منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93234
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93234 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

السبب الأوّل

ما طرحه الخليفة أبو بكر

و يستنتج ذلك من نصّين:

أ - ورد عن عائشة أنَّها قالت: (جَمَع أبي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً.

قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بَلَغك؟

فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هَلُمِّي الأحاديث التي عندك.

فجئته بها، فدعا بنار فحرقها.

فقلت: لِمَ أحرقتها؟

قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنتُه ووثقتُ [ به ]، ولم يكن كما حدّثني فأكون نقلت ذلك)(١) .

ب - جاء في تذكرة الحفّاظ: ومن مراسيل ابن أبي مُليكة: (أنّ الصدِّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنَّكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً. فمَن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه)(٢) .

وقبل مناقشة النصّين، لنا استفهامان لابدّ من الإجابة عنهما:

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١: ٥، الاعتصام بحبل الله المتين ١: ٣٠، الرياض النضرة ٢: ١٤٤، حجّيّة السنّة: ٣٩٤.

(٢) تذكرة الحفّاظ ١: ٢ - ٣، حجّيّة السنّة: ٣٩٤.

٢١

الأوّل: هل جمع الخليفة الأوّل أحاديثه في زمن الرسول الأعظم، وبأمر منه صلّى الله عليه وآله، أم أنّه قد جمعها بعده نظراً للظروف السياسيّة والحاجة الاجتماعيّة؟

الثاني: هل وقع المنع من التحديث وكتابة وتدوين السنّة الشريفة في زمن متأخّر، أم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد نهى عن الكتابة في عهده صلّى الله عليه وآله. كما نُقل عن أبي سعيد الخدريّ، عنه صلّى الله عليه وآله: (ومَن كَتَبَ عنّي غير القرآن فَلْيَمْحُه)(١) ؟

من خلال تعبير النصّ الأوّل (جمع أبي الحديث) يمكن أن نستشم أنَّ تدوين الحديث من قبل الخليفة جاء لاحقاً، خصوصاً حينما عرفنا أنّه أخذها من بعض الرجال، لقوله: (خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد نقلت ذلك).

فخشية الخليفة من نسبة تلك الأحاديث إلى رسول الله لقوله: (ولم يكن كما حدّثني فأكون قد نقلت ذلك)، لا يتلاءم مع فرض وقوع عمليّة الجمع في عهده صلّى الله عليه وآله، إذ لو كان الجمع في عهده صلّى الله عليه وآله لأمكن للخليفة عرض المنقول على رسول الله صلّى الله عليه وآله للتثبّت من المشكوك فيه.

فإن قيل: إنّه فات عليه أن يعرض ما سمعه بواسطةٍ على رسول الله صلّى الله عليه وآله للتأكّد من صحّته أو عدمها، قلنا: إنّنا لا نعقل أن يخفى ذلك على أبي بكر، مع قربه من النبيّ واستحكام الشكّ في نفسه، كما نستبعد أن يكون قد ترك هذا الأمر المهمّ وسوّف فيه حتّى كادت تدركه الوفاة، مع أنّ الصحابة كان لا يخفى عليهم ضرورة أن يسألوا النبيّ صلّى الله عليه وآله في أبسط المسائل وعند أدنى شكّ.

وأمّا إحراق الأحاديث وتخوّفه من انتسابها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله: لقوله: (فأكون قد نقلت ذلك) وتقارب ذلك مع موت الخليفة: (خشيت أن أموت) فإنّها توضَّح أنّ الخليفة قد جمعها في أواخر عهده، وأنّه لم يسمع منها حديثاً واحداً عن رسول

____________________

(١) صحيح مسلم ٤: ٢٢٩٨، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، ح ٣٠٠٤، مسند أحمد ٣: ١٢ ٢١ ٣٩ باختلاف يسير، تقييد العلم: ٢٩، مقدّمة ابن الصلاح: ١١٩.

٢٢

الله صلّى الله عليه وآله مباشرة، وإلاّ فكيف يبيح لنفسه حرق ما سمعه شفاهاً من رسول الله صلّى الله عليه وآله؟!

مضافاً إلى ذلك: أنّ الخليفة لو كان قد جمع تلك المرويّات في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله لذكر ذلك المؤرِّخون وأصحاب السِّيَر، ولما تقَّلبَ ليلته!

ولَمَا شكّ في جواز التدوين وعدمه بعد ذلك!

ولَجَاءَ في كلام عائشة: (إنّ أبي قد جمع الحديث في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله) أو (أملى رسول الله صلّى الله عليه وآله على أبي، فكتب) أو ما شابه ذلك.

نعم، إنّ الخليفة كان قد كتب لأنس بن مالك حينما كان عامله على البحرين كتاباً فيه فرائض الصدقة(١) ، وقد كتب إلى عمرو بن العاص كذلك(٢) .

وهذا لا ينافي ما نُقل عنه من إحراقه صحيفته؛ لأنّ ما كتبه لأنس كان عبارة عن كتابة في أمر الصدقة وجباية الأموال، وهو ممّا يقوّم أمر الدولة ولا يمكن للخليفة أن يتناساه، وقد جاء عن عمرو بن حزم أنّه كتب كتاباً فيه الصدقات عن رسول الله(٣) ، وأنّ للخليفة عمر بن الخطّاب كتاباً في نفس الأمر كذلك، كان موجوداً عند حفصة ثمّ عند آل أبي الخطّاب(٤) ، فالكتابة بما يقوّم أمر الدولة شيء وما عُلِّل في منع التدوين شيء آخر.

أمّا الاستفهام الثاني: فيمكن الإجابة عنه بجلاءٍ من خلال فعل الشيخين وسيرة المسلمين، فقد جمع الخليفة الأوّل خمسمائة حديث، وهذا دليل كافٍ على عدم ورود نهي منه صلّى الله عليه وآله فيه، إذ لو كان قد صدر نهي سابق لما كتب الخليفة ما كتب من أحاديث.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الخليفة الثاني، إذ لو كان التدوين محظوراً من قبل لما جمع الصحابة واستشارهم بالأمر، ولما أرشدوه إلى التدوين(٥) .

____________________

(١) صحيح البخاري ٢: ٥٢٧، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم ح ١٣٨٦، تقييد العلم: ٨٧، السنن الكبرى ٤: ٨٥، باب كيف فرض الصدقة ح ٧٠٣٨.

(٢) موطّأ مالك: ١/ ٥، ألف، كما في الدراسات ١: ٩٤، ولم أجد الحديث في الموطأ.

(٣) السنن الكبري ٤: ٩١، باب كيف فرض الصدقة ح ٧٠٥٠.

(٤) التمهيد لابن عبد البر ٢٠: ١٣٩.

(٥) الجامع لمعمر بن راشد ١١: ٢٥٧، باب كتاب العلم ح ٢٠٤٨٤ تقييد العلم: ٤٩، حجّيّة السنّة: ٣٩٥.

٢٣

ولو تنزّلنا وقلنا بورود المنع عن الكتابة والتدوين عموماً، وعن السنّة خصوصاً، فما معنى ما صحَّ عنه صلّى الله عليه وآله من أنّه أمَر المسلمين بكتابة (الأحكام التي قالها يوم فتح مكّة)(١) ، أو أنّه - بعد هجرته من المدينة - أمر بكتابة أحكام الزكاة ومقاديرها، فكُتب في صحيفتين وبِقيَتا محفوظَتين في بيت أبي بكر الصدّيق وأبي بكر بن عمرو بن حزم(٢) ؟ وما معنى ما ثبت من قوله صلّى الله عليه وآله:(اكتُبوا ولا حرج) وما ساوقها من العبارات الصريحة في الحثّ على كتابة وتدوين الأحكام والسنّة النبويّة؟

وبهذا ندرك أنَّ شيئاً من ذلك - الكتابة والتدوين - لم يكن محظوراً في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنّ الشيخين لم يكتبا ولم يدوّنا حديثه صلّى الله عليه وآله في أيّام حياته، بل إنّ الخليفة الأوّل كتبها ودوّنها بعد وفاته صلّى الله عليه وآله.

وإنّ الكتابة، وتدوين العلم كان ممّا أكّد عليه القرآن الحكيم بقوله:( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) (٣) و( الذي علّم بالقلم ) (٤) و( لا تسئموا أن تَكْتُبوه صغيراً أو كبيراً ) (٥) و( فاكْتُبوه ) (٦) و( عِلْمُها عند ربِّي في كتاب ) (٧) .

وإنّ العرب كانوا يُجِلُّون الكتّاب، ويميلون إلى الكتابة، وقد ذكر ابن حبيب البغداديّ قائمة بأسماء الأشراف المتعلّمين وفقهائهم في العصر الجاهليّ وصدر الإسلام(٨) .

قال ابن سعد: (كان الكامل عندهم في الجاهليّة وأوّل الإسلام: الذي يكتب بالعربيّة، ويُحسن العوم والرمي)(٩) .

____________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ٥٣ باب كتابة العلم ح ١١٢ و ٦: ٢٥٢٢، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ح ٦٤٨٦.

(٢) تاريخ الفقه الإسلاميّ، للدكتور محمّد يوسف: ١٧٣.

(٣) القلم: ١.

(٤) العلق: ٤.

(٥) البقرة: ٢٨٢.

(٦) البقرة: ٢٨٢.

(٧) طه: ٥٢.

(٨) انظر المحبر: ٤٧٥ - ٤٧٧.

(٩) الطبقات الكبرى ٣: ٥٤٢.

٢٤

وفي مكّة(١) والمدينة(٢) والطائف(٣) والأنبار(٤) والحيرة(٥) ودومة الجندل(٦) كانت تعقد الكتاتيب للدراسة؛ وجاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه أنشأ في مسجده صُفّة كان عبد الله بن سعيد بن العاص يعلِّم فيها الراغبين الكتابة والخطّ(٧) .

قال الدكتور أحمد أمين: إنّ الأمّيّة لم تكن متفشّية بين العرب بالشكل الذي يتصوّره بعض الكتّاب والمستشرقين، وبخاصّة عرب الحيرة وبادية الشام؛ لأنّهم عاشوا زمناً طويلاً مع جيرانهم الفرس والروم، وبحكم الظروف التي كانت تحيط بهم والمراحل التي مرّوا بها مع تلك الأمم المتحضّرة، ليس من البعيد عليهم أن يتعلّموا الكتابة، وأن يأخذوا عنهم العلوم والعادات التي تمسّ حياتهم وتسهل لهم سبل العيش والحياة الحرّة الكريمة(٨) .

فإذا كان القرآن يشرّع الكتابة والتدوين، والسنّة تُعنى بأمرهما حتّى تجعل فداء أسرى بدر من المشركين في مقابل تعليم كلّ واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة(٩) ، فلا معنى إذَن للقول بمنع تدوين السنّة الشريفة من قبل رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله.

ثمّ ألا يلفت أنظارنا السيرة العامة لرسول الله صلّى الله عليه وآله في الحثّ على الثقافة والفكر والتعليم؟! ومن ذلك عتاب الرسول لأقوام، وقوله لهم:(ما بال أقوام لا يُفَقّهون جيرانهم، ولا يعلّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟! وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفقّهون ولا يتّعظون؟!...) (١٠) .

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٣: ٥٢٢، والقصد والأمم لابن عبد البرّ: ٢٢.

(٢) فتوح البلدان، للبلاذريّ: ٥٨٣ ح ١١١٣، وانظر الطبقات الكبرى ٣: ٤٥٠ و ٤٦٥.

(٣) فتوح البلدان، للبلاذريّ: ٥٧٩، ح ١١٠٣.

(٤) عيون الأخبار ١: ٤٣، القصد والأمم: ٢٢، أبجد العلوم ٢: ٢٦٥.

(٥) فتوح البلدان: ٥٧٩، ح ١١٠٣، القصد والأمم: ٢٢، أبجد العلوم ١: ١٥٨.

(٦) المحبر: ٤٧٥.

(٧) انظر الاستيعاب، لابن عبد البرّ ٣: ٩٢٠، ت ١٥٥٦، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة ١: ٤٧.

(٨) فجر الإسلام: ١٣ - ١٤.

(٩) الطبقات الكبرى ٢: ٢٢، انظر مسند أحمد ١: ٢٤٧.

(١٠) الترغيب والترهيب ١: ٧١، مجمع الزوائد ١: ١٦٤.

٢٥

وقد سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وفد عبد القيس: (كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضيافتهم إيّاكم؟

قالوا: خير إخوان، ألانُوا فراشنا، وأطابوا مطعمنا، وباتوا وأصبحوا يعلّموننا كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله.

فأعجب النبيّ صلّى الله عليه وآله وفرح بنا، ثمّ أقبل علينا رجلاً رجلاً يعرضنا على ما تعلّمنا وعلّمنا...(١) ).

وروى حذيفة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال:(اكتبوا لي من تلفّظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل) (٢) .

وقد دوّن أصحاب السير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان له ستة وعشرون أو اثنين وأربعون أو خمسة وأربعون كاتباً للوحي(٣) .

فإذا ضممنا هذا التأكيد على التعليم والتعلّم والقراءة والكتابة، إلى ما أسلفنا من أمر النبيّ بالكتابة والتدوين وممارسة الصحابة له على عصره صلّى الله عليه وآله وبعده بمدّة - حتّى نهى أبو بكر عنه - علمنا أنّ نسبة منع التدوين والتحديث إلى رسول الله ما هو إلاّ مغالطة يهدف منها تصوير الإسلام بصورة مشوّهة، صارت مبرّراً لأعداء الإسلام في القول: بأنّ المسلمين يخالفون العلم، ولا يرتضون التحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وتدوين السنّة؛ لأنّا نراهم ينقضون موقفهم ويذهبون إلى تدوينها لاحقاً؟! فلو كان جائزاً فلماذا منعوه، وإن كان ممنوعاً فَلِمَ دوّنوه؟!

نعم، إنّ القول بمنع الكتابة والتدوين يناقض ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله، من قوله:(اكتبوا) (٤) و(قيّدوا) (٥) وقوله:(اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرجَ منه إلاّ

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٢٠٦.

(٢) صحيح البخاريّ ٣: ١١١٤، باب كتابة الإمام الناس ح ٢٨٩٥.

(٣) انظر السيرة الحلبية ٣: ٤٢٢.

(٤) صحيح البخاري ١: ٥٣، باب كتابة العلم ح ١١٢، صحيح مسلم ٢: ٩٨٨، باب تحريم مكة وصيدها ح ١٣٥٥، سنن الترمذيّ ٥: ٣٩، باب ما جاء في الرخصة ح ٢٦٦٧.

(٥) المستدرك على الصحيحين ١: ١٨٨، كتاب العلم ح ٣٦٢.

٢٦

حقّ) (١) ، أو(استعن على حفظك بيمينك) (٢) . ومثل هذا كثير ممّا لا نريد الإطالة فيه.

وإذا اتّضح ذلك، فلنناقش النصّ الأوّل متسائلين:

لماذا بات الخليفة الأوّل ليلته يتقلّب كثيراً؟

ألِعِلَّةٍ كان يشكو منها، أم أنّ شيئاً خطيراً من أمر الخلافة وشؤون المسلمين قد أرَّقه وأذهب عنه النوم؟

لقد وقفت سابقاً على كلام عائشة: (أتتقلّب لشكوى، أو لشيء بلغك؟)، واستمعت لتعليل الخليفة.

ترى هل يصحّ هذا التعليل الذي ورد عن الخليفة: (لم يكن كما حدّثني)؟

وهل يسوّغ تعليله إحراق ما جمعه؟

ولماذا يحرقه ولا يميثه بالماء، أو يدفنه في الأرض مثلاً؟!

أمّا السؤال الأوّل: فبقرينة (فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته...) نعرف سبب تقلّب الخليفة وأنّه لم يكن لعلّةٍ كان يشكو منها أو لأمر يتعلّق بالغزوات والحروب، بل إنّه بات ليلته يتقلّب بسبب ما كان في هذه الصحيفة من أحاديث تخالف اجتهاداته، حتّى بات يعتقد أنّ نقل الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله مدعاة للاختلاف، من دون فرق بين المفردات المحدَّث بها، وبدون تمييز بين ما سُمِعَ مباشرة عن النبيّ أو بواسطة؛ لقوله في مرسلة ابن أبي مُليكة: (لا تُحدّثوا شيئاً) في حين ثبت أنّ الخليفة كان لا يذهب إلى ذلك في بادئ الأمر.

وأمّا تعليله لإحراق الأحاديث بقوله: (خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته، ووثقت [ به ]، ولم يكن كما حدّثني، فأكون نقلت ذلك).. فإنّ عدّة مؤاخذات ترد عليه:

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١: ١٨٧، كتاب العلم ح ٣٥٩، تقييد العلم ٨٠ - ٨١، مسند أحمد ٢: ١٦٢، سنن الدارمي ١: ١٣٦، باب من رخص العلم، ح ٤٨٤، جامع بيان العلم ١: ٧.

(٢) سنن الترمذيّ ٥: ٣٩، باب ما جاء في الرخصة فيه ح ٢٦٦٦، المعجم الأوسط ١: ٢٤٥ ح ٨٠١ و ٣: ١٦٩ ح ٢٨٢٥.

٢٧

الأولى: كيف انقلب المؤتمن الثقة إلى غير موثوق ومؤتمن؟

ثمّ أيحتاج أبو بكر - وهو بقرب النبي في المدينة المنوّرة - أن تكون بينه وبين رسول اللّه في الحديث واسطة؟!

إنّ ما يقال من ملازمة أبي بكر للنبيّ طيلة حياته لا يتلاءم مع احتياجه في النقل عنه صلّى الله عليه وآله إلى واسطة؛ إذ إنّ ملازمته للنبيّ تنفي الحاجة إلى الواسطة في النقل، وخصوصاً لمن يقال إنّه أوّل من أسلم!!

الثانية: إذا كان ناقل الخبر ثقة مأموناً لقوله (ائتمنته ووثقت [ به ])، فهل يمكن أن نسقط مرويّاته عن الاعتبار ولا نأخذ بها، بمجرّد احتمال الكذب أو السهو؟

ألم يكن لازم هذا القول إنكار حجّيّة خبر الثقة، ولا يمكننا بعده أن نعتمد على خبر أيّ ناقل لإمكان احتمال الكذب فيه؟

روى رافع بن خديج، قال: مرّ علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً، ونحن نتحدّث، فقال:ما تحدّثون ؟

فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله.

قال:تحدّثوا، وليتبوّأ مقعده مَن كذب عليّ مِن جهنّم !

ومضى لحاجته، وسكت القوم، فقال صلّى الله عليه وآله:ما شأنهم لا يتحدّثون؟!

قالوا: الذي سمعناه منك يا رسول الله!

قال:إنّي لم أُرِدْ ذلك، إنّما أردتُ مَن تعمّد ذلك ، فتحدّثنا.

قال: قلتُ: يا رسول الله! إنّا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟

قال:اكتبوا، ولا حرج (١) .

وهذا النصّ صريح فيما قلناه، من أنّ التحديث والكتابة والتدوين كانت كلّها أموراً جائزة مشروعة في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنّ جملة(تحدّثوا) تؤكّد جواز التحديث مع لزوم التثبّت فيه؛ حتّى لا يقع أحد في الكذب عليه صلّى الله عليه وآله، وأنّ احتمال كذب الراوي، أو

____________________

(١) تقييد العلم: ٧٣، المعجم الكبير ٤: ٢٧٦ ح ٤٤١٠، الكامل لابن عديّ ١: ٣٦.

٢٨

التخوّف من الكذب لا يسوّغ للخليفة إهمال الحديث.

بل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا إلى التثبّت في نقل الرواية، لمعرفة صحيحها من سقيمها، ولم يُشرّع صلّى الله عليه وآله سدّ باب الرواية والتحديث، فكان على الخليفة أن يصحّح الأحاديث؛ إن كان فيها شي مكذوب حذفه، وإن كان فيها ما يوجب التوضيح وضّحه، وإن كان فيها أمر آخر أشار إليه، لا أن يُبيد ما جمعه، بفرض الشكّ والاحتمال.

إنّ العلم عموماً ممّا لا يستساغ محوه، فكيف بكلام النبيّ الكريم؟! وعلى هذا فالمرويّات ممّا لا يجوز إحراقها بحال من الأحوال، خصوصاً وأنّ أكثرها ممّا فيه اسم الله وأحكامه التي لا يجوز إهانتها بتاتاً. وإنّه إذا أراد إتلافها كانت أمامه سبل أُخرى لا غبار عليها، مثل: محوها بالماء، أو دفنها في الأرض، أو...

ثمّ إنّ المسلمين أحسّوا بالترابط الجذريّ بين التحديث والتدوين - وذلك يدلّ على وعيهم وثقافتهم - فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وآله عن جواز كتابة أحاديثه؛ إذ احتملوا أن يمنع أو أن يقيّده النبيّ صلّى الله عليه وآله بقيود، أو يشترط في كتابته شروطاً، فأجابهم النبيّ صلّى الله عليه وآله بجواب:(اكتبوا ولا حرج) فنفى الضير في الكتابة ورفَعَ الحرج، إذ على المسلم أن يتثبّت ممّا يكتبه ويدوّنه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وأن لا يكتب ويدوّن المكذوب، وليس بعد هذا شرط.

الثالثة: لو اعتقدنا أنّ احتمال الكذب يُسقط الرواية من الاعتبار، كما قال الخليفة، للزم طرح جميع ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في الصحاح والمسانيد؛ لإمكان ورود مثل هذا الاحتمال فيها، وهذا ممّا لا يقول به أحدٌ؛ لأنّ القول بذلك من شأنه أن يسقط أصلاً من أُصول التشريع الإسلاميّ، وأن يقضي على السنّة النبويّة الشريفة قضاءً تامّاً، وأن يُلغي كلّ الأحكام الفرعيّة المستنبطة من الأحاديث.

ترى، كيف يقول الخليفة بهذا؟ أخفي عليه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يعمل بإخبار الصحابة العدول فيما يتّصل بالتهيّؤ والإعداد للغزوات والحروب؟!

وما مفهوم آية النبأ وآيات أُخرى إلاّ دليلٌ على حجية خبر الواحد، وأنّ المسلمين كانوا يعملون بخبر العدول، ويتوقّفون عند خبر الفسّاق، بل إنّ السيرة العقلائيّة قاضية

٢٩

بالأخذ بخبر الثقة العدل، ويبقى مجرّد احتمال الكذب أو الخطأ أو السهو أو... مرفوعاً بأصالة العدم في الجميع.

ولا ندري كيف نجمع بين ما ذهب إليه ابن حجر من أنّ الله قد نفى عن الصحابة: الكذب، والسهو، والريب، والفخر.. وبين شهادة الخليفة بما علمت، حيث ظنّ ببعض الصحابة ظنّاً - يتناول فيهم هذه الاحتمالات - ويرتقي إلى درجة الكذب، وأبو بكر أدرى بحال الصحابة كما هي عقيدة ابن حجر نفسه.

ولو سلّمنا جدلاً أنّ مجرّد الشكّ والاحتمال يسقط الخبر عن الحجّيّة عند الشاكّ، فلا نسلّم سقوط الخبر عن الحجّيّة عند الآخرين غير الشاكّين في المرويّات، فكان على الخليفة أن ينقل المرويّات ويشير إلى شكّه فيمن شكّ فيه لعدم مطابقة إخباره للواقع، لأيّ سبب كان. وللمخبَر بالخبر أن يعمل به، أو لا يعمل وفقاً لما يفرضه عليه الدِّين.

والثابت أنّ هذا التبرير - لو سلم - لا يوجب منع غيره، فالخليفة بمنعه كان يهدف المنع من التحديث مطلقاً لقوله في النصّ الثاني: (فلا تحدّثوا عن رسول الله).

فلو كان التدوين جائزاً فما معنى النهي؟ ولو صحّ النهي عنه صلّى الله عليه وآله، فلماذا جمع أبو بكر خمسمائة حديث(١) ؟!

إنّ منع الخليفة من تناقل حديث رسول الله، وحرقه لما جمعه من أحاديث عنه صلّى الله عليه وآله لا يستند إذَن إلى أصل شرعيّ.

أمّا النصّ الثاني: فإنّه يجسِّم حال الأمّة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنّ الخليفة أرجع سبب اختلافهم إلى اختلاف النقل عنه صلّى الله عليه وآله؛ لقوله: (إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً).

وحديث ابن أبي مليكة، وإن كان من المراسيل، إلاّ أنّه قد جاء في كلام الأعلام الذين تعرّضوا لمنع تدوين السنّة الشريفة.

وفيه إشارة إلى أنّ اعتماد التحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أصبح وسيلة مضادّة

____________________

(١) كما مرّ في بداية السبب الأول النص (أ).

٣٠

للخلفاء(١) ، وأنّ المسلمين سرعان ما أثّر فيهم فقد نبيّهم، فأحسّوا بضرورة حفظ سنّته، ومعرفة أحكام الدين التي بلّغها؛ فلذلك كانوا يُحَدِّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله نشراً لأحكامه، وحفظاً لها من الضياع والدثور.

وأنّ الصحابة باعتبارهم الجيل الأوّل، كانوا ملزمين ببيان الأحكام للناس، ورواية كلّ ما سمعوه من النبيّ صلّى الله عليه وآله للجيل الجديد المسمّى بجيل التابعين، إذ إنّهم بأمسِّ الحاجة لمعرفة أحكام الدين من خلال أقوال النبيّ وأفعاله وتقريراته، ولا يتسنّى ذلك إلاّ بالأخذ من الصحابة العدول، الذين هم بمنزلة المحفوظات الحيّة عن رسول الله بعد كتاب اللّه المبين.

وقد كان أبو بكر على علم بهذه الحاجة الدينيّة الماسّة من قِبَل التابعين، وبوجوب الإجابة من قبل الصحابة، وكان على علم أيضاً بمدى ضرورتها، وقد عبّر عنها في قوله: (فمَن سألكم فقولوا...).

فمهما يكن الأمر، فإنّ الحاجة إلى التحديث من جهة ووجود الاختلاف في المرويّات من جهة أُخرى، كان أمراً مهمّاً قائماً لابُدّ من حلِّه بطريقة ما.

وقد نحا الخليفة الأوّل منحى المنع من التحديث، والاقتصار على القرآن كحلّ لهذه الأزمة التي ظهرت بوضوح بعد فقد النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ تخلّصاً من الروايات المختلفة التي يبدو أنّ الخليفة عجز عن الجمع بينها أو تنقيحها، ممّا اضطرّه إلى منعها جميعاً دون استثناء، خصوصاً مع علمه بتوسّع دائرة الخلاف بتطاول الأزمان في الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله.

وموقف الخليفة أبي بكر، في منعه للتحديث، يثير عدّة إشكالات:

أوّلها: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يبعث أعيان الصحابة معلّمين للناس، ومنذرين، وكان يأمر الناس بالأخذ عنهم، والتفقّه على أيديهم، خصوصاً بعد (آية الإنذار).

ومنع الصحابيّ من رواية ما سمعه والعمل به، يعني إلغاء وظيفة العالِم الشرعيّة في

____________________

(١) هذا ما سيتضح لك بالأرقام في الصفحات اللاحقة.

٣١

تعليم الناس وتبصيرهم. وأمّا حدوث التقوّل والافتراء من قبل بعض الصحابة، فهو يستدعي ردع المتقوّل ومنع المفتري ذاته من التحديث، ولا معنى لمنع الجميع.

وأمّا إذا استعصى حكم ولم يُهتَد فيه إلى وجه الصواب، فبالإمكان الرجوع إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله ما دام حيّاً. والرجوع بعد وفاته إلى مشاورة سائر الصحابة ممّن سمع في ذلك أثراً عن النبيّ صلّى الله عليه وآله للاطمئنان وللتأكُّد من صحّة النقل، وهو ما رأيناه عند بعض الصحابة.

ثانيها: إنّه كان بإمكان الخليفة جمع الصحابة ضمن لجنة، والاستماع إلى منقولاتهم، وتثبيت ما هو الصحيح، وحذف المشكوك فيه(١) ؛ توحيداً للمنقول عنه صلّى الله عليه وآله. وكان ذلك الأمر سهلاً يسيراً؛ لأنّ الصحابة لم يذهبوا بعدُ في أقطار الأرض للغزو والفتح كما حدث بعدئذٍ في زمن عمر، ولم يفصل بينهم زمن طويل عن زمان النبيّ صلّى الله عليه وآله، ممّا يعني قلّة نسيانهم وندرة خطئهم، ووجود فرصة ذهبيّة لتوحيد نقولاتهم بأيسر سبيل، خصوصاً مع إمكان التعرّف على حال الراوي من قريب دون تعدّد الوسائط في النقل، إذ أنَّ أغلبهم ما يزال في المدينة على قيد الحياة.

ثالثها: إنّ المنع من التحديث، وبتطاول الأمد، سيضاعف من عدد الأحكام المجهولة عند المسلمين؛ وذلك ما يحدو بهم أن يستنبطوها من المسلّمات والمرويّات العامّة؛ وبذلك تختلف وجوه الاستنباط وتتعدّد وجهات النظر، بينما ينتفي كلّ هذا الاختلاف لو كان التحديث محكماً والتدوين جارياً.

ونظراً لالتفات الخليفة إلى نقطة: (الناس بعدكم أشدّ اختلافاً) كان لزاماً عليه أن لا يترك الناس يتخبّطون في الجهالة فيما يتّصل بالأحكام الشرعيّة، أو يرتكسون في اختلاف أدهى وأمرّ، بسبب ظهور حالة تعدّد وجهات النظر الشخصيّة لكلّ مستنبط، وقد ساهم هذا المنع في أن لا يُروى عن أبي بكر إلاّ مائة واثنتان وأربعون رواية - كما

____________________

(١) هذا على أسوأ التقادير، وإلاّ فإنّه لا يجوز حذف حتى المشكوك؛ وذلك لاحتمال صدوره عن الرسول صلّى الله عليه وآله، وهذا هو الذي يدعو محدثي أهل القبلة سنّة وشيعة إلى أن لا يتناسوا حتى الأحاديث الضعيفة في مصنّفاتهم الحديثية.

٣٢

قال ابن حزم(١) .

فلو قيست المرو يّات المجموعة مع ما قد أُتلف منها لاستبان أنّ ما أُتلف وأُبيد كان كثرة كاثرة.

رابعها: إنّه لا يمكن منع التحديث بالأحاديث مع العلم القطعيّ باحتوائها على أُمّهات المسائل ممّا يحتاجه المسلمون في حياتهم الدينيّة والدنيويّة، إذ إنّ إضاعة الأحكام وإبادتها يدخل في دائرة المحرّم والممنوع؛ لأنّه يؤول إلى إضاعة معالم الدين وأحكامه، فكان الموقف المناسب أن تُوَحَّد المرويّات وفقاً لمقياس ما يتّخذه الخليفة، وأن يلجم الكذّابين ويمنعهم من التحديث، وأن يرفع الخلاف الظاهريّ بعرض الروايات على القرآن، أو منقولات الصحابة الآخرين المتثبتين، إلى غير ذلك من سبل ضبط الحديث، والأخذ به ممّا يتّبعه المسلمون اليوم.

ثمّ إنّ أمر الخليفة الصحابة أن يقولوا لمن يسألهم عن مسألة ما: (بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه)... فيه مسامحة واضحة، إذ كيف يمكن معرفة الأحكام الشرعيّة من القرآن وحده دون الرجوع إلى السنّة الشريفة؟ ثمّ ألم يكن القرآن حَمّال أوجه، منه المجمل ومنه المبيّن، والمحكم والمتشابه، والعامّ والخاصّ، والناسخ والمنسوخ؟ فكيف يمكن الوقوف على حلال الله وحرامه من القرآن وحده؟! ثمّ كيف يكِلُ الناسَ إلى القرآن وهو القائل عن الكلالة: أقول فيها برأيي فإن كان صحيحاً فمن الله وإن كان خطأً فمن نفسي(٢) !!

ولماذا تمنّى أن يسأل الرسول صلّى الله عليه وآله عن الأنصار: هل لهم في هذا الأمر نصيب؟ وميراث الاثنتين ابن الأخ والعمة(٣) و... بعد موته صلّى الله عليه وآله إذا كان ما ورد في القرآن من حلال وحرام يكفيه؟!

____________________

(١) راجع كتاب أسماء الصحابة، وما لكلّ واحد منهم من العدد لابن حزم الأندلسيّ.

(٢) سنن الدرامي ٢: ٤٦٢، باب الكلالة ح ٢٩٧٢، تأويل مختلف الحديث ١: ٢٠.

(٣) انظر تاريخ دمشق ٣٠: ٤٣٠، مجمع الزوائد: ٢٠٣، المعجم الكبير ١: ٦٣، ح ٤٣، كنز العمال ٥: ٦٣١، ح ١٤١١٣، تاريخ الطبري ٢: ٦٢٠.

٣٣

ولو صحّ قول الخليفة فبم نفسر إجماع المسلمين بشتى طوائفهم على ضرورة الرجوع للسنة لمعرفة الأحكام؟

بل كيف نفسر كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله في حديث الثقلين المتواتر؛ حيث رسم أصلين أساسين لمعرفة الإسلام، وهما الكتاب والعترة؟

ألا يعني ذلك أنّ العتِرة والسنّة ماثلان حاضران بين المسلمين، وأنّه لابُدّ من وجود مفسّرٍ للقرآن من عترةٍ وسنّة، استناداً إلى كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهذا يعني مرّة أُخرى أنّه لا يمكن فهم أحكام الله من القرآن وحده.

ولابدّ أنّ رسول الله كان قد أرشد المسلمين إلى سنّة واضحة وعترة شاخصة حين أرجع أُمّته إليهما.

حديث الأريكة:

ويذكّرنا قول أبي بكر في هذا السياق بحديث الأريكة الذي روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله بطرق متعدّدة:

حيث جاء في مسند أحمد، وسنن ابن ماجة، وأبي داود، والدارميّ، والبيهقيّ(١) ، وغيرها: (أنّ رسول الله قال:يوشك الرجل متّكئ على أريكته، يحدّث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرّمناه ).

وجاء في ذيل بعض النصوص السابقة:(ألا وإنيّ قد أُوتيتُ القرآن ومثله) (٢) .

وفي آخر:(ألا إنّي أُوتيت الكتاب ومثله معه) (٣) .

وفي ثالث:(يأتيه الأمر ممّا أمرتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ١٣٢، ح ١٧٢٣٣، سنن ابن ماجة ١: ٦، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله والتغليظ على من عارضه ح ١٢، سنن أبي داود ٤: ٢٠٠، باب في لزوم السنّة، ح٤٦٠٤، سنن البيهقيّ ٩: ٣٣١، جماع أبواب ما يحل ويحرم من الحيوان، ح ١٩٢٥٢، دلائل النبوّة للبيهقي ١: ٢٥، ٦: ٥٤٩، الإحكام لابن حزم ٢: ٢١٠، فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي صلّى الله عليه وآله، الكفاية في علم الرواية: ٢٣.

(٢) مسند أحمد ٤: ١٣٠، ح ١٧٢١٣، الكفاية للخطيب: ٢٣.

(٣) مسند أحمد ٤: ١٣٠، سنن أبي داود ٤: ٢٠٠/ ٤٦٠٤.

٣٤

كتاب الله اتّبعناه) (١) .

وروى الخطيب البغداديّ في كتاب (الكفاية) عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال:(لعلّ أحدكم أن يأتيه حديثٌ من حديثي، وهو متّكئ على أريكته، فيقول: دَعُونا مِن هذا، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه) (٢) .

وروى ابن حزم بسنده عن العرباض بن سارية: أنّه حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله يخطب الناس، وهو يقول:(أيحسب أحدكم متّكئاً على أريكته، قد يظنّ أنّ الله تعالى لم يحرّم شيئاً إلاّ ما في القرآن، ألا وإنّي والله قد أمرتُ ووعظتُ ونهيتُ عن أشياء، إنّها لمثل القرآن) .

قال ابن حزم: صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله هي مثل القرآن، ولا فرق في وجوب كلّ ذلك علينا. وقد صدّق الله تعالى هذا، إذ يقول:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ) (٣) .

وهي أيضاً مثل القرآن في أنّ كلّ ذلك وحي من عند الله تعالى، قال الله عزّ وجلّ:( وما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إن هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٤) .

وقبل أن نترك حديث الأريكة لنقرأ هذا النصّ.

(فإذا كانت (الأريكة) كما يقول أهل اللغة: سريراً مُنجّداً مُزَيّناً في قُبّة أو بيت(٥) أو مطلق (السرير) كما فسّر به الشافعيّ(٦) والحازميّ..(٧) فإنّ أولى من تُهَيّأُ له إنّما هو الحاكم والخليفة الذي يحكم الناس ويتحكّم بأُمورهم. وإذا لاحظنا الفعل (يُوشك) الوارد في كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وهو لفظ يستعمل للدلالة على قرب تحقّق العمل؛ لأنّه من أفعال المقاربة، وإذا بحثنا عن ذلك بين الخلفاء لما وجدنا أقرب عهداً إلى زمان رسول

____________________

(١) سنن ابن ماجة ١: ٦/ ١٣، المستدرك ١: ١٩٠، ح ٣٦٨، الكفاية للخطيب: ٢٤، الفقيه والمتفقّه ١: ٨٨.

(٢) الكفاية: ٢٦.

(٣) النساء: ٨٠.

(٤) الأحكام، لابن حزم ٢: ١٥٩، فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص، والآيتان من سورة النجم: ٣، ٤.

(٥) مختار الصحاح ١: ٦، مادة أرك.

(٦) الرسالة للشافعيّ: ٩١، باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله، مناقب الشافعيّ للبيهقيّ ١: ٣٣٠.

(٧) الاعتبار: ٧.

٣٥

الله صلّى الله عليه وآله من الخليفة الأوّل، الذي قعد على أريكة الحُكم بعد النبيّ مباشرة، وتصدّى للحديث بعين ما أنبأ به النبيّ صلّى الله عليه وآله، فيما رواه الذهبيّ: أنّ الصدّيق - أبا بكر - جمع الناس، بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: (بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله، وحَرِّموا حرامه)(١) .

إذا علمنا ذلك، اتضح لنا أنّ أبا بكر لم يأبَ أن يكون هو ذلك الرجل الذي أنبأ الرسول صلّى الله عليه وآله بمجيئه، متّكئاً على أريكته، مجابهاً الحديث بقوله: (بيننا وبينكم كتاب الله...).

فكان هذا من أعظم دلائل النبوّة وأوضح أعلامها(٢) .

والغريب أنّ التاريخ لم يحفظ لنا معارضة للحديث من حاكم مقتدر أشدّ وأقرب عهداً من وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله من أبي بكر ومن عمر بن الخطّاب. ومن هذا نفهم أنّ غيرهما لم يكن مقصوداً بهذه الأحاديث. وأمّا من جاء بعدهما فإنّما استَنّ بسنّتهما، ولم يمنع الحديث بأشدّ من منعهما)(٣) .

أيُّ المنعَين أسَبقُ:

بعد هذا كلّه نلتقي بمسألة أُخرى، هي: هل كان منع الخليفة للتحديث والكتابة والتدوين قد حدث في وقت واحد، أم على التعاقب؟

ظاهر الأمر أنّ الخليفة الأوّل - لأسباب نذكرها في السبب الأخير - دوّن الحديث، ثمّ حظر التحديث أوّلاً، ولعلّه كان يتوخّى من ذلك الحظر ممارسة التشريع، والمحافظة على السلطة التشريعيّة، إضافة إلى ما له من سلطة سياسيّة، بمعنى أنّه كان يريد توحيد السلطتين الإداريّة والتشريعيّة، ممّا يسهّل تثبيت الخلافة الإسلاميّة(٤) .

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١: ٢ - ٣.

(٢) انظر دلائل النبوّة للبيهقيّ ١: ٢٤ و ٦: ٥٤٩.

(٣) انظر تدوين السنّة الشريفة: ٣٥٦ - ٣٥٧، بتصرّف.

(٤) سيتّضح هذا المدّعى في السبب الأخير إن شاء الله تعالى.

٣٦

وبعد أن مُنع التحديث تضاعفت الحاجة لكتابة وتدوين الآثار النبويّة، بسبب رحيل النبيّ صلّى الله عليه وآله، أوّلاً، وبسبب حظر التحديث من قبل الخليفة ثانياً، وبسبب بروز اتّجاه الرأي وتحرّكه في دائرة الفراغ، ممّا اضطرّ بعض الصحابة إلى أن يكتبوا ويدوّنوا مسموعاتهم ويحتفظوا بها للأجيال القادمة، ولذلك ثنّى الخليفة أبو بكر بمنع الكتابة والتدوين بعد منعه التحديث.. وهذا التسلسل في المنع ليس بذي أهمّيّة بالغة إذا ما قيس بتأثير الحدث تاريخيّاً؛ لأنّ المنع بكلا شقّيه - التحديثيّ والكتابي التدوينيّ - كان في أمد لا يتجاوز الأربع سنين، وكانت هي البذرة الأولى في هذا السبيل، ثمّ سار على خطاها عمر بن الخطّاب، ومَن بعده من المانعين، واستمرّت - إلاّ في خلافة عليّ بن أبي طالب - حتّى فتح التدوين في زمن متأخّر من العهد الأمويّ.

والواقع أنّ أبا بكر وعمر وعثمان نجحوا في منع التدوين نجاحاً كبيراً، ولكنّهم لم يلاقوا مثل هذا النجاح في منع التحديث؛ فالصحابة والتابعون وتابعوا التابعين لم يلتزموا بحظر التحديث، وإن كانوا قد تظاهروا بالانصراف عن التدوين، إلى أن فتح عمر بن عبد العزيز باب التدوين.

وحين انفتح التدوين الحكوميّ - في زمن الأمويّين - صار مقدّمة لشيوع ظاهرة تدوين موضوعات الحديث على مصراعيه، ممّا أتاح للحكّام جمع أكبر عدد من المدوّنين ليدوّنوا لهم ما يروقهم من الأحاديث بعد أن كان الوضع قد تفشّى منذ أوائل العهد الأمويّ، وقد فصّلنا الكلام عن هذا في كتابنا (وضوء النبيّ)(١) ، وقلنا إنّ معاوية أمر كعب الأحبار أن يجلس في المسجد ويقصّ للناس، كي يضع له ما يريد من أحاديث، ويعارض ما لا يعجبه منها، فكان أنْ وُضِعَ على لسان الرسول أحاديث كثيرة.

من هنا يمكن أن نقول: إنّ رأي الخليفة أبي بكر هو رأي واحد، بكلا شقّيه، ومفاده الحَجْر على التحديث والتدوين، وإن كان قد علّل منعه للتحديث أوّلاً بتخوّفه من الاختلاف في المرويّات، وأدّاه ذلك إلى دعوته للأخذ بكتاب الله وحده.

____________________

(١) وضوء النبيّ: المدخل ص ٢٥٦.

٣٧

وقد استحكم الشكّ في قلبه - بسبب الاختلاف الذي منع على أساسه التحديث - فسرى حتّى شمل أصحابه العدول المؤتمنين، فغدا يُسقط جميع المرويّات، حتّى التي كتبها ودوّنها هو بنفسه؛ ولذلك تشدّد أكثر، وراح يحظر الكتابة والتدوين أيضاً بعد منعه التحديث.

وقد قال الدكتور حسين الحاجّ حسن في كتابه (نقد الحديث) وهو في معرض الكلام عن نشأة الحديث: (أمّا إذا انتقلنا إلى عصر الصحابة وجدناهم غالباً يكرهون تدوين الحديث، بينما يرغبون في روايته، وهو أمر غريب، يحبّون رواية الحديث ويكرهون تدوينه! سؤال يحتاج إلى بحث وتفسير)(١) !!

هذا هو الظاهر الذي يمكن أن نفهمه من تعلِيلَي أبي بكر، مع أنّ واقع المنع يمكن أن يستند إلى أسباب أُخر، غير ما أظهره في هذين التعليلين، إذ أوضحنا سقوطهما عن الاعتبار بما مرّ من الإشكالات. أمّا الأسباب الواقعيّة للمنع، فسيأتيك وجهها في السبب الأخير إن شاء الله.

وبذلك عرفنا أنّ تعليل الخليفة لمنع التدوين، تعليل غير مقنع، ولا يثبت أمام البحث والمناقشة(٢) .

____________________

(١) نقد الحديث ١: ١٤٢.

(٢) انظر زيادة في ذلك كتابنا (تاريخ الحديث النبوي، الموثرات في عهد أبي بكر) فإنّ فيه ما يبلور رؤيتنا بشكل أكثر وضوحاً فليراجع.

٣٨

السبب الثاني

ما طرحه الخليفة عمر بن الخطّاب

ويمكن أن يستنتج هذا الرأي من نصّين:

أ - عن عروة بن الزبير: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً، وقد عزم الله له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي واللَّه لا أُلبِسُ كتابَ الله بشي أبداً(١) .

وروي عن يحيى بن جعدة: (أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها. ثمّ كتب في الأمصار: من كان عنده منها شي فليمحُه)(٢) .

ب - عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بن الخطّاب بلغه: أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيُّها الناس! إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يُبقينَّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي.

قال: فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف، فأتَوْه بكتبهم، فأحرقها بالنار!!

____________________

(١) الجامع لمعمر بن راشد ١١: ٢٥٧، مصنف عبد الرزاق ١١: ٢٥٨، باب كتابة العلم ح ٢٠٤٨٤، تقييد العلم: ٤٩، المدخل إلى السنن الكبرى ١: ٤٠٧.

(٢) كنز العمّال ١٠: ٢٩٢، ح ٢٩٤٧٦، تقييد العلم: ٥٣، حجّيّة السنّة: ٣٩٥.

٣٩

ثمّ قال: أُمنية كأُمنية أهل الكتاب(١) .

وفي الطبقات الكبرى: (مثناة كمثناة أهل الكتاب)(٢) .

ويحتمل أن تكون مصحّفة عن (مشناة) وهي روايات شفويّة دوّنها اليهود ثمّ شرحها علماؤهم فسُمّي الشرح جماراً، ثمّ جمعوا بين الكتابين فسمّي مجموعهما - الأصل والشرح - المشناة(٣) .

ومن النصّين الآنفين نفهم أنّ تعليل الخليفة لمنعه تدوين السنّة الشريفة ينحصر فيما يلي:

١ - الخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره.

٢ - الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.

أمّا التعليل الأوّل: فيُرَدُّ عليه بأُمورٌ:

أوّلاً: إنّ هذا التبرير صدر تحت قناعات سابقة ولظروف خاصّة؛ لقوله: (وإنّي ذكرتُ قوماً...). و(أُمنية كأُمنية أهل الكتاب).

وسنشير إلى تلك الخلفيّات عند عرضنا للسبب الأخير.

على أنّ هذا التصوّر لا يُستساغ من قبل الخليفة فيما يتّصل بالصحابة الأوائل؛ لأنّ هذه العلّة ممّا لا تشملهم. هذا أوّلاً.

ثانياً: يلاحظ أنّ هذا التعليل ينطوي على غير قليل من الغموض والإبهام، الأمر الذي يدعو إلى الشكّ في كونه السبب المباشر لمنع الخليفة، إذ لا ينكر أحد من المسلمين أنّ ترك القرآن والانصراف إلى سواه منهيٌّ عنه، وحرام شرعاً، لكنّ الادّعاء بأنّ الاشتغال بغير القرآن يؤدّي إلى تركه، خلط بَيِّن وكلام غير دقيق؛ إذ من الثابت أنّ ما يؤدّي إلى ترك القرآن هو ما يكون منافياً للقرآن، كالأخذ بالتوراة والإنجيل، وما

____________________

(١) حجّيّة السنّة: ٣٩٥.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ١: ١٤٠.

(٣) انظر الفكر الديني اليهودي للدكتور حسن ظاظا: ٦٥ - ٨١. دلائل النبوّة لأبي نعيم: ٦٣٨ ذيل رقم ٤٢٨، والصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ١: ٥٩، الموسوعة العربيّة الميسّرة: ٥٤٣ (تلمود)، تدوين السنّة الشريفة: ٣٤٠، وموسوعة المورد ٤: ١٩٩ (الجمارة).

٤٠