منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93222
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93222 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

وجاء عنه قوله: أيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها، أمّا لو قدّمتم مَن قدّم الله، وأخّرتم مَن أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم، ولَمَا عال وليُّ الله، ولا طاشَ سهمٌ من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه. فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وَبالَ أمركم، وسيعلم الذين ظَلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون(١) .

وقال الإمام أمير المؤمنين عليّ لأبي ذرّ:(إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك) (٢) .

وهذا النصّ وما سبقه ممّا يكشف عن تحيّر الأمّة الممتحَنة، وأنّهم لا يدرون بكلام أي الاتّجاهين يأخذون بسبب تقديمهم المتأخّر وتأخيرهم المتقدّم، ذلك أنّ الصحابة قد تصدّروا الاتّجاهين:

فأبو ذرّ ومَن يماثله من أنصار التعبّد المحض، يؤكّدون لزوم الأخذ بسنّة رسول الله الموجودة عند أهل بيته؛ لكثرة النصوص المسموعة والمنقولة عن مكانة عليّ بن أبي طالب، فعليٌّ قد دوّن كلام رسول الله في حياته صلّى الله عليه وآله، وله صحيفة وكتاب الجامعة والجفر فيها جميع ما سمعه من رسول الله. وكان يخلو بالنبيّ في اليوم مرّتين صباحاً ومساءً، وقد صرّح بأنّه يعرف كل آية أين نزلت وفيمن نزلت و...

وهناك من الصحابة مَن يأخذ بكلام عمر، ولا يرتضي التدوين عن رسول الله، بل يشرّع الاجتهاد قبال كلامه صلّى الله عليه وآله، معلّلاً بأنّه قد عرف روح التشريع!

وقد مرّ عليك قول ابن عبّاس: مالي لا أسمع الناس يُلَبُّون؟!

____________________

=

منه، مسند الشهاب ٢: ٢٧٣، ح ١٣٤٣، وقد روى هذا الحديث صحابة آخرين منهم أبي سعيد الخدري، وابن عباس كما في الأوسط ٦: ٨٥، ح ٥٨٦٩، والكبير ٣: ٤٦، ح ٢٦٣٨، ١٢: ٣٤، ح ١٢٣٨٨، حلية الأولياء ٤: ٣٠٦.

(١) تاريخ العقوبي ٢: ١٧١.

(٢) نهج البلاغة ٢: ١٢ الخطبة ١٣٠، شرح نهج البلاغة ٨: ٢٥٢، عيون الحكم والمواعظ، للّيثي: ٥٥٢، الكافي ٨: ٢٠٧، السقيفة وفدك للجوهري: ٧٨، وانظر المحاسن ٢: ٣٥٤ الباب ١٢، ح ٤٥، مكارم الأخلاق: ٢٤٩ باب في التشيع.

٣٨١

فقلت [ أي الراوي ]: يخافون معاوية.

فخرج ابن عبّاس من فُسطاطه فقال: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وإن رغم أنف معاوية. اللّهمّ العنهم؛ فقد تركوا السنّة من بغض عليّ(١) .

وعن عكرمة قال: صلّيت خلف شيخ بمكّة، فكبّر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عبّاس: إنّه أحمق!

فقال ابن عبّاس: ثكلتك أُمّك سنّة أبي القاسم(٢) .

إنّ سرقة معاوية البسملة من السورة!(٣) ، وبيعه سِقايةً من ذهب - أو ورق - بأكثر من وزنه، واعتراض أبي الدرداء عليه، وحكايته حديثاً عن الرسول في عدم جواز ذلك، وقول معاوية له: لا أرى بأساً بذلك.

فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟! أنا أُخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا أُساكِنك بأرضٍ أنت فيها(٤) .

كلّ هذه النصوص وما مرّ يُوضّح تخالف النهجين في الأصول والمفاهيم.

المرحلة الثالثة:

وهي مرحلة الخلفاء الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكوميّ، فإنّ هدف هؤلاء قد تماثَل مع أهداف الخلفاء الذين قبلهم والذين بعدهم، فهؤلاء قد استغلّوا الأفكار السائدة في العصر الأولّ، وما ذهب إليه الخَلَف من مشروعيّة الرأي

____________________

(١) سنن النسائيّ ٥: ٢٥٣، ح ٣٠٠٦، المستدرك على الصحيحين ١: ٦٣٦، ح ١٧٠٦ قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، السنن الكبرى للبيهقيّ ٥: ١١٣، ح ٩٢٣٠ والنص منه، الاعتصام بحبل الله المتين ١: ٣٦٠.

(٢) صحيح البخاريّ ١: ٢٧٢ كتاب الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود، ح ٧٥٥.

(٣) مصنف عبد الرزاق ٢: ٩٢، ح ٢٦١٨، الأم ١: ١٠٨، باب القراءة بعد التعوّذ، سنن الدارقطني ١: ٣١١، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، ح ٣٣ و ح ٣٤، المستدرك على الصحيحين ١: ٣٥٧، ح ٨٥١.

(٤) موطّأ مالك ٦٣٤:٢ كتاب البيوع (١٦) باب بيع الذهب بالفضّة، ح ١٣٠٢، السنن الكبرى للبيهقيّ ٥: ٢٨٠، ح ١٠٢٧٤، الرسالة للشافعيّ: ٤٤٦.

٣٨٢

للصحابة، بُغية الحدّ من نشاط الطالبيّين - وهم المخالفون لهم على مرّ القرون - وبغية التعرّف عليهم، وقد عرفت أنّ الخليفة الأمويّ عمر بن عبد العزيز قد أمر ابن شهاب الزهريّ بتدوين السنّة النبويّة، مؤكّداً الأخذ بسنّة الشيخين. وجاء عن ابن شهاب قوله: كنّا نكره تدوين السنّة حتّى اكرَهَنا السلطان على ذلك(١) .

ولم يخفَ عليك أنّ هؤلاء الأمراء كانوا من أبناء أبي سفيان والحَكَم بن العاص، ومن الذين لم يدخلوا الإسلام إلاّ مُكْرَهين!

ألم يَقُل أبو سفيان: فو الذي يحلف به أبو سفيان، لا جنّة ولا نار!(٢) .

أوَلَيسَ معاوية هو القائل استخفافاً برسول الله صلّى الله عليه وآله (... وإنّ ابن أبي كبشة لَيُصاحُ به كلّ يوم خَمْسَ مرّات: أشهد أن محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى؟! وأيّ ذِكر يدوم بعد هذا، لا أباً لك؟! لا والله إلاّ دفناً دفناً(٣) .

أو لم يشتهر إنشاد يزيد بن معاوية شعر ابن الزبعرى في إنكاره النبوّة:

لَعِبَتْ هاشمُ بالملْكِ فلا

خبرٌ جاءَ، ولا وَحْيٌ نَزَلْ!

وكيف يمكن أن يخفى ما جاء عن أبي سعيد الخدريّ: من أنّه جذب ثوب مروان بن الحكم لمّا أراد أن يرتقي المنبر ليخطب قبل الصلاة في العيدين، وقوله له: غيّرتم والله! وجواب مروان له: أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم، فقال: ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم! فقال مروان: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة(٤) .

قال الإمام محمّد عبده: (إنّ عموم البلوى بالأكاذيب حقّ على الناس في دولة الأمويّين! فكثر الناقلون وقلّ الصادقون، وامتنع كثير من أجلّة الصحابة عن الحديث،

____________________

(١) سنن الدارمي ١: ١٢٢، ح ٤٠٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٦٢٢، الاستيعاب ٤: ١٦٧٩، الأغاني ٦: ٣٧١، شرح النهج ١٥: ١٧٥، ٩: ٥٣، ٨: ٣٠، ٢: ٤٥، مروج الذهب ٢: ٣٤٣.

(٣) الأخبار الموفّقيّات للزبير بن بكار: ٥٧٦ - ٥٧٧، مروج الذهب ٣: ٤٥٤، النصائح الكافية: ١٢٤، شرح النهج ٥: ١٣٠.

(٤) صحيح البخاري ١: ٣٢٦، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، ح ٩١٣، السنن الكبرى للبيهقي ٣: ٢٨٠، باب الخروج في الأعياد إلى المصلى، ح ٥٩٢٩.

٣٨٣

إلاّ لمن يثقون بحفظه خوفاً من التحريف فيما يؤخذ عنهم)(١) .

والخلفاء العبّاسيّون ليسوا بأقلّ وطئاً على الشريعة من الأمويّين، فقد استخدموا الشريعة لمصلحة الحكم والنظام، وقد وقفتَ على نصوصهم مع مالك بن أنس، وطلب المنصور منه أن يدوّن السنّة حتّى يجمع الناس على ذلك، ودعوته أبا حنيفة للخوض في نقاش مع صادق أهل البيت...(٢) وغيرها من النصوص التي تؤكّد التخالف الفكريّ والأصول المتبناة عند الطرفين.

إنّ هؤلاء قد اتّخذوا الاختلاف الفقهيّ وسيلة للتعرّف على الطالبيّين، فزادت لأجله الأحاديث المتناقضة والمرجِّحة لبعض المذاهب في الشريعة الإسلاميّة(٣) .

قال الأستاذ أحمد أمين: (... ومن الغريب أنّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان بشكل هَرَم، طرفُه المدبَّب هو عهد الرسول صلّى الله عليه وآله، ثمّ يأخذ في السعة على مرّ الزمان حتّى يصل إلى القاعدة، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول. مع أنّ المعقول كان العكس؛ فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه، ثمّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا.

ولكنّا نرى أنّ أحاديث العهد الأمويّ أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العبّاسيّ أكثر من أحاديث العهد الأمويّ)(٤) .

ثمّ علّل ذلك بنشاط حركة الهجرة في طلب الحديث ودور اليهود والنصارى في مسخ الشريعة، متناسياً دور السلطة وأهدافها السياسيّة.

لكنّي أتساءل: هل يمكن لليهود - وهم الذين يعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون - ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أيّ دعم أو تغاضٍ من قبل السلطة الحاكمة؟ وبنظري إنّ العوامل السياسيّة والذهاب إلى مشروعيّة رأي الجميع كان من

____________________

(١) أضواء على السنّة المحمدية: ٣٨٩، عن تاريخ الإمام محمد عبده ٢: ٣٤٧.

(٢) انظر الحوار وتعليقنا عليه في (وضوء النبيّ): ٣٤٩ - ٣٥٣.

(٣) بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب (وضوء النبيّ).

(٤) ضحى الإسلام ٢: ١٢٨ - ١٢٩.

٣٨٤

العوامل المهمّة في هذا المجال، وقد أنبأ رسول الله بوقوع ذلك وأبدى تخوّفه على مستقبل الشريعة وأرشد إلى ضرورة التزام سنّته، ولزوم الأخذ بقول العترة من آله كما صرّح صلّى الله عليه وآله به في حديث الثقلين وغيره من الأحاديث، وقد توقّع الخليفة أبو بكر حدوث ذلك أيضاً، لكنّه لم يعالجه إلاّ بدعوة النّاس إلى الاقتصار على كتاب الله!!

اتّضح من كلّ ما سبق أنّ هذه الأفكار وغيرها قد حدثت من جرّاء المنع عن تدوين السنّة الشريفة والقول بحجّيّة رأي الصحابة وغيرها من العوامل السياسيّة.

وقد قيل عن الاختلاف: إنّه يبدأ بمليمتر واحد حتّى ينتهي إلى كيلومتر، بل وإلى ما لا نهاية، حسب تعبير علماء الهندسة. وقد شاهدنا هذه الحقيقة عياناً في محنة النصّ النبويّ، وما جرى على الشريعة، وأنّ السنّة قد وصل بها الأمر إلى أنّها أصبحت لا تعرف إلاّ بفعل الصحابة بل بجعل كلام الصحابيّ وفعله مخصِّصاً للقرآن!

وهذه بعض النصوص عن أهل البيت، ترى فيها أجوبة الكثير من الشبهات المطروحة، مؤكِّدة على عدم مشروعيّة الأخذ بالرأي.

فمن رسالة طويلة للإِمام الصادق إلى أصحابه، من جملتها:

أيّتها العصابة المرحومة المفلحة! إنّ الله أتمّ لكم ما آتاكم من الخير. واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى، ولا رأي، ولا مقاييس، قد أنزل اللهُ القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شي، وجعل للقرآن وَتَعَلُّمِ القرآن أهل، لا يَسَعُ أهلُ عِلْمِ القرآنِ الذي آتاهم الله علمه أن يأخذوا في دينهم بهوى ولا رأي ولا مقاييس، وهم أهل الذكر الذين أمر الله الأمّة بسؤالهم... إلى أن قال:

وقد عَهِد إليهم رسولُ الله قبل موته، فقالوا: نحن بعدما قبض الله عزّ وجلّ رسوله يَسَعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله رسوله! وبعد عهده الذي عهده إلينا، وأمرنا به؛ مخالفاً لله ولرسوله، فما أحد أجرأ على الله، ولا أبين ضلالة ممّن أخذ بذلك، وزعم أنّ ذلك يَسَعه. والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه، ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلّى الله عليه وآله وبعد موته.

٣٨٥

هل يستطيع أُولئك أعداء الله أن يزعُموا أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟ فإن قال: نعم، فقد كذب على الله وضلّ ضلالاً بعيداً، وإن قال: لا، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه، فقد أقرّ بالحجّة على نفسه، وهو ممّن يزعم. وكما أنّه لم يكن لأحد من الناس مع محمّد أن يأخذ بهواه، ولا رأيه، ولا مقاييسه؛ خلافاً لأمر محمّد، كذلك لم يكن لأحد بعد محمّد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه. ثمّ قال:

واتَّبعوا آثار رسول الله وسنّته، فخُذوا بها، ولا تتّبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا، فإن أضلّ الناس عند الله مَن اتّبع هواه ورأيه بغير هدى من الله.

وقال: أيّتها العصابة، عليكم بآثار رسول الله وسنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله من بعده وسنّتهم؛ فإنّه مَن أخذ بذلك فقد اهتدى، ومَن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ؛ لأنّهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم(١) .

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في كلام طويل، منه: إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه، ولم يأخذ عن رأيه(٢) .

وعنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: قال الله عزّ وجلّ: ما آمن بي مَن فسّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبّهني بخلقي(٣) .

قال معاوية بن ميسرة بن شريح: شهدت أبا عبد الله [ الصادق ] في مسجد الخيف، وهو في حلقة، فيها نحو من مائتي رجل، وفيهم عبد الله بن شبرمة فقال له: يا أبا عبد الله! إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة، ثمّ ترِد علينا المسألة فنجتهد فيها

____________________

(١) الكافي ٨: ٥ - ٦، ١٤، وعنه في الوسائل ٢٧: ٣٧، ح ٣٣١٥٢ والمتن منه. وقد ردّ الإمام الصادق ما طرحته مدرسة الاجتهاد من آراء حول اجتهاد الرسول واختلاف أُمّتي رحمة و...، في كلام طويل له، راجع المحكم والمتشابه: ٩١، والوسائل ٢٧: ٥٢ - ٥٣، ح ٣٣١٨٨ عنه.

(٢) أمالي الصدوق: ٣٤٢، ح ٥٧٠، معاني الأخبار: ١٨٥، باب معنى الإسلام، ح ١، كما في الوسائل ٢٧: ٤٤ - ٤٥، ح ٣٣١٧١.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢: ١٠٧، باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد، ح ٤ وعنه في الوسائل ٢٧: ٤٥، ح ٣٣١٧٢.

٣٨٦

بالرأي إلى أن قال فقال أبو عبد الله: فأيّ رجل كان عليّ بن أبي طالب؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فإنّ عليّاً أبى أن يُدخل في دين الله الرأيَ، وأن يقول في شيء من دين الله بالرأي والمقاييس إلى أن قال: لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولا عمل بها(١) .

وعن الباقر عليه السلام:يا زرارة! إيّاك وأصحابَ القياس في الدِّين، فإنّهم تركوا علم ما وُكّلوا به، وتكلّفوا ما قد كُفُوه، يتأوَّلون الأخبار، ويكذبون على الله عزّ وجلّ (٢) وكأنّي بالرجل منهم يُنادى مِن بين يديه، فيجيب مِن خلفه، وينادى من خلفه، فيجيب من بين يديه، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدِّين؟ (٣) .

وعن الصادق:احتفِظُوا بكتبكم، فإنّكم سوف تحتاجون إليها (٤) . وقوله: اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا(٥) .

وقوله: اكتب وبُثّ علمك في إخوانك، فإن مِتّ فأورثْ كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمانُ هَرَج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم(٦) .

وما سواها من الأخبار الكثيرة التي تركناها مخافة الإطالة، وكلّها تصبّ في مصبّ واحد مفاده ضرورة التدوين واتّباع المدوّنين من خلّص أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله، وضرورة التعبّد المحض، ونبذ الرأي والاجتهاد والفتيا طبق الأصول التي لم يأتِ بها النبيّ صلّى الله عليه وآله، وإنَّما تولّدت في أزمان متأخّرة وتحت ظروف خاصّة.

____________________

(١) المحاسن: ١: ٢١٠، ح ٧٧، كما في الوسائل ٢٧: ٥١، ح ٣٣١٨٣.

(٢) لقولهم بالظنّ قال سبحانه( قُلْ آَللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ ) .

(٣) الوسائل ٢٧: ٥٩، ح ٣٣١٩٣.

(٤) الكافي ١: ٥٢، باب رواية الكتب والحديث، ح ١٠، شرح أصول الكافي ٢: ٢٢١، الوسائل ٢٧: ٨١، ح ٣٣٢٦٢، ٢٧: ٣٢٣، ح ٣٣٨٤٥.

(٥) الكافي ١: ٥٢، باب رواية الكتب والحديث، ح ٩، شرح أصول الكافي ٢: ٢٢٠، الوسائل ٢٧: ٨١، ح ٣٣٢٦١.

(٦) الكافي ١: ٥٢، باب رواية الكتب والحديث، ح ١١، شرح أصول الكافي ٢: ٢٢١، الوسائل ٢٧: ٨٢، ح ٣٣٢٦٣، مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٩٢، ح ٢١٣٨١.

٣٨٧

٣٨٨

خلاصة السبب الأخير

نخرج من كلّ ما مرَّ بأنّ السبب الحقيقيّ الكامن وراء منع التدوين: له عدّة عوامل ودوافع.

منها: طمس فضائل أهل البيت المفسَّرة بأحقّيّتهم والداعية إلى إمامتهم وخلافتهم، ومنها: عدم إحاطة الحكّام بالأحكام.

ومنها: ما كان عند الخلفاء من خلفيات موروثة ونزعات ومؤهلات تتناسب مع الاجتهاد، ومن كل ذلك راموا خَلْقَ جوٍّ فقهيّ جديد يستطيع الخليفة من خلاله أن يتكيّف لسدّ العجز الفقهيّ الذي يجده، وليبني هرماً فقهياً سياسياً جديداً، ويتّضح هذا الاستنتاج عبر ملاحظة المقدّمات الآتية:

أ - عرفنا سابقاً أنّ أوّل بادرة لمنع التدوين ظهرت بشكل عملي فاعلٍ على لسان عمر بن الخطّاب قبيل وفاة النبيّ، وذلك لمّا طلب صلّى الله عليه وآله أن يأتوه بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، وقول عمر في جواب طلب النبيّ صلّى الله عليه وآله: إنّ الرجل لَيهجر! حسبنا كتاب الله.

فإنّ هذا المنع من التدوين - وإن كان في لحظة ما - موقفاً خاصّاً اضطرّ فيه عمر أن يمنع من التدوين لتوجيه أمر الخلافة بعد الرسول الوجهة التي يريد، إلاّ أنّ ذلك المنع قد اعتمد على ضرب قدسيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وجلالة قدره، وتجريح عصمته، ممّا فتح له الباب على مصراعيه لكي يُدلي بدلوه، وأن يفرض رأيه فرضاً على الصحابة ومَن في الدار، حتّى أنّه قد أجاب نساء النبيّ - لمّا قلن: ائتوا رسولَ الله بحاجته - بقوله لهنّ:

٣٨٩

اسكُتْنَ فإنّكنّ صواحبه؛ إذا مرِض عصرتُنّ أعينكن، وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه. فقال النبيّ: هنّ خير منكم(١) .

والنصّ يكشف عن أنّ النبيّ لم يقبل بفعل عمر، بل كان صلّى الله عليه وآله يريد التأكيد على مقولته السابقة في حجّة الوداع واستخلافه في الأمّة ثقلين، أحدهما أكبر من الآخر.

إنّ عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من تأكيد رسول الله على هذا الأمر، فنسب إلى قدسيّة رسول الله الهُجر - وحاشاه - كي يقلّل من أهمّيّة مقولته صلّى الله عليه وآله. أو حتّى كتابته - لو قُدّر أن يكتبها النبيّ صلّى الله عليه وآله - إذ يضعف الاحتجاج بكتابته صلّى الله عليه وآله بعد أن طرح احتمال الهجر في حقّه. وهذا ما جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله ينصرف عن الكتابة بقوله:(قوموا ولا تنازعوا عندي فإنّه لا ينبغي عندي التنازع) (٢) فالمنع عن التدوين هنا جاء لمنع التصريح بخلافة العترة، ولضرب أساس قاعدة وفائدة الكتابة والتدوين. ومعنى هذا أنّ المنع كان له بُعدان:

١ - بُعد سياسيّ.

٢ - بُعد تشريعيّ.

فسبب المنع - مضافاً إلى ما قاله الإخوة الأعلام في السبب السابع مع إضافتنا قيد التفسير والبيان - هو تأسيس الخليفة لفكرة (رأيٌ رأيتُه)، والسماح بتعدّديّة الآراء ليسدّ به العجز الفقهيّ الذي كان يوقعه في حرج شديد.

إنّ الناس كانوا يعلمون أنّ المشرِّع هو الله ورسوله، فكانوا لا يريدون أخذ الأحكام إلاّ ممّن اختصّ بالنبيّ، وعلم جميع أسرار التنزيل والتأويل. ومن جهة أُخرى: كانت القضايا تُلزم الخليفة أن يفتي طبق الرأي، بعيداً عن النصوص، فاضطرّ للاجتهاد، ثمّ السماح للآخرين بالاجتهاد لكي يُعْذَر هو في اجتهاده فلا يظلّ وحيداً منفرداً فيما

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٢: ٢٤٤، المعجم الأوسط ٥: ٢٨٨، ح ٥٣٣٨، البيان والتعريف ٢: ٢٥٧، وانظر كنز العمّال ٥: ٦٤٤، ح ١٤١٣٣.

(٢) صحيح البخاري ١: ٥٤، باب كتابة العلم، ح ١١٤، الأحكام لابن حزم ٧: ٤٢٥، الاستيعاب لابن عبد البر ١: ١٦٩، فتح الباري ١: ٢٠٩.

٣٩٠

ابتدعه، ثمّ جدّ في حصر الإفتاء بنفسه وبسابقه لكنّ عثمان لم يرتضِ ذلك كما رأيت.

ب - عرفت أنّ الشيخين لم يدّعيا أنّهما قد عرفا جميع المسائل الصادرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، بل إنّهما كانا يُفتيان طبق الرأي، فجاء عن أبي بكر في الكلالة: (إن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمنّي ومن الشيطان). وكانا يسألان الصحابة عمّا خفي عليهما من أحكام الرسول، ثمّ إنّهما أخذا بكلام الصحابة وأقرّا ذلك، حتّى أنّ عمر أقرّ لتلك المرأة التي خطّأته بكونها أفقه منه!(١) .

والأحكام التي خَفِيت عليهما لم تكن قليلة، ولا تنحصر في مسألة ومسألتين حتّى يمكن البحث عن مخرج من مخارج التأويل، في حين أنّك عرفت وجود حكم تلك المسائل عند الآخرين من الصحابة، فتارة كان حكم رسول الله عند معاذ، وأُخرى عند حذيفة، وثالثة عند ابن مسعود، ورابعة عند عليّ... وهكذا.

ومن هنا يظهر أنّ قول عمر بن الخطّاب لمن جمعهم من الصحابة: (فنحن أعلم نأخذ منكم ونردّ عليكم)، وقول عروة بن الزبير لابن عبّاس: هما واللهِ كانا أعلم بسنّة رسول الله وأشيع لها منك، وغيرها... إنّما كان لتثبيت الموقع العلميّ للشيخين في الدولة، ولإِلزام الآخرين بالأخذ بما يحكمان به، ولو عن رأي واجتهاد بدعوى أنّهما أعلم بمصالح المسلمين من غيرهم. وقد عرفت أن الناس لمّا أتوا عمر بصحفهم كانوا يَرجُون أن يرى عمر أقومها وأعدله، ولم يكونوا يريدون بفعلهم هذا أن يكون الرأي الأخير بيد الخليفة، وأن يرى أنّ رأيه هو الصواب.

ففكرة الأعلميّة قد طُرحت بعد استقرار الأمور للخليفة، وبعد أن قطع منع التدوين والتحديث شوطاً كبيرا. وهذان المَسْرَبان هما اللذان مكّنا الخليفة أن يدّعي لنفسه ما شاء من العلم بتعضيد من تخويف الصحابة وإسكاتهم. وكان إذنه للصحابة بالاجتهاد - في بدء الأمر - وخضوعه لاجتهاداتهم وآرائهم في الشريعة أحياناً هو الخطوة الأولى لتصحيح ما ذهب إليه؛ لأنّ بين أُولئك الصحابة مَن هو أقلّ شأناً من الخليفة

____________________

(١) انظر السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٢٣٣، ح ١٤١١٤، كتاب السنن لسعيد بن منصور: ١٩٥، ح ٥٩٨.

٣٩١

علماً وسابقة في الأمر - كأبي هريرة وسمرة بن جندب وغيرهما - فتصحيح عمل هؤلاء يصحّح عمل الخليفة بطريق أولى؛ إذ إنّه ليس بأقلّ من هؤلاء إن لم يرجّح عليهم! على أنّ الخليفة في مجالسه الفقهيّة كان هو الرابح الأوّل والأخير؛ إذ إنّ فتح باب الآراء والاجتهادات للصحابة والأخذ بها - كخطوة أُولى - له جانب آخر من المنفعة للحكومة القائمة، تلك المنفعة المتجلّية في حالة إخطاء الصحابة وتخِطئة بعضهم البعض، فإنّ ذلك يخلق أقوى المبرّرات وأعقل التوجيهات لأخطاء عمر الفقهيّة؛ إذ لا يمكنهم الاحتجاج عليه بأنّه أخطأ في حين أنّهم شاركوه في الخطأ حين صار الإفتاء طبق الرأي والاجتهاد.

ولا يمكننا أن ننسى دور المنع من التدوين، وخنق الصحف عند الصحابة، فإنّه ممّا أحدث فراغاً في التشريع لا يُسدّ إلاّ بالاجتهاد، والاجتهاد هو ما يريده الخليفة ويستهدفه من وراء برنامجه المنعيّ.

ج - وقفتَ سابقاً على نصوص لبعض الصحابة كانوا يمتحنون فيها الخليفة الثاني، ويستفزّونه لتنبيهه على أخطائه، وكانوا يسألونه عن حكم مسألة واحدة في أوقات شتّى، ليوقفوه على التناقض الموجود في أجوبته، ممّا ينبىُ عن أنّ الخلاف فيها كان في إطار المسائل الفقهيّة.

وكان الخليفة يضجر من تصرّفات هؤلاء الصحابة، فيقول لمَن سأله عن مسألة كان قد علم جوابها سابقاً من رسول الله: تَربَت يداك! قد سألتني عن شيء سألتَ عنه رسول الله كيما أخالف؟!(١)

فظاهرة تخطئة الخليفة تراها واضحة في عهد عمر دون غيره من الخلفاء، ممّا يؤكّد أنّه فتح باب (رأيٌ رأيتُه) بحيث لم يمكنه أن يسدَّه.

إنّ العالِم بالأحكام لا يهاب من السؤال بل يعجبه أن يُسأل ليجيب، وقد ثبت عن

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٣: ١٧٤، ح ١٣١٨١، الآحاد والمثاني ٣: ٢٢٨، ح ١٥٨٩ والمتن منه، شرح معاني الآثار ٢: ٢٣٢، باب المرأة تحيض بعد ما طافت، المعجم الكبير ٣: ٢٦٢، ح ٣٣٥٣.

٣٩٢

عليّ بن أبي طالب قوله:(سَلُوني قبل أن تَفْقِدوني) ، أمّا الذي ليس له أثر عن رسول الله فتراه يتخوّف من السؤال، ويضرب صبيغ بن عُسل ويتّهمه بالزندقة لكثرة أسئلته!(١) .

د - نظراً لتوسّع رقعة الدولة الإسلاميّة وكثرة المسائل المستجدّة، ولزوم رسم الحلول لها على ضوء الكتاب والسنّة، وقصور الخليفة عن الإحاطة بتلك النصوص الصادرة عن رسول الله فيه، وإمكان حدوث التخالف بين مرويّاته ومرويّات الآخرين عن الرسول... رأى من الضروريّ تقوية رؤيته السابقة - الرأي - وترجيحها على سنّة الرسول وتحكيم شرعيّة الاجتهاد! والحدّ من التحديث؛ لأنّ في التحديث والتدوين توعية للناس وتنبيهاً على أغلاطه.

وأنّ سماحه للصحابة بالاجتهاد لا التحديث - في أُخريات حياته - إنّما كان لتبرير فعله. وكذا أمرُه الصحابة بالإقلال من الحديث، ففيه إشارة إلى أنّ الخليفة لا يستسيغ

____________________

(١) انظر الإصابة ٣: ٤٥٩، ت ٤١٢٧، سنن الدارمي ١: ٦٦، ح ١٤٤، نصب الراية ٣: ٣٢٤، تفسير القرطبي ١٧: ٢٩، الدر المنثور ٢: ١٥٢، فتح القدير ١: ٣١٩، تاريخ دمشق ٢٣: ٤١١، كنز العمّال ٢: ٣٣٤.

وقال الإمام أحمد في مسائله ١: ٤٧٨، ح ٨١: روى أبو عثمان النهدي قال: سأل رجل - من بني يربوع أو من بني تميم - عمر بن الخطاب عن الذاريات، والمرسلات، والنازعات أو عن بعضهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك، فإذا له وفرة، فقال عمر: أما والله لو رأيتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك، ثم كتب إلى أهل البصرة - أو قال: إلينا - أن لا تجالسوه، فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا. اسم هذا الرجل صبيغ بن عسل... وفي المقابل روى الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي الطفيل، قال: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قام على المنبر فقال: سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، قال: فقام ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين ما( الذاريات ذرواً ) ؟ قال:الرياح .

قال: فما( الحاملات وقراً ) ؟ قال:السحاب.

فما( فالجاريات يسراً ) ؟ قال:السفن .

قال: فما( المقسمات أمراً ) ؟ قال:الملائكة .

قال: فمن( الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار... جهنم ) قال:منافقو قريش .

قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. المستدرك على الصحيحين ٢: ٥٠٦، ح ٣٧٣٦، وانظره وطرقه في عمدة القارئ ١٠: ١٩، تغليق التعليق: ٣١٨ - ٣١٩، كنز العمّال ١٣: ١٥٩ - ١٦٢، الأحاديث المختارة ٢: ١٢٦، ح ٤٩٤ و ١٧٦، ح ٥٥٦ و ٢٩٨، ح ٦٧٨، مسند الشاشي ٢: ٩٦، ح ٦٢٠، تاريخ دمشق ٢٧: ٩٩، المعيار والموازنة: ٢٩٨، نظم درر السمطين: ١٢٦، نهج السعادة ٢: ٦٣١، الاحتجاج ١: ٣٨٦، جواهر المطالب ١: ٣٠٠ وفي بعض هذه المصادر ذكر الحديث مطولاً جداً وفيه أسئلة كثيرة أجاب عنها أمير المؤمنين، ومن أحب فليراجعها.

٣٩٣

سماع المسائل التي لا يعرفها. وبهذا يخرج المنع من إطاره الخاصّ ليدلّل على أنّه أبعد ممّا قيل عنه، وأنّه لم يتعلّق بأمر الخلافة والإمامة فقط!

هـ - اشتهر عن عمر أنّه حدّث بفضائل عليّ وأهل البيت، لكنّه خاف من تفسيره، ثمّ برَّر إبعاده أهل البيت عن الخلافة بكراهة قريش اجتماع النبوّة والخلافة فيهم.

فالتحديث بفضائل عليّ - بعد تسلّم عمر للخلافة - لا يضرّه بقدر ما كان يضرّه نشر فقه الفضائل والنصوص والحديث عن رسول الله؛ لأنّ في ذلك الفقه ما يجهر بتخالف اجتهاداته مع التنزيل وسنّة رسول الله، وبالتالي يؤدّي إلى نقض أُموره وانقضاض المسلمين عليه، فالتضعيف لو قُدّر له أنّ يسري في كيان الدولة لجاء من ها هنا!

نعم، إنّ الخليفة بعد تسلّمه الخلافة كان لا يعجبه أن يسمع تفصيل وشرح وتفسير فضائل عليّ وأهل بيته؛ لأنّ انتشارها وذيوع أمرها من شأنه أن يهزّ مكانة الخليفة ويضعضع موقعه القياديّ. ومن شأنه أيضاً أن يقوّي الخصم ويكشف عن شرعيّته. وكذا منعه للتدوين في رزيّة الخميس كان ناظراً إلى هذا المعنى. بَيْد أنّ هذا كان سبباً مهمّاً، إلى جوار ما لاقاه من مشكلة في الإفتاء... ممّا حمله على العمل بسياسة المنع. ولأجله نراه يمنع من الحديث عموماً كي يكون في مأمن من العواقب السياسيّة والفقهيّة.

إنّ إبعاد الإمام عليّ عن إمامة الفقه والسياسة كان من الأهداف الأساسيّة في دولة الخلفاء. وقد ورد هذا صريحاً في كلام ابن عبّاس: (لو قدّم مَن قدّم الله... ما عالت فريضة)(١) ؛ لأنّ التوعية الفقهيّة لا يقلّ شأنها عن التوعية السياسيّة، وإنّ تعرّف الناس على قدرة الإمام عليّ في الأحكام وضعفِ الطرف الآخر، سيؤدّي - بلا ريب - إلى التشكيك في مقدرة الخليفة العلميّة، فيسقط أحد جناحَي الخلافة بسقوط ما يفترض في الخليفة من القدرة العلميّة.

فالمنع من التدوين عموماً والإقلال من التحديث، ثمّ فتح باب الاجتهاد بالرأي

____________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٥٣، باب العول في الفرائض، ح ١٢٢٣٧.

٣٩٤

والقياس وغيرها... كلّ ذلك يوضّح أنّ للمنع من التدوين دوافع متعدّدة لا تقتصر على ما قاله الأعلام في السبب السابع.

و - أنّ النصوص الواردة عن الصحابة - المعارضين لفقه عمر - يغلب عليها الجانب الفقهيّ أكثر من بيان الخلاف الإداريّ والحكوميّ، وبمعنى أوضح: يغلب فيها فهم الأحكام الشرعيّة، على ما جاء في الإمامة والفضائل!

وقد مرّ عليك كلام ابن عبّاس: أقول لهم: قال رسول الله، ويقولون: قال أبو بكر وعمر! وقول ابن عمر: (أفسنّة عمر تتبع أم سنّة رسول الله)؟!(١) وقول الآخر: (لا أترك سنّة أبي القاسم لقول أحد)(٢) ، أو: (فَعَلها أبو القاسم وهو خير من عمر).

فالنصوص تؤكّد أن أوج الخلاف كان في بيان الأحكام، وما وُضِع من أُصول، كأصل الاجتهاد في الشريعه والقياس و...

فالمنع من نقل فضائل أهل البيت المفسَّرة وأدلّة الإمامة مع المنع عن نقل الفقه والأحاديث النبويّة، بل كلّ ما يوثّق مدرسة أهل البيت، كانت ضمن المخطّط الكلّيّ للخلفاء؛ ولتأكيد الموضوع إليك هذا النصّ:

عن عبد الرحمان بن يزيد قال: قدِم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة ٨٢ وهو وليّ عهد، فمرّ بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلّموا عليه. وركب إلى مشاهد النبيّ صلّى الله عليه وآله التي صلّى فيها، وحيث أُصيب أصحابه بأُحد، ومعه أبان بن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبد الله، فأتوا به قُباء، ومسجد الفَضِيخ ومَشْربة أمّ إبراهيم وأُحد، وكلّ ذلك يسألهم ويخبرونه عمّا كان.

ثمّ أمر أبانَ بن عثمان أن يكتب له سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله ومغازيه، فقال أبان: هي عندي،

____________________

(١) البداية والنهاية ٥: ١٤١ وانظر مسند أحمد ٢: ٩٥، ح ٥٧٠٠ فقد جاء فيه: قال ابن عمر: وقد سأله أناس كيف تخالف أباك وقد نهى عن المتعة في الحج فرد ابن عمر قائلاً: أرسول الله أحقّ أن تتبعوا سُنّته أم سُنّة عمر، رواه البيهقي أيضاً في سننه الكبرى ٥: ٢١، ح ٨٦٥٨.

(٢) صحيح البخاري ٢: ٥٦٧، باب التمتع والإقران والإفراد، ح ١٤٨٨، ومسند أحمد ١: ١٣٥، ح ١١٣٩ وغيرها من الكتب الحديثة.

٣٩٥

قد أخذتها مُصحّحة عمّن أثق به.

فأمر بنسخه، وألقى فيها إلى عشرة من الكتّاب، فكتبوها في رقٍّ. فلمّا صارت إليه، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر.

فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، و إمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان بن عثمان: أيّها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه أن نقول بالحقّ: هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لأمير المؤمنين، لعلّه يخالفه. فأمر بذلك الكتاب فَخُرِّق. وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت فإن يوافقه، فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر عبد الملك بالذي كان من قول أبان، فقال عبد الملك: وما حجّتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟! تُعرِّفُ أهلَ الشام أُموراً لا نريد أن يعرفوها.

قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين، فصوّب رأيه(١) .

وإليك الآن بيان لمراحل المنع وكيفية التدرّج بالمواقف والحلول، حتى صارت فكرة منع تدوين الحديث وفتح الاجتهاد هما الشرعية المتّبعة في الصدر الأول من خلال كل الملابسات التي وقفت وستقف عليها.

____________________

(١) الموفّقيّات للزبير بن بكّار: ٣٣٢ - ٣٣٣، وللخبر ذيل راجعه.

٣٩٦

مراحل المنع

انكشفت لنا حتّى الآن أنَّ منع التدوين والتحديث - الذي جرَّ إلى فتح باب الاجتهاد والرأي - قد مرَّ بمراحل أساسيّة، وأشواط معيّنة، ولم يكن تعبّداً متلقٍّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكانت أهمّ تلك المراحل هي:

١ - شيوع ظاهرة كثرة الحديث

لمّا كثرت اجتهادات الشيخين - ومَن على نمطهما الفكريّ من الصحابة - وظهر التخالف بين أقوال المجتهدين وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، كان من البديهيّ أن يكثر التحديث عن النبيّ باعتباره أمراً ضروريّاً للوصول إلى الحكم الشرعيّ الصحيح بأنقى صوره، ولكون تلك الاجتهادات قد تميّزت تميُّزاً واضحاً عن مسيرة التحديث بشكل عامّ، حيث أَلِفَ الصحابة التحديث وكانت مسألة طبيعيّة عندهم، فمن المحتمل - بعد هذا - أن يكون قول الخليفة الأوّل (إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً) إشارة إلى تعدّد الاتّجاهات في عهده، وتبنّي كلّ واحد من الصحابة وجهة نظر خاصّة، وهذا هو ممّا يسبب توسيع رقعة الاختلاف بين المسلمين فيما بعد، وعلى كل حال فالتحديث كان تيّاراً قويّاً في زمن أبي بكر، واستحكم وجوده من بعد مقابل التيار الاجتهادي المنفلت، وهذا ما ظهر على لسان الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب؛ لقوله لهم: (أكثرتم الحديث عن رسول الله)، وفي الطبقات الكبرى: (إنَّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب)، وفي تقييد العلم: (إنَّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب)...، وما سواها الكثير.

٣٩٧

٢ - منع أبي بكر من التحديث وإحراقه مدوّنته

بعد أن كثر التحديث عن رسول الله وصار مدّاً عارماً، أمر الخليفة أبو بكر الصحابة بعدم التحديث عن النبيّ، فقال: (لا تحدّثوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله...) ثمّ أعقب ذلك بحرق مدوّنته الحديثيّة، حينما قال لابنته عائشة: (أي بُنيّة! هلمّي الأحاديث التي عندكِ) فلمّا جاءته بها (دعا بنار فحرقها) إلى آخر الخبر.

٣ - أمر عمر الصحابة بالإقلال من الحديث

نظراً لاستمرار ظاهرة التحديث والإكثار منه - على عهد الخليفة عمر بن الخطّاب - وعدم انصياع الصحابة المحدّثين لما كان يتوخّاه أبو بكر، راح الخليفة عمر يواصل سيرة أبي بكر بإلحاح أكثر وإصرار متزايد، فشايع وفد الصحابة إلى الكوفة - إلى موضع صرار قرب المدينة - لأجل أن يقول لهم: (أقلّوا الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا شريككم)، وقوله: (أقلّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يعمل به) أو (كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً) و...

٤ - جمع عمر مدوّنات الصحابة وإحراقها

إنَّ النهي عن التحديث وإحراق الخليفة الأوّل لمدوّنته لم يُقابَلْ - من قِبَلِ الصحابة - بما يسرّ الشيخين، فقد بقيت هناك مدوّنات عند كثير من الصحابة، ومع وجود المدوّنات والمدوّنين لا يتأتّى للخليفة ما يريده، فكان أن اتّخذ عمر بن الخطّاب خطوة جمع فيها المدوّنات عِبْرَ قوله لهم: (فلا يبقيّن أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به) وقد كانوا يظنّون أنّه يريد أن ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، لكنّهم فوجئوا بإحراقه لها، لقول الراوي: (فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار).

وقد كان هذا الإحراق بسبب كون النصوص المدوّنة بمنزلة الوثائق الرسميّة - لتخطئة الخليفة - بِيَدِ الصحابة، والخليفة لا يريد أن تبقى هذه الوثائق بيدهم؛ لئلاّ تكون عليه أُمور لا يَحْمَدُ عقباها.

٣٩٨

ولأنَّ المدوَّن المكتوب في الصدر الأوّل وبقلم صحابيّ له من القيمة ما يجعله قادراً على نقض رأي الخليفة، بخلاف التحديث، إذ يمكن معارضة الحديث بحديث آخر يوضع في الآن وعلى البديهة، أمّا المدوّنة فلا يمكن رسم بديلها على البديهة، ولأجله نراهم يسمحون بالتحديث ويمنعون التدوين!

واحتمل بعض الكتّاب أن يكون السماح بالتحديث والمنع من التدوين جاء لاعتقاد فرقة من اليهود بالكتابة، خلافاً لأخرى داعية إلى الحفظ.

وبما أنَّ كعب الأحبار ووهب بن منبّه كانا ممّن يستشيرهم الخليفة عمر، فمن المحتمل أن يكون قد تأثّر برأيهما في السماح بالتحديث والمنع من التدوين؛ لأنّه كان يحتاج إلى تحديد بعض النقول عن رسول الله، والتفكيك بينهما خير علاج للقضيّة، فجاء عن عمر أنّه سأل كعب الأحبار عن الشعر فأجابه: بأنَّ قوماً من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة(١) ، وفي آخر عن وهب أنّه قال: إنَّ موسى قال: يا ربّ! إنّي أجد في التوراة أُمّة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها، وكان مَنْ قَبْلَهُمْ يقرؤون في كتبهم نظراً ولا يحفظونها فاجعلهم أُمّتي، قال: تلك أُمّة أحمد(٢) .

وجاء في (الفكر الدينيّ الإسرائيليّ) للدكتور حسن ظأظأ: ٧٩ عن التلمود حيطين ٦٠ ب - تموراً - ١٤ب) أنَّ الأمّة التي تروي مشافهة ليس لك الحقّ في إثباتها بالكتابة)(٣) .

٥ - حبسه بعض الصحابة وأمره الجميع بترك التحديث والتدوين

مع كلّ الخطوات المتواصلة، والتدابير المتضافرة، بقي بعض كبار الصحابة يحدّث ويروي ما سمعه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله غير عابئٍ برأي الخليفة.

وحيال هذه الحالة لم يقف عمر مكتوف الأيدي، بل أصدر قرارات صارمة تمنع

____________________

(١) العمدة في معرفة صناعة الشعر لابن رشيق ١: ٢٥.

(٢) تاريخ دمشق ٣: ٣٩٥، البداية والنهاية ٦: ٦٢، سبل الهدى والرشاد ١٠: ٣٥٩.

(٣) انظر بحوث مع أهل السنّة والسلفيّة للروحانيّ: ٩٧، تاريخ التشريع الإسلاميّ للفضليّ:٤٠، والصحيح من سيرة النبيّ للعامليّ.

٣٩٩

منعاً باتّاً عن التحديث والتدوين؛ وذلك في قوله في خطبة له أوردها ابن شبّة في منع عمر للصحابة من التحديث: (إنَّ حديثكم هو شرّ الحديث، وإنّ كلامكم هو شرّ الكلام، من قام منكم فليقم بكتاب الله وإلاّ فليجلس)(١) ، وفي مثل تهديداته لناقلي حديث رسول الله، كما مرَّ في قضيّة عمّار بن ياسر وأبي موسى الأشعريّ وغيرهما وعباراته التهديديّة في المنع لهم.

واستكمالاً للمنع أقدم الخليفة عمر بن الخطّاب على حبس الصحابة المحدّثين في المدينة المنوّرة؛ كي يكونوا تحت نظره وإشرافه، ولئلاّ يحدّثوا بما يخالف رأيه، فجاء النصّ يقول:

إنَّ عمر بن الخطّاب حبس بعض أصحاب النبيّ...، وفي آخر عن عبد الرحمن بن عوف قوله: (ما مات عمر بن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق... وقال: أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشتُ، فما فارقوه حتّى مات) وغيرها من النصوص المتقدّمة.

٦ - حصر العمل بكتاب الله

وكبديل عن الحديث النبويّ، أو كتعليل للمنع، طرح الخليفتان مفهوم (بيننا وبينكم كتاب الله) و(حسبنا كتاب الله) و(لا ألبس كتاب الله بشي أبداً) لما فيه من تهرّب من التعبّد بنصوص السنّة، وجعل العمل في دائرة أوسع وهو القرآن الكريم الذي يعتقد به الجميع ويقدّسونه.

٧ - سماح الخليفة عمر للصحابة بالاجتهاد والقياس

لمّا رأى الخليفة كثرة المسائل الواردة عليه - التي لا يرى نصوصاً شرعيّة فيها - رأى من الضرورة السماح بالاجتهاد لنفسه وللصحابة، وليكون القياس والمصلحة وغيرهما مبانيَ أساسيّة في التشريع الإسلاميّ.

____________________

(١) أخبار المدينة المنوّرة ٣: ٨٠٠.

٤٠٠