منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93247
تحميل: 6493

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93247 / تحميل: 6493
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

تواصل الامتداد في عهد معاوية

هلمّ معي نتابع امتداد اجتهادات الشيخين، في زمن معاوية ومن جاء من بعده. وقد مرّ سابقاً ما أخرجه أحمد في مسنده، و إليك ما قاله ابن عساكر: كان معاوية يقول على منبر دمشق: إيّاكم والأحاديث عن رسول الله، إلاّ حديثاً ذُكِر على عهد عمر!(١)

وفي صحيح مسلم عن اليحصبيّ، قال: سمعت معاوية يقول: إيّاكم وأحاديث، إلاّ حديثاً كان في عهد عمر؛ فإنّ عمر كان يُخيف الناس في الله عزّ وجلّ!(٢) .

وقد مرّ ما رواه ابن عديّ، عن إسماعيل بن عبيد الله: أنّ معاوية نهى أن يُحدَّث عن رسول الله بحديث إلاّ حديث ذُكر على عهد عمر، فأقرّه عمر(٣) .

وقد جاء عن ابن عساكر عن رجاء بن حيرة قال: كان معاوية ينهى عن الحديث يقول: لا تحدثوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله(٤) .

عن محمّد بن عبد الله: أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس(٥) ، عامَ حَجَّ معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ.

____________________

(١) تاريخ دمشق ٢٩: ٢٧٤.

(٢) صحيح مسلم ٢: ٧١٨/ ٩٨، باب النهي عن المسألة، ح ١٠٣٧، وفي المعجم الكبير ١٩: ٣٧٠، ح ٨٦٩، ومسند الشاميين ٣: ١٢٩، ح ١٩٣٣ بلفظ (إياكم وأحاديث رسول الله).

(٣) الكامل لابن عدي ١: ١٩، الباب الرابع عشر.

(٤) تاريخ دمشق ٥٩: ١٦٧.

(٥) الضحّاك بن قيس الفهريّ القرشيّ قائد جلاوزة معاوية، ولد قبل وفاة النبيّ بسبع سنين، وولّي على شرطة معاوية، وحارب معه، فأغار على سواد العراق، وعلى الحاجِّ وأخذ أمتعتهم، وتولّى دفن معاوية، وبايع ابن الزبيرَ بعد يزيد، وقاتل مروان، فقُتل بمرج راهط سنة أربع وستّين.

٣٠١

فقال الضحّاك: لا يصنع ذلك إلاّ من جَهِل أمر الله تعالى.

فقال سعد: بئسما قلتَ يا ابن أخي.

قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك.

قال سعد: قد صنعها رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله وصنعناها معه(١) .

وفي سنن الدارميّ: قال سعد: عمر خير منّي، وقد فعل ذلك النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله وهو خير من عمر(٢) .

وقد اتّبع الضحاك في نهيه عن المتعة عثمان، وعثمان كان قد اتّبع عمر، ذلك المنع الذي شدّد عليه معاوية؛ لأنّه كان يرى ضرورة تشييد فقه مستقلّ ذي أبعاد وأُسس مستقلّة، يتميّز عن فقه العلويّين ومَن تابعهم من أصحاب النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله.

وكان فقه الشيخين هو المحور الذي يمكن أن يبنى على أساسه هذا البناء المشمخر.

وقد أدرك معاوية وهو الداهية ضرورة سدّ باب التحديث، تقويةً لاجتهادات الخليفة عمر بن الخطّاب وقراراته؛ لكي يتمكّن من تشييد بناء البديل. وقد أكّدنا في (وضوء النبيّ) على أنّ الخلفاء أمويّين كانوا أم عبّاسيّين يتخوّفون من الطالبيّين (أبناء عليّ بن أبي طالب، وأتباع نهجه) ويخطّطون للتعرّف عليهم، فقرّروا أن يجمعوا الناس على فقه مناقض لعليّ بن أبي طالب؛ لتشخيص أتباع عليّ وتمييزهم، فتراهم تارة يأخذون في الأحكام بقول عمر، وأُخرى بقول عائشة، وثالثةً بقول أبي هريرة، ورابعةً بقول عثمان... وهكذا.

المهمّ هو حدوث التخالف مع قول عليّ، ثمّ جمع الأمّة على ما يريدونه، ومتى أرادوا النيل من أحد الطالبيّين فإنّهم يُشيعون عنه أنّه قد خرج عن إرادة الأمّة، لأنّ فقهه يخالف فقه المسلمين، فانظروا إلى وضوئه فإنّه مَسْحي، وإلى صلاته فهو مُسْبِل، وإلى قراءته فهي جهريّة، وإلى آخر هذه المصائد والكمائن.

____________________

(١) مسند أحمد ١: ١٧٤، ح ١٥٠٣، سنن الترمذي ٣: ١٨٥، ح ٨٢٣، قال: هذا حديث صحيح، سنن النسائي ٥: ١٥٢، ح ٢٧٣٤، واللفظ له.

(٢) سنن الدارميّ ٢: ٥٥، باب في التمتع، ح ١٨١٤.

٣٠٢

إنّ إغلاق باب التحديث والتدوين من قبل الخليفة عمر بن الخطّاب كان فرصة أمام معاوية لبناء البديل، كما أنّه سعى لتقوية دَور القَصّاصين، ومتزلّفي الرواة ليضعوا الأحاديث التي تخدم رأيه وتقلّل من مكانة خصمه، فكان ممّا يثبت أركان حكومته هو: التركيز على فضائل عثمان والشيخين.

فعن عمرو بن العاص أنّه قال: أشهدُ، لَسَمعتُ رسول الله يقول: ما أقرأكم عمر فاقرؤوا، وما أمركم به فأتمروا(١) .

وجاء فيما كتبه معاوية إلى عمّاله في الأمصار: (انظُروا مَنْ قِبَلكم من شيعة عثمان ومُحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدْنُوا مجالسهم، وقرِّبوهم وأكرِموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلٌّ رجلٌ منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته)(٢) .

ولمّا فشا الحديث في فضائل عثمان، كتب إليهم:

(إنّ الحديث في عثمان قد كَثُر وفشا في كلّ مصر، وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعُوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة)(٣) .

وهذا النصّ وضّح لك سياسة معاوية وأنّه قد ارتضى جميع الصحابة إلاّ عليّاً - أبا تراب - وأنّ الوضع أخذ يتفشّى في الحديث ويأخذ مجاله في الفقه. وإليك هذا النصّ - الذي رواه البيهقيّ وأبو داود في سننهما - واللفظ للأوّل:

إنّ معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله: إنّ رسول الله نهى عن صفف النمور؟

قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: وأنا أشهد.

قال: أتعلمون أنّ النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله نهى عن لبس الذهب إلاّ مقطّعاً؟

____________________

(١) كنز العمّال ١٢: ٥٩٣ / ح ٣٥٨٤٤، تاريخ دمشق ٤٤: ٢٣٤.

(٢) شرح النهج ١١: ٤٤.

(٣) شرح النهج ١١: ٤٥.

٣٠٣

قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله نهى أن يُقْرَن بين الحجّ والعمرة؟

قالوا: اللّهمّ لا!

قال: والله، إنّها لَمَعَهُنّ(١) .

انظر إلى طريقة معاوية كيف يحاول الاستدراج والانتقال من الثوابت، ليلصق بها ما يريد إلصاقه بها؛ إيهاماً وتضليلاً للآخرين.

قال ابن القيّم بعد إيراد الحديث السابق: ونحن نشهد بالله إنّ هذا وهمٌ من معاوية أو كذب عليه، فلم يَنْهَ رسولُ الله عن ذلك قطُّ(٢) .

والواقع أنّ الوهم من ابن القيّم، فإنّه ككثير من المسلمين حَسَّنَ الظنّ بمعاوية، فقال (إنّه وَهِمَ)، مع أنّه لا يمكن الوهم في مثل هذا الحكم الواضح الذي فعله النبيّ والمسلمون، ومن ثمّ وقع الاختلاف فيه في زمان الخليفة عمر بن الخطّاب، فمنع عن القرآن، فهل خفي كلّ ذلك على معاوية فوهم؟!

ولماذا يكون هذا كذباً على معاوية، كما يقول ابن القيّم ولا يكون كذباً على النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله؟! ولماذا لا يكون تخطيطاً مسبقاً وإصراراً على تأسيس شرعيّةٍ جديدة مقابل مشروعيّة كتاب الله وسنّة رسوله؟!

فمعاوية قد وضع هذا المخطّط لإحياء سنّة الخليفة عمر بن الخطّاب، لكنّه لا يدري أنّ الأيّام تكشف عن كذبه، وتوضّح خداعه لا محالة، فالبخاريّ ومسلم وأحمد قد رووا عن ابن عبّاس أنّ معاوية قال له:

أعلمتَ أنّي قصّرتُ من رأس رسول الله ثم المروة بمشقص؟

فقال له ابن عبّاس: لا أعلم هذا إلاّ حجّة عليك(٣) .

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٩٩، مسند عبد بن حميد: ١٥٧، ح ٤١٩، السنن الكبرى للبيهقي ٥: ١٩، باب كراهية من كره القرآن والتمتّع والبيان...، ح ٨٦٥١، واللفظ له.

(٢) زاد المعاد ٢: ١٣٨.

(٣) صحيح البخاريّ ٢: ٦١٧، باب الحلق والتقصير ثم الإحلال، ح ١٦٤٣، صحيح مسلم ٢: ٩١٣ / ح

=

٣٠٤

أي دليلاً عليك لا لك؛ لأنّ معاوية بنقله الكلام السابق كان يريد الإشارة إلى أنّه كان مقرّباً من رسول الله وفي خدمته، لكنْ فاته أنّ كلامه هذا يناقض ما أفتى به سابقا، ونقله زَعْماً عن رسول الله!

وجاء عن سعد بن أبي وقّاص أنّه سئل عن المتعة - كما في رواية مسلم - فقال: فعلناها، وهذا يومئذٍ كافر بالعرش، قال الراوي: يعني بيوت مكّة(١) ، وفي رواية أُخرى: يعني معاوية(٢) .

وقد جعلوا لفظ (العَرْش) (العُرُش) بضمّتين ليكون جمع عريش، مثل: قليب وقُلبُ، ويكون بمعنى بيوت مكّة(٣) .

ولعلّ سعداً تلفظه بفتح العين وسكون الراء وقصد أنّه كان يومذاك كافراً بربّ العرش!

هكذا عارض سعد بن أبي وقّاص معاوية في أكثر من مشهد وموقف، وهو من أعيان الصحابة، وفاتح العراق، والبقيّة من أعضاء الشورى الذين رشّحهم عمر بن الخطّاب للخلافة من بعده، فهذا وأمثاله من كبار الصحابة، كان يمكنهم مخالفة آراء معاوية لمكانتهم، أمّا غيرهم من الصحابة فلا يمكنهم الوقوف أمام اجتهادات معاوية.

نعم، إنّ سعد بن أبي وقّاص، وعمران بن الحصين، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من مشهوري الصحابة كان يمكنهم الوقوف أمام آراء معاوية وربّما عثمان وعمر، لكنّهم في الوقت نفسه كانوا يحذرون البطش، خصوصاً بطش معاوية الذي عرف بالمكر والخداع...

____________________

=

١٢٤٦، باب التقصير بالعمرة، والنصّ لمسلم.

(١) صحيح مسلم ٢: ٨٩٨، باب جواز التمتع، ح ١٢٢٥.

(٢) مسند أحمد ١: ١٨١، ح ١٥٦٨، المسند المستخرج على صحيح مسلم ٣: ٣٢٤، ح ٢٨٤١، فتح الباري ٣: ٥٦٦.

(٣) من أُولئك: الخطّابيّ في إصلاح غلط المحدّثين: ١٢١، والسيوطيّ في التطريف في التصحيف: ٣١، وينظر غريب الحديث لأبي عبيد ٢١، ٤: ٢٠، والمشارق ٢: ٧٩، وشرح النوويّ ٨: ٢٠٤، وغريب ابن الجوزي ٢: ٨١.

٣٠٥

جاء عن الصحابيّ عمران بن الحصين أنّه قد أباح بسرٍّ كان قد كتم أنفاسه عن الجهر به في زمن الشيخين وعثمان، ولمّا حضره الموت أودع ما عنده لمطرف، فاستمع لما حكاه مسلم وغيره عن مطرف، فإنّه قال:

بعث إليّ عمران بن الحُصَين في مرضه الذي توفّي فيه فقال: إنّي كنتُ محدِّثك بأحاديث لعلَّ الله أن ينفعك بها بعدي، فإنْ عشتُ فاكتمْ عنّي، وإن متُّ فحدِّث بها إن شئت، إنّه قد سلم عليّ، واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وآله قد جمع بين حجّ وعمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله، ولم يَنْهَ عنها نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء(١) .

وفي نصّ آخر عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: إنّي لأحدِّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم، واعلم ثم أنّ رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله قد أعمَرَ طائفة من أهله في العشر، فلم تنزل آية تنسخ ذلك، ولم ينه عنه، حتّى مضى لوجهه ارتأى كلّ امرئ بعدُ ما شاء أن يرتئي(٢) .

نعم، إنّ عمران بن الحصين نقل الحديث وهو وجِل من عُقبى قوله؛ فطلب من مطرف أن يحفظها عنده عسى أن تنفعه في الأيّام اللاحقة! وأن يكتمها عليه إن شفاه الله من مرضه، وهل بعد هذا الخوف والوجل من شكّ في أنّ الكثير من الصحابة كانوا لا يرتضون ما يفعله ويرتأيه الشيخان وعثمان ومعاوية من بعد.

كلام لابن قيّم الجوزيّة في متعة النساء

ولابن القيّم كلام في الجمع بين الأحاديث الناهية عن المتعة والمجوّزة لها، قال:

(فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: كنّا

____________________

(١) صحيح مسلم ٢: ٨٩٩، باب جواز التمتع، ح ١٢٢٦، شرح النووي على صحيح مسلم ٨: ٢٠٦، وهو أيضاً في مسند أحمد ٤: ٤٢٨، ومعجم الشيوخ للصيداوي: ٣٤٥، والمسند المستخرج على صحيح مسلم ٣: ٣٢٥، ح ٢٨٤٥.

(٢) صحيح مسلم ٢: ٨٩٨، باب جواز التمتع، السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٣٣٤، باب العمرة في أشهر الحج، ح ٨٥١٣. قال: أخرجه مسلم في الصحيح من حديث الجريري وزاد: لم ينه عنه حتى مضى لوجهه، المعجم الكبير ١٨: ١١١ - ١١٢، ح ٢١١، ح ٢١٣، ح ٢١٤.

٣٠٦

نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّامَ على عهد رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله وأبي بكر، حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث.

وفيما ثبت عن عمر أنّه قال: مُتعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحجّ؟

قيل: الناس في هذا طائفتان:

طائفة تقول: إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون، ولم تَرَ هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح؛ فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه، وقد تكلّم فيه ابن معين، ولم يَرَ البخاريّ إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام، ولو صحّ عنده لم يصبر على إخراجه والاحتجاج به، قالوا: ولو صحّ حديث سبرة لم يَخْفَ على ابن مسعود حتّى يروي أنّهم فعلوها ويحتجّ بالآية! وأيضاً لو صحّ لم يَقُل عمر إنّها كانت على عهد رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنّه حرّمها ونهى عنها. قالوا: لو صحّ لم تُفعل على عهد الصدّيق وهو عهد خلافة النبوّة حقّا.

والطائفة الثانية: رأت صحّة حديث سبرة، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث عليّ رضي الله عنه: إنّ رسول الله حرّم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر، حتّى كان زمن عمر، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر؛ وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها وبالله التوفيق)(١) .

ردٌّ وإيضاح

لنا في كلام ابن القيّم نظر، إذ لا ندري متى ثبتت حرمة التمتّع بالنساء عن عليّ حتّى يصحّ جعله دليلاً للمطلوب، في حين كان الإمام وابن عمه عبد الله بن عبّاس في

____________________

(١) زاد المعاد ٣: ٤٦٢.

٣٠٧

طليعة المُجِيزين لها، والأئمّة من ولده من المدافعين عنها على مرّ التاريخ، فكيف ينسب إلى عليّ التحريم والخلفاء كانوا يعقدون جلسات المناظرة مع الأئمّة من ولد عليّ، وكان السؤال عن المتعة في رأس قائمة الأسئلة في تلكم المناظرات التي حفظها لنا التاريخ؟!(١) .

فلو كان المنع قد ثبت عن عليّ فما معنى هذا الإصرار من قبل آله في الدفاع عن حلِّيَّة التمتّع؟! ولماذا غدا أتباع عليّ - إذَن - موضع سهام الانتقاد والمحاربة، من أجل القول بمشروعيّة هذا التمتّع؟! ولمَ تُحارَبُ الشيعة من أجله؟!

نعم إنَّ الحلّيّة قد ثبت صدورها عن عليّ بطرق متعدّدة عند الفريقين، وأجمع عليها أئمّة التعبّد المحض، أمّا حديث المنع المدّعى على عليّ وغيره فقد انفرد بنقله أنصار مدرسة الاجتهاد بالرأي.

لقد أكّدنا - أكثر من مرّة - على أنّ الحكومة وأنصارها كانت تجدّ في نسبة ما تريد إلى أعيان الصحابة المخالفين لرأي الخليفة، لتزكية عمل الخلفاء من خلال القول بأنّ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وسعد بن أبي وقاصّ وغيرهم... كانوا يذهبون أيضاً إلى ما ذهب إليه الخليفة.

وهذا يفسّر لنا ظاهرة من ظواهر اختلاف منقولات أتباع نهج الاجتهاد والرأي عن الصحابيّ الواحد، خاصّة إذا كان من الجناح المقابل لفقه الشيخين، لكي يختلط عند ذلك الحابل بالنابل والغثّ بالسمين.

إن اختلاف النقل عن الصحابيّ ينمُّ عن وجود امتداد لنهج آخر في الشريعة، ولأجله ترانا نؤكّد بين الفينة والأخرى على ضرورة دراسة ملابسات الأحاديث والأخبار، لمعرفة من قال بهذا الرأي من الخلفاء أو من أعطوه دوراً كبيراً في الشريعة كعائشة أُمّ المؤمنين، وهل هناك من يخالفهم من الصحابة عن رسول الله أم لا؟ وبهذا يمكننا الوقوف على الخيوط الخفيّة في الأحكام الشرعيّة، ومكان وزمان صدور الخبر

____________________

(١) انظر عيون أخبار الرضا ١: ١٣٢ مثلاً.

٣٠٨

وملابسات الفتاوى والآراء!

ولو اتّخذنا قضيّة المتعة مثلاً؛ لعرفنا امتداد النهجين واضحاً بيّناً فيها.

فابن عبّاس، وابن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، وعليّ بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعريّ، وغيرهم... يؤكّدون على مشروعيّة هذا الفعل ويعتبرونه فعلاً شرعيّاً نصّ عليه الله ورسوله، ولم ينسخ قطّ.

أمّا عثمان بن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان وأئمّة الفقه الحاكم، فلا يرتضون ذلك الفعل؛ لأنّ الخليفة عمر بن الخطّاب لم يستسغه فحرّمه.

فمن الطبيعيّ - من أجل تقوية الجناح الحاكم - أن ينسبوا إلى ابن عبّاس وعليّ - وحتّى إلى ابن عمر - قولاً في النهي عن ذلك؛ لتقوية اتّجاه الخليفة، فاللازم على الباحث - بعد وقوفه على نهي عمر في المتعة - أن يقف فيما يقال عن حكم التمتّع، وهل حقّاً قد نسخ، أو أنّ عليّاً وابن عبّاس قد منعا منه، وغيرها من المفتريات التي تحكِّمُ فتوى الحاكم ورأيه.

إنّ النصوص - تاريخيّة كانت أم حديثيّة، سنّيّة كانت أم شيعيّة - توضِّح سقم تلك الأخبار، وإليك خبراً آخر، عن ابن عبّاس في المتعة.

أخرج الهيثميّ في (مجمع الزوائد): إنّ عروة بن الزبير أتى ابنَ عبّاس، فقال: يا ابن عبّاس، طالما أضللتَ الناس!

قال: وما ذاك يا عُرَيّة؟!

قال: الرجل يخرج مُحْرِماً بحجّ أو عمرة، فإذا طاف زعمتَ أنّه قد حلّ، فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك. فقال: أهما - ويحك - آثرُ عندك أمْ ما في كتاب الله، وما سَنّ رسول الله في أصحابه وفي أُمتّه؟!

فقال عروة: هما كانا أعلم بكتاب الله وما سنّ رسول الله منّي ومنك(١) .

وعن أيّوب، قال عروة لابن عبّاس: ألا تتّقي الله، ترخّص في المتعة؟!

____________________

(١) مجمع الزوائد ٣: ٢٣٤، باب فسخ الحج إلى عمرة، عن الطبراني في المعجم الأوسط ١: ١١، ح ٢١.

٣٠٩

فقال ابن عبّاس: سل أُمّك يا عُرَيّة؟

فقال عروة: أمّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا!

فقال ابن عبّاس: والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله! نحدّثكم عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وتحدّثونا عن أبي بكر وعمر؟!(١) .

فإحالة ابن عبّاس الأمر إلى أمّ عروة - أسماء بنت أبي بكر - إنّما كان لتمتّع الزبير بها، وأنّها ولدت له من ذلك التمتّع عبد الله(٢) .

وعن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آتٍ، فقال: ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نَعُدْ لهما(٣) .

إنّ عودتنا إلى بعض النصوص عن ابن عبّاس، غايتها إيقاف القارئ على أنّ ما نُسب إلى ابن عبّاس وأمثاله في المتعة وغيرها ليس بصحيح؛ لأنّ مثل هذا الرأي يصبّ في مصبّ الفقه الحاكم ويخالف الثابت الصريح عن المخالفين للمنهج الحاكم.

وقد اشتهر عن معاوية: أنّه أوّل مَن غذّى روح البغض والعداء لأهل البيت بجهره بلعن عليّ وآله، ولعن ابن عبّاس على المنابر. وقد جدّ بتحريف الشريعة عن وجهتها بُغضاً لعليّ، فلو كان كذلك فهل تصدّق أن يبقى فقه عليّ وابن عبّاس كما هو في نهج الحكّام، مع معرفتك بأنّ الخلفاء من بعده - أمويّين كانوا أم عبّاسيّين - كانوا يتّخذون فقه الشيخين وعثمان وعائشة، بل كلّ مَن يخالف عليّ ويرجّحونه على فقه الآخرين، لوجود الطالبيّين في كفّة المعارضة!

____________________

(١) حجّة الوداع لابن حزم: ٣٥٣، ح ٣٩١، وفيه سل أُمّك يا عروة، التمهيد لابن عبد البر ٨: ٢٠٨، واللفظ له، زاد المعاد ٢: ٢٠٦.

(٢) محاضرات الأدباء ٣: ٢١٤، العقد الفريد ٢: ١٣٩، جمهرة خطب العرب ٢: ١٢٧، عن العقد الفريد لابن عبد ربه قال: أول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير.

(٣) صحيح مسلم ٢: ٩١٤، ح ٢: ١٠٢٣، ١٢٤٩، ح ١٤٠٥، السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٢٠٦، ح ١٣٩٤٧، فتح الباري ٩: ١٧٤.

٣١٠

الحكّام والتطبيع الفقهيّ

أخرج الشافعيّ في كتاب (الأمّ)، من طريق عبيد بن رفاعة عن أبيه: أنّ معاوية قدِم المدينة فصلّى بهم، فلم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والأنصار: أنْ: يا معاوية! أسرقتَ صلاتك؟! أين( بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟! وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟!

فصلّى بهم صلاة أُخرى، فقال ذلك فيها الذي عابوا عليه(١) .

وأتى قبله بحديث عن أنس بن مالك، قال:

صلّى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأمّ القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتّى قضى تلك القراءة، ولم يكبّر حين يهوي حتّى قضى تلك الصلاة، فلمّا سلّم ناداه مَن سمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان: يا معاوية! أسرقتَ الصلاة أم نسِيت؟

فلمّا صلّى بعد ذلك، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمّ القرآن، وكبّر حين يهوي ساجداً(٢) .

____________________

(١) الأم ١: ١٠٨، باب التعوذ بعد الافتتاح، سنن الدارقطني ١: ٣١١، باب ذكر التكبير ورفع اليدين، ح ٣٤، السنن الكبرى للبيهقي ٢: ٤٩، ح ٢٢٣٩، التدوين في أخبار قزوين ١: ١٥٤.

(٢) الأم ١: ١٠٨، باب التعوذ بعد الافتتاح، السنن الكبرى للبيهقي ٢: ٤٩، ح ٢٢٣٧، التدوين في أخبار قزوين ١: ١٥٤، وجاء في فتح الباري ٢: ٢٧٠، وعون المعبود ٣: ٤٥، ونيل الأوطار ٢: ٢٦٦، عن سعيد بن المسيب أنّه قال: أول مَن ترك التكبير معاوية!

٣١١

وجاء عن الزهريّ: أوّل مَن قرأ بسم الله الرحمن الرحيم سرّاً بالمدينة عمرو بن سعيد بن العاص(١) .

وعلّق الفخر الرازيّ في (أحكام البسملة) على كلام الزهريّ:

قلت: وولي عمرو المدينة في زمن يزيد بن معاوية، وتبعه مَن تبعه في ذلك، فلهذا قال يحيى بن جعدة: اختلس الشيطان من الأئمّة آية البسملة، يعني بالأئمّة: الولاة العلماء. وقال الزهريّ: هي آية من كتاب الله تركها الناس. وقال مجاهد: نسِيَ الناس ما كان الأمر عليه قبل ذلك، ولا خير فيما أُحدث بعد العصر الذي أنكر فيه على معاوية تركها، وإذا اشتهر واستفاض، فالحجّة فيما ينقل عن العلماء دون أفعال الولاة.

فإن قلت: لو لم يكن حقّاً لأنكره العلماء.

قلت: قد أنكروه على معاوية فرجع، فلمّا أفضى الأمر إلى غيره من الولاة الجبابرة من المدينة: كالأشدق والحجّاج وحُبيش بن دلجة ونظائرهم، ربّما تركوه خوفاً من سطوتهم، أو أنكر بعضهم فلم يقبل منهم، فتركه الباقون ورأوا الأمر واسعاً. والكلّ جائز وإن كان فيه ترك للسنّة، فاغتفروا أمره خوفاً من الفتنة!(٢) .

ثمّ نقل كلام ابن الزبير: ما يمنع أُمراؤكم أن يجهروا بها إلاّ الكبر، ولعلّ عمرو بن سعيد الأشدق - وهو أوّل مَن أسرّ بها بالمدينة - إنَّما فعل ذلك مخالفة لابن الزبير؛ لأنّها مذهب ابن الزبير، حتّى في الجهر بالبسملة في الصلاة، واقتدى به من وليها من بعده لبني مروان، وغير بعيد أن يقصد الأشدق ذلك فهو الذي بعث إليه البعوث وحاصره بمكّة وهو الحصار الأوّل، وبه اقتدى الحجّاج وحاصره الحصار الثاني، وقبله أخرب الكعبة، وأخرج منها الحجر وغيَّر ما كان فعله ابن الزبير فيها، فهم كانوا حريصين على مخالفته ما وجدوا لذلك سبيلاً، فأمر المداومة على إخفاء البسملة لا يبعد أن يكون من ذلك، بل هو أقرب، فإنّها مسألة مختلف فيها، قال بكر بن عبد الله المزنيّ: صليّت

____________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٢: ٥٠، ح ٢٢٤٠، سير أعلام النبلاء ٥: ٤٣٤.

(٢) أحكام البسملة: ٧٦.

٣١٢

خلف عبد الله بن الزبير وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي رواية أُخرى: كان يستفتح القراءة في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ويقول: ما يمنعكم منها إلاّ الكبر(١) .

وقد أتى الفخر الرازيّ قبل ذلك بحديث عن محمّد بن إسحاق المسيبيّ قال: حدّثني أبي أنّه لمّا صلّى بالناس بالمدينة، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: فأتاني الأعشى - أبو بكر بن أُخت مالك بن أنس - أنّ أبا عبد الله (يعني مالك بن أنس) يقرأ عليك السلام ورحمة الله، ويقول لك: مَن خفْتُه على خلاف أهل المدينة فإنّك ممّن لم أخَف، وقد كان منك شيء!

قلت: وما هو؟

قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

قلت: فأبلغه عنّي السلام كما أبلغني، وقل له: إنّ كثيراً ما سمعتك تقول: لا تأخذوا عن أهل العراق، فإنّي لم أدرك أحداً من أصحابنا يأخذ عنهم، وإنّما جئت في تركها عن حميد الطويل، فإن أحببت أخْذَنا عن أهل العراق أخذنا هذا وغيره من قولهم، وإلاّ تركنا حميداً مع غيره، فلم يكن لك عَلَيّ به حجّة، وقد سمعتك كثيراً ما تقول: خذوا كلّ علم من أهله. وعلم القرآن بالمدينة عن ابن أبي نعيم، فسألته عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فأمرني بها وقال: أشهد أنّها من السبع المثاني، وأنّ الله أنزلها.

وحدّثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه كان يبتدئ بها ويفتتح كلّ سورة(٢) .

وقد اتّضح تأثير هذين الاتّجاهين على الفقهاء فيما بعد، فمالك فقيه الحكومة لا يفتتح بالبسملة، أمّا أسحاق المسيّبيّ فيرى ثبوت ذلك عن رسول الله وعن بعض الصحابة.

والجدير ذكره هنا، هو أنّ غالب فقه أهل المدينة كان يخالف أهل البيت، أمّا فقه أهل العراق فغالبه - وأعني به الكوفة - كان يوافق أهل البيت. والمعروف عن مالك

____________________

(١) أحكام البسملة، للرازيّ: ٧٦، مصنف ابن أبي شيبة ١: ٣٦٢، ح ١٤٥٦، والسنن الكبرى للبيهقيّ ٢: ٤٩، ح ٢٢٣٥.

(٢) أحكام البسملة للفخر الرازيّ: ٧٤ - ٧٥، السنن الكبرى للبيهقيّ ٢: ٤٨، ح ٢٢٣٣.

٣١٣

أنّه كتب موطّأه بطلب من الخليفة المنصور العبّاسيّ، فقال له المنصور: يا أبا عبد الله! - يعني مالك - ضع هذا العلم ودوّنه ودوّن منه كتباً، وتجنّبْ فيه شواذّ عبد الله بن مسعود ورُخَص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر، واقصد إلى أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة (رضي الله عنهم)، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم ألاّ يخالفوها، ولا يقضوا بسواها.

فقال: مالك: أصلح الله الأمير، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يَرَون في علمهم رأينا.

وفي آخر: قال المنصور لمالك: اجعل العلم يا أبا عبد الله علماً واحداً. فقال مالك: إنّ أصحاب رسول الله تفرّقوا في البلاد، فأفتى كلّ في مصره بما رأى، وإنّ لأهل البلد - يعني مكّة - قولاً، ولأهل المدينة قولاً، ولأهل العراق قولاً تعدّوا فيه طورهم. فقال المنصور: أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرْفاً ولا عدلاً، وأمّا العلم فعند أهل المدينة، فضع للناس العلم(١) .

إنّ فقه أهل المدينة - كما قلنا - يخالف في الغالب فقه أهل البيت، وفي كلمات الأئمّة من آل الرسول ما يوضّح ذلك.

أمّا فقه أهل العراق فإنّهم وإن قالوا بالرأي وتأثّروا بالأحاديث المطروحة من قبل السلطة، لكنّ أقوالهم في الأعمّ الأغلب تتّفق مع مدرسة أهل البيت، وما في كلام المنصور: (أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً) وقوله: (لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها) ما يوضِّح هذه الحقيقة بلا ارتياب.

وجاء في كتاب مالك إلى ليث بن سعد، فقيه أهل مصر: واعلم رحمك الله أنّه

____________________

(١) انظر وضوء النبيّ (المدخل): ٣٥٤ عن الإمام مالك ص١٣٣، وترتيب المدارك: ٣٠ - ٣٣، وانظر الإمامة والسياسة ٢: ١٤٢، وفيه رواية عن مالك قال: فقلت له (يعني المنصور) إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا، فقال أبو جعفر المنصور: نضرب عليهم عامتهم بالسيف ونقطع عليه ظهورهم بالسياط! الديباج المذهب لابن فرحون المالكي: ٢٥.

٣١٤

بلغني أنّك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه وأنت في أمانتك وفضلك...(١) .

فالسياسة الحكوميّة سواء كانت أمويّة أو عبّاسيّة تسعى لمخالفة فقه أهل البيت، وهذه حقيقة لا يسع مَن له صدق وإنصاف أن يشكّ فيها، أو أن ينكرها.

إنّ هذه النصوص التي أوردناها هي التي تدلّ بنفسها على هذه المعاني.

بيد أنّنا لا نريد الجزم بأنّ موقف الأمويّين أو العبّاسيّين في البسملة قد أُخذ من سيرة الشيخين؛ فبعضها جاء لتأييدهما، وبعضها جاء لتأييد معاوية، أو عبد الملك بن مروان، أو المنصور، أو سواهم. وهذه الأمور ممّا ينبغي أن يتعرّف عليها الباحث ويقف عندها.

جاء في (أحكام البسملة) للرازيّ، عن (الخلافيّات) للبيهقيّ، عن جعفر بن محمّد أنّه قال: اجتمع آل محمّد على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال أبو جعفر محمّد بن عليّ:لا ينبغي الصلاة خلف مَن لا يجهر (٢) .

وعن الرضا:اجتمع آل محمّد على الجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) (٣) .

وفي الدعائم عن السجّاد قوله:اجتمعنا ولد فاطمة على ذلك (٤) .

وفي آخر: روينا عن رسول الله، وعن عليّ، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، أنّهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر بالقراءة من الصلوات في أوّل فاتحة الكتاب، وأوّل السورة من كلّ ركعة(٥) .

وعن الصادق أنّه قال:التقيّة ديني ودين آبائي ولا أتّقي في ثلاث، وعدّ منها ترك

____________________

(١) تاريخ ابن معين للدوري ٤: ٤٩٩، باب رسالة مالك الى الليث بن سعد.

(٢) أحكام البسملة للفخر الرازيّ: ٤٠.

(٣) تفسير أبي الفتوح الرازيّ ١: ٢٠ وفي المجموع للنووي ٣: ٢٨٩ عن كتاب الخلافيات للبيهقي، كما في مستدرك وسائل الشيعة ٤: ١٨٩، ح ٤٤٥٦.

(٤) دعائم الإسلام ١: ١٦٠، وعنه في مستدرك وسائل الشيعة ٤: ١٨٩، ح ٤٤٥٥.

(٥) دعائم الإسلام ١: ١٦٠.

٣١٥

الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(١) .

وعن أبي هريرة: كان رسول الله يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثمّ تركه الناس(٢) .

بهذا عرفنا أنّ معاوية لم يقتصر في تحريفه على المتعة، وترك البسملة والتكبير لكلِّ رفعٍ وخفض، بل أخذ يعمل في أكثر من حقل لمحو سنّة رسول الله. ومن أجل ذلك نرى عليّ بن أبي طالب وأولاده يؤكّدون على هذه الحقائق المرّة، وإليك نصّاً آخر فيما كان يصنعه معاوية في هذا السياق:

أخرج أحمد بسنده إلى عبّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: لمّا قِدم علينا معاوية حاجّاً، قدِمنا معه مكّة، قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين، ثمّ انصرف إلى دار الندوة.

قال: وكان عثمان حين أتمّ الصلاة، فإذا قدِم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفات قَصَر الصلاة، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمّ الصلاة حتّى يخرج من مكّة.

فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عابَ أحد ابنَ عمّك بأقبح ما عِبْتَه به.

فقال لهما: وما ذاك؟

قال، فقالا له: ألم تعلم أنّه (أي عثمان) أتمّ الصلاة بمكّة؟!

قال، فقال لهما: ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ومع أبي بكر وعمر (رض). قالا: فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّها وإنّ خلافك إيّاه عيب.

قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً(٣) .

____________________

(١) دعائم الإسلام ٢: ١٣٢، ١: ١١٠، وانظر أصول الأحكام في الحلال والحرام ٢: ٤١٠ للإمام يحيى بن الحسين الزيدي.

(٢) أحكام البسملة للفخر الرازيّ: ٤٥ عن الدارقطنيّ ١: ٣٠٧، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ح ٢٠، والحاكم ١: ٣٥٧، ح ٨٥٠، والمصدرين ليس فيهما قول: ثم تركه الناس، وإنّما ذكره البيهقي في روايته عنه في السنن الكبرى ٢: ٤٧، ح ٢٢٢٦.

(٣) مسند أحمد ٤: ٩٤، مجمع الزوائد ٢: ١٥٦، باب فيما تقصر فيه الصلاة ومدة القصر، وانظر فتح الباري

=

٣١٦

كانت هذه هي سياسة الحكّام دوماً، إذ تراهم يتراجعون عمّا عرفوه من أحكام عن رسول الله لقوله: (وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر) ويتّبعون الهوى لعرقٍ يمسُّ من العصبيّة والقبليّة (فإنّ ابن عمّك قد أتمّها، وإنّ خلافك إيّاه عيب)!

وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق الحسن البصري قال: كان عبادة بن الصامت بالشام فرأى آنية من فضّة، تباع الإناء بمثلي ما فيه، أو نحو ذلك، فمشى إليهم عبادة فقال: أيّها الناس! مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا عبادة بن الصامت، ألا وإنّي سمعت رسول الله في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس في رمضان ولم يَصُم رمضانَ بعده، يقول: الذهب بالذهب مِثلاً بمثل، سواء بسواء وزناً بوزن، يداً بيد، فما زاد فهو ربا.

قال: فتفرّق الناس عنه، فأُتي معاوية فأُخبر بذلك، فأرسل إلى عبادة فأتاه، فقال له معاوية: لئن كنت صحبت النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله وسمعت منه لقد صحبناه وسمعنا منه.

فقال له عبادة: لقد صحبته وسمعت منه؟!!!.

فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره.

فقال له: بلى، وإن رغم أنف معاوية، ثمّ قام.

فقال له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمّد من الصفح عنهم(١) .

وإذا تأمّلت الحديث اطّلعت على بعد النظر الذي كان يمتلكه عبادة بن الصامت، حيث إنّه عاصر وعرف تعليلات نهج الاجتهاد، وادّعاءاتهم النسخ في كلّ حكم يريدون الإفتاء به بخلاف الكتاب والسنّة؛ فلذلك أكّد على أنّه سمع النبيّ، وهو يؤكّد أنّ هذه المعاملة ربويّة في آخر رمضان من حياته المباركة، ليتضاءل - بل يمتنع عادة

____________________

=

٢: ٤٥٧، نيل الأوطار ٣: ٢٥٩، باب مَن اجتاز في بلد فتزوّج فيه أو له فيه زوجة.

(١) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر ٢٦: ١٩٩.

٣١٧

- ادّعاؤهم نسخ هذا الحكم بعد استقرار الأحكام على ما هي عليه في آخر حياته المباركة، فلم يكن مجال لادّعاء النسخ، وكذلك نراه يذكر اليوم بالتحديد؛ لكي لا يكذّبوه فيما يرويه عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله.

وفي رواية مسلم والبيهقيّ: فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً، فقال: ألا ما بالُ رجال يتحدّثون عن رسول الله أحاديث كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه؟!

فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصّة، ثمّ قال: لنحدثنّ بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء(١) .

فمعاوية لم يستطع تكذيبه مباشرة؛ لأنّه حدّد تاريخ ومكان السماع (في مجلس من مجالس الأنصار ليلة الخميس من رمضان)، وإنّما ادّعى عدم سماعه هو لهذا الحديث وأمثاله، فأبدى نوعاً من التجاهل بعد أن عجز عن ادّعاء النسخ، ولم يجرؤ على تكذيبه في روايته.

ومن ذلك ما قاله الوافي المهدي في مروان من أنّه كان يقضي في الذي يطلق امرأته (البتّة) أنّها ثلاث تطليقات، كما في (الموطّأ)، ونقل الزرقانيّ عن الموازية: (أنّ النبيّ ألزم البتّة مَن طلّق بها وألزم الثلاث مَن طلق بها، وقضى عمر فيها بالثلاث)(٢) .

وجاء عن مروان أنّه أرسل إلى ابن عبّاس، فقال: أتفتي في الأصابع عشر عشر، وقد بلغك عن عمر أنّه يفتي في الإبهام بخمسة عشر أو ثلاثة عشر، وفي التي تليها اثنتي عشر - وفي آخر عشر - وفي الوسطى بعشرة، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بستّ.

قال ابن عبّاس: رحم الله عمر، قول رسول الله أحقّ من أن يتّبع من قول عمر(٣) .

وترى مروان قد اتّبع الخليفة عمر بن الخطّاب في الطلاق ثلاثاً ودية الأصابع،

____________________

(١) صحيح مسلم ٣: ١٢١٠، باب حظر بيع البر بالبر والشعير بالشعير و... إلاّ سواء بسواء عيناً بعين، ح ١٥٨٧، واللفظ له، السنن الكبرى للبيهقي ٥: ٢٧٧، ح ١٠٢٦٠.

(٢) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة للوافي المهدي المغربيّ: ١٩١، الموطأ ٢: ٥٥١، باب ما جاء في البتة، ح ١١٤٩، شرح الزرقاني ٣: ٢١٨، الفواكة الدواني ٢: ٣٤.

(٣) السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٩٣، الأم ٦: ٧٥ - ٧٦، ومسند احمد ٢: ١٨٩، ح ٦٧٧٢، وسنن الدرامي ٢: ٢٥٤، باب دية الأصابع، ح ٢٣٦٩، وسنن أبي داود ٤: ١٨٧، باب الديات، ح ٤٥٥٦.

٣١٨

ومثله المرويّ عن معاوية في الصلاة بعد العصر.

جاء في (مسند أحمد) عن أبي التياح، قال: سمعت حمران بن أبان يحدّث عن معاوية أنّه رأى أُناساً يصلّون بعد العصر، فقال: ثمّ إنّكم لتصلّون صلاة قد صحبنا النبيّ فما رأيناه يصلّيها ولقد نهى عنها، يعني الركعتين بعد العصر(١) . وقد وقفت على نهي عمر من الصلاة بعد العصر سابقاً.

نعم، إنّه فقه النهج الحاكم، وغالب مرويّاتهم عن رسول الله جاءت لتصحّح ما ذهب إليه الخلفاء - وخصوصاً ما كان يذهب إليه الثلاثة، وعلى الأخص ما يذهب إليه أبو بكر وعمر - ولم تقتصر على الطلاق ثلاثاً والصلاة بعد العصر و...!

فهي سياسة عامّة في الحياة الاجتماعيّة وفي النظام الإداريّ للخلافة الإسلاميّة، وسائل الشريعة بدءاً من صلاة التراويح إلى غيرها من الاجتهادات.

قالت الدكتورة نادية شريف العمريّ - في (اجتهاد الرسول) في معرض حديثها عن صلاة التراويح -: (وتذكر الروايات أنّ ذلك كان في سنة ١٤ هـ، وأنّه - أي عمر - كتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك، وجعل للناس إمامين: أحدهما يصلّي بالرجال والآخر يصلّي بالنساء)(٢) .

وقد نقل الدكتور الأعظميّ كلام بعض منكري السنّة في الباكستان، جاء فيه: (وقالوا: والخطأ الأساسيّ الذي وقع فيه المسلمون من بعد الخلافة الراشدة حتّى الآن أنّهم لم يفهموا الإسلام وروحه، إذ الإسلام نظام اجتماعيّ مبنيّ على الشورى، فالقرآن يأمرنا بالأمور الكلّيّة ويترك تفصيلها لمجلس الشورى للمسلمين الذي يقرّر طريقة الصلاة ونسبة الزكاة حسب الزمان والمكان. وهذا ما فهمه أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، فكانوا يستشيرون الصحابة، وحيث شعروا بالحاجة إلى الإضافة

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٩٩، وهو في مصنف ابن أبي شيبة أيضاً ٢: ١١٣، باب مَن قال لا صلاة بعد الفجر، ح ٧٣٢٦.

(٢) اجتهاد الرسول: ٢٨٥، وانظر مصنف ابن أبي شيبة ٢: ٣٤، باب في الرجل يؤم النساء، ح ٦١٤٩، الطبقات الكبرى ٣: ٢٨١، تاريخ الطبري ٢: ٥٧٠، فتح الباري ٤: ٢٥٣، تنوير الحوالك ١: ١٠٥.

٣١٩

أضافوها، وإن لم يجدوا ضرورة للتغيير أبقوها. ولو كانت سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله شيئاً دائماً لأعطانا الرسول شيئاً مكتوباً جاهزاً.

وليس معنى( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) : أطيعوا سنّة الرسول بعد وفاته؛ لأنّ سنّته لا تحمل في طياتها عنصر الديمومة والبقاء. بل معنى أطيعوا الرسول: أطيعوا النظام الذي أرشد إليه القرآن والذي كان يمثّله الرسول في حياته، والذي يعني إقامة الخلافة على منهاج النبوّة.

وبما أنّ هذا النظام قد استمرّ إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثمّ بعد مجي الأمويّين على مسرح السياسة اختلف الوضع، وأصبح هناك حدّ فاصل بين الدين والسياسة، ولم يفهم الناس معنى طاعة الرسول، فاتّجهوا إلى الأحاديث؛ لأنّ الأحكام في القرآن قليلة وضرورات الحياة أكثر فأكثر. وكان من واجبات الخلافة على منهاج النبوّة أن تسدّ ضرورات المجتمع في القضايا المتجدّدة، لكنّ عدم وجود الدولة بهذا المفهوم دفع الناس إلى الأخذ بالحديث، وعند عدم كفاية المجموعة الحديثيّة ازداد الوضع أكثر فأكثر)(١) .

ومن المؤكّد أنّ صدور هذا الكلام من أمثال هؤلاء قد جاء على أثر منع التدوين من قبل الشيخين، ثمّ دعوتهم إلى الاجتهاد والاكتفاء بالقرآن (حسبنا كتاب الله). ولا أريد الإطالة في أمثال ذلك؛ لأنّه يخرجنا عن أصل البحث، فالخلفاء الحكّام لو كانوا رضخوا للحقّ، وتركوا أمر التشريع لأغناهم ذلك عمّا وقع فيه المسلمون من الاختلاف في الحديث والأحكام، ولما احتاجوا إلى تشريع الرأي والقياس وما يماثلهما ممّا يؤدّي أحياناً إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، ولاستقرّ الدين، ولما تعدّدت الآراء فيه.

نعم، إنّهم كانوا لا يريدون أن يتصدّر أهل البيت أمر التشريع وتبيين أحكام الله؛ لأنّ ذلك سيمهّد لإبعادهم عمّا هم فيه. وإذا تجاهل بعض المسلمين أحاديث الخلافة والوصيّة لمصالح سياسيّة، فليس بوسعهم أن يتجاهلوا قول الرسول في عليّ:(أنا مدينة

____________________

(١) دراسات في الحديث النبويّ ١: ٣٣ - ٣٤.

٣٢٠