منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93210
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93210 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

الله وسيرة الشيخين، على أقلّ تقدير من وجهة نظر الإمام عليّ وأتباعه من نهج التعبّد؛ لأنّهما (أي سيرة رسول الله وسيرة الشيخين) لو كانتا متّحدتين فما معنى تأكيد ابن عوف على لزوم الأخذ بالثاني؟ ولِمَ لَم ْيستجب لقول الإمام عليّ حينما ألزمه العمل بسيرة الشيخين أجابه: على كتاب الله وسنّة نبيّه، فنعم، ولماذا لم يسلِّمه الخلافة، إن لم يكن هناك تنافٍ بينهما وأنّهما شي واحدٌ؟ إنّ امتناع الإمام عليّ عن قبول ذلك الشرط وعدم تسليم ابن عوف الخلافة له، يوضّح التباين المكشوف بين النهجين.

بلى، إنّ اتّجاه التعبّد المحض كان في تضادّ مع الاجتهاد بالرأي - الذي دعمه الشيخان - فابن عوف بتأكيده على سيرة الشيخين كان يريد تطبيق ما سُنّ على عهدهما من آراء، والذهاب إلى مشروعيّتها، وعدم جواز مخالفة الخليفة الخلف لاجتهادات من سلف!

لكنّ رجال التعبّد المحض كانوا لا يَرَون مشروعيّة تلك الأقضية؛ لأنّها غير مستوحاة من النصّ، فكانوا يخالفونها ولا يرضونها، ويجدّون في نقل الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي يضادّها.

وكان أنصار مدرسة الخلفاء يضعون الأحاديث على لسان رسول الله، لكي يستنصروا لرأي الخليفة، وهذا هو ما يقف وراء ما نجده من الاختلاف الواضح في الأحاديث التي نقلوها أو التي نقلت عنهم.

إنّ تخالف الأحاديث، ووجود أحاديث تؤيّد مدرسة أهل البيت عند أهل السنّة والجماعة لا يعني - لا من قريب ولا من بعيد - أنّها وضعت من قِبل الروافض ومن قبل الزنادقة(١) ، بل هو مؤشّر على وجود نهج أصيل عند الصحابة، وهم الذين يروون حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم، فالخليفة عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من تصدّر أمثال هؤلاء الصحابة للخلافة والإفتاء من بعده؛ لأنّ تصدّي هؤلاء المتعبّدين لأمر الخلافة يعني الكشف عن الفارق بينه وبينهم، ممّا

____________________

(١) كما ذهب إليه البعض، انظر مقدّمة مصنّف ابن أبي شيبة.

٢٨١

يفضي إلى تضعيف مكانة الخليفة ويقود إلى الطعن عليه.

ويتجلّى هذا الهاجس الذي كان يلاحق الخليفة، والذي حدا به أن يتخّذ أُسلوب فتح باب الرأي والاجتهاد، ومحاولته تقنين ذلك وإضفاء طابع المشروعيّة المطلقة عليه، يتجلّى هذا من النصّ الذي نقله لنا الحافظ الموفّق بن أحمد، بإسناده عن محمّد بن خالد الضبّيّ، قال:

خطبهم عمر بن الخطّاب فقال: لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ قال محمّد: فسكتوا، فقال ذلك ثلاثاً، فقام عليّ رضي الله عنه فقال:يا عمر إذن كنّا نستتيبك، فإن تبت قبلناك .

قال: فإن لم أتَبْ؟

قال:فإذن نضرب الذي فيه عيناك .

فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمّة من إذا اعوججنا أقام أودنا(١) .

ويمكننا أن نستشفّ من هذا النصّ عدّة أشياء:

١ - أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب عبّر بقوله (عمّا تعرفون إلى ما تنكرون)، ولم يقل (عمّا نعرفه إلى ما ننكره) ففي هذا إشارة للبصير، فتأمّل.

٢ - أنّ في سكوت المسلمين، بعد تكراره قوله ثلاث مرّات؛ لدلالة واضحة على سياسة العنف والاضطهاد الفكريّ التي مارسها الخليفة الثاني في حقّ الصحابة، وهذا يتماشى مع ما قدّمنا من حبسه للصحابة عنده في المدينة ومنعه إيّاهم من التحديث والتدوين.

٣ - اتّضاح الموقف الصريح لأتباع نهج التعبّد، وأنّهم لم ولن يرتضوا الإتيان بأحكام مبناها الاجتهاد والرأي، وأنّهم متمسّكون (بما يعرفون) من كتاب الله وسنّة نبيّه دون ما ينكرون من الرأي والاجتهاد.

٤ - إنّ مفهُوم الاستتابة في حالة الانحراف عن الدين، ثمّ قتل المنحرف عند عدم

____________________

(١) المناقب للخوارزميّ: ٩٨.

٢٨٢

توبته، هو مفهوم إسلاميّ لنهج السنّة والتعبّد، لا يؤوّل ولا يقول (تأوّل فأخطأ) ولا يختلق الأعذار في سبيل تصحيح أغلاط وسقطات الآخرين، وهذا المفهوم هو الذي طبّقه المسلمون من بعد على عثمان، فتركوه ورجعوا عنه حين أعلن توبته عن إحداثاته في الدين، ثمّ رجعوا إليه فقتلوه حين أصرّ على إحداثاته وأمر بقتل أتباع نهج التعبّد، ولا بد هنا من التنبيه إلى كلام بعض الكتّاب بأنّه لو قدّر أن يطول الزمان بعمر لقتله المسلمون، كما قتلوا عثمان من بعد.

فالخليفة وتحاشياً من وقوع الخلافة بيد أتباع السنّة والتعبّد؛ جعل كلامَ ابن عوف الميزان والحكم الفصل في النزاع بين أعضاء الشورى الستّة، ليمكنه أوّلاً أن يملي رأيه على ابن عوف، وليتمكّن هذا الأخير من البلوغ بالسفينة بأمان إلى الشاطئ المبتغى!!

وتتّضح هذه الحقيقة أكثر لو تدبّرنا آهات الخليفة وحسراته، حين افتقد أبا عبيدة ومولاه سالماً ليسلّمهما أمر الخلافة لو كانا حاضرَينِ آنذاك.

مع العلم أنّ سالماً كان من الموالي(١) ، والمعروف عن عمر أنّه اعترض على الأنصار يوم السقيفة وأصرّ على لزوم كون الخليفة من قريش(٢) ، لكنّه الآن يأسف على غياب سالم(٣) ، وهو من الموالي. فما يعني هذا الموقف من عمر؟! أجل، إنّه إنّما فعل ذلك لكيلا يلي أمر الخلافة من لا يودّه ولا يميل إليه فكريّاً!

فالخليفة لم يرتضِ تسليم الخلافة إلى دعاة التحديث عن رسول الله أمثال عليّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ، وابن عبّاس، وابن مسعود، وعمّار... لأنّ هؤلاء سيخطّئون الخليفة في سلوكه ونهجه لاحقاً، ويعضدون النهج المخالف له.

____________________

(١) انظر ترجمته في الطبقات الكبرى ٣: ٨٥، الاستيعاب ٤: ١٧٩٩، ت ٣٢٦٥، الإصابة ٣: ١٣، ت ٣٠٥٤.

(٢) انظر صحيح البخاري ٦: ٢٥٠٦، ح ٦٤٤٢، مسند أحمد ١: ٥٥، ح ٣٩١، تاريخ الطبري ٢: ٢٣٥.

(٣) تاريخ الطبري ٢: ٥٨٠، قصة الشورى، مقدمة ابن خلدون ١: ١٩٤.

٢٨٣

عبد الله بن عمر ومخالفته لأبيه

إلى هنا عرفت سرّ جعل الخيار الأخير في اجتماع الشورى بيد ابن عوف، وإذا تأمّلت قليلاً عرفتَ كذلك سرّ عدم جعل عمر بن الخطّاب ابنه عبد الله خلفاً له، وسرّ عدم عدّه أحد أعضاء الشورى الستّة، إذ ترى تعليله لعدم التنصيب يمسّ شخصيّة عبد الله العلميّة، وأنّه لا يعرف الفقه والأحكام لقوله لمن اقترح عليه أن يخلفه: قاتلك الله! والله ما أردتَ الله بهذا، ويحك، كيف أستخلِفُ رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟!(١) .

والواقع أنّ الأمر لم يكن كما علّله الخليفة، بل إنّه لَيشي بوجود تخالف بينهما في الفكر والمنهج.

فلو صحّ تعليله هذا، لقال لمن اقترح ابنَهُ عليه: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك كيف أستخلف عبد الله وكبارُ الصحابة، أمثال: عليّ، وابن عوف، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقّاص، بين الناس؟!

قال عمر هذه المقولة في ابنه عبد الله؛ لأنّه خطّأه في أكثر من موقف وفي أكثر من حادثة، وقد مرّ عليك قوله في المتعة: أسنّة عمر تتّبع أم سنّة رسول الله؟! وقوله لآخر: أقبل روايته واترك درايته.

وقد حصر الأستاذ روّاس قلعة چي في موسوعة (عبد الله بن عمر) ما خالف فيه عبد الله أباه، وإليك تلك المسائل.

١ - كان عمر يرى جواز التظلّل للمُحْرِم بحجّ أو عمرة، وكان ابن عمر يرى عدم جواز ذلك له.

٢ - يرى عمر جواز الغناء بما هو مُحلَّلٌ للمُحْرِم بحجّ أو عمرة، وكان ابن عمر يرى عدم جواز ذلك له.

٣ - يرى عمر أنّ للمُحْرِم أن يأكل ممّا صاده الحلال إذا لم يأمره هو بذلك، أو لم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٥٨٠، قصة الشورى، تاريخ المدينة لابن شبة النميري ٣: ٩٢٣، شرح النهج ١: ١٩٠.

٢٨٤

يَصِده له، أما ابن عمر فكان يتورّع عن أكله، ولا يُفتي بذلك.

٤ - كان عمر يمنع بيع الأرض الخراجيّة، وكان ابن عمر يجيز ذلك.

٥ - كان عمر يرى وجوب استبراء الأمَة المباعة من قِبل البائع، ثمّ من قبل المشتري. أمّا ابن عمر فكان يوجب استبراءها من قبل المشتري فقط دون البائع.

٦ - كان عمر يرى جواز قتل الأسرى، وكان ابن عمر لا يجيز قتلهم.

٧ - كان عمر يرى أنّ من نوى الإقامة في السفر ثلاثة أيّام يتمّ صلاته، ويرى ابن عمر أنّه لابُدّ أن ينوي الإقامة اثني عشر يوماً.

٨ - كان عمر يرى جواز الشرب بالإناء المُضَبَّب بالفضّة بأن يضع الشاربُ فمَه في غير موضع الضبّة، وكان ابن عمر إذا سقي به كسره.

٩ - كان عمر لا يجيز بيع الأشياء المتنجّسة التي يمكن الانتفاع بها، وكان ابن عمر يرى جواز ذلك.

١٠ - كان عمر يوجب المساواة بين الأولاد في العطيّة، وكان ابنه يجيز المفاضلة بينهم في العطيّة.

١١ - كان عمر يثبت حرمة المصاهرة بالتسرّي، وكان ابن عمر لا يثبتها به.

١٢ - كان عمر يكره صلاة سنّة الطواف في أوقات الكراهة، وكان ابن عمر لا يكره ذلك.

١٣ - كان عمر يجيز في هَدْي التمتّع والقِران الشاةَ، وكان ابنه لا يجيز في ذلك غير البقرة أو الجَزُور.

١٤ - كان عمر يوجب الزكاة في حُلِيّ النساء، وكان ابن عمر يقول: زكاة الحلي إعارته.

١٥ - كان عمر يرى أنّ الخلع طلاق بائن، وكان ابن عمر يرى الخلع فسخاً لا طلاقاً.

١٦ - كان عمر يرى أنّ عدّة المختلعة عدّة المطلّقة، وكان ابن عمر يرى أنّ الواجب في الخلع الاستبراء لا العدّة.

١٧ - كان عمر يرى جواز المسح على الخمار في الوضوء، وكان ابنه لا يبيح ذلك.

١٨ - كان ابن عمر يرى أنّ الجنين إذا خرج من بطن أُمّه بعد ذبحها - وقد تمّ خَلْقه

٢٨٥

ونَبَت شَعره - يذبح. أمّا عمر فكان يرى أنّه إن خرج ميّتاً من بطن أُمّه وكانت حركته بعد خروجه حركة المذبوح فهو حلال أكله، و إن خرج حيّاً فلا يحلّ أكله إلاّ بعد ذبحه.

١٩ - كان عمر يرى أنّه لا يثبت الرِّضاع بالمصَّة والمصّتين، وكان ابن عمر يرى ثبوت الرِّضاع بمصّة واحدة.

٢٠ - كان عمر يرى أنّ المدبَّر يُعتَق من رأس المال، وكان ابن عمر يعتقه من الثلث، ويرى أنّه وصيّة كالوصايا.

٢١ - وكان عمر يرى أنّ المحلِّل لا حدّ عليه، وكان ابن عمر يرى التحليل زنا.

٢٢ - كان عمر يعتبر نكاح العبد بغير إذن سيّده مخالفة لا حدّ فيها، وكان ابن عمر يعتبره زنا ويقيم فيه حدّ الزنا.

٢٣ - كان عمر يرى أن سجود التلاوة لا يلزم إلاّ مَن قرأ آية السجدة أو سمعها قصداً، وكان ابن عمر يوجب السجود على كلّ سامع لها وكلّ قارئ.

٢٤ - كان عمر يجيز الغناء وسماع الغناء بشروط، وكان ابنه لا يبيح الغناء بحال.

٢٥ - كان عمر لا يرى صيام يوم الشكّ، وكان ابنه يرى صيامه إذا كان في السماء قَتَر.

٢٦ - كان عمر يرى أنّ المسافر يصلّي الوِتْر على الأرض لا على ظهر الدابّة، وكان ابنه يرى جواز صلاته على الدابّة.

٢٧ - كان عمر يقنت في صلاة الصبح، وكان ابن عمر يعتبر القنوت في صلاة الصبح بدعة.

٢٨ - كان عمر يرى أنّ ما يُدركه المسبوق من صلاته مع الإمام هو أوّل صلاته، وكان ابن عمر يراه آخر صلاته.

٢٩ - كان عمر يرى أن أحقّ الناس بالصلاة على الميّت وليّه، وكان عبد الله ابن عمر يرى أنّ أحقّ الناس بالصلاة عليه هو الأمير.

٣٠ - كان عمر يرى أنّ رمضان لا يثبت إلاّ بشاهدَين، وكان ابنه يرى ثبوت رمضان بشاهد واحد.

٢٨٦

٣١ - كان عمر يكره صيام الدهر، وكان ابن عمر يصومه.

٣٢ - كان عمر يرى أنّ الطلاق بألفاظ الكناية، إذا نوى فيه الطلاق، لا يقع به إلاّ طلقة واحدة. أمّا ابن عمر فكان يرى أنّ الكنايات الظاهرة في الطلاق يقع الطلاق بها ثلاثاً، وغير الظاهرة فيه فيقع بها من الطلاق بحسب ما نواه المطلِّق.

٣٣ - كان عمر يرى أنّ المطلّقة البائن لها النفقة في العدّة، أما ابن عمر فكان يقول: لا نفقة لها.

٣٤ - كان عمر يثبت نسب ولد المتسرّى بها من سيّدها بثبوت وَطْئه لها، أمّا ابن عمر فإنّه كان لا يثبت نسب ذلك الولد منه إلاّ أن يدّعيه.

٣٥ - كان عمر يرى أنّ امرأة المفقود يطلّقها وليّه إذا انتهت مدّة تربّصها، أما ابن عمر فيرى أنّه لا حاجة إلى طلاق الوليّ.

٣٦ - كان عمر يرى أنّ الميّت يُكفّن في ثلاثة أثواب، أمّا ابن عمر فيرى أنّه يكفّن في خمسة أثواب.

٣٧ - كان عمر يرى أنّ الواجب في كفّارة النذر هو الواجب في كفارة اليمين، أمّا ابن عمر فكان يرى أنّ الواجب فيه كفّارة اليمين المؤكّدة.

٣٨ - كان عمر يرى أنّ اليمين واحدة وكفّارتها واحدة، أمّا ابن عمر فكان يرى أنّ اليمين على نوعين: مؤكّدة وغير مؤكّدة، وكفّارة كلّ نوع تختلف عن كفّارة النوع الآخر.

٣٩ - كان عمر يشترط الإشهاد لصحّة عقد النكاح، أمّا ابن عمر فإنّه لا يشترط لصحّة عقد النكاح الإشهاد عليه(١) .

فمن خلال هذه النقاط الخلافيّة في الفقه بين عمر وابنه عبد الله، وغيرها من المفردات نرى احتداد عمر على ابنه ورميه بالعجز الفقهيّ والقصور الذهنيّ عن أبسط الأحكام الشرعيّة، فما هو الداعي الحقيقيّ إذَن؟ إنّ الداعي الحقيقيّ هو أنّ عمر لا يرتضي مخالفات ابنه، وأنّ ابن عمر كان لا يرى رأي أبيه في كثير من الأحيان،

____________________

(١) انظر موسوعة فقه ابن عمر: ٣٣ - ٣٩.

٢٨٧

وخصوصاً في مسألة طلاق الثلاث في مجلس واحد، وهل يقع ثلاث تطليقات، أم واحدة؟

لقد كان عمر يصرّ على وقوعه ثلاثاً؛ ردعاً للمسلمين عن إكثار الطلاق، بخلاف ابن عمر الذي يرى أولويّة اتّباع ما جاء به كتاب الله وسنّة رسوله، ولذلك رفض عمر أن يكون ابنه أحد أعضاء الشورى، مؤكّداً غضبه بأنّه (لا يحسن طلاق زوجته)؛ وذلك للخلاف الذي ذكرناه، فلاحظ حدّة كلام عمر حين قال لمن اقترح عليه أن يخلفه (قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك كيف استخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته).

وتتأكّد مخالفة ابن عمر لأبيه، فيما جاء عن عمر أنّه قال لابنه عبد الله: (يا عبد الله! ناوِلَْني الكتف، فلو أراد الله أن يُمضي ما فيه أمضاه، فقال له ابن عمر: أنا أكفيك محوها.

فقال: لا والله، لا يمحوها أحد غيري، فمحاها عمر بيده، وكان فيها فريضة الجَدّ)(١) .

هذا، وقد كان الأستاذ رواس قلعة چي قد قدّم جرداً في بعض المسائل التي تأثّر فيها عبد الله بفقه أبيه، لكنّ البادي للعيان هو أنّها أقلّ من مخالفاته له، ممّا يعضّد الذهاب إلى أنّ إبعاد عمر ابنَه (عبد الله) عن الخلافة، جاء لتخالفهما في الرأي والاستنباط.

ونحن لا نريد بكلامنا هذا تقرير أنّ عبد الله كان من أتباع نهج التعبّد المحض، أو أنّه مُحقّ في تخطئته لعمر؛ لأنّ بعض الأحكام التي قالها الخليفة والتي خالفه فيها عبد الله كانت أصيلة، مستندها القرآن أو السنّة فمخالفتنا للخليفة ليست في مثل هذه المسائل، بل إنّ إشكاليّتنا عليه جاءت لمعارضته لأحكام ثابته في القرآن الحكيم والسنّة المطهّرة، والذهاب إلى لزوم الأخذ بالرأي مع وجود النصّ.

وكان عبد الله مثل أبيه في تجويز الاجتهاد لكن بدائرة أضيق بكثير من دائرة أبيه الخليفة، فقد كانت لابن عمر مسائل كثيرة اجتهد فيها برأيه، مخالفاً فيها سنّة رسول

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٣: ٣٤١، الإمامة والسياسة ١: ٤٠، حلية الأولياء ٤: ١٥١.

٢٨٨

الله، وأُخرى غلب عليه فيها التزهّد ممّا أخرجه عن التعبّد، لكنّا لا ننكر أنّ الصبغة الغالبة عليه - قياساً بأبيه - هي تحرّي آثار رسول الله واتّباع سنّته، لا الاجتهاد والرأي.

قال ابن خلّكان وغيره: كان ابن عمر كثير الاتّباع لآثار رسول الله، وقد شهد له الصحابة ومنهم عائشة حيث قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبيّ في منازله كما كان يتبعه ابن عمر(١) .

وروى نافع: أنَّ عبد الله كان يتبع آثار رسول الله ويصلّي فيها، حتّى أنّ النبيّ نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يصبّ الماء تحتها حتّى لا تيبس(٢) .

وروى مالك عمّن حدّثه أنّ ابن عمر كان يتبع أمر رسول الله وآثاره وحاله ويهتمّ به، حتّى كأنْ قد خِيفَ على عقله من اهتمامه بذلك(٣) .

وقد تحدّثنا عن حاله، وقلنا بأنّه ما مات إلاّ ووافق الأكثريّة وسايَرَ الاتّجاه العامّ في الخلافة، وخضع لما سُنّ من رأي على عهد أبيه. وقد فصَّلنا هذه الأمور في كتابنا (وضوء النبيّ) وأكّدنا على أنّه كان يذهب إلى مسح الرجلَين ويخالف الماسِحين على الخُفّين، لكنّه ما مات إلاّ بعد أن وافق العامّة من الناس في غسل الرجلَين؛ إذ نقل الفخر الرازيّ عن عطاء أنّه قال: كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفّين لكنّه لم يمت حتّى وافقهم(٤) .

هذا وإنّ هناك من المؤرخين من يذهب إلى أنّ ابن عمر كان قد أسلم قبل أبيه، فعن ابن شهاب: أنّ حفصة وابن عمر أسلما قبل عمر...(٥) .

هذا النصّ وأمثاله قد يوحي بأنّ القائل يريد ترجيح رأي عبد الله على رأي أبيه، باعتبار ترجيح رأي الأقدم إسلاماً على الآخر!؛ لأنّه الأتقى والأقرب إلى

____________________

(١) الطبقات ٤: ١٤٥، وفيّات الأعيان لابن خلكان ٣: ٢٩.

(٢) السنن الكبرى للبيهقيّ ٥: ٢٤٥، سير أعلام النبلاء ٣: ٢١٣، أُسد الغابة ٣: ٢٢٧.

(٣) الطبقات الكبرى ٤: ١٤٤، المستدرك على الصحيحين ٣: ٢٤٧، ح ٦٣٧٦، حلية الأولياء ١: ٣١٠، سير أعلام النبلاء ٣: ٢١٣.

(٤) التفسير الكبير ١١: ١٦٤.

(٥) سير أعلام النبلاء ٣: ٢٠٩، البداية والنهاية ٤: ١٧٣ - ١٧٤.

٢٨٩

النبيّ صلّى الله عليه وآله من غيره.

اتّضح إذن أنّ بين اجتهادات الخليفة عمر بن الخطّاب ما يخالف السنّة المطهّرة بكثرة، وبينها ما يوافقها قليلاً. بعكس الإمام عليّ بن أبي طالب الذي كانت السنّة جميعها عنده؛ وقد امتاز بذلك على الصحابة، وشهد له بذلك عمر وكبار الصحابة والتابعين.

روى ابن حجر في (فتح الباري) أنّ عمر قال: إن تولاّها الأجلح (يعني عليّ بن أبي طالب) لسار بهم على الطر يق [ أي السنّة ]. فقال له ولده: فلم لا تولّيه.

قال: لا أريد أن أحملها حيّاً وميّتاً!(١) .

____________________

(١) فتح الباري ٧: ٦٨، وقد ذكرها ابن سعد في طبقاته ٣: ٣٤٢، وأبو نعيم في الحلية ٤: ١٥٢، وابن عبد البر في الاستيعاب ٣: ١١٥٤.

٢٩٠

امتداد النهجين بعد الخليفة عمر بن الخطّاب

أخرج الدارمي بسنده عن مروان بن الحكم: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا طُعِن استشارهم في الجدِّ، فقال: إنّي رأيت في الجدِّ رأياً، فإنْ رأيتم أن تتّبعوه [ فاتبعوه ]، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فهو رشد و إن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي(١) .

وفي (الطبقات الكبرى)، قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر(٢) .

وعن معاوية أنّه قال: يا أيّها الناس! أقِلّوا الرواية عن رسول الله، و إن كنتم متحدّثون لا محالة فتحدّثوا بما كان يُتحدّث به في عهد عمر(٣) . وفي رواية مسلم واحمد: إيّاكم والأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، إلاّ حديثاً ذكر على عهد عمر(٤) .

الإقران بين الحجّ والعمرة

أخرج أحمد في مسنده، عن عبد الله بن الزبير، أنّه قال:

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١٠: ٢٦٣، سنن الدارمي ١: ١٥٩، ح ٦٣١ و ٢: ٤٥٢، باب في قول عمر الحد، ح ٢٩١٦، والمتن منه، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٤٦، باب من لم يرث الإخوة من الجد، ح ١٢٢٠١.

(٢) الطبقات الكبرى ٢: ٣٣٦، تاريخ دمشق ٣٩: ١٨٠، كنز العمّال ١٠: ٢٩٥، ح ٢٩٤٩٠، عن ابن سعد.

(٣) مسند الشاميين للطبراني (نشر مؤسسة الرسالة ط ٣: ٢٥١) ٢، تاريخ دمشق ٢٦: ٣٨٢، كنز العمال ١٠: ٢٩١، ح ٢٩٤٧٣، عن (كر).

(٤) صحيح مسلم ٢: ٧١٨، باب النهي عن المسألة، ح ١٠٣٧، مسند احمد ٤: ٩٩، المعجم الكبير ١٩: ٣٧٠، ح ٨٦٩.

٢٩١

واللهِ، إنّا لَمَع عثمان بن عفّان بالجُحْفة، ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري؛ إذ قال عثمان - وذكر له التمتّع بالعمرة إلى الحجّ:

إنّ أتمّ للحجِّ والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحجّ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتّى تزوروا هذا البيت زَوْرَتَين كان أفضل، فإنّ الله تعالى قد وسّع في الخير، وعليُّ بن أبي طالب في بطن الوادي يَعلف بعيراً له، قال: فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتّى وقف على عثمان، فقال: أعمدتَ إلى سنّة سنّها رسول الله صلّى الله عليه وآله ورخصة رخّص الله بها للعباد في كتابه، تُضيّق عليهم فيها وتنهى عنها، وقد كانت لذي الحاجة، ولنائي الدار؟! ثمّ أهَلّ بحجّة وعمرة معاً.

فأقبل عثمان على الناس، فقال: وهل نهيتُ عنها؟! إنّي لم أنْهَ عنها، إنّما كان رأياً أشرتُ به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه(١) .

وفي (موطّأ مالك)، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ بن أبي طالب بالسُّقيا، وهو ينجع بَكَرات لهُ دَقِيقاً وخَبَطاً فقال: هذا عثمان بن عفّان ينهى عن أن يُقْرَن بين الحجّ والعمرة.

فخرج عليّ بن أبي طالب وعلى يدَيه أثرُ الدقيق والخبطِ، فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعَيه، حتّى دخل على عثمان بن عفّان، فقال: أنت تنهى عن أن يُقرن بين الحجّ والعمرة؟!

فقال عثمان: ذلك رأي! فخرج عليٌّ مغضَباً، وهو يقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، بحجّة وعمرة معاً(٢) .

وفي (سنن النسائيّ): حجّ عليّ وعثمان، فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتّع، فقال عليّ: إذا رأيتموه ارتحل فارتحلوا، فلبّى علي وأصحابه بالعمرة، فلم يَنْهَهُم عثمان، فقال عليّ: ألم أُخْبَر أنّك تنهى عن التمتّع؟! قال: بلى، قال له عليّ: ألم

____________________

(١) مسند أحمد ٩٢: ١، ح ٧٠٧، الإحكام لابن حزم ٢١٩: ٦.

(٢) الموطّأ ٣٣٦: ١، باب القِران في الحج، ح ٧٤٢.

٢٩٢

تسمع رسول الله تمتّع؟ قال: بلى(١) .

قال السنديّ في (هامش النسائيّ):

قوله: (إذا رأيتموه قد ارتحلَ فارتحِلوا) أي ارتحِلوا معه مُلبّين بالعمرة، لِيعلم أنّكم قدّمتم السنّة على قوله، وأنّه لا طاعة له في مقابلة السنّة(٢) .

وفي أُخرى: لمّا رأى عليّ أن عثمانَ ينهى عن المتعة وأن يُجْمَع بينهما، أهلّ بهما: لبّيك بعمرة وحجّة معاً.

فقال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها؟!

فقال عليّ: لم أكن لأدَعَ سنّة رسول الله لأحد من الناس(٣) .

وقد علّق السنديّ على هذا الحديث كذلك بقوله: أي أنّي أنهى الناس جميعاً عن الجمع كما كان عمر ينهاهم وأنت، فكيف لك أن تفعل وتخالف أمر الخليفة، فأشار عليّ إلى أنّه لا طاعة لأحد فيما يخالف سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لمن علم بها والله أعلم(٤) .

وفي نصّ ثالث: ما تريد إلى أمرٍ فَعَله رسول الله تنهى عنه؟! فقال عثمان: دَعْنا منك! فقال: إنّي لا أستطيع أن أدعك. فلمّا رأى عليّ ذلك أَهَلَّ بهما جميعاً(٥) .

وفيما تقدّم من الأمثلة وضوح بيّن على امتداد ما سنّه الشيخان عموماً والخليفة الثاني خصوصاً، والذي يلفت النظر أنَّ عثمان ومعاوية وعمرو بن العاص كانوا يؤكّدون على سيرة الخليفة الثاني فضلاً عن العمل بها، فهذا إنَّما يشير إلى الامتداد الواحد لسيرتهما، ويتأكّد ذلك حينما نرى وضوح مخالفة نهج الخلفاء - والعاملين بالرأي على عهد رسول الله - لفقه الإمام عليّ وأتباعه المتعبّدين بالنصوص، كابن عبّاس...

____________________

(١) سنن النسائيّ ١٥٢: ٥، باب التمتع، ح ٢٧٣٣، سنن الدراقطني ٢٨٧: ٢، ح ٢٣١، المستدرك على الصحيحين ٦٤٤: ١، ح ١٧٣٥، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

(٢) حاشية السنديّ على النسائيّ ١٥٢: ٥.

(٣) سنن النسائيّ ١٤٨: ٥، باب القرآن، ح ٢٧٢٣.

(٤) حاشية السندي على النسائي ١٤٩: ٥.

(٥) صحيح البخاري ٥٦٩: ٢، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، ح ١٤٩٤، صحيح مسلم ٨٩٧: ٢، باب في نسخ التحلل من الإحرام..، ح ١٢٢٣، زاد المعاد ١١٣: ٢.

٢٩٣

فمعاوية أمر بلعن عليّ وابن عبّاس(١) ، وقال المنصور العباسي لمالك: خذ بقول ابن عمر وإن خالف عليّاً وابن عبّاس(٢) ، وقد ختم الحجّاج بن يوسف الثقفيّ في عنق سهل بن سعد الساعديّ وغيره من أصحاب المدوّنات(٣) ، وهذه كلّها تدلّ على استمرار سيرة الخليفة الثاني، وتأكيد من جاء من بعده على العمل بما سنّ من قبلهما، وإليك نصوصاً أُخرى في هذا السياق:

ترك القراءة

جاء في (بدائع الصنائع): إنّ عمر رضي الله عنه ترك القراءة في المغرب في إحدى الأُولَيَين، فقضاها في الركعة الأخيرة وجَهَر، وعثمان رضي الله عنه ترك القراءة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في الأخريين وجهر(٤) ، ثمّ روى حديثاً في ذلك عنها(٥) .

زوجة المفقود

روى ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، عن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود، أنّه قال: إن جاء زوجها وقد تزوّجت، خُيِّر بين امرأته وبين صَداقها، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدّت حتّى تحلّ ثمّ ترجع إلى زوجها الأوّل، وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحلّ من فرجها. قال ابن شهاب: وقضى بذلك عثمان بعد عمر رضي الله عنه(٦) ...

____________________

(١) انظر كتاب السنة لعمرو بن عاصم ٢: ٦٠٢، ح ١٣٥٠، تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٢٣، شرح النهج ٤: ٥٦، فصل في ما روي من سب معاوية وحزبه لعلي، جواهر المطالب ٢: ٢٢٧.

(٢) الطبقات الكبرى ٤: ١٤٧.

(٣) من الثابت تاريخاً أنّ الحجّاج استخفّ بأصحاب رسول الله حين دخل المدينة: فختم في يد جابر بن عبد الله، وختم في عنق أنس بن مالك وسهل بن سعد بالرصاص لإذلالهم. انظر تاريخ الطبري ٣: ٥٤٣، أحداث سنة ٧٤، والاستيعاب ٢: ٦٦٤، الترجمة ١٠٨٩ لسهل بن سعد الساعدي، أسد الغابة ٢: ٣٦٦، تهذيب الكمال ١٢: ١٨٩.

(٤) بدائع الصنائع ١: ١١١، المبسوط للسرخسي ١: ١١٨، ٢٢١.

(٥) انظر بدائع الصنائع ١: ١٧٢.

(٦) السنن الكبرى ٧: ٤٤٦، ح ١٥٣٤٨.

٢٩٤

ردّ الأمّ للسدس

أخرج الطبريّ في تفسيره، عن طريق شعبة، عن ابن عبّاس: أنّه دخل على عثمان فقال: لِمَ صار الأخوانِ يردّان الأمّ إلى السدس، وإنّما قال الله( فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ... ) (١) والأخَوَانِ في لسان قومك، وكلام قومك ليسا بإخوة؟

فقال عثمان: هل أستطيع نقض أمرٍ كان قبلي، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار؟!(٢) .

وفي لفظ الحاكم والبيهقيّ: لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس(٣) .

زكاة الخيل

أخرج البلاذريّ في (الأنساب)، بالإسناد عن الزهريّ: أنّ عثمان كان يأخذ من الخيل الزكاة، فأُنكر ذلك من فعله، وقالوا: قال رسول الله: عفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق(٤) .

فيحتمل أن يكون عثمان قد اتّبع عمر في هذه المسألة؛ إذ أخرج ابن حزم في المحلّى عن ابن شهاب أنّ السائب - ابن أُخت نمر - أخبره: أنّه كان يأتي عمر بن الخطّاب بصدقات الخيل. قال ابن شهاب: وكان عثمان بن عفّان يصدِّق الخيل(٥) .

وعن حارثة قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر رضي الله عنه فقالوا: إنّا قد أصَبْنا أموالاً وخيلاً ورقيقاً نحبّ أن يكون لنا فيها زكاة وطَهور.

قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، فاستشار أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وفيهم علي ‏رضي الله عنه، فقال عليّ:هو حسن إن لم يكن جزيةً راتبة يؤخَذون بها مِن بعدك (٦) .

____________________

(١) النساء: ١١.

(٢) تفسير الطبريّ ٤: ٢٧٨.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٤: ٣٧٢، ح ٧٩٦٠، السنن الكبرى للبيهقي، باب فرض الأم، ح ١٢٠٧٧.

(٤) أنساب الأشراف ٥: ٢٦، وانظر المحلّى ٥: ٢٢٧ - ٢٢٩ مثلاً.

(٥) المحلى ٥: ٢٢٧.

(٦) مسند أحمد ١: ١٤، مسند عمر بن الخطاب، ح ٨٢، سنن الدارقطني ٢: ١٢٦، باب زكاة مال التجارة،

=

٢٩٥

فالإمام عليّ نبّه هنا على أنَّ منع المسلمين من تطهير أموالهم وقد رغبوا في ذلك لا يجوز شرعاً، بل ربّما استحبّ كما هو الحقّ، لكنّ مخافة التالي الفاسد وهو صيرورتها سنّة وشريعة هو أيضاً حرام شرعيّ، فنبّه عليّ عليه السلام على جواز أخذ زكاة الخيل لا على وجه الوجوب، وأنّه لا يمكن إجبار مسلم على أداء زكاة خيله، فجمع عليّ عليه السلام بين الحكم بالجواز والتنبيه على ما قد يتوهّم منه الوجوب، وهذا هو الطريق السديد، وكان قد فعل النبيّ صلّى الله عليه وآله ذلك في الصلاة بمنى، حيث كان ينبّه الناس على أنّهم مسافرون يقصرون الصلاة وأنّ على أهل البلد الإتمام.

وبهذا عرفت أنّ عثمان قد اتّبع سيرة صاحبَيه في بعض الأحكام، وإن كان يحمل آراء تخصّه في أحيان أُخرى، وهي آراء يخالف بها الآخرين؛ لأنّا نعلم أنّ طريق الرأي لو فتح لا يمكن لأحد أن يغلقه، كما يقول الإمام عليّ:(كراكب الصَّعْبة: إنْ أشنَقَ لها خَرَم، وإن أسلسَ لها تَقحّم) . وإنّك عرفت نهج الخلفاء وأنّ على الخليفة الحاكم أن يتّبع سيرة مَن سبقه، وأن يصحّح رأيه وإن خالف النصّ!!

الكلالة

عن الشعبيّ أنّه قال: سئل أبو بكر عن الكَلالة، فقال: إنّي سأقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنّي ومن الشيطان، أراه ما خلا الولد والوالد. فلمّا استخلف عمر رضي الله عنه قال: إنّي لأستحيي الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر!(١) .

وقد نقل الجاحظ في كتابه (الفتيا) عن أُستاذه إبراهيم بن السيّار النظّام تعليقه على قول عمر آنف الذكر، يقول: وإنّي لأعجب من قول عمر (إنّي لأستحي من الله من أن أُخالف أبا بكر) فإن كان عمر إنّما تابعه لأنّ خلافه لا يجوز [ أو اعتقاداً منه بأنّ الحقّ

____________________

=

ح ٢ و ٣، المستدرك على الصحيحين ١: ٥٥٧، ح ١٤٥٦.

(١) سنن الدارميّ ٢: ٤٦٢، باب الكلالة، ح ٢٩٧٢، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٢٣، باب حجب الاخوة والاخوات، ح ١٢٠٤٣.

٢٩٦

معه ] فقد خالفه في الجدّ مائة مرّة وفي أهل الردّة [ والمؤلّفة قلوبهم ] وفي أُمور كثيرة(١) .

فدك

ولو أخذنا قضيّة فدك وخُمس الأموال من باب المثال؛ لعرفنا كيفيّة خضوع الأحكام الشرعيّة لعوامل خارجيّة وسياسات وقتيّة، ثمّ وُسِّع نطاقها لتكون سياسة عامّة يتّخذها الخلفاء من بعدهم كأصل في الحياة!

ففدك لو كانت حقَّ الأمّة - كما قال الخليفة الأوّل - فكيف يمنحها إذَن عثمان لمروان بن الحكم مع خُمس إفريقية؟! وإنّها لو كانت حقّاً شخصيّاً - كما قالت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله - فلِمَ لا يعطونها إيّاها؟! ولتوضيح ذلك نقرأ هذا النصّ:

أخرج البيهقيّ في سننه من طريق المغيرة حديثاً في فدك، وفيه: أنّه أقطعها لمروان لمّا مضى عمر لسبيله، فقال: قال الشيخ: إنّما أقطع مروان فدكاً في أيّام عثمان بن عفّان ‏رضي الله عنه، وكأنّه تأوّل في ذلك ما روي عن رسول الله: إذا أطعم الله نبيّاً طعمةً فهي للذي يقوم من بعده، وكان مستغنياً عنها بما له فجعلها لأقربائه وصَلَ بها رحمهم(٢) .

وهذا تناقض عجيب، وتضارب بيِّن، ترى أين الصواب: في ادّعاء أبي بكر أنّها للمسلمين، أم ادّعاء عمر بأنّهم بحاجة إلى أموالهم لتجييش الجيوش وتوسيع رقعة الإسلام، أم في ادّعاء عثمان بأنّها له باعتباره ممثلاً عن النبيّ؟!

ومهما تكن الإجابة فإنّا نرى إطباق هذه الادّعاءات على منع فاطمة من فدك، بشتّى الاجتهادات والتوجيهات، واستمرار ذلك، يقفو به اللاحق السابق، وهذا ممّا يؤكّد التواصل المدروس لتنمية نهج الاجتهاد والرأي في مقابل نهج التعبّد المحض بالسنّة الشريفة(٣) .

____________________

(١) الفصول المختارة: ٢٠٧ للشيخ المفيد عن كتاب (الفتيا) وما بين المعقوفتين زيادة توضيحية منّا.

(٢) السنن الكبرى ٦: ٣٠١، ح ١٢٥١٦.

(٣) في كلام الزهراء والإمام علي وأهل البيت دلالات واضحة إلى هذا، منها قول الزهراء، إلى نساء

=

٢٩٧

ويلحظ استمرار المنع من التدوين إلى فترة خلافة عمر بن عبد العزيز الذي فتح التدوين، كما يلاحظ إرجاع هذا الخليفة فدكاً لأولاد فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله(١) ، ولعلّ في الأمر ملازمة وارتباطاً؛ لأنّ التدوين الحاصل - على علاّته - أفاد المسلمين، وأوضح الكثير من الحقائق - وإن كان بجانب آخر يهدف إلى تثبيت مبادئ مدرسة الاجتهاد لكي تدافع عن نفسها مقابل مدرسة التدوين والتحديث - فكان لإيضاح تلك الحقائق مع ما عُرف من عمر بن عبد العزيز، نتيجة طيّبة؛ إذ يبدو أنّ أمر فدك اتّضح للخليفة من خلال التدوين، وإطباق المؤرّخين وأصحاب السنن على نقل ادّعاء فاطمة عليها السلام لفدك، وأنّها كانت بيدها وأنّ رسول الله أعطاها إيّاها(٢) ، فكان هذا الوضوح بالرؤية قد أخذ مأخذه في عقل ابن عبد العزيز، فأرجع فدك إلى أولاد فاطمة عليها السلام، وبه رجحت كفّة التعبّد المحض على كفّة الاجتهاد والرأي.

الخمس

جاء عن ابن عبّاس أنّه قال: فلمّا قبض الله رسوله ردّ أبو بكر نصيب القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله(٣) .

وعنه في جوابه لنجدة الحَروريّ لمّا سأله عن سهم ذوي القربى: لمن هو؟

قال: قد كنّا نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلّها ذوو قربى!(٤) .

وروى الشافعي عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، قال: لقِيتُ عليّاً عند أحجار الزيت،

____________________

=

المهاجرين والأنصار:ويعرف التالون غب ما أُسس الأولون ، وقولها عليها السلام:تتربصون بنا الدوائر تتوكّفون الأخبار .

(١) فتوح البلدان للبلاذري ١: ٣٨، شرح النهج ١٦: ٢٧٨، معجم البلدان ٤: ٢٣٩ (فدك)، الكامل في التاريخ ٢: ١٠٤ - ١٠٥.

(٢) مسند أبي يعلى ٢: ٣٣٤، ح ١٠٧٥ و ح ١٤٠٩، شرح النهج ١٦: ٢٦٨، الدر المنثور ٥: ٢٧٣ - ٢٧٤.

(٣) تفسير الطبريّ ١٠: ٧، وانظر باب قسمة الخمس من أحكام القرآن للجصّاص ٤: ٢٤٣ - ٢٤٥.

(٤) مسند أحمد ١: ٢٩٤، ح ٢٦٨٥، سنن النسائي ٧: ١٢٩، ح ٤١٣٤، تفسير الطبري ١٠: ٦، واللفظ له، زاد المسير ٣: ٣٦٠، الدر المنثور ٤: ٦٨.

٢٩٨

فقلت له: بأبي أنت وأُمّي، ما فعل أبو بكر وعمر في حقّكم أهلَ البيت من الخمس...؟ إلى أن يقول:

قال عليّ:إنّ عمر قال: لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم، فأبينا عليه إلاّ كلّه، فأبى أن يعطينا كلّه (١) .

وقد كان عمر بن الخطّاب قد قال مثله لابن عبّاس، وأجابه ابن عبّاس بمثل جواب الإمام عليّ بن أبي طالب(٢) .

فلو كان الخمس حقّاً للمسلمين، فكيف يحقّ لعثمان أن يتأوّل ويعطيه مرّة لعبد الله بن أبي سرح وأُخرى لمروان بن الحكم؟!(٣) .

ولو كان هذا تأويلاً من عثمان لم يقبله المسلمون، فَلِمَ نرى غالب أئمّة الجمهور لم يجعلوا لذي القربى حقّاً من الخمس اليوم؟!(٤) .

يبدو أنّ الأمر في الواقع هو غير ما أُريد له أن يملأ أذهان المتطرّفين من بيننا في تقديس السلف، الذين يحرّمون الحوار ويحظرون مناقشة المواقف والآراء... وربّما تواصل الامتداد في عهد معاوية

عدّوا هذه المناقشات خروجاً عن الدين!

____________________

(١) الأم ٤: ١٤٨، باب سن تفريق القِسَمْ، مسند الشافعي ١: ٣٢٥، من كتاب قسم الفي، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٣٤٤، ح ١٢٧٤٢.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٢٠، ح ٢٩٤٣، سنن النسائي ٧: ١٢٨، ح ٤١٣٣، المعجم الكبير ١٠: ٣٣٤، ح ١٠٨٢٩.

(٣) تاريخ الطبري ٢: ٥٩٧، والبداية والنهاية ٧: ١٥٢ في أحداث سنة ٢٧ هـ، وذكره ابن الأثير في الكامل ٢: ٤٨١، في أحداث سنة ٢٦ ه.

(٤) انظر النصّ والاجتهاد: ٥٣.

٢٩٩

٣٠٠