أفتينا الآن)، وصار سهم المؤلّفة قلوبهم ملغى باعتبار (أنَّ الإسلام عزيز) و...

وهذا كلّه - تبديل وتبدُّلٌ - طرأ على المسلمين، فصيّر عندهم فقهاً غير صحيح، وعقائد لم يرتضها الرسول - كما في البكاء على الميّت وغيره - واستنتاجات ارتجاليّة.

وجاءت الطامّة الكبرى في المرحلة الرابعة من مراحل التغيّر وهي مرحلة (الاعتراض) وهي السير لا على خطّ مستقيم، كأنّ الماشي يسير عرضاً في أثناء سيره طولاً، فكلّما زاد سيره زاد بُعدُهُ، وهذا التعبير من الإمام عليّ دقيق جدّاً، وجدير بالوقوف عنده والتأمّل في اختصاره (الاعتراض) وكثرة مغزاه ومعناه.

ففي المراحل السابقة كان السير خبطاً لا على الجادّة، وكان يؤمَّل أن يرجع الناس إليها لو أُتيح لهم الدليل على ذلك الطريق المهيع، لكنّ فقدان الدليل المقوّم انجرّ عبر المرحلتين الأخريين إلى أن يكون السير (اعتراضاً)، بحيث لا يمكن تقويمه، فإنّ الأصول تأصّلت والسير أخذ مجراه غير الطبيعيّ كقاعدة وليس كحالة شاذّة في وقت معيّن بحيث يمكن معالجتها.

وإذا تصوّرت معنى (الاعتراض) فهمت أنّ السير مهما امتدّ ازدادت شُقة

٢٧٣

الانحراف، وكلّما طالت المدّة زاد البُعد عن الطريق الأوّل، فإذا رسمت الجادّة خطّاً مستقيماً، ثمّ رسمت (الاعتراض) خطّاً مائلاً، ثمّ مددت الخطّين رأيت أنّ الأوّل مهما امتد فهو في مسار واحد وهو الأصل، وأمّا الخطّ المائل فكلّما مددته زاد ابتعاده عن الخطّ الأوّل وهو معتقد بأنّه يسير على الجادّة المستقيمة، وهذا ما نلحظه بالفعل اليوم من اتّساع هوّة الخلاف بين المسلمين بحيث يتعذّر التأليف بين فرقتين منهم، بل يعسر توحيد وجهات نظرهم في مسألة خلافيّة واحدة.

فهذا يقول إنّ القياس حجّة، وذلك يقول (إنّ أوّل من قاس إبليس)، وهذا يقول بأنّ المتعة ما زالت مشرّعة، وذلك يقول (نسخت بقول عمر)، وهذا يقول إنّ الإمامة بالنصّ والتعيين، وذلك يقول تارة بالشورى وأُخرى بمن بايعه أهل الحلّ والعقد، وهكذا ترى)الاعتراض(في أغلب أُمور الشريعة الإلهيّة النبويّة الواحدة.

وقد أجاد الإمام عليّ في وصفه تلك الحقبة وما طُرح فيها من آراء.

فالاجتهاد وما يدعو إليه الخليفة من رأي له من المطّاطيّة والانسياب ما لا يمكن لأحد الحدّ من سيره؛ فهو كراكِبِ الصَّعْبة: إن أشنقَ لها خَرَم، و إن أسلس لها تقحّم.

ومن أجل كلّ هذا ترى ابن عوف - رغم أخذه العهد من عثمان في السير على نهج الشيخين - لا يمكنه الضغط عليه في اجتهاداته: كإتمامه الصلاة بمنى؛ لأنّه اتّخذ الرأي والاجتهاد الذي شرّعه عمر بن الخطّاب، فلا يمكن لابن عوف وغيره أن يحدّد عثمان في فعله؛ لأنّه اجتهد في الحكم رغم عرفانه أنّ النبيّ وأبا بكر وعمر قد قَصَروا الصلاة في منى.

وبعد هذا لم يَعُد بالإمكان أن يحدّد غيره من الصحابة والخلفاء بالنصوص الصادرة عن رسول الله، كمعاوية، ويزيد، وعبد الملك بن مروان؛ لأنّ ما يقولون به هو اجتهاد أيضاً!

وجاء عن الإمام عليّ عليه السلام:(واعلَمُوا عبادَ الله أنّ المؤمنَ يَسْتِحلّ العامَ ما استحَلّ عاماً أوّل، و يُحرِّم العامَ ما حَرّم عاماً أوّل، وأنّ ما أحدثَ الناسُ لا يُحلّ لكم شيئاً ممّا

٢٧٤

حُرّم عليكم، ولكنّ الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله) (١) .

وفي قول له آخر:(وأنزلَ عليكم الكتابَ تِبياناً لكلّ شيء، وعمَّر فيكم نَبيَّه أزماناً، حتّى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابهِ دينَه الذي رضِي لنفسه، وأنهى إليكم على لسانه محابَّه من الأعمال ومكارِهَه ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدَي عذاب شديد) (٢) .

تأكيدٌ لما استنتجناه

روى البيهقيّ بسند صحيح أنّ أبا بكر حين استُخلف قَعَد في بيته حزيناً، فدخل عليه عمر بن الخطّاب فأقبل [ أبو بكر ] على عمر يلومه، وقال: أنت كلّفتني هذا الأمر! وشكا إليه الحُكْمَ بين الناس، فقال عمر: أوَ ما علمت أنّ رسول الله قال: إنّ الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد؟!(٣) .

ونقل عن أبي بكر أنّه كان يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة كبلال وصهيب ونحوهما(٤) .

أترك هذا النصّ للقارىِ دون أيّ تعليق، ليقارن ما قلناه بما كان يواجه الشيخين من مشاكل علميّة أوجدت كثيراً من الإحراج النفسيّ.

قال الدكتور محمّد رواس قلعة چي في مقدّمة كتابه (من موسوعة فقه السلف، إبراهيم النخعيّ): إنّ الأستاذ لمدرسة الرأي هو عمر بن الخطّاب؛ لأنّه واجه من الأمور المحتاجه إلى التشريع ما لم يواجهه خليفة قبله ولا بعده، فهو الذي على يديه فُتحت الفتوح، ومُصِّرت الأمصار، وخضعت الأمم المتمدّنة من فارس والروم لحكم الإسلام(٥) .

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ٩٤، ضمن الخطبة (١٧٦).

(٢) نهج البلاغة ١: ١٥٠، الخطبة ٨٦.

(٣) الجامع لمعمر راشد ٢: ٣٢٨، فضائل الصحابة لأحمد ١: ١٨٠، ح ١٨٥، شعب الايمان ٦: ٧٣، ح ٧٥٣٠ واللفظ له.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠: ٢٧.

(٥) انظر مقدّمة موسوعة فقه إبراهيم النخعيّ.

٢٧٥

وقال الأستاذ أحمد أمين في (فجر الإسلام):

بل يظهر لي أنّ عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة، لكنّنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه. وهو أقرب شي إلى ما يُعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته.

وقال أيضاً:

وعلى كلّ حال، وجد العمل بالرأي، ونقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا أفتَوا فيها برأيهم، كأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل. وكان حامل لواء هذه المدرسة أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن الخطّاب(١) .

وقالت الدكتورة نادية شريف العمريّ في (اجتهاد الرسول): ولم يكن الاجتهاد بالرأي والعمل بالقياس وتحقيق مقاصد الشريعة بدعة ابتدعها التابعون المقيمون في العراق، بل كان ذلك نموّاً لاتّجاه سبقهم فيه عدد من الصحابة، منهم عمر بن الخطّاب...(٢) .

وقال الدكتور محمّد سلّام مدكور في (مناهج الاجتهاد):

... وقد اقتضت الفتوحات الإسلاميّة المتتالية، في عصر الصحابة، مواجهة مسائل جديدة نابعة من طبيعة البلدان المفتوحة، وأُخرى ولّدتها ظروف الحرب، دفعتهم هذه المسائل إلى الاجتهاد بالرأي؛ إذ النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، فضلاً عن أنّ السنّة لم تكن قد دوّنت بعد(٣) .

ويقول في كلام آخر له: أمّا إذا كان قول الصحابيّ صادراً عن رأيه واجتهاده فيما يُدرَك بالعقل، وكان موضع خلاف من الصحابة، فهذا هو محلّ خلاف الفقهاء؛ فذهب

____________________

(١) فجر الإسلام: ٢٤٠.

(٢) اجتهاد الرسول: ٣٢١.

(٣) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٧٧.

٢٧٦

فريق إلى حجّيّته وإن خالف القياس. وذهب آخرون إلى حجّيّته بالنسبة لقول أبي بكر وعمر دون غيرهما، وذهب الشيعة والشافعيّ في أحد قولَيه، وأحمد في إحدى روايتين عنه، والكرخيّ من الحنفيّة إلى أنّه ليس بحجّة. وذهب مالك وبعض الحنفيّة والشافعيّ في قول له وأحمد بن حنبل في رواية عنه أنّه حجّة مقدّمة على القياس.

واختار الآمديّ أنّه ليس بحجّة. ويعلّل الغزاليّ في (المستصفى) لذلك بقوله: ليس بحجّة؛ لانتفاء الدليل والعصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم. كما يعلّل الشوكانيّ ذلك بقوله: والحقّ أنّه ليس بحجّة؛ فإنّ الله لم يبعث إلى هذه الأمّة إلاّ نبيّنا محمّداً صلّى الله عليه وآله، وجميع الأمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك(١) .

وقال الإمام الكرخيّ: (الأصل أنَّ كلّ آية تخالف قول أصحابنا فإنَّها محمولة على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق، الأصل: إن كان خبر يجي بخلاف قول أصحابنا فإنَّه يحمل على النسخ، أو على أنّه معارض بمثله، ثمّ يُصار إلى دليل آخر، أو ترجيح فيه بما يحتجّ به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق)(٢) .

وقال الشيخ خلاّف: وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع، وطرأت لهم طوارئ لم تواجه المسلمين، ولم تطرأ لهم في عهد الرسول، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقَضَوا وأفْتَوا وشرّعوا وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدّة أحكام استنبطوها باجتهادهم، فكانت مجموعة الأحكام الفقهيّة في طورها الثاني، مكوّنة من أحكام الله ورسوله وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، ومصادرها القرآن والسنّة واجتهاد الصحابة...(٣) .

وبهذا عرفنا أنّ الرأي لم يكن شيئاً حادثاً عند الحنفيّة أو غيرهم لكي ينسب إليهم

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٢٤٤، وله كلام آخر في ص ٣٤٧ فراجع.

(٢) أُصول الكرخيّ المطبوع مع تأسيس النظر للدبّوسيّ عن أثر الاختلاف في القواعد الأصوليّة للدكتور مصطفى سعيد الخن - مؤسّسة الرسالة، الطبعة الثانية ١٤٠٢هـ.

(٣) علم أُصول الفقه، لخلاّف: ١٥.

٢٧٧

اتّجاه الرأي، بل إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب هو الذي كان قد رسم أُصول هذه المدرسة. والنصوص السابقة تفنّد ما قيل عن عمر من أنّه كان يخالف الرأي، بل هو المشرّع الأوّل له. فأمّا النصوص الصادرة عنه، في النهي عن الرأي، فيحتمل صدورها في أوائل خلافته، أو في أواخرها، أي حينما أدرك تعذّر إمكان الحدّ من شيوع ظاهرة الرأي عند الصحابة، والتي تطوّرت بعد اجتهاداته الأخيرة.

أو لعلّه - كما هو الراجح - كان يرى لزوم التعبّد لغيره، وجواز الاجتهاد والرأي لنفسه، وأنّ على الآخرين أن يلتزموا بما يقوله هو باعتباره (أعلم) حسب ادّعائه المتأخّر زماناً!

فقد جاء عنه أنّه لمّا سمع اختلاف الصحابة صعد المنبر وقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله فعن أيّ فتياكم يصدر المسلمين؟! لا أسمع أثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلاّ فعلتُ وصنعت(١) .

وبهذا تكشّفت أُصول النهجين وعرفنا أنّ البعض منهم يقول بمشروعيّة الرأي والقياس، والآخر لا يرتضيهما مستدلاًّ بأنّ القرآن والسنّة يغنيان عن الرأي والقياس وأنّ الشريعة ليست بناقصة لكي تكمل بالقياس.

وكان النهجان على اختلاف دائم، فالذي دعا إلى الأخذ بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى عن الرأي، وصرّح بلزوم تدوين السنّة وأكّد أنّ القرآن ليس بناقص، وأنّ فيه تبياناً لكلّ شي، وهؤلاء كانوا يحدّثون بالسنّة ولو وضعت الصمصامة على أعناقهم(٢) ، وأمّا الذي دعا إلى الاجتهاد والرأي فقد خالف التدوين وفتح باب الرأي في كلّ شيء.

رموز الاجتهاد والخلافة

من جهة أُخرى نرى أنّ الذين كانوا يذهبون إلى الأخذ بكلمات الشيخين - وحتّى المخالفة منها للنصوص - كانوا لا يرتضون إكثار الحديث عن رسول الله، ويعارضون

____________________

(١) المستصفى للغزالي ١: ٢٩٦، الإحكام للآمدي ٤: ١٣، إعلام الموقعين ١: ٢٦٠.

(٢) كأبي ذر انظر: صحيح البخاريّ ١: ٣٧، باب قول النبي‏ صلّى الله عليه وآله(رُبّ مبلغ أوعى من سامع) ، ح ٦٧، سنن الدارمي ١: ١٤٦، ح ٥٤٥، حجّيّة السنّة ٣: ٤٦٤.

٢٧٨

التدوين، ومن يراجع عهود يوم الشورى وسبب ترجيح الخليفة عمر بن الخطّاب كفّة ابن عوف فيها، وإلزامه الجميع بالخضوع لما يتّخذه من قرار، يجد أنّ هذه الوقائع تنبىُ عن حقيقة سياسيّة، قال عنها الدكتور إبراهيم بيضون:

(... ومن ناحية أُخرى، فإنّ البروز المفاجئ لعبد الرحمن بن عوف بعد حادثة الاغتيال وظهوره في الوقت المناسب إلى جانب عمر - حيث دعاه لأن يؤُمَّ الصلاة بعد طعنه - يحتاج أيضاً إلى بعض المناقشة؛ فقد انتقل هذا الصحابيّ الأرستقراطيّ فجأة إلى واجهة الأحداث، بعد أن عاش على هامشها، ليقوم بالدور الأوّل في تسمية الخليفة!)(١) .

فاستبان إذَاً أنّ السياسة كانت وراء رسم بعض الأصول المأخوذ بها اليوم في الشريعة، ومنها تطبيق ما سُنّ على عهد الشيخين، إذ أنّ محوره كان الشورى المبتنية على قبول هذا الشرط أو رفضه. فإن ارتضى الخليفة الجديد العمل بسيرة الشيخين فله الخلافة، و إلاّ فلا.

قال ابن عوف لعليّ، يوم الشورى:

يا عليّ! هل أنت مُبايِعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعلِ أبي بكر وعمر؟ فقال: أللهم لا(٢) .

ويحقّ هنا للحقوقيّ المنصف أن يسأل: كيف تكون هذه الخلافة شورى مع أنّهم يرسمون للخليفة اتّجاهه المستقبليّ ويحدّدون له ما يريدون من إلزامات؟

أترى أنّ الشورى تتّفق مع ضرب الأعناق إن تأخّروا عن البيعة فوق ثلاثة أيّام، أو تتّفق مع أمر عمر بقتل من خالف الأربعة منهم، أو الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمان بن عوف؟!

وهل مثل هذه التشكيلة المرتبكة المحاطة بالعنف والتهديد تسمّى شورى

____________________

(١) ملامح التيّارات السياسيّة في القرن الأوّل الهجريّ: ١٠٣.

(٢) تاريخ الطبري ٢: ٥٨٦، البداية والنهاية ٧: ١٤٦، سبل الهدى والرشاد ١١: ٢٧٨.

٢٧٩

منسجمة مع روح الإسلام، وحتّى مع الديمقراطيّة الحديثة؟!

وكيف يمكن أنّ يُقيّد صحابيّ بهذه القيود، وهو أحد الأعضاء الستّة للشورى ومن أصحاب الحلّ والعقد ومن أعيان الصحابة؟!

بل كيف يكون هؤلاء من أصحاب الحلّ والعقد وتراهم لا يحلون ولا يعقدون، إلاّ طبق المقرّرات؟!

وهل يسمّى هذا انتخاباً حرَّاً؟

وكيف يمكن تصوّر حرّيّة الانتخاب في حين نرى السيوف مشهورة على رؤوسهم، وهم مكلّفون بحسم القضيّة في ثلاثة أيّام مع حتميّة موافقتهم على اجتهادات الشيخين بإزاء الكتاب والسنّة؟!(١) .

بلى، إنّ الشورى لم تكن بالمعنى المعروف لهذه الكلمة اليوم، بل كانت تفتقد إلى روح الديمقراطيّة والحرّيّة - المعروفة اليوم - كما أنّها مُنِيَتْ بسلبيّة تشريع سيرة الشيخين بإزاء سنّة رسول الله، ونحن نعلم أنّ فرض هذا القيد بجنب الكتاب والسنّة يوحي أنّ القيد هو المطلوب من العمليّة كلّها، وإن كان بالقهر والغلبة؛ لأنّ الكتاب والسنّة لا اختلاف فيهما، وما من حاجة إلى هذا القدر الخطير من الإصرار والتهديد لأعيان الصحابة، من أجل الأخذ بهما في التطبيق.

نعم، إنّ ابن عوف لمّا فهم أنّ الإمام عليّاً قد رفض هذا الشرط الإضافيّ على التشريع، والذي أُريد إقحامه في مجال الحكم الإسلاميّ، التفت إلى عثمان بن عفّان وقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعلِ أبي بكر وعمر؟

قال: اللّهمّ نعم، فأشار بيده إلى كتفَيه، وقال: إذا شئتما!

فنهضا حتّى دخلا المسجد وصاح صائح: الصلاة جامعة... الخبر(٢) .

لقد دلّ الشرط الأخير، وتأكيد ابن عوف عليه، على وجودِ تخالف بين سنّة رسول

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٥٨١، قصة الشورى.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٢: ٥٨٦، البداية والنهاية ٧: ١٤٧.

٢٨٠