منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93192
تحميل: 6491

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93192 / تحميل: 6491
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

٨ - محاولة حصر الاجتهاد

ثمّ إنَّ الاجتهاد - بوسعته هذه - أخذ مأخذه عند الصحابة، فتضاربت الآراء واختلفت، وصار من الصعب ترجيح رأيٍ على آخر، وهذا هو الذي دعا الخليفة أن يصعد المنبر ويحذّر الصحابة من اختلافهم، وهو أيضاً جعله يقول لمن جمعهم عنده: (نحن أعلم منكم، نأخذ عنكم ونردّ عليكم) وغيرها.

إنَّ التأكيد على سيرة الشيخين في الشورى، وسماح عثمان ومعاوية في الاكتفاء بالأحاديث التي عُمِل بها في عهد عمر لا غير، وقرار الخليفة عمر بن عبد العزيز حصره التدوين (بسنّة صاحبيه، أمّا غيرهما فنرجئهم)(١) وغيرها من النصوص آنفة الذكر.

تدلّ هذه المراحل على أنَّ آراءَهما أصبحت سنّة يُعمَل بها، وأنَّ اجتهادهما صار أصلاً ثالثاً في التشريع الإسلاميّ لم يكن يدّعيه - الشيخان - من قبل.

وبهذا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا(٢) ومنكرو السنّة في الباكستان القائلين بلزوم الاكتفاء بالقرآن، إنّما كان كلامهم نتيجة حتميّة لمنع الشيخين من كتابة وتدوين حديث رسول الله.

واستبان لك كذلك عدم صحّة ما علّل به الشيخان في المنع، وما علّله به الآخرون من الكتّاب، شيعةً وسنّة، مستشرقين ومسلمين؛ ذلك لأنّ المنع جاء لظروف خاصّة طرأت على رموز الخلافة، ولقناعات سابقة ودوافع شخصيّة كانت عند الخليفة عمر بن الخطّاب، وعند أبي بكر قبله، وعند عثمان والأمويين و و... بعده.

____________________

(١) فعن حاجب بن خليفة البرجمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب النّاس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إنّ ما سنّ رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنا نرجئه. حلية الأولياء ٥: ٢٩٨، تاريخ الخلفاء ١: ٢٤١.

(٢) انظر دراسات في الحديث النبويّ للدكتور الأعظميّ: ٣٢.

٤٠١

٤٠٢

تلخّص ممّا سبق أمران:

الأوّل:

أنّ النهي عن كتابة الحديث لم يكن نهياً شرعيّا، ولم يصحّ ما نُسب من الروايات - الناهية عن التدوين - إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله. بل إنّ قرار النهي والمنع كان نابعاً من موقفٍ سياسيّ فقهي ممتزج اتّخذه الخليفة عمر بن الخطّاب ومِن بعده الخلفاء. ومن الطبيعيّ أن تنقل روايات عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في المنع لتصحيح مواقف الخليفة.

إذ لو ثبت المنع عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وعُرف هذا بين المسلمين لما دوَّن أبو بكر خمسمائة حديث، ولما تلقّى عمّن ائتمنه ووثق به! ولما كتب إلى عمرو بن العاص وأنس بن مالك بأحاديث رسول الله في الصدقة وغيرها، ولما جمع عمر بن الخطّاب الصحابة ليستشيرهم في التدوين، ولَمَا أشاروا عليه بذلك، ولَما قال عمر: (فلا يُبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به).

كلّ هذه النصوص فيها إشارة إلى مشروعيّة التدوين. وسنقدّم بإذن الله دراسة مفصّلة عن فقه الصحابة المدوِّنين للسنّة، والأنصار، والصحابة الذين شهدوا مع عليّ بن أبي طالب حروبه، كي نرى تخالف فقه هؤلاء مع فقه النهج الحاكم المانع للتحديث والكتابة والتدوين، ولنؤكّد على أنّ المحدثين الكاتبين المدوّنين الشاهدين مع عليّ حروبه من الصحابة، وقسماً كبيراً من الأنصار كانوا من أنصار التعبّد المحض.

فالخليفة الثاني، بعد أن علم بوجود مكتوبات ومدوّنات عن رسول الله عند الصحابة، طلب منهم أن يأتوه بها، والناس كانوا يظنّون أنّه يريد الأخذ بأعدلها وأقومها،

٤٠٣

- كما ادّعى هو ذلك - فلمّا أتوه بها أمر بحرقها، وقد فوجئوا بهذا القرار!

والمتدبِّر في نصوص المنع المدّعى عن رسول الله؛ يدرك أنّ المنع إنّما حَدَث بعد مشروعيّة التدوين، أي أنّ رسول الله منع عن التدوين - طبق ادّعائهم - بعد أن كان قد سمح لهم بالتدوين أوّلا، لقوله: (ومَن كتب فَلْيَمْحُه)(١) . وهذا ينقض ما قاله الدكتور صبحي الصالح وغيره من أنّ رسول الله نهى عن التدوين في أوَّل الدعوة؛ خوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن، لكن لمّا دُوّن القرآن سمح بتدوين حديثه(٢) .

ومرّةً أُخرى... فإنّ قرار المنع كان قراراً حكوميّاً لم يكتسب شرعيّته من السنّة؛ لِما مرّ عليك من النصوص عن رسول الله صلّى الله عليه وآله الصريحة في الحث على العلم والتعلّم والتحديث والكتابة والتدوين، وأنّه صلّى الله عليه وآله جعل فداء كل واحد من أسرى بدر تعليم عشرة من المسلمين الكتابة، وتأكيده صلّى الله عليه وآله على نشر أحاديثه، فكلام الدكتور صبحي الصالح وغيره يقرِّرُ أنّ التدوين جاء بعد المنع، لكنّ الخبر السابق يؤكّد عكسه بجلاء!

وهكذا توصّلنا إلى أنّ المنع كان له بُعدان، الأوّل: سياسيّ، والثاني: فقهيّ. وقد وقفت على تفصيله، وكان الاختلاف في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله من نتائج هذا القرار. مضافاً إلى العوامل المذهبيّة و...

وبذلك يتبين أيضاً أنّه لا يصحّ أيضاً ما ذهب إليه جولدتسيهر من أنّ أحاديث النهي عن الكتابة وضَعَها أهلُ الرأي وأنّ الأحاديث التي تثبت الحديث وضعها أهل الحديث(٣) . وإن كنّا لا ننكر دور دعاة الرأي - على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله خفيةً وفي زمن حكومة الخلفاء المجتهدين علناً - في وضع أحاديث النهي، أمّا ظاهرة التحديث والتدوين فهي من صميم الإسلام، وقد عمل بها كبار الصحابة وشرّعها رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، وليست هي ممّا وضعه أهل الحديث الحقّ من المتعبدين، نعم إن كان يقصد

____________________

(١) من حديث أبي سعيد الخدري: صحيح مسلم ٤: ٢٢٩٨، باب التثبت في الحديث، ح ٣٠٠٤، سنن الدارمي ١: ١٣٠، باب من لم ير كتابة الحديث، ح ٤٥٠، مسند أحمد ٣: ١٢، ح ١١١٠٠.

(٢) علوم الحديث ومصطلحه: ٧ - ٩، السنّة قبل التدوين ٥٣: ٣٠٦ - ٣٠٧.

(٣) انظر دراسات في الحديث النبويّ: ٨٢.

٤٠٤

بأهل الحديث الذين دوّنوا للسلطان فكلامه في محلّه.

ومن هذا المنطلق لا أرى ضرورة لأن يقوم بعض الكتّاب بالجمع بين أحاديث الحظر وأحاديث الإباحة؛ لاعتقادي بكون الأمر لا يعدو ما قلناه، وقد وقفت على تفاصيله. وهو أهمّ ممّا قيل في وجوه الجمع بينها كالقول: بأنّ بعض الأحاديث مرفوعة والأخرى موقوفة، ويلزم ترجيح المرفوعة على الموقوفة... وما شابه ذلك من وجوه الجمع.

تخوّف الصحابة من كتابة الرأي لا الحديث

أمّا ما جاء من نهي الصحابة والتابعين عن الكتابة، وعدم رغبتهم فيها... فَمَردّه إلى ما انطبع في نفوسهم من النهي الحكومي، وكون أقوالهم قد صدرت عن رأي، فكانوا لا يرتضون تثبيتها بالكتابة حرصاً على عدم اختلاطها بالمرويّات عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، بل حرصاً على عدم ظهور تناقضاتهم الاجتهادية فيما بينها، وتعارضها مع سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

نعم، إنّهم كانوا يسجّلون آراءهم لأنفسهم كي لا يحصل الاختلاف بين ما قالوه اليوم مع ما قالوه بالأمس، مع أنّ نشر تلك الصحف كان لا يُرضيهم فيجدّون لحرقها ومحوها. فقد جاء عن الشعبيّ: أنّ مروان أجلس لزيد بن ثابت رجلاً وراء الستر، ثمّ دعاه فجلس يسأله ويكتبون، فنظر إليهم زيد، فقال: يا مروان عذرا، إنّما أقول برأي(١) .

قال الدكتور محمد عجاج الخطيب:

وقد ازدادت كراهة التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصيّة، فخافوا أن يدوّنها طلاّبهم مع الحديث، وتُحمل عنهم فيدخله الالتباس. ويمكننا أن نستنبط أنّ من كره الكتابة وأصرّ، إنّما كره أن يدّون رأيه، وفي هذا يقول أُستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأمّا من ورد عنهم الامتناع عن الإكتاب من هذا الجيل، فيؤول امتناعهم بما لا

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٢: ٣٦١.

٤٠٥

يخالف ما انتهينا إليه؛ فهم جميعاً فقهاء وليس بينهم محدّث ليس فقيهاً، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلى جانب أحاديث الرسول). ثمّ يوضّح هذا بأمثلة تثبت ما ذهب إليه، فيقول: إنّنا نجد في الواقع أخباراً تروي كراهتهم لكتابة الرأي، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه مروان، وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب - وهو من الفقهاء والذين روي امتناعهم عن الإكتاب - فسأله عن شيء، فأملاه عليه ثمّ سأله عن رأيه فأجابه، فكتب الرجل.

فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمّد رأيك؟

فقال سعيد للرجل: ناولْينها، فناوله الصحيفة فخرّقها(١) .

وقيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون رأيك! قال: تكتبون ما عسى أن أرجع عنه غداً؟!(٢) .

وقال الدكتور صبحي الصالح:

وممّا زاد من كراهة القوم للكتاب أنّ آراءهم الشخصيّة بدأت تشتهر، فكانوا يخشون إذا كتب الناس عنهم الأحاديث أن يكتبوا إلى جانبها هاتيك الآراء. ولدينا من الأخبار ما يؤكّد هذا ويثبته، ولعلّ من أوضحه في عصر كبار التابعين ما رووا من أنّه قيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون رأيك...(٣) وروي عن ابن عوف أنّه قال: إنّي أرى هذه الكتب، يا أبا إسماعيل! ستُضلّ الناس(٤) .

فمن المحتمل أن يكون رجوع الخليفة عمر بن الخطّاب عمّا كتبه في الجَدّة كان من هذا الباب - أي خوفاً من ظهور تضارب آرائهم فيما بينها، وتعارضها مع سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكذا ما جاء عن الصحابة والتابعين، وأمرهم أولادهم بمحو كتبهم

____________________

(١) انظر تمام الخبر في جامع بيان العلم وفضله ٢: ١٤٤.

(٢) جامع بيان العلم وفضله ٢: ٣١ وكلام الدكتور محمّد عجاج الخطيب في (السنّة قبل التدوين): ٣٢٤ و ٣٢٣.

(٣) علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح: ٣٤.

(٤) تقييد العلم: ٥٧ والتصدير للدكتور يوسف العش: ٢١.

٤٠٦

وإماثتها بالماء، إنّما جاءت لأنّ هذه الكتب كتبت عن رأي، لا لِما صحّ عندهم من حديث عن رسول الله!

وقال الدكتور محمّد عجاج الخطيب:

(وكلّ هذه الأقوال رُوِيت من علماء، حَدَّث المؤرِّخون عنهم أنَّهم كرهوا إكتاب الناس، وهي تدلّ دلالة صريحة على أنّ الكراهة ليست في كتابة العلم (أي الحديث)، بل في كتابة الرأي. وأنّ الأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنّما تقصد الرأي خاصة...) إلى أن يقول: ويقوّي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثّون فيها على الكتابة، ويسمحون لطلاّبهم أن يكتبوا عنهم في الحديث(١) .

عرفت بهذا أنّ ما كُتب عن زيد كان آراءه الشخصيّة، ولهذا كرهها زيد. وكذا الحال بالنسبة لكراهة سعيد بن المسيِّب وغيره، والمراجع لكتب الرجال والحديث يقف على نصوص كثيرة في هذا السياق(٢) .

من المؤكَّد إذن أنّ عمل هؤلاء الصحابة ليس دليلاً على كراهيّة تدوين السنّة النبويّة من قبل النبيّ صلّى الله عليه وآله. ولا يسعني هنا إلاّ أن أُشير إلى قضيّة أُخرى، وهي ما جاء في كتاب تقييد العلم وغيره من: أنّ الصحابة كانوا يكتبون حديث الرسول كي يحفظوه، فإذا حفظوه مَحَوه. فهذا الخبر لو جُمع إلى ما قيل عن الصحابة من أنّهم كانوا يُفتون في كثير من الأحيان بالرأي، لوصلنا إلى نتيجة نجد فيها اختلاط الرأي بالحديث بحيث لا يمكن التمييز بينهما، ولأجله ترى الكثير من المأثور النبويّ ما هو إلاّ كلام الصحابيّ وفهمه...(٣) .

وخصوصاً بعد أن آمنّا بأنّ الشيخين كانا وراء منع التدوين، وأنّ المنع كان موقفاً شخصيّاً فرضته الظروف عليهما ولم يكتسب شرعيّته من النصوص، إذ قال الشيخ محمّد أبو زهو في كتابه (الحديث والمحدِّثون) عن النهي: (... وقد كان هذا رأياً من

____________________

(١) السنّة قبل التدوين: ٣٢٤.

(٢) انظر مثلاً جامع بيان العلم وفضله ١: ٧٤ وتقييد العلم: ٦٤.

(٣) كما حقّقنا ذلك وطبّقناه في (وضوء النبي) وغيره.

٤٠٧

عمر)(١) . قال يحيى بن جعدة: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب في الأمصار: (مَن كان عنده منها شيء فليمحه)!

إنّ تعابير (أراد) و(بدا له) و(ثمّ كتب في الأمصار) تدلّ بوضوح على أنّ إقدام الخليفة عمر بن الخطّاب كان بدافع من رغبته الشخصيّة وإرادته الخاصّة، كما في دلائل (التوثيق المبكّر): أنّ هؤلاء الذين كانوا قد وقفوا في معارضة كتابة الحديث كانت لهم أسبابهم الشخصيّة في ذلك، بل وحتّى الفاروق الذي كان يُعدّ من أشدّ معارضي الكتابة، لم ينقل أو يستشهد بأيّ حديث للنبيّ صلّى الله عليه وآله يؤيّد وجهة نظره المعارضة للتسجيل(٢) .

وكذا قول القاسم بن محمّد بن أبي بكر: (إنّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكَرَها وكرهها) يدلّ على أنّ الكراهة جاءت من عمر لا من النبيّ، وأنّ الخليفة استنكرها قبل أن يراها، ومسألة كهذه جديرة بالتأمّل!

وعليه فسياسة الخليفة عمر بن الخطّاب كانت منع الحديث عموماً بما فيه من الفضائل والأحكام، وقد صدرت عن رأيه الشخصيّ، ولم تكسب شرعيّتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإنّ إعراضنا عن الجمع بين الروايات الناهية والآذِنة كان لهذا السبب.

الثاني:

ارتسام نهجين في الشريعة يخالف كلّ منهما الآخر في الأصول والمباني.

فالبعض: يذهب إلى مشروعيّة الأخذ بالرأي والظنّ، المقابل للدليل القطعيّ، ويقول بحجّيّة اجتهادات عمر بن الخطّاب في سهم المؤلّفة قلوبهم، وغيرهما من القضايا والأحكام.

والبعض الآخر من الصحابة لا يرتضي مثل هذه الاجتهادات، إلاّ إذا كانت مستنبطة من النصّ قرآناً أو سنّةً. وهؤلاء يعتقدون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان من المتعبّدين

____________________

(١) الحديث والمحدّثون: ١٢٦.

(٢) التوثيق المبكّر: ٢٣٩ كما في تدوين السنّة الشريفة: ٢٨٨.

٤٠٨

بالنصوص، وأنّه كان لا يقول بالرأي والظنّ، بل ينتظر الوحي ليفصّل في الوقائع ويبتّ في الأحكام، وقد قال سبحانه وتعالى عنه:( ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (١) ، وقال جلّ جلاله:( لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ بما أراكَ الله ) (٢) .

أمّا قوله تعالى:( وَما كانَ لمُؤمنٍ وَلا مُؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسولُه أمراً أنْ يكونَ لَهُمُ الِخيَرَةُ مِن أمَرِهِمْ ) (٣) ، فهو نصّ في تفنيد مدرسة الاجتهاد والرأي، ومثله قوله تعالى:( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) (٤) ، فهو نصّ صريح يدحض فعل أُولئك المجتهدين، الذين يريدون التعرّف على المصلحة، وهم بحضرة رسول الله - المبلِّغ عن الله - فالله سبحانه وتعالى أراد التصريح بعدم جواز عمل هؤلاء؛ لأنّه (جلّ وعلا) قد أكمل شريعته في كتابه وكلّف رسوله بتبيين أحكامه للناس، وقد صرّح بهذا المطلب واستدلّ بهذه الآية الثانية عبد الله بن عبّاس - حبر الأمّة - في ردّ الخليفة عمر بن الخطّاب في موضوع الإمامة أيضاً(٥) .

فالاجتهاد والأخذ بالظنّ في الأمور ليس لهما دليل قطعيّ من الوحي، بل هو تعدٍّ على صاحب الشريعة، وإفتاء بغير ما أنزل الله، لقوله( قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أمْ عَلى اللهِ تَفْتَروُن ) ؟!(٦) .

نعم، كان الصحابة المتعبدون لا يجوّزون الأخذ بالرأي، لمعرفتهم بوجود مَن يعرف التنزيل والتأويل بينهم، ومَن خصّه الله بالفهم والعلم، ولمعرفتهم بجواز ترك الأخذ باجتهاد الصحابيّ؛ لأنّ كلامه مجرّد رأي شخصيّ يمكن تركه، وليست له قيمة إلزاميّة في الشريعة الإلهيّة، كما هو ثابت ومعروف عند الجميع.

إنّ ترجيح رأي الشيخين على كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو الأخذ بقولهما دون البحث

____________________

(١) النجم: ٣ - ٤.

(٢) النساء: ١٠٥.

(٣) الأحزاب: ٣٦.

(٤) القصص: ٦٨.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٢: ٥٣.

(٦) يونس: ٥٩.

٤٠٩

عن تطابقه مع القرآن والسنّة، ممّا لا يثبت أمام الحقائق، وكذا القول بأنّ الخليفة أعلم من غيره بمقصود الشارع!

نعم، إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يريد تحقيق أمر ضروريّ لحكومته ألا وهو: عدم تخطئة اجتهاداته بعد وفاته، بل لزوم جعل ما قاله من ضمن الشريعة، وهذا هو الذي دعا ابنَ عوف لأخذ العهد من عثمان عليه لقوله (على كتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين) وبعبارة أخرى تحديد المسلمين بـ (ما سُنَّ على عهد الشيخين)؛ لأنّ المخالفة لتلك الاجتهادات تعني تقوية الجناح المخالف لنهج الخليفة!

وعثمان حينما قبل بالشرط المذكور، كان يريد العمل بمقتضاه، لكنّه تخطّى ذلك في السنوات الستّ الأواخر من عهده، لِما كان يرى في نفسه من الأهليّة ومن المضاهاة للشيخين!

أمّا الإمام عليّ بن أبي طالب، فإنّه لم يرتضِ الاجتهاد قِبال النصّ، ولم يرتضِ الشرط الأخير المقترَح من قبل ابن عوف (أي سيرة الشيخين)، واقتصر قبوله على الأصلين الأوّلين: كتاب الله وسنّة نبيّه(١) .

وبذلك تميّز في الشريعة نهجان متباينان:

نهج يمثّله الإمام عليّ بن أبي طالب وأتباعه: كعبد الله بن العبّاس، وعمّار بن ياسر، وأبي ذرّ، وسلمان، و... ومن بعدهم الحسن بن عليّ، والحسين بن عليّ، وعليّ بن الحسين، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم... وباقي أئمّة أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله.

والنهج الآخر يمثّله: الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان بن عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، وأتباعهم كعمرو بن العاص وابنه، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وهشام بن عبد الملك، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد... وسواهم من حكّام بني أُميّة وبني العبّاس.

أجل، إنّ الذين قالوا بالرأي قد استخدموا الاجتهاد والتأويل الباطل للخروج من

____________________

(١) انظر تاريخ اليعقوبي ٢: ١٦٢، أمالي الطوسي: ٧٠٩.

٤١٠

إحراجات صارخة، منها: أنّهم عمدوا إلى الاجتهاد والتأويل ليعذروا عبد الرحمان بن ملجم قاتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، مع العلم أنّ ابن ملجم ليس من الصحابة، ومع هذا يبحثون له عن هذا المخرج!

ومن أجل أن يعذروا يزيدَ في قتله الحسين!

ويعذروا أبا العادية لقتله عماراً!

ويعذروا معاويةَ لسمّه الحسن، ومن قبله عثمان لحرقه المصاحف، وعمرَ لحرقه الحديث، وأبا بكر في تأويلاته لقتل مالك والزنا بزوجته!

ونتيجةً لما قَنّن الخلفاء، ظهرت فكرة جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل، فمعاوية مفضول، ويزيد مفضول، ومروان بن الحكم مفضول وأولاده مفضولون، لكنّ المصلحة تدعو إلى القول بتقديم المفضول على الفاضل!!

وإليك الآن بعض الشيء عن الظلامة التي مُني بها أهل البيت جرّاء ثباتهم على العقيدة، وإصرارهم على إبقاء الدين بعيداً عن شوب الشائبين وإحداث المحدثين.

موقف الإمام عليّ

وقد وضّح الإمام عليّ ما لقي بنو هاشم من القرشيّين وكيف أنّهم غيرّوا دين الله فقال:إنّ الله لمّا قَبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودُفِعنا عن حقٍّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيتُ أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخضَ الوطب، يُفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خُلْف (١) .

وفي رسالته عليه السلام إلى أخيه عقيل:

(... ألا وإنّ العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعَها على حرب رسول

____________________

(١) شرح النهج ١: ٣٠٨ من خطبته ٧ عند مسيره إلى البصرة.

٤١١

الله قبل اليوم...) (١) .

وفي كلام آخر يقول الإمام:(اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش؛ فإنّهم قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنتُ أولى به من غيري، وقالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموماً أو مت متأسّفاً، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلاّ أهل بيتي...) ؟(٢) .

وقال:(حتّى إذا قَبَض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، وغالَتْهُم السبُل، واتّكلوا على الولائج، ووصلوا غيرَ الرحِم، وهجروا السببَ الذي أُمِروا بمودّته ونَقَلوا البناء من رصّ أساسه فبنَوه في غير موضعه...) (٣) .

نصّ آخر

وجاء في كلام الباقر لبعض أصحابه:

(يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيّانا، وتظاهُرِهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس؟!

إنّ رسول الله قُبض وقد أخبر أنّنا أولى الناس بالناس، فتمالأتْ علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولَتها قريش واحداً بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنُكِثت بيعتنا ونُصِبت الحرب لنا. ولم يزل صاحب الأمر في صَعُودٍ كَؤُودٍ حتّى قُتل.

فبويع الحسن ابنه وعُوهد، ثمّ غُدِر به وأُسْلِم، ووثب عليه أهل العراق، حتّى طُعِن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده، فوادعَ معاويةَ

____________________

(١) انظر نهج البلاغة ٣: ٦٠ - ٦١، الخطبة ٣٦، المعيار والموازنة: ١٨٠، الإمامة والسياسة ١: ٥٤، شرح النهج ٢: ١١٩، جواهر المطالب ١: ٣٦٥.

(٢) نهج البلاغة ٢: ٢٠٢، الخطبة ٢١٧، المعيار والموازنة: ٤٧ وقد روى جزءً منه، شرح نهج البلاغة ٤: ١٠٤.

(٣) نهج البلاغة ٢: ٣٦، الخطبة ١٥٠، في الملاحم، شرح النهج ٩: ١٣٢.

٤١٢

وحقنَ دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حَقُّ قليلٍ.

ثمّ بايع الحسينَ عليه السلام من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غَدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.

ثمّ لم نَزَل أهلَ البيت نُستذل ونُستضام، ونُقصى ونمتهن، ونُحرم ونُقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً، يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورَوَوا عنّا ما لم نَقُلْه، وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس.

وكان عُظْم ذلك كبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكلّ من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهِب ماله، أو هُدِمت داره. ثمّ لم يَزَل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد، قاتل الحسين عليه السلام.

ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال: شيعة عليّ! وحتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعلّه يكون وَرِعاً صدوقاً يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنّها حقٌّ لكثرة مَن قَد رواها ممّن لم يُعرف بكذب، ولا بقلّة ورع) (١) .

وفى كلام للإِمام عليّ يشير فيه إلى عدم عمل الأمّة بكتاب الله وسنّة رسوله، بل غلبة الاتّجاهات عليهم، قال:... فيا عجباً، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أَثَر نبيّ ولا يقتدون بعمل وصيّ ولا يؤمنون بغيب، ولا يَعِفُّونَ عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنَّ كلّ امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١: ٤٣ - ٤٤.

٤١٣

يرى بعُرىً ثقاتٍ وأسباب محكمات... (١)

وقوله:إنَّ الكتاب لمعي ما فارقته منذ صحبته، فلو كنّا مع رسول الله... إلى أن يقول:ولكنّا إنَّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل .(٢)

ومن خطبة له بعد انصرافه من صفّين جاء فيها:... والناس في فتن انجذم (٣) فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين (٤) واختلف النجر (٥) وتشتّت الأمر، وضاق المخرج، وعمي المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عُصِي الرحمنَّ، ونُصِر الشيطان، وخُذِل الإيمان، فانهارت دعائمه، وتنكَّرت معالمه، ودرست سبله، وعفَّت شركه... (٦)

ومن كلام آخر له:... ما زلتُ أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسّمكم بحلية المغترين، سترني عنكم جلباب الدين، وبصّرنيكم صدق النيّة، أقمت لكم على سنن الحقّ في جوادِّ المَضَلَّة حيث تلتقون ولا دليل وتحتفرون ولا تميهون... (٧)

دلائل ومؤشّرات

نعم، إنّ قريشاً قد جدّت في مقاطعة بني هاشم في بدء الدعوة، لكنّ الهاشميّين صمدوا ثلاث سنين في شِعب أبي طالب وتحمّلوا حصار العرب.

ثمّ أجمعت العرب على أن تشترك في قتل النبيّ، فلا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه. ومن أجل هذا قال رسول الله عن الهاشميّين مادحاً لهم:(إنهّم لم

____________________

(١) نهج البلاغة ١: ٥٦ ضمن الخطبة ٨٨، شرح النهج ٦: ٣٨٤.

(٢) نهج البلاغة ١: ٣٦ من ضمن الخطبة ١٢٢.

(٣) أي انقطع.

(٤) السواري: جمعُ ساريه، وهي العمود والدعامة.

(٥) أي الأصل.

(٦) نهج البلاغة ١: ٢٩، ضمن الخطبة ٢، شرح النهج ١: ١٣٦.

(٧) نهج البلاغة ١: ٢٩، ضمن الخطبة ٤، شرح النهج ١: ٢٠٧.

٤١٤

يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام وإنّما نحن وهم شيء واحد) ، وشبك بين أصابعه(١) .

فالهاشميّون لم يتركوا رسول الله ولم يُسْلِمُوه بل إنّهم كانوا درعاً له ووقاء، وكانوا يدافعون عنه صلّى الله عليه وآله حتّى آخر لحظة من حياته الشريفة.

فمثلما اجتمعت العرب على محمّد صلّى الله عليه وآله تحاربه، فإنّها قد اجتمعت على أهل بيته تضادّهم وتستأصلهم من بعده. وإنّ ما بدأوا بالإعلان عنه في عهد الرسول هو الذي اتّسع ورُسِّخ لاحقاً؛ ذلك أنّ غير أهل البيت قالوا بمشروعيّة الرأي، وجواز التعرّف على المصلحة، وإدراك ملاكات الأحكام، والنهي عن التدوين وغيرها من المستحدثات.

وأنت تعلم أنّ هذا كلّه قد طُبِّق عمليّاً فيما بعد؛ فولاية العهد غدت شرعيّة - بعد قولهم بأنّ رسول الله لم يستخلف أحداً - استناداً إلى فعل أبي بكر في الاستخلاف.

وصار التدوين مكروهاً مقيتاً لكراهة عمر له، وجائزاً لتدوين ابن عبد العزيز له.

وصِيرَ إلى القول بعدم اجتماع النبوّة والإمامة، وأنّ رسول الله لم يورّث اتّباعاً لِما ذهب إليه الشيخان.

ومن الطريف هنا أن ننقل كلام الإمام عليّ لعمّه العبّاس حينما بويع عثمان، إذ قال له العبّاس: ألم أقل لك؟

فقال له [ عليّ ]:يا عمّ! إنّه قد خَفِي عليك أمر. أما سمعتَ قوله [ أي قول عمر ]على المنبر: ما كان الله ليجمع لأهل هذا البيت الخلافة والنبوّة؟! فأردت أن يكذّبَ نفسَه بلسانه، فيعلم الناسُ أنّ قوله بالأمس كان كذباً باطلاً، وأنّا نصلح للخلافة؟! فسكت العبّاس(٢) .

فلو كان حقّاً أنّ رسول الله لا يورّث فلمَ قال أبو بكر: (لقد دفعت آلة رسول الله ودابته وحذاءه إلى عليّ)؟(٣) ولماذا طالبت زوجات النبيّ الخليفةَ أبا بكر بإرثهنّ؟ إنّها

____________________

(١) سنن أبي داود ٣: ١٤٦، ح ٢٩٨٠، سنن النسائي (المجتبى) ٧: ١٣٠، ح ٤١٣٧ والنص منه، مسند أبي يعلى ١٣: ٣٦٩، ٧٣٩٩.

(٢) علل الشرائع: ١٧١، باب ١٣٣، ح ٢، وعنه في بحار الأنوار ٣١: ٣٥٥ - ٣٥٦.

(٣) انظر شرح نهج البلاغة ١٦: ٢١٤.

٤١٥

تساؤلات تتطلّب الإجابة. وبنظرنا أنّ التصوّرات الخاطئة هي التي آلت إلى اعتقادات خاطئة سارية إلى اليوم في تاريخ المسلمين وحياتهم.

لا أدري كيف لا يُتعجَّب من إيتاء الكتاب والحكمة والمُلك لآل إبراهيم، ويُتَعَجَّبُ من أن يُؤتى آل محمّد مثلما أُوتي آل إبراهيم؟! قال الحقّ سبحانه وتعالى:( أمْ يَحْسُدون الناسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) (١) .

قال عليّ بن أبي طالب:والله ما تنقم قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيّزنا (٢) .

وقد مرّ عليك رسالة معاوية لمحمّد بن أبي بكر: (... فكان أبوك وفاروقه أوّل مَن ابتزّه وخالَفه، على ذلك اتّفقا واتّسقا...).

إنّ ما أُريد التأكيد عليه هو أنّ الفقه قد مُنِيَ بمحنة انفعاله بالدوافع السياسيّة، والمواقف الحكومية، وأنّ الأحكام الدينيّة صارت لا تُعرَفُ لخلفيّات خاصّة أملتها السلطات، والخلفاء أصحاب الرأي.

وننقل هنا نصّاً عن (الاعتصام) رواه عن ابن العربيّ - وهو يكشف عمّا ذكرناه - قال ابن العربيّ: كان شيخنا أبو بكر الفهريّ يرفع يدَيه عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وهو مذهب مالك والشافعيّ، وتفعله الشيعة، فحضر عندي يوماً في مَحْرَس ابن الشواء بالثغر موضع تدريسي، عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدّم إلى الصفّ الأوّل، وأنا في مؤخّره قاعداً على طاقات البحر، أتنسّم الريح من شدّة الحرّ، ومعي في صفّ واحدٍ (أبو ثمنة) رئيس البحر وقائده، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة، ويتطلّع على مراكب تحت الميناء.

فلمّا رفع الشيخ الفهريّ يدَيه في الركوع وفي رفع الرأس منه، قال أبو ثمنة

____________________

(١) النساء: ٥٤.

(٢) نهج البلاغة ١: ٨٢، من ضمن الخطبة ٣٣.

٤١٦

وأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقيّ كيف دخل مسجدنا؟! قوموا إليه فاقتلوه وارموا به إلى البحر فلا يراكم أحد!!

فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله! هذا الطرطوشيّ فقيه الوقت، فقالوا لي: ولِمَ يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.

وجعلت أُسكّتهم وأُسكّنهم، حتّى فرغ من صلاته، وقمت له إلى المسكن من المحرس، ورأى تغيّر وجهي فأنكره، وسألني فأعلمته، فضحك، وقال: ومن أين لي أن أُقتل على سُنَّةٍ؟!

فقلت: ولا يحلّ لك هذا؟ فإنّك بين قوم إن قمتَ بها قاموا عليك، وربّما ذهب دمُك.

فقال: دع هذا الكلام، وخُذ في غيره(١) .

فابن العربيّ قد دعا أُستاذه الشيخ الفهريّ إلى التقيّة، بَيْدَ أنّ الأستاذ كان يحبّ القتل على السنّة!

ومن أمثلة الانفعال بالدوافع السياسيّة ما نراه في موقف البخاريّ في اختياره الروايات والرواة؛ فالبخاريّ - ومثله مسلم - قد رويا عن مروان بن الحكم وأبي سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن عمرو بن العاص والنعمان بن بشير بكثرة كاثرة، ولكنّهما لم يرويا عن الحسن والحسين سِبْطَي رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولم يحتج البخاري بجعفر بن محمد الصادق عليه السلام أصلاً!!

وأكثر مَن روى عنهم البخاريّ: أبو هريرة، وعائشة، وعمر بن الخطّاب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص.

فإنّه روى عن أبي هريرة أربعمائة وستّة وأربعين حديثاً.

وعن عبد الله بن عمر مائتين وسبعين حديثاً.

وعن عائشة أربعمائة واثنين وأربعين حديثاً، ولم يروِ عن فاطمة الزهراء بنت

____________________

(١) الاعتصام ١: ٣٥٨، تفسير القرطبي ١٩: ٢٨١ والمتن منه.

٤١٧

الرسول إلاّ حديثاً واحداً! ولم يروِ عن عليّ إلاّ تسعة وعشرين حديثا! ترى... لماذا تقلّ نسبة أحاديث عليّ عن أحاديث أبي هريرة في صحيحه؟ فإنّه روى عن أبي هريرة ٤٤٦، في حين لم يروِ عن عليّ بن أبي طالب إلاّ ٢٩ حديثاً؟!

أكان أبو هريرة أو عبد الله بن عمرو بن العاص أخصّ من عليّ برسول الله؟! أم كان عليّ من الصحابة الذين وصفهم أبو هريرة بكثرة الاشتغال بالتجارة عن التلقّي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

كلا، إنّ الأمر لَيرجع إلى غير ذلك، إنّه تحكيم الروح القرشيّة في الشريعة.

فعن المقداد أنّه قال لعبد الرحمان بن عوف يوم الشورى: يا عبد الرحمان! أما والله لقد تركتَه - أي تركتَ عليّاً - وإنّه من الذين يَقْضُون بالحقّ وبه يَعْدِلون.

فقال: يا مقداد! والله لقد اجتهدتُ للمسلمين!

فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أُتيَ إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! إنيّ لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول إنّ أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل، أما والله لو أجد عليه أعوانا!

فقال عبد الرحمان: يا مقداد! اتَّقِ الله فإنّي خائف عليك الفتنة!

فقال رجل للمقداد: رحمك الله، مَن أهل هذا البيت؟ ومن هو الرجل؟

فقال المقداد: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل عليّ بن أبي طالب(١) .

ومن الجدير ذكره هنا أنّ عمر بن الخطاب جعل عبد الرحمان بن عوف ضمن الستة أصحاب الشورى، وهو يعلم بأن هناك من هو أَأْهَلُ منه فجاء في صحيح البخاري بسنده عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمان بن عوف(٢) .

وفي تاريخ دمشق بسنده عن مالك بن أنس، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٥: ٣٨، الكامل في التاريخ ٣: ٣٧ (ذكر قصّة الشورى).

(٢) صحيح البخاري ٨: ١٥٢.

٤١٨

بن عتبة بن مسعود: أنّ عبد الله بن عباس أخبره أنّه كان يقرئ عبد الرحمان بن عوف في خلافة عمر...(١) .

وفي ذخائر العقبى عن ابن عباس قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمان بن عوف. أخرجاه، وعن أبي رافع قال: كان ابن عباس خليطاً لعمر كأنّه من أهله وكان يقرئه القرآن. خرجه أبو خاتم(٢) .

بلى كان من نتائج هذه الشورى الظالمة أن صار الأمر لعثمان ثم لمعاوية ثم ليزيد، ولما تسنّم معاوية الصغير ظهر الخلافة أحسّ بما جرّته هذه الشورى من ظلامة على أهل البيت، بعد أن خطب خطبته المعروفة التي اعتزل فيها عن الخلافة، قال الراوي: فقال له مروان بن الحكم وكان تحت المنبر: أسنّة عمرية يا أبا ليلى؟! فقال اغدو عنّي، أعن ديني تخدعني... على أنّه [ أي عمر ] كان حين جعلها شورى وصرفها عمّن لا يشك في عدالته ظلوماً(٣) .

وجاء عن رسول الله أنّه قال في خطبة الوداع: يا أيّها الناس! خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا تجاحَفَت قريش على المُلك وكان عن دين أحدكم فدَعُوه(٤) .

بين الاتّجاهين

وبعد هذا كلّه فإنّ ترك التحديث والأخذ بالقرآن بمفرده كان الحدّ الفاصل بين الاتّجاهين؛ لقوله: (فلا تحدّثوا عن رسول الله، فمَن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله)!

ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد كانت تذهب إلى مشروعيّة اجتهاد الرسول. وأمّا مدرسة التعبّد المحض فتنكره؛ لكونه مبنيّاً على الظنّ. وشتّان ما بين الفرض والتخمين وبين الجزم واليقين!

____________________

(١) تاريخ دمشق ٣٠: ٢٨٠.

(٢) ذخائر العقبى: ٢٤٣.

(٣) سمط النجوم العوالي للعاصمي الشافعي ٣: ٢١٣.

(٤) رواه أبو داود ٣: ١٣٧ حديث رقم ٢٩٥٨.

٤١٩

ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد تقول إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لم يوص من بعده. وأمّا مدرسة أهل البيت فتنصّ على وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لعليّ وأهل بيته من بعده.

ومنها: أنّ قريشاً ومدرسة الاجتهاد منعت من تدوين سنّة رسول الله. وأمّا مدرسة أهل البيت فقد دوّنت ذلك ودعت إليه رغم كلّ الظروف.

ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد قالت: (حسبنا كتاب الله) ولا (ألبس بكتاب الله شيئاً) وأمّا مدرسة أهل البيت فتقول عن القرآن إنّه حمّال ذو وجوه(١) ، ولا يمكن فهم حقائقه وتفصيله إلاّ عن طريق السنّة، وتفسير مَن خصّه الله بالعلم.

ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد لا ترتضي عرض كلام الصحابيّ على القرآن، بل ترى قوله وعمله مخصِّصاً للقرآن، وأمّا مدرسة أهل البيت فتدعو إلى لزوم عرض كلامهم على القرآن، وطرح ما خالف القرآن فجاء عنه عليه السلام:(إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه في كتاب الله) (٢) أو قوله:(فاعرضوا كلامي على كتاب الله، فما وافقه فخذوا به وما خالفه فاطرحوه) (٣) .

ومنها: أنَّ مدرسة الاجتهاد قالت بالتصويب في الأحكام الشرعيّة؛ لاعتقادهم بعدالة الصحابة، أمّا مدرسة أهل البيت فهي مخطِّئَة؛ لما عرفت.

ومنها: إنّ مدرسة الاجتهاد قالت بصحّة ما في البخاري ومسلم، وأمّا مدرسة التعبّد لم تقل بصحّة جميع ما روي في الكافي والكتب الأربعة.

ومنها: أنَّ مدرسة الاجتهاد نفت العدالة في كثير من الأحكام الشرعيّة، كالقضاء و... حتّى العبادات، فإنَّهم قد جوَّزوا الصلاة خلف كلّ برٍّ وفاجر، أمّا مدرسة أهل البيت فلم ترضَ ذلك. وغيرها.

____________________

(١) نهج البلاغة ٣: ١٣٦، الخطبة ٧٧، من وصيّة له عليه ‏السلام لعبد الله بن عباس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج فمن ضمن ما قال له: لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون...، وانظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ١: ٤٤٤.

(٢) المحاسن ١: ٢٦٩، الباب ٣٧، ح ٣٥٨، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (الباقر) عليه السلام: إذا حدّثناكم بشيء... الخ، الكافي ١: ٥٩، باب الرد إلى الكتاب والسنّة، ح ٥.

(٣) الاستبصار للطوسي ١: ١٩٠، باب ١١٢، ح ٩٦٦٨.

٤٢٠