منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93240
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93240 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

وهو يومئذٍ الخليفة الشرعيّ، والكلّ من أهل الجنّة؟! في حين نعلم أنّ الحقّ واحدٌ، فإن كان عليّ مع الحقّ فطلحة والزبير على الباطل، وإن كانا على الحقّ، فعليّ على الباطل!

ولو قبلنا خبر (العشرة المبشّرة)، فكيف نفعل بما رواه البخاريّ عن رسول الله من قوله: إذا التقى المسلِمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.

فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل... فما بال المقتول؟!

قال: إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه(١) .

إنّ هذا ليجعل الباحث في حيرة، لا يدري أيصدّق كونهما من أهل الجنّة، أم كونهما من أهل النار؟

وما هي وظيفة الصحابيّ؟ هل يقاتل الفئة التي تبغي حتّى تفي إلى أمر الله، أم ينبغي له اتّباع من غلب، كما في قول ابن عمر؟!

وإذا كان كلّ واحد من العشرة له أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء، باعتباره من أصحاب الجنّة، فلماذا لم يدركوا هم هذه الحقيقة ويترك بعضهم البعض الآخر، وإذا كان هذا المنطق هو الصحيح، فلماذا نرفض الفوضويّة في التفكير؟ وهل هذا الكلام إلاّ عين الاستهانة بدماء وأموال وأعراض المسلمين؟!

ولماذا نرى عمر بن عبد العزيز يؤكّد على أبي بكر عمرو بن حزم أن يكتب ما كان من حديث رسول الله وسنّة صاحبيه، أو في حديث آخر: عمرة، وفي ثالث: عمر؟!

وما هو المستبطن في خطبته: (إلاّ ما سَنّ رسول الله وصاحباه، فهو ديِن نأخذ به وننتهي إليه، أمّا ما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه...)؟!

ولماذا أرجأ عمر بن عبد العزيز سنّة عثمان وعليّ؟ ألم يكونا من الخلفاء الراشدين الذين زُعِمَ أنّ رسول الله أكّد على الأخذ بقولهم: (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي)؟! وهل السنّة المتداولة اليوم هي سنّة الرسول، أم سنّة

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ٢٠، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، ح ٣١ و ٦: ٢٥٢٠، ح ٦٤٨١ و ٦: ٢٥٩٤، ح ٦٦٧٢، وهو أيضاً عند مسلم ٤: ٢٢١٣، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، ح ٢٨٨٨.

٣٤١

الصحابة؟ هذه تساؤلات بل تناقضات، يلزم البحث عنها في الفقه والتاريخ، وينبغي ألاّ تؤخذ النصوص على علاّتها.

أمّا أُصول الجرح والتعديل، فقد رُسمت بعد رسول الله ومن قبل الحكّام وتحت رعايتهم وإشرافهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار غلبة روح العصبيّة على تلك الأصول، فنسبة الضلال وفساد العقيدة والكذب وما شابهه إلى شيعة عليّ جاءت لتخالف مرويّات هؤلاء مع أُولئك فكريّاً، وقد تركت تلك الأصول آثارها في سيرتنا وسلوكنا بحيث لا يمكن التحرّر منها والابتعاد عنها من دون بحث وتحقيق، فلا محيص من المكوث عندها ودراسة جذورها تاريخيّاً وفقهيّا، مع إيماننا بأنّ دراسة مثل هذه القضايا تفتح للباحث آفاقاً جديدة للمعرفة لم يكن قد تذوّق صدقها ودقّتها من قبل، وهو ما ندعو إليه الباحثين ونؤكّد عليه في بحوثنا ودراساتنا، وستقف في ثنايا هذا البحث وكذا في بحثنا عن (تاريخ الحديث النبوي)، وما كتبناه عن السنة بعد الرسول على أنّ السنّة المتداولة اليوم لم تكن سنّة رسول الله، بل هي سنّة الرجال في كمّ ضخم من أبوابها ومفرداتها.

نظريّة أهل البيت في الموضوع

إنّ الأئمّة من أهل البيت كانوا يشيرون إلى هذه الحقيقة تصريحاً وتلويحاً، في نصوص كثيرة، إليك بعضها لتقف على رؤيتهم المميّزة لها عن مدرسة أهل الرأي.

عن الباقر أنّه قال لجابر:يا جابر! لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وأُصول عنهم، نتوارثها كابر عن كابر، نَكْنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم (١) .

وسأل رجلٌ الصادقَ عن مسألةٍ فأجابه فيها، فقال الرجل: أرايت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟

____________________

(١) بصائر الدرجات: ٣٢٠.

٣٤٢

فقال له:مَه! ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله، لسنا من (أرأيت) في شيء (١) .

عن سعيد الأعرج قال، قلت لأبي عبد الله (الصادق) إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون يَرِدُ علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة، نقول فيه برأينا؟

فقال أبو عبد الله:كذبوا ليس شيء إلاّ قد جاء في الكتاب وجاءت به السنّة (٢) .

وعن أبي جعفر (الباقر) أنّه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: إنّ الفقهاء لا يقولون هذا، فقال:ويحك! وهل رأيت فقيهاً قطّ، إنّ الفقيه حقّ الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة المتمسّك بسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله (٣) .

وفي رواية أُخرى عنه عليه السلام:ما أحد أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهل البيت أو كذب علينا؛ لأنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وعن الله، فإذا كُذِّبنا فقد كُذِّب الله ورسوله (٤) .

وعن الباقر أنّه قال:لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ مَن كان قبلنا (٥) (وفي آخر:فلولا ذلك كنّا كهؤلاء الناس )(٦) ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا (٧) .

وفي خبر آخر عنه عليه السلام:أنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله عليّاً وعلّمنا والله الحديث (٨) .

روى ابن حزم بسنده عن ابن شبرمة أنّ جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الصادق عليه السلام قال لأبي حنيفة:(اتقِ الله ولا تقس؛ فإنّا نقف غداً نحن ومَن خالفنا بين

____________________

(١) الكافي ١: ٥٨، باب البدع والرأي والمقاييس، ح ٢١.

(٢) بصائر الدرجات: ٣٢١ - ٣٢٢، الباب ١٥: ح ٢، اختصاص المفيد: ٢٨١، أوائل المقالات للمفيد: ٢٣٠، مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٥٨، ح ٢١٢٧٩.

(٣) الكافي ١: ٧٠، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح ٨.

(٤) انظر قرب الإسناد: ٣٥٠، مستدرك الوسائل ٢: ٩١ - ٩٢، ح ١٠٣٠٩ واللفظ له، جامع أحاديث الشيعة ١: ١٨١.

(٥) بصائر الدرجات: ٣١٩، الباب ١٤، ح ٢.

(٦) بصائر الدرجات: ٣٢١، الباب ١٤، ح ٩.

(٧) بصائر الدرجات: ٣١٩، الباب ١٤، ح ٢.

(٨) الكافي ٧: ٤٤٢، باب ما لا يلزم من الإيمان والنذور، ح ١٥، وسائل الشيعة ٢٣: ٢٢٤، ح ٢٩٤٢٦.

٣٤٣

يدي الله، فنقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال الله تبارك وتعالى...، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء) (١) .

وقد أخرج أبو نعيم في حليته بسنده عن ابن شبرمة، قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد، فقال لابن أبي ليلى:مَن هذا معك ؟ قال: هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين، قال الصادق:لعلّه يقيس أمر الدين برأيه!

قال نعم.

فقال الصادق:يا نعمان هل قست رأسك بعد؟

قال: كيف أقيس رأسي؟

فقال الصادق:ما أراك تحسن شيئاً، فهل علمت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان؟

فقال أبو حنيفة: فأخبرني عن الكلمة التي أولها كفر وآخرها إيمان؟

فقال الصادق:إذا قال العبد: لا إله فقد كفر؛ فإذا قال إلاّ الله فهو إيمان.

ثم أقبل عليه السلام على أبي حنيفة فقال:يا نعمان، حدثني أبي عن جدّي أن رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله قال:... أوّل مَن قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له اسجد لآدم فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) فمَن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس؛ لأنّه أبصر بالقياس) .

ثم قال الصادق لأبي حنيفة:أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟

قال أبو حنيفة: قتل النفس.

فقال الصادق:فإنّ الله قبل في قتل النفس بشاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة ، ثم قال عليه السلام:أيهما أعظم الصلاة أو الصوم؟

قال أبو حنيفة: الصلاة، فقال عليه السلام:فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف ويحك يقوم لك قياس! اتق الله ولا تقس الدين برأيك (٢) .

____________________

(١) الإحكام لابن حزم ٨: ٥١٣، الباب ٣٨، فصل في إبطال القياس.

(٢) حلية الأولياء ٣: ١٩٦ - ١٩٧.

٣٤٤

وعن أبي شيبة، قال: سمعت الصادق يقول:ضلّ عِلم ابن شبرمة، عندنا الجامعة إملاء رسول الله وخطّ عليّ بيده، إنّ الجامعة لم تدع لأحد كلاماً، فيها علم الحلال والحرام، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بُعداً، إنّ دين الله لا يصاب بالقياس (١) .

وعن الصادق أنّه قال:إنّ الله بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبيَّ بعده، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده - إلى أن قال -فجعله النبيّ صلّى الله عليه وآله علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس، وهم الشهداء على أهل كلّ زمان حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر، وطلب علومهم، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنّه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السنّة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره؛ إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا (٢) .

وجاء عن النبيّ قوله:مَن أفتى الناس بغير علم، وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه؛ فقد هلك وأهلك (٣) .

وعن محمّد بن حكيم قال قلت للصادق: إنّ قوماً من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علماً ورووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم، فقال:لا، وهل هلك مَن مضى إلاّ بهذا وأشباهه؟! (٤)

وقد ورد كلّ هذا وغيره في كنز العمّال عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال:تعمل هذه الأمّة برهة بكتاب الله، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول الله، ثمّ تعمل برهة بالرأي فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا (٥) .

____________________

(١) بصائر الدرجات: ١٦٦، باب ١١، ح ٢٣، الكافي ١: ٥٧، باب البدع والرأي والمقائيس، ح ١٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧: ٢٠٠ - ٢٠١، ح ٣٣٥٩٣ عن رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى.

(٣) المحاسن ١: ٢٠٥، باب العقل، ح ٦١، الكافي ١: ٤٣، باب النهي عن القول بغير علم، ح ٩.

(٤) المحاسن: ٢١٢، باب العقل، ح ٨٨.

(٥) مسند أبي يعلى ١٠: ٢٤٠، ح ٥٨٥٦، الفردوس بمأثور الخطاب ٢: ٦٣، ح ٢٣٥٥، الإحكام لابن حزم ٦: ٢٢٠.

٣٤٥

عن ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد الله (الصادق) قال:لعن الله أصحاب القياس؛ فإنّهم غيّروا كلام الله وسنّة رسوله، واتّهموا الصادقين في دين الله (١) .

وقد جاء هذا الكلام بنحو آخر عن الباقر، وذلك حينما ذكر له عن عبيدة السلمانيّ أنّه روى عن عليّ بيع أُمّهات الأولاد، فقال الباقر:كذبوا على عبيدة أو كذب عبيدة على عليّ، إنّما أراد القوم أن ينسبوا إليه الحكم بالقياس، ولا يثبت لهم هذا أبداً، نحن أفراخ علي فما حدّثناكم به عن عليّ فهو قوله، وما أنكرناه فهو افتراء عليه، ونحن نعلم أنّ القياس ليس من دين عليّ، وإنّما يقيس مَن لا يعلم الكتاب ولا السنّة، فلا تضلّنّكم روايتهم، فإنّهم لا يَدَعُون أن يضلّوا... (٢) .

وعن أبي بصير، قال: قلت للصادق: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة رسول الله فننظر فيها؟ قال:لا، أمّا أنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجلّ (٣) (٤) .

وعن عليّ بن الحسين:إنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب إلاّ بالتسليم، فمَن سلّم لنا سَلِمَ ومَن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً ممّا نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم (٥) .

وجاء عن رسول الله:إيّاكم وأصحاب الرأي، فإنّهم أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا في الحلال والحرام برأيهم، فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلّه الله فضلّوا وأضلّوا (٦) .

وعن عليّ أنّه قال:يا معشر شيعتنا المنتحلين مودّتنا! إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم

____________________

(١) أمالي المفيد: ٥٢، وسائل الشيعة ٢٧: ٥٩، ح ٣٣١٩٤.

(٢) دعائم الإسلام ٢: ٥٣٦، ح ١٩٠٢، مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٥٤، ح ٢١٢٦٧.

(٣) المحاسن ١: ٢١٣، ح ٩٠، الكافي ١: ٥٦، باب البدع والرأي والمقاييس، ح ١١.

(٤) ليس من البعيد أن يكون مقصود الإمام ‏عليه السلام التعريض بخطأ ما التزمته يد الاجتهاد والرأي؛ وهو صحّة إفتاء الأمراء والحكّام، لما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره.

(٥) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٢٤، مستدرك الوسائل ١٧: ٢٦٢، ح ٢١٢٨٩.

(٦) عوالي اللئالي ٤: ٦٥، مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٥٦ - ٢٥٧، ح ٢١٢٧٢.

٣٤٦

أعداء السنن، تفلّتت منهم الأحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنّة أن يعوها - إلى أن يقول -فسئلوا عمّا لا يعلمون فأنفوا أن يعترفوا بأنّهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم فضلّوا وأضلّوا (١) .

وعن حبيب قال: قال لنا أبو عبد الله:ما أحد أحبّ إليّ منكم، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى، منهم مَن أخذ بهواه، ومنهم من أخذ برأيه، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل (٢) .

وقد يكون هذا هو معنى آخر لما قاله أمير المؤمنين عليّ عن الناس، بعد رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله، فعن أبي إسحاق السبيعيّ أنّه قال: سمعت أمير المؤمنين يقول:إنّ الناس آلُوا بعد رسول الله إلى ثلاثة: آلُوا إلى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم من علم عن علم غيره، وجاهل مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلِّم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة، ثمّ هلك مَن ادّعى وخاب من افترى (٣) .

وعن الصادق:إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وإنّ الناس لَيحتاجون إلينا، وإنّ عندنا كتباً إملاء رسول الله وخطّ عليّ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام، وإنّكم لتأتونا بالأمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه (٤) .

هذا وقد كان الإمام عليّ قد صنّف الأحاديث الموجودة بيد الناس، وبيّن سبب الاختلاف فيها بقوله:

إن في أيدي الناس حقّاً وباطلاً، وصِدقاً وكَذِباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّاً، ومُحكماً ومُتشابهاً، وحِفْظاً ووَهَماً. ولقد كُذِب على رسول الله صلّى الله عليه وآله على عَهْدِه، حتّى قامَ خطيباً فقال: أيّها الناس! قد كثرت عَلَيّ الكذّابة، فمن كذب عَلَيّ مُتَعمِّداً

____________________

(١) مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٣٠٩، ح ٢١٤٢٩.

(٢) المحاسن: ١٥٦، باب ما خلق الله المؤمن من نوره، ح ٨٧، الكافي ٨: ١٤٦، ح ١٢٦.

(٣) الكافي ١: ٣٣، باب أصناف الناس، ح ١، وسائل الشيعة ٢٧: ١٨، ح ٣٣٠٩٣.

(٤) الكافي ١: ٢٤٢ - ٢٤٣، باب فيه ذكر الصحيفة، ح ٦، وانظر بصائر الدرجات: ١٧٤، باب في الأئمةعليهم السلام، ح ٧.

٣٤٧

فَليَتَبَوّأ مقعده من النار. ثُمّ كُذِب عليه من بعدِه. وإنّما أتاكُم الحَديثُ من أربعة ليس لهم خامس:

رجل منافِق يُظهر الإيمان، مُتَصنّع بالإسلام لا يَتَأثّم ولا يَتَحَرّج أن يكذب على رَسول الله مُتَعَمِّدا، فلو عَلِمَ الناسُ أنّه مُنافِق كَذّاب لَمْ يَقْبَلوا منه ولَم يُصدّقوه، ولكنّهُم قالوا: هذا قَدْ صَحِبَ رسول الله ورآه وسَمِعَ مَنْهُ وأخَذَ عَنْه، وَهُمْ لا يَعْرِفونَ حالَهُ! وَقَدْ أخبَره الله عَن المُنافِقين بِما أخْبَرَه ووصَفَهُمْ بِما وصَفَهُمْ فَقال عزّ وجلّ: ( وإذا رأيْتَهُمْ تُعْجِبْكَ أجْسَامُهُمْ وإن يقُولوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهمْ ) (١) ثمَّ بَقوا، بَعْدَهُ فتقرَّبوا إلى أئمّة الضَلالَةِ والدُّعاة إلى النار بالزور والكَذِبِ والبُهْتان، فولّوهُم الأعمال وحَملوهُم على رِقابِ الناس وأكَلوا بِهِمُ الدنيا، وإنّما الناس مع المُلوكِ والدنيا، إلاّ مَن عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

ورَجُلٌ سَمِعَ من رسول الله شيئاً فَلَمْ يَحْمِلْهُ على وجْهِهِ ووَهَمَ فيه ولَمْ يَتَعَمّدْ كذبا، فَهُو في يَدِهِ يَقولُ به ويَعْمَل بِهِ ويَرويهِ فَيَقُولُ: أنا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسول الله، فَلَو عَلِم المُسْلِمون أنّهُ وَهَمَ لَمْ يَقْبَلوه، وَلَو عَلِمَ هو أنّه وَهَمَ لَرَفَضَهُ.

ورَجُلٌ ثالِث سَمِعَ من رسول الله شَيْئاً أمَرَ بِهِ ثُمَّ نَهى عَنْه وهو لا يَعْلَمْ، أو سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شيء ثُمَّ أمَرَ بِهِ وهو لا يَعْلَم فَحَفِظَ مَنْسوخَهُ ولَمْ يَحْفَظْ الناسِخ، ولَو عَلِمَ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضَهُ، ولَوْ عَلِمَ المُسْلِمونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضُوهُ.

وآخر رابِع لَمْ يكذِبْ على رسول الله، مُبْغِضٌ للكَذِبِ، خوفاً مِنَ الله وتَعْظيماً لرسول الله، لَمْ ينسه بَلْ حَفِظَ ما سَمِعَ على وجْهِهِ. فَجاءَ بِهِ كما سَمِعَ لَمْ يَزِدْ فيه ولَمْ يَنْقُص منه، وعَلِمَ الناسِخَ مِنَ المَنْسوخ، فَعَمِل بالناسِخِ وَرَفَضَ المَنْسوخَ، فإنَّ أمْرَ النّبيّ‏ صلّى الله عليه وآله مِثْلَ القُرآنِ ناسِخٌ ومَنْسوخ، وخاصٌّ وعامٌّ، ومُحْكَمٌ ومُتَشابِهِ، قَد كانَ يَكون من رسول الله الكَلام لَهُ وَجْهان: كلامٌ عامٌّ، وكَلامٌ خاصٌّ مِثْلُ القُرآن، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه: ( ما

____________________

(١) المنافقون: ٤.

٣٤٨

آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا ) (١) فَيَشْتَبِه على مَنْ لَمْ يَعْرِف وَلَمْ يَدْر ما عَنى الله بِهِ ورَسُوله، وَلَيْسَ كُل أصْحاب رسول الله كان يَسْأله عَنْ الشي فَيَفْهَم، ومنهم مَنْ يَسْأله ولا يَسْتَفْهِمْهُ حتّى إنْ كانوا لَيُحِبّون أنْ يجيء الأعرابيّ والطارئ فَيَسأل رسول الله حتّى يَسْمَعوا.

وقَدْ كُنْتُ أدْخُلُ على رسول الله كُلّ يَومٍ دَخْلَةً وكُلّ لَيْلَةٍ دَخْلةً، فَيخليني فيها أدورُ مَعَهُ حَيثُ دَارَ، وَقَدْ عَلِمَ أصْحابَ رسول الله أنّه لَمْ يصنع ذلِكَ بأحد من الناس غيري، فربّما كانَ في بَيْتي يأتيني رسول الله، وكنت إذا دَخَلْتُ عَليهِ بَعْضَ منازله أخلاني وأقام عنّي نِساءه فلا يبقى عنده غَيْري.

وإذا أتاني للخَلوَةِ مَعي في مَنْزلي، لَمْ تَقُم عَنّي فاطمة، ولا أحدٌ مِنْ بَنيَّ، وَكُنْتُ إذا سألته أجابَني، وإذا سَكَتُّ عَنْه وفُنِيَتْ مَسائِلي ابْتدأني، فما نَزَلتْ على رسول الله آية من القرآن إلاّ أقْرأنيها وأملاها عَلَيَّ فَكَتَبْتُها بِخَطّي، وعَلّمْني تأويلها وتَفْسيرها، وناسخها ومَنْسوخِها، ومُحْكَمها ومُتَشابهها، وخاصّها وعامّها - إلى أن يقول - ولا علماً أملاه عَلَيَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنس حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً (٢) .

بهذا التقسيم المنهجيّ الموضوعيّ يوقفنا الإمام عليّ على رأي مدرسة أهل البيت في تلقّي الصحابة، وواقع روايتهم عن النبيّ، ومكانته من رسول الله، ودور قريش في الشريعة. وإليك نصّاً آخر في هذا السياق عن نهج البلاغة - والحديث طويل منه:

(... فَانظُروا إلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهم، حِينَ بَعَثَ إليهم رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلّتهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهم جنَاحَ كَرَامَتها، وَأسَالت لَهُمْ

____________________

(١) الحشر: ٧.

(٢) نهج البلاغة ٢: ١٨٩ ولم يذكره كله، الخطبة رقم ٢١٠، الكافي ١: ٦٢، باب اختلاف الحديث، ح ١، عن كتاب سليم بن قيس: ١٨٢، باب علّة الفرق بين أحاديث الشيعة وأحاديث مخالفيهم. والمتن عنه.

٣٤٩

جَدَاولَ نَعِيمهَا، وَالْتَفَّتِ المْلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائد بَرَكَتها، فَأصْبحُوا في نِعمتها غَرِقِينَ، وفِي خُضْرَة عَيْشهَا فَكهينَ؟! قَدْ تَرَبَّعَتِ الأمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِرٍ، وآوَتْهُمُ الحَالُ إلَى كَنفِ عِزٍّ غَالبٍ، وَتَعطَّفَتِ الأمُورُ عَلَيْهِم فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ على العَالَمينَ، وَمُلُوكٌ فِي أطْرافِ الأرَضينَ: يَمْلكُونَ الأمُورَ علَى مَنْ كَانَ يَمْلكُهَا عَلَيهمْ، وَيُمْضُونَ الأحْكَامَ فِيَمْن كَانَ يُمضيها فيهمْ، لا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلا تُقْرَعُ لَهمْ صَفَاةٌ!

ألا وَإنَّكمْ قَدْ نَفَضتمْ أيْديَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللهِ المَضْرُوبَ عَلَيْكُم بِأحْكَامِ الجاهليَّةِ، وإن اللهَ سُبْحَانُه قَدِ امْتنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هِذِه الأمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الألْفَةِ الَّتي يَنْتَقلُونَ في ظلِّهَا، وَيَأْوونَ إلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَةٍ لا يَعْرفُ أحَدٌ مِنَ المخلُوقين لَهَا قِيمةً؛ لأنّهَا أرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ، وَأجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.

واعْلَمُوا أنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الهجرَة أعْرَابا، وَبَعْدَ المُوَالاةِ أحْزَابا، مَا تَتَعلَّقُونَ مِنَ الإسْلامِ إلاّ بِاسْمِهِ، ولا تَعِرفُونَ مِنَ الإيمَانِ إلاّ رسْمَه!

تَقُولُونَ: (النَّارَ وَلا العَارَ)، كأنَّكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تُكفئُوا الإسْلامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتهِاكاً لحَرِيِمِه، ونقْضَاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً في أرْضِهِ، وَأمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ، وإنَّكُمْ إنْ لَجَأتُمْ إلَى غَيْرهِ حَارَبَكُمْ أهْلُ الكُفْرِ، ثُمَّ لا جَبْرَائِيلُ وَلا مِيكَائيِلُ وَلا مُهَاجِرُونَ وَلا أنْصَارٌ يَنصُرُونكُمْ، إلاّ المُقَارَعَةُ بالسَّيْفِ حتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنكُمْ.

وإنَّ عنْدكُمُ الأمثَالَ مِنْ بأسِ اللهِ وقَوَارعِهِ، وَأيّامِهِ وَوَقَائِعِه، فَلا تَسْتَبْطئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأخْذِهِ، وَتَهاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأساً مِنْ بأسِهِ؛ فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ القَرْنَ المَاضِي بَيْنَ أيْدِيكُمْ إلاّ لِتَرْكِهِمُ الأمْرَ بالمعرُوف والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، فَلَعَنَ اللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ المَعَاصِي، وَالحُلمَاء لَترْك التَّنَاهي.

ألا وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الإسْلامِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وأمتُّمْ أحْكَامَهُ، ألا وَقَدْ أمَرَنِي اللهُ بِقِتَالِ أهْلِ البَغي والنَّكْثِ والفَسَادِ فِي الأرْضِ: فَأمَّا النَّاكِثُون فَقَدْ قَاتلْتُ، وَأمَّا القَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وأمَّا المارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبهِ، وَرَجَّةَ صَدْرِهِ، وَبَقيتْ بَقِيْةٌ مِنْ أهْلِ البَغْيِ، وَلَئنْ أذِنَ اللهُ فِي الكَرَّة عَلَيْهم

٣٥٠

لأدِيلنَّ مِنْهم إلاّ مَا يَتَشَذَّرُ في أطْرَافِ البِلادِ تَشَذُّراً.

أنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاكِلِ العَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجمِ قُرونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وقدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رسول اللهِ صلّى الله عليه وآله بِالقَرَابِةِ القَرِيَبةِ وَالَمنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وأنَا وَلَدٌ، يَضُمُّني إلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنفُنِي إلى فِرَاشِهِ، وَيُمسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَان يَمْضُغُ الشَّيء ثُمَّ يُلْقِمُنِيِه، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، وَلقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلّى الله عليه وآله، مِنْ لَدُنْ أنْ كَانَ فَطِيماً أعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلأئِكَتِه؛ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المْكَارِمِ، وَمَحَاسِن أخْلاقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أثَرَ أُمّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاقِه عَلَماً، وَيَأْمُرُني بالاقْتدَاء بِه، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحرَاء، فَأرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْري، وَلَمْ يُجْمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذٍ فِي الإسْلامِ غَيْرَ رَسُوِل الله صلّى الله عليه وآله، وَخَدِيَجةَ، وَأنَا ثَالِثُهُمَا، أرَى نُورَ الوَحْي والرِّسَالَةِ، وأشُمُّ رِيحَ النُّبُوُّةِ.

وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَان حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ‏ صلّى الله عليه وآله، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ أيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أرَى، إلاّ أنّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكنّكَ وَزِيرٌ، وَإنّكَ لَعَلَى خَيْرٍ).

وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلّى الله عليه وآله، لَمَّا أتَاهُ المَلأ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آباؤُكَ وَلا أحَدٌ مِنْ بَيْتكَ، وَنَحْنُ نَسْألُكَ أمْراً إنْ أجَبْتَنَا إلَيْه وَأرَيْتَنَاهُ عَلمنَا أنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ صلّى الله عليه وآله: وَمَا تَسْألُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هِذِه الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقهَا وَتَقفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ صلّى الله عليه وآله: إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، فَإنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذلِكَ أتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالحَقِّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَإنِّي لأعْلَمُ أنَّكُمْ لا تَفِيئُونَ إلى خَيْر، وإنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطرَحُ فِي القَليب، وَمَنْ يُحَزِّبُ الأحْزَابَ، ثُمَّ قَالَ صلّى الله عليه وآله: يا أيَّتُهَا الشَّجَرَةُ! إنْ كُنتِ تُؤمنِينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ وَتَعْلمين أنِّي رسول الله لهِ فَانْقَلعِي بِعُرُوِقك حَتَّى تَقِفي بَيْنَ يَدَيَّ بإذْنِ اللهِ. فوَ الَّذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لانْقَلَعتْ

٣٥١

بِعُرُوقهَا وَجَاءَتْ وَلَها دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أجْنِحَة الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بين يديْ رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله، مُرَفْرفَةً، وألْقَتْ بِغُصنَها الأعْلَى عَلَى رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله، وَبِبَعْضِ أغْصَانِهَا عَلَى مَنْكبِي وَكنْتُ عَنْ يَميِنِه‏ صلّى الله عليه وآله، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إلَى ذلكَ قَالوُا عُلُوَّاً وَاُسْتكْبَاراً: فَمُرْها فَلْيأتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا، فَأمَرَهَا بِذَلِكَ فَأقْبَلَ إلَيْهِ نِصْفُهَا كَأعْجَبِ إقْبَالٍ وَأشَدِّهِ دَوِيِّاً، فَكَادَتْ تَلتَفُّ برسول الله ‏صلّى الله عليه وآله، فَقَالُوا كُفْراً وَعُتُوَّاً: فَمُرْ هَذا النِّصْفَ فَلْيرْجِعِ إلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأمَرَهُ‏ صلّى الله عليه وآله، فَرَجَعَ، فَقُلْتُ أنَا: لا إلهَ إلا اللهُ، فَإنِّي أوَّلُ مُؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأوَّلُ مَنْ أقَرَّ بأنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأمْرِ اللهِ تَعَالى تَصْديقاً بِنُبُوَّتِكَ وَإجْلالاً لِكَلِمَتكَ، فَقَالَ القَوْمُ كُلُّهُمِّ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ! عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ في أمْرِكَ إلاّ مِثُلُ هذَا؟! (يَعْنُونَني) وَإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لا تَأُخُذُهُمْ في اللهِ لَوْمَةُ لائم: سِيماهم سيماءُ الصِّدِّيقينَ، وَكَلامُهُمْ كَلامُ الأبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَمَنَارُ النَّهارِ، مُتَمَسِّكُوَن بِحَبْلِ الْقُرآنَ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ، لا يَسْتَكْبِرُونَ وَلا يَعْلُونَ وَلا يَغُلُّونَ، وَلا يُفْسِدُونَ: قُلُوبُهُمْ في الجْنَانِ، وَأجْسادُهُمْ في العْمََلِ) (١) .

نعم لقد وصل الأمر بالأمّة إلى هذا الحدّ، وهو كما قال الدهلويّ في رسالته: (ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين، أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم. وكان بقي من العلماء من الطراز الأوّل، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار غير العلماء إقبال الأمّة عليهم مع إعراضهم، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفّقه الله...)(٢) .

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ١٥٣ - ١٦٠، الخطبة رقم ١٩٢ المعروفة بـ(القاصعة).

(٢) انظر رسالة الإنصاف للدهلوي وهي مذكورة في دائرة المعارف لفريد وجدي مادة (جهد).

٣٥٢

تخوّف وتأصيل

كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يتخوّف من سلطة القبليّة في الشريعة، والتي نهى عنها القرآن الكريم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يؤكّد أنّ عليّ بن أبي طالب هو الوحيد الذي يعرِف تفسير وتأويل الآيات والأحاديث كلّها، وأنّه بعيد عن الروح القبليّة والآراء الارتجاليّة.

فجاء عن أبي سفيان أنّه قال للإمام علي بعد أن عُيّن أبو بكر للخلافة قوله: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي: ابسط يدك أبايعك، فو الله إن شئت لاملائنها على أبي فصيل - يعني أبا بكر - خيلاً ورجلاً، فامتنع عليه علي(١) .

وفي بعض النصوص قال علي:يا أبا سفيان طال ما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه بذاك شيئاً .

روى ربعيّ عن عليّ أنّه قال: لمّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا ناس من المشركين، فيهم سُهيل بن عمرو وأُناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله! خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فاردُدْهم إلينا.

قال رسول الله:فإنْ لم يكن لهم فقه في الدين سنفقّههم. يا معشر قريش! لتنتَهُنَّ أو ليبعثنّ الله عليكم مَن يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الأيمان.

قالوا: مَن هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: مَن هو يا رسول الله؟ وقال عمر: مَن هو يا رسول الله؟

قال:هو خاصف النعل، وكان قد أعطى عليّاً نعله يَخْصِفها (٢) .

والنصوص الحديثيّة والتاريخيّة تؤكّد أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله كان يعلم أنّ الخلاف بين أُمّته من بعده واقع لا محالة، إذ أخبره جبرئيل بذلك، فعنه صلّى الله عليه وآله:أتاني جبرائيل فقال: يا

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١: ٢٢١. وانظر المصنف لعبد الرزاق ٥: ٤٥١، ح ٩٧٦٧، تاريخ الطبري ٢: ٢٣٧، المستدرك على الصحيحين ٣: ٨٣، ح ٤٤٦٢، الاستيعاب لابن عبد البر ٤: ١٦٧٩، ٣: ٩٧٤.

(٢) سنن الترمذي ٥: ٦٣٤، ح ٣٧١٥ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.

٣٥٣

محمّد! أُمّتك مختلفة من بعدك (١) .

وأخرج الحكيم الترمذيّ عن عمر بن الخطّاب، قال: أتاني جبرئيل آنفاً، فقال: أتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قال: أتاني جبرئيل، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قلت: أجل، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فَمِمَّ ذاك يا جبرئيل؟ قال: إنَّ أُمَّتك مفتتنة بعدك بقليل من كثير.

قلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة.

قال: كلّ ذلك سيكون.

قلت: ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله تعالى.

قال: بكتاب الله يضلّون، وأوّل ذلك من قبل قرَّائهم وأُمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلوا، ويتّبع القرّاء أهواء الأمراء فيمدّونهم في الغيّ ثمّ لا يقصرون.

قلت: يا جبرئيل، فَبِمَ يسلم من يسلم منهم.

قال: بالكفِّ والصبر، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه(٢) .

إن ابتلاء الأمّة وامتحانها كان يدور مدار أخذهم بأقوال أهل بيت الرسول وعدمه، فعن خالد بن عرفطة قال، قال رسول الله:إنّكم ستُبْتَلَون في أهل بيتي من بعدي (٣) .

أو قوله في حديث الثقلين:...أيّها الناس! فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولٌ إلَيَّ فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين، أوّلهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ؛ فحثِّ على كتاب الله ورغّب فيه. ثمّ قال:وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي (٤) .

____________________

(١) أسد الغابة ٤: ٢٦، سنن الترمذي ٥: ٢٩٨، ذخائر العقبى: ٧٦.

(٢) كتاب السنّة لابن أبي عاصم ١: ١٣٢، الباب ٥٧، ح ٣٠٣، نوادر الاصول في أحاديث الرسول ٢: ٢٤٨ - ٢٤٩، والمتن عنه، العلل المتناهية ٢: ٨٥١ - ٨٥٢، حديث في الفتن، ح ١٤٢٤، الدر المنثور ٣: ٦٣٤.

(٣) المعجم الكبير ٤: ١٩٢، ح ٤١١١، الجامع الصغير للسيوطي ١: ٣٨٨، ح ٢٥٣٥، البيان والتعريف ١: ٢٥٤.

(٤) مسند أحمد ٤: ٣٦٦، صحيح مسلم ٤: ١٨٧٣، ح ٢٤٠٨، المعجم الكبير ٥: ١٨٣، ح ٥٠٢٨.

٣٥٤

وجاء عنه صلّى الله عليه وآله:)لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذاتي أحبّ إليه من ذاته)(١) .

وكذا قوله)... وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عَلَيّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهم)(٢) .

وقد علّق صاحب)الفتح الربّانيّ(على الحديث السابق بقوله:...أي إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه واهتديتم بهدى عترته واقتديتم بسيرته، اهتديتم فلم تضلّوا(٣) .

وفي)تحفة الأحوذيّ(عند شرحه لقوله صلّى الله عليه وآله:)فانظروا كيف تخلفوني فيهما(: النظر بمعنى التأمّل والتفكّر، أي تأمّلوا واستعملوا الرويّة في استخلافي إيّاكم، هل تكونون خَلَف صِدْق أو خَلَف سوء؟!(٤) .

وقال الزرقانيّ في (شرح المواهب):

أمّا الكتاب، فلأنّه معدِن العلوم الدينيّة والأسرار والحِكَم الشرعيّة، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق.

وأ مّا العترة فلأنّ العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين؛ فطيِب العنصر يؤدّي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدّي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته، لهذا أكّد رسول الله في عدّة مواطن على لزوم اتّباع أهل بيته وأنّهم أولى الناس برعاية شؤون الأمّة، ولهذا جعل مَثَلهم كَمَثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق(٥) .

____________________

(١) المعجم الأوسط ٦: ٥٩، ح ٥٧٩٠، الفردوس بمأثور الخطاب ٥: ١٥٤، ح ٧٧٩٦، كنز العمّال ١: ٤١، ح ٩٣ عن المعجم الأوسط وفيه: وذريتي أحب إليه من ذريته، بدل وذاتي أحب إليه من ذاته.

(٢) مسند أحمد ٣: ١٧، ١١١٤٧، سنن الترمذي ٥: ٦٦٣، ح ٣٧٨٨، السنن الكبرى للنسائي ٥: ٤٥، ح ٨١٤٨، المعجم الكبير ٣: ٦٥، ح ٢٦٧٩.

(٣) الفتح الربّانيّ في ترتيب مسند أحمد ٢٢: ١٠٤.

(٤) تحفة الأحوذيّ في شرح جامع الترمذيّ ١٠: ١٩٧.

(٥) شرح المواهب ٢: ٨ والحديث تجده في المستدرك على الصحيحين ٢: ٣٧٣، ح ٣٣١٢ قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، و ٣: ١٦٣، ح ٤٧٢٠، المعجم الكبير ٣: ٤٦، ح ٢٦٣٨، والمعجم الأوسط ٦: ٨٥، ح ٥٨٧٠، والمعجم الصغير ٢: ٨٤، ح ٨٢٥، مسند الشهاب ٢: ٢٧٣، ح ١٣٤٢، ح ١٣٤٣.

٣٥٥

وقال صاحب (التاج الجامع للأصول) في شرح الحديث السابق: يقول النبيّ: أحسِنوا خلافتي فيهما باحترامهما والعمل بكتاب الله وما يراه أهل العلم من آل البيت أكثر من غيرهم(١) .

وقال النوويّ وهو يعلّق على الثقلين: سمّي ثقلين لعِظَمهما وكبير شأنهما، وقيل لثقل العمل بهما(٢) .

وقال الحسين بن محمّد بن عبد الله الطيبيّ في (الكاشف عن حقائق السنّة النبويّة): قوله صلّى الله عليه وآله:(إنّي تارك فيكم) إشارة إلى أنّهما بمنزلة التوأمين الخَلَفين عن رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله(٣) .

وقال نور الدين السمهوديّ في (جواهر العقدين):... والحاصل أنّه لمّا كان كلّ من القرآن العظيم والعترة الطاهرة معدِناً للعلوم الدينيّة والأسرار والحكم النفسيّة الشرعيّة وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها، أطلق صلّى الله عليه وآله عليهما الثقلين، ويرشد لذلك حثّه في بعض الطرق السالفة على الاقتداء والتمسّك والتعلّم من أهل بيته(٤) .

وقال ابن حجر في (الصواعق): (سمّى رسولُ الله القرآنَ وعترتَه الثّقلين، لأنّ الثقل كلُّ نفيس خطير مَصُون، وهذان كذلك؛ إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة، والأسرار والحكم العلّيّة، والأحكام الشرعيّة؛ ولذا حثّ صلّى الله عليه وآله على الاقتداء والتمسّك بهم، والتعلّم منهم، وقال:الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهلَ البيت . وقيل: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما(٥) .

قال الخطابي في (غريب الحديث) وابن منظور في (لسان العرب) والزّبيديّ في (تاج العروس) وابن الأثير في نهايته، والنووي في شرحه وغيرهم في شرح الحديث: سُمّيا ثقلين؛ لأنّ الأخذ بهما ثقيل، والعمل بهما ثقيل(٦) .

____________________

(١) التاج الجامع للأصول ١: ٤٨.

(٢) النووي شرح مسلم ١٥: ١٨٠ كتاب الفضائل، فضائل عليّ.

(٣) تحفة الأحوذي ١٠: ١٩٧ عن الطيبي.

(٤) الصواعق المحرقة ٢: ٤٤٢.

(٥) الصواعق المحرقة ٢: ٤٤٢.

(٦) غريب الحديث للخطابي ٢: ١٩٢، النهاية في غريب الحديث ١: ٢١٦، لسان العرب ٢: ١٩٢، تاج

=

٣٥٦

وقال شهاب الدين الخفاجيّ في (نسيم الرياض) وهو يعدّد الأقوال في تفسير حديث الثقلين: والثقلين، تثنية الثقل، وهو ما يثقل ضدّ الخفّة، وهما الإنس والجانّ. فسمّاهما ثقلين تعظيماً لشأنهما، وإنّ عمارة الدين بهما، كما تَعْمُر الدنيا بالإنس والجنّ. ولرجحان قدرهما؛ لأنّ الرجحان في الميزان بثقل ما فيها، أو لأنّه يثقل رعاية حقوقهما.

السابع: كون كلّ منهما مصوناً عن الخطأ والخطل، وعن السهو والزلل، وطهارتها عن الدنس والرجس وعن الباطل والكذب، ويؤيّده بعض فقرات الحديث ويناسبه المعنى اللغويّ؛ لأنّ الثقل في اللغة - كما تقدّم - الشيء النفيس المصون.

أمّا طهارة الكتاب المبين وصيانته عمّا ذكره فمعلوم، فإنّه من عند الله العليم، وهو لديه لَعليّ حكيم فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وأمّا طهارة العترة الطيّبة فبما أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لا يقولون الباطل ولا يعملونه ولا يأمرون به، وهم الصادقون الذين أمر الله المؤمنين أن يكونوا معهم، فلولا ذلك لم يجعلهم أقران الكتاب، فإنّه لا يمسّه إلاّ المطهّرون(١) .

ولابن حجر المكّيّ بعد نقله دعاءً من الإمام السجّاد كلام في (الصواعق) قال: فإلى مَن يفزع خلف هذه الأمّة وقد دَرَست أعلام هذه الملّة ودانت الأمّة بالفُرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً والله يقول: (وَلا تَكُونوا كالِّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَائَهمُ البَيِّناتُ)؟!(٢) فمَن الموقوف به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلاّ أعدال الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتجّ الله بهم على عباده ولم يَدَع الخلقَ سُدى من غير حجّة؟! هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات وافترض مودّتهم في الكتاب؟!(٣) .

____________________

=

العروس ٧: ٢٤٥، شرح النووي على صحيح مسلم ١٥: ١٨٠.

(١) جامع أحاديث الشيعة ١: ٨٣ عن نسيم الرياض ٣: ٤٠٩.

(٢) آل عمران: ١٠٥.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ١: ٨٤ عن الصواعق: ١٥٠ وفي الصواعق المحرقة المطبوع حديثاً ٢: ٤٤٤ ترى جملة: إلى

=

٣٥٧

لقد استبان بما سبق أنّ رسول الله كان يعني بتأكيده على العترة هو الأخذ عنهم في العقيدة والفقه، وفي كلّ مجالات الحياة؛ لأنّهم آله وذرّيّته العارفون بسنّته. وكان يتخوّف من عاقبة الأمّة وانحرافها عن طريقه وسنّته؛ لأنّ الخلافة وما تتلوها من أُمور العصبيّة والقبليّة ستؤثّر - لا محالة - على الأحكام، وتبعد الناس عن أهل البيت؛ وبالتالي يكون الابتعاد عن المصدر الصحيح للتشريع الإسلاميّ - السنّة النبويّة -، كما حدَث بالفعل، وهذا هو بعينه ما كان يتخوّف منه رسول الله صلّى الله عليه وآله على أُمّته.

ولو أمعنت النظر في نصوص النبيّ والأئمّة من ولده لرأيت التأكيد على جملة (الضلال)، التي تعني الابتعاد عن جادّة الصراط.

ففي رزية يوم الخميس قال:(ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً) (١) .

وقوله في حجّة الوداع:(... ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا) (٢) ، وقوله لمّا أتى إليه عمر بجوامع من التوراة:(والذي نفسي بيده، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم) (٣) وغيرها. وقد جاء هذا المفهوم في كلام أهل بيته، وعن ابنته فاطمة الزهراء صريحاً في خطبها وكلماتها.

وقد قال الشيخ محمّد الحنفيّ في شرح الجامع الصغير، وفي حاشية شرح العزيزيّ ٤١٧: ٢، وحديث العيبة(عيبة علميّ) أي وعاء علمي الحافظ له، فإنَّه مدينة العلم، ولذا كانت الصحابة تحتاج إليه في تلك المشكلات، ولذا كان يسأله سيّدنا معاوية في زمن الواقعة عن المشكلات فيجيبه فتقول له الجماعة: ما لك تجيب عدوّنا؟ فيقول: أما يكفيكم أنّه يحتاج إلينا؟

____________________

=

أهل ‏الكتاب بدل (إلاّ أعدال الكتاب).

(١) صحيح البخاري ٤: ١٦١٢، باب مرض النبي‏ صلّى الله عليه وآله ووفاته، ح ٤١٦٨، صحيح مسلم ٣: ١٢٥٩، باب ترك الوصية، ح ١٦٣٧.

(٢) مسند أحمد ٣: ٥٩، ح ١١٥٧٨، سنن الترمذي ٥: ٦٦٢، باب مناقب أهل بيت النبي، ح ٣٧٨٦، المعجم الأوسط ٥: ٨٩، ح ٤٧٥٧، المستدرك على الصحيحين ٣: ١١٨، ح ٤٥٧٧.

(٣) مصنف عبد الرزاق ٦: ١١٣، ح ١٠١٦٤، مسند أحمد ٣: ٤٧٠، ٤: ٢٦٥، سنن الدارمي ١: ١٢٦، ح ٤٣٥.

٣٥٨

ووقع له فكّ مشكلات مع سيّدنا عمر، فقال: ما أبقاني الله أن أدرك قوماً ليس فيهم أبو الحسن، أو كما قال، فقد طلب أن لا يعيش بعده، ثمّ ذكر قضايا فيها حديث اللطم والذي أخرجه الطبريّ في الرياض النضرة.

وقال المناويّ في فيض القدير ٤: ٣٥٦ عن حديث العيبة: والعيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه، قال ابن دريد: وهذا من كلامه الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بأُموره الباطنيّة، التي لا يطّلع عليها أحد غيره، وذلك غاية في مدح عليّ.

وعليه فقد اتّضح لك بعض أُصول الاختلاف بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء، وأنّ الأصول الفكريّة كانت الخلاف الكبير بينهما، وأنّ العترة طلبوا الخلافة لكي يحقّقوا أهداف الشريعة وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ إذ الخلافة في نفسها ليس لها أدنى سبيل إلى نفوسهم، وليس لهم أدنى ميل إليها. قال ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه بذي قار، وهو يخصِف نَعْله، فقال لي:ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها.

فقال عليه السلام:(والله لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً) (١) .

هذا، وأنّ العترة من أهل البيت لا يرتضون العمل بما يُنقل عنهم إلاّ بعد عرضه على الكتاب؛ فإن وافقَ القرآن وأحرز تطابقه معه يؤخذ به، وإن خالفه يُطرح ويُضرب به عرض الحائط - حسب تعبيرهم - كلّ ذلك حرصاً منهم على إيضاح الضوابط التي يؤخذ أو يردّ على أساسها الحديث، وليس حسن الظنّ بالصحابة وما شاكله من الأمور التي يمكن الاعتماد عليها وبناء الشريعة وفقهها مع ما قدّمنا من أُمور وأدلّة.

وهذا هو معنى الوحدويّة في الفكر والأصول، فكلام العترة يفسّر القرآن، والقرآن يشيد بطهارة العترة، فـ(عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ) (٢) وأنّك لا ترى في كلام العترة تخالفاً مع القرآن وكذا العكس!

وهذا بعكس فقه الخلفاء الذين لم يرتضوا عرض فقه الرجال على القرآن، وربّما

____________________

(١) نهج البلاغة: ١: ٨٠، الخطبة رقم ٣٣.

(٢) المعجم الصغير ٢: ٨٢، ح ٧٢٠، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٤، ح ٤٦٢٨ قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

٣٥٩

كانوا يعدّون ذلك من عمل الزنادقة!(١) لمعرفتهم بوجود تبايُن في كثير من الأحيان بين القرآن واجتهادات الصحابة، بل يجعلون فقه الصحابة وعملهم مخصِّصاً حتّى للكتاب العزيز - الذي لا يأتيه الريب - حبّاً أعمى، إذ قال الشيخ محمّد أبو زهرة: (إنَّ الأحناف والحنابلة اعتبروا عمل الصحابيّ مخصّصاً للكتاب، معلّلين بأنَّ الصحابيّ العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلاّ لدليل فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص وإنَّ قوله بمنزلة عمله)(٢) .

وقد مر عليك كلام الصاوي الذي هو أعجب من هذا بكثير حيث اعتبر الخارج عن المذاهب الأربعة ضالاً مضلاً(٣) .

وهذا من أعجب العجب.

عمر بن الخطّاب والأمويّون

عقيب ما قدّمنا لا يمكننا إلاّ التصريح بدور الخليفة عمر بن الخطّاب في تحكيم فقه الأمويّين؛ لأنّه ثبّت مواطئ أقدامهم بإمضائه إمارة الشام لمعاوية بعد أخيه يزيد،(٤) واقتراحه على أبي بكر بأن يترك ما بيد أبي سفيان من الصدقات ليضمن ولاءَهُ،(٥) وأن يعيّن ابنه يزيد بن أبي سفيان قائداً لجيش الشام، وقوله عن معاوية: تذكرون كسرى وعندكم معاوية(٦) ، أو قوله لما ذُكر معاوية عنده وقيصر ودهاءهما: دعونا من ذم فتى قريش وابن سيّدها مَن يضحك في الغضب ولا ينال إلاّ على الرضا ومَن لا يأخذ ما

____________________

(١) قد مرّ عليك كلام ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله، وراجع مقدّمة مصنّف ابن أبي شيبة.

(٢) أبو حنيفة، لأبي زهرة: ٣٠٤.

(٣) مر كلامه في صفحة ٢٦٧ وانظر حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ٣: ١٠ ط دار إحياء التراث العربي.

(٤) المصنف لعبد الرزاق ٥: ٤٥٦، غزوة ذات السلاسل، ح ٩٧٧٠، الاستيعاب ٢: ٦٢٥، ت ٩٨٨ لسعيد بن عامر، البداية والنهاية ٨: ٢١، الإصابة ٦: ١٥٢، ت ٨٠٧٤.

(٥) شرح النهج لأبن أبي الحديد ٢: ٤٤ عن كتاب السقيفة للجوهري.

(٦) تاريخ الطبري ٣: ٢٦٤، وانظر الاستيعاب ٣: ١٤١٧، ت ٢٤٣٥ لمعاوية بن أبي سفيان وفيه قول عمر حين دخل الشام ورأى معاوية قد استقبله في موكب عظيم قال: هذا كسرى العرب، وتهذيب الأسماء للنووي ٢: ٤٠٧، الإصابة ٦: ١٥٣، ت ٨٠٧٤ لمعاوية بن أبي سفيان.

٣٦٠