منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93187
تحميل: 6490

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93187 / تحميل: 6490
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

فيهما من العقائد والآراء، وأمّا العناية بمفسِّر القرآن ومُبيّنه كما قال تعالى للنبيّ صلّى الله عليه وآله:( لتُبَيِّنَ للِنّاسِ ) (١) وعدّه موجباً لترك القرآن وهجرانه فهو إيهام وخلط بين حقّ وباطل... ذلك أنّ الإقبال على الحديث إقبال على القرآن الكريم في تفسيره والكشف عن مضامينه.

ثالثاً: إنّ تعليل الخليفة هذا يستلزم اتّهام الصحابة بفقدانهم القدرة على التمييز بين كلام الله الذي حفظوه وتناقلوه، وبين كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله، الذي صدر في مقام التفسير والشرح. في حين نعلم أنّ النصّ القرآنيّ بصياغته الخاصّة وبلاغته المتميّزة وجذبته الروحيّة ممّا لا يخفى على أحد، وممّا لا يمكن الخلط بينه وبين الحديث؛ إذ الآيات القرآنية وحدة موضوعيّة مترابطة، ونسيج متماسك يستحيل اختلاطه بغيره من الكلام، و إذا أمكن حصول الالتباس في كلمات منه أو آيةٍ مثل، وهل هي من القرآن أم من كلام النبيّ، فإنّ ذلك أمر جزئيّ يمكن علاجه بأن يأمر الخليفة بالتثبّت منه عن طريق سؤال أكثر من صحابيّ، كما فعل ذلك أبو بكر عند جمعه القرآن(٢) ، ولا يحتاج علاج هذه القضيّة البسيطة إلى تعميم منع التحديث والتدوين كما فعل ذلك الخليفة عمر، ولذلك نرى أنّ أبا بكر لم يعلّل منعه للتدوين بالاختلاط لأنّه حلّ هذا الاحتمال ولم يحوجه إلى اتّخاذ أُسلوب الخليفة عمر.

نعم، يصحّ هذا القول - على فرض التنزّل - لو اعتبرنا أنّ القرآن والحديث قد كانا بلا تمايز في صحيفة واحدة، ممّا هو مظنّة للخلط وفقدان للتمييز. لكنّ الواقع لم يكن كذلك، ولم يصنع هذا الصنيع المفترض أحد من المسلمين.

وهذه كتب التفسير بالمأثور ماثلة بين أيدي المسلمين، ولم يقع الخلط فيها بين القرآن والأثر النبويّ، رغم تطاول الأزمنة وامتداد العصور.

وأمّا التعليل الثاني: وهو الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن؛ لقوله: (لا أُلبس

____________________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) الدر المنثور ٤: ٣٣٢، تحفة الأحوذي ٨: ٤٠٨، باب سورة التوبة، الإتقان ١: ١٦٢ - ١٦٣.

٤١

كتاب الله بشيء). فيردُّ عليه بأُمور أُخرى، هي:

أوّلاً: إنّ النصّ القرآنيّ يمتاز عن النصّ الروائيّ من حيث الأسلوب والبلاغة بمزايا ثابتة، إذ إنّ الأوّل قد صدر على نحو الإعجاز، فتحدّى مشركي العرب - وهم أهل البراعة في البيان - أن يأتوا بمثله. وقد تكرّرت هذه الدعوة في القرآن بأساليب مختلفة وألفاظ قارعة كقوله( قُلْ فَأْتُوا بكتابٍ مِن عِند الله هُو أهدى مِنْهُما أتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صَادقِيِنَ ) (١) .

أو:( قُل لَئن اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ على أن يَأتُوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ ولو كانَ بَعْضُهُم لبعضٍ ظَهيراً ) (٢) .

وفي آخر:( أمْ يقولون افتْرَاهُ، قُلْ فَأتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دونِ الله إنْ كُنتمِ صادقِينَ ) (٣) .

وقوله:( وإنْ كنتم في ريبٍ ممّا نَزَّلْنا على عبدِنا فاْتُوا بسورةٍ من مثلهِ وادعُوا شُهداءكم من دونِ الله إنْ كُنتم صادقين * فإن لَمْ تَفعلوا ولن تَفْعَلوا فاتّقُوا النّارَ التي وَقودُها الناسُ والحجارةُ أُعِدَّت للكافرين ) (٤) .

وقد أدهشهم القرآن في بلاغته وفصاحته وقوّة تأثيره حتّى قالوا:( سِحْرٌ مُسْتَمِرّ ) (٥) ، بخلاف حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي لم يكن في مقام التحدّي والإعجاز.

ثانياً: إنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله جاء على سبيل تبيين الأحكام، ولم يكن يُعْنَى بالصياغة البلاغيّة كما عني بتبيين الأحكام، مع الأخذ بنظر الاعتبار كون بعض الروايات التي صدرت عنه صلّى الله عليه وآله كانت تُنْقَل بالمعنى.

____________________

(١) القصص: ٤٩.

(٢) الإسراء: ٨٨.

(٣) هود: ١٣.

(٤) البقرة: ٢٣ - ٢٤.

(٥) القمر: ٢.

٤٢

في حين نعلم أنّ المسلمين كانوا قد عرفوا القرآن وميّزوه وحفظوه، وكانوا يقدّرون منزلته الخاصّة في نفوسهم؛ لما جعل له من منزلة للمتعامل معه، فلا يمسّونه بدون طهارة لقوله تعالى:( لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرون ) (١) وكانوا يتهادون آياته ويرتّلونها آناء الليل وأطراف النهار.

و إذا كانت عنايتهم بالقرآن إلى هذا الحدّ، وأكثر من هذا الحدّ، فهل يتخوّف بعد ذلك من اختلاطه بالحديث؟!

وكيف يخفى على الصحابة ما جاء على نحو الإعجاز من القول وبين ما لم يكن في مقام الإعجاز، حتّى يلزمنا القول بأنّ الصحابيّ لا يميّز بينهم؟!

نعم، قد يقال إنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله ليس مثل كلام سائر الناس، بل إنّه كلام سيّد البلغاء وأفصح العرب، و إنّه ليضاهي القرآن فصاحةً وعمقاً؛ ولذلك لا يتيسّر لجميع الناس التمييز بينه وبين القرآن، ومن أجله يُخشى من حصول الخلط بينه وبين القرآن!

والواقع أنّ هذه المقارنة فيها كثير من التجوّز؛ وذلك لأنّ السنّة النبويّة هي (قول وفعل وتقرير). ولو جرينا مع أصحاب هذا القول لما صحّ أن ينطبق إلاّ على السنّة القوليّة أو بعض السنّة القوليّة؛ لأنّ بين تلك الأقوال الصادرة عنه صلّى الله عليه وآله ما يجري مجرى الكلام المألوف من كلام الآدميّين، مضافاً إلى أنّ الكثير من المرويّات عن الرسول كانت تنقل بالمعنى لا باللفظ.

ثالثاً: لو سلّمنا بالقول السابق، فإنّه لا يستلزم القول بلزوم ترك الحديث صيانة للقرآن؛ لأنّ الحديث مفسِّر القرآن، وأنّ كتابته وتدوينه وكثرة مُدارسته ممّا يخدم المسلم في فهمه للقرآن، ولا تعارض بينه وبين القرآن.

بلى، إنّ التثبّت في النقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله هو ما يجب أن يُصار إليه و يؤكّد عليه، وهو ما أكّده صلّى الله عليه وآله بقوله:(مَن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار). والمتأمّل في هذه الجملة يراها تقرِّر إمكان مجاراة السنّة النبويّة والكذب عليه، بعكس القرآن

____________________

(١) الواقعة: ٧٩.

٤٣

الذي لا يمكن لأحد أن يضاهيه.

بعد هذا نتساءل: كيف ينسب إلى الخليفة عمر بن الخطّاب جهله بهذه الحقائق الواضحة، حتّى يدّعي ما لازِمُه عدم الفرق بين بلاغة القرآن المعجزة وبين بلاغة النصّ النبويّ الشريف؟!

وكيف يُغفل عن أنّ القول بالاختلاط يؤدي إلى الكفر، وأنّ الذي يذهب إلى احتمال اختلاط القرآن بالسنّة يُعدُّ مكذِّباً لقوله تعالى:( لا يأتيه الباطل ) (١) وقوله:( إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) (٢) ، وممّا لا يستبعد قوله هنا أنّ الخليفة عمر لجأ في تأصيل ما يقول به إلى تعليلات شتى كالخوف من اختلاط الكتاب بالسنّة، أو أنّه ذكر قوماً كانوا قبلهم أكبّوا على كتب أحبارهم وتركوا كتاب ربّهم، أو تثبتاً في السنّة، وبتعاليله تلك حدّ من تناقل الحديث عن رسول الله وضيّق الخناق على كل مَن له رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ومهما يكن من أمر فإنّ منع عمر من التحديث والكتابة والتدوين جاء خلافاً لإجماع أهل القبلة بحجّية خبر الآحاد، وخلافاً لغالب أهل السنة والجماعة المنعقد على عدالة جميع الصحابة، بل هو خلاف سيرة العقلاء القائمة على اعتبار أخبار الثقات، فالخليفة بعمله هذا قد أضاع كثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة، وشكّك في أُصول مطروحة في الشريعة؛ لأنّ كثيراً من الصحابة سمعوا ما لم يسمعه غيرهم، وهذا يعني عدم جواز نقل ما سمعوا إلاّ بعد أن يأتوا بشاهد وبينة على صدوره عن رسول الله، وهذا ما لا يتأتى لغالبهم كما تأتى لأبي موسى الأشعري بالصدفة.

ومن هذا كلّه نخلص إلى أنّ المبرَّرَينِ المطروحَينِ من قبل الخليفة عمر بن الخطّاب، لمنع حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، لا يكفيان في التعليل، فلنبحث عن مبرّر آخر قد نجد فيه الجواب المقنع.

____________________

(١) فصلت: ٤٢.

(٢) حجر: ٩.

٤٤

السبب الثالث

ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر

ذهب ابن قتيبة(١) وابن حجر(٢) وغيرهما(٣) إلى أنّ النهي عن التدوين جاء لجهل الصحابة بالكتابة.

بَيدَ أنّ هذا الرأي لم يثبت أمام النقد والتمحيص، وواجه العديد من الاعتراضات والردود، منها ردّ محمّد عجاج الخطيب، إذ قال: (لا يمكننا أن نسلّم بهذا بعد أن رأينا نيّفاً وثلاثين كاتباً يتولّون كتابة الوحي للرسول الكريم صلّى الله عليه وآله، وغيرهم يتولّون أُموره الكتابيّة الأخرى.

ولا يمكننا أن نعتقد بقلّة الكتّاب وعدم إتقانهم له، فتعميم ابن قتيبة هذا لا يستند إلى دليل)(٤) .

وقال في كتاب (السنّة قبل التدوين): ونحن في بحثنا هذا لا يمكننا أن نستسلم لتلك الأسباب التقليديّة التي اعتاد الكاتبون أن يعلّلوا بها عدم التدوين، ولا نستطيع أن نوافقهم على ما قالوه من أنّ قلّة التدوين في عهده صلّى الله عليه وآله تعود قبل كلّ شي إلى ندرة وسائل الكتابة، وقلّة الكتّاب وسوء كتابتهم، لا يمكننا أن نسلّم بهذا بعد أن رأينا نيّفاً وثلاثين كاتباً يتولّون كتابة الوحي للرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وغيرهم يتولّون أُموره الكتابيّة الأخرى.

____________________

(١) تأويل مختلف الحديث: ٢٨٧، وانظر توجيه النظر للجزائريّ: ١٠.

(٢) هدي الساري: ٤، وانظر فتح الباري ٣: ٣٤٥.

(٣) كالذهبي في سير أعلام النبلاء ١٨: ٥٤١، وفي تذكرة الحافظ ٣: ١١٨٢، ترجمة أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي.

(٤) أُصول الحديث وعلومه ومصطلحه: ١٤٦.

٤٥

ولا يمكننا أن نعتدّ بقلّة الكتّاب، وعدم إتقانهم له، وفيهم المحسنون المُتْقِنون أمثال: زيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولو قبلنا - جدلاً - ما ادّعوه من ندرة وسائل الكتابة، وصعوبة تأمينه، لكفى في الردّ عليهم أنّ المسلمين دوّنوا القرآن الكريم، ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يدوّنوا الحديث ما شقّ عليهم تحقيق تلك الوسائل، كما لم يشقّ هذا على من كتب الحديث بإذْن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلابدّ من أسباب أُخرى...(١) .

وقال الدكتور مصطفى الأعظميّ:... و إن أنكرنا معرفتهم بالكتابة فكيف نحكم بكتابة القرآن نفسه؟ أما كان الصحابة يكتبون القرآن أوّل بأوّل؟!

ثمّ ما معنى (ولا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن؟) إذا كان الناس لا يقدرون على الكتابة فلا داعي للمنع البتّة.

وهذا الحديث نفسه يشير إلى أ نّهم كانوا يكتبون القرآن وغير القرآن أيضاً.

ثمّ وجود عدد كبير من كتّاب النبيّ صلّى الله عليه وآله، وإدارة دولة عظيمة في عهد الخلفاء الراشدين، تتطلّب وجود الكتّاب العارفين بالحساب وما شاكل ذلك.

إذَن لا محيص من القول بأنّه كان هناك عدد وافر من الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة حتّى عصر الصحابة أنفسهم. وسياسة النبيّ التعليميّة التي آتت أُكلها في عهد النبيّ نفسه لابدّ أن تكون قد أنتجت أضعاف ذلك بعد وفاته صلّى الله عليه وآله.

إذن ممّا لا شكّ فيه أنّه كان هناك عدد كافٍ من الصحابة في عصر النبيّ يعرفون القراءة والكتابة، ولو أنّ الأغلبيّة لم تكن تعرف الكتابة. وبالرغم من هذا فإنّ الذين كانوا يعرفون كان فيهم الكفاية(٢) .

ثمّ إنّ الأستاذ الخطيب أراد تشخيص السبب المقنع لمنع التدوين فعاد لذكر بعض الأسباب التقليديّة، التي تهجّم على الآخرين فيها، فقال: لم يكن السبب في عدم تدوين

____________________

(١) السنّة قبل التدوين لمحمّد عجاج ‏الخطيب: ٣٠١ - ٣٠٢.

(٢) دراسات في الحديث النبويّ ١: ٧٣.

٤٦

السنّة رسمياً في عهده صلّى الله عليه وآله جهل المسلمين آنذاك بالكتابة والقراءة، فكان فيهم القارئون الكاتبون الذين دوّنوا التنزيل الحكيم، بل كان ذلك لأسباب أُخرى، أهمّها: الخوف من التباس القرآن بالسنّة، وكيلا ينشغل المسلمون بكتابة السنّة عن كتابة القرآن ودراسته وحفظه...(١) !!

ووقع في نفس هذا الخطأ الدكتور عبد الغنيّ، حين قال ردّاً على كلام ابن قتيبة: إنّ العمدة في ثبوت النهي حديث أبي سعيد الخدريّ. والمتبادر منه: أنّه أجاز كتابة القرآن لمن نهاه عن كتابة السنّة. ولو كانت علّة النهي خوف الخطأ في الكتابة، فكيف يُجيز لهم كتابة القرآن؟(٢) .

وقال السيّد هاشم معروف: ومن مجموع ذلك تبيّن أنّ الكتابة لم تكن بتلك الندرة بين المكيّين كما يدّعي البلاذريّ في فتوح البلدان، حيث قال: لقد ظهر الإسلام وبين القرشيّين سبعة عشر رجلاً يحسنون الكتابة لا غير، وفي الأوس والخزرج سكّان المدينة أحد عشر رجلاً تعلّموها من جيرانهم اليهود. وإذا صحّ أنّ الذين كانوا يحسنون الكتابة لا يتجاوزون هذا العدد الضئيل فلابُدّ وأن تكون في غيرهم معدومة أو أقلّ من ذلك...(٣) .

وقد مرَّ عليك كلام أحمد أمين في فجر الإسلام في ذلك(٤) .

قال الدكتور صبحي الصالح في علوم الحديث ومصطلحه: (فإذا رأينا أنّ تعويل الصحابة في حفظ الحديث إنّما كان على الاستظهار في الصدور لا على الكتابة في السطور؛ صار لزاماً علينا أن نلتمس لتعليل ذلك غير الأسباب التقليديّة التي يشير إليها الباحثون عادة كلّما عَرَضوا لهذا الموضوع، فما نستطيع أن نتابعهم فيما يزعمون من أنّ قلّة التدوين على عهد رسول الله تعود بالدرجة الأُولى إلى ندرة وسائل الكتابة؛

____________________

(١) السنّة قبل التدوين: ٣٤٠.

(٢) حجّيّة السنّة: ٤٣٠ و ٤٤٤.

(٣) دراسات في الكافي والصحيح: ١٤. أو دراسات في الحديث والمحدّثين: ١٧.

(٤) انظر فجر الإسلام: ١٣ - ١٤.

٤٧

لأنّها لم تك قليلة إلى هذا الحدّ الذي يُبالَغ فيه، وهي على كلّ حال قلّة نسبيّة قد تكون أحد العوامل في إهمال تدوين الحديث، ولكنّها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الأدوات صحابة الرسول من تجشّم المشاقّ وركوب الصعاب في كتابة القرآن كلّه في اللخاف والعُسب والأكتاف والأقتاب وقِطَع الأديم.

ولو أنّ بواعثهم النفسيّة على تدوين الحديث كانت تضارع بواعثهم على كتابة القرآن حماسةً وقوّة لاصطنعوا الوسائل لذلك ولم يتركوا سبيلاً إلاّ سلكوه، بَيدَ أنّهم من تلقاء أنفسهم وبتوجيه من نبيّهم نهجوا في جمع الحديث منهجاً يختلف كثيراً عن طريقهم في جمع القرآن)(١) .

أمّا السيّد محمّد رضا الجلاليّ فقد علّق على رأي ابن حجر بقوله: والعجب من مُحَدِّث، رجاليّ، مؤرِّخ مثل الحافظ ابن حجر العسقلانيّ أن تخفى عليه حقيقة واضحة كهذه، فيقول: (لأنّهم، كانوا لا يعرفون الكتابة)! وهذا يعني جميعهم، كما هو المتبادر من كلامه.

ولعلّ الحافظ السيوطيّ قد تنبّه إلى هذه الزلّة من ابن حجر، فعدّل عبارته، حيث يقول: (إنّ أكثرهم كانوا لا يحسنون الكتابة)(٢) .

وبهذا عرفت أنّ إطلاق جهل الصحابة بالكتابة غير سليم؛ لأنّ مَن لا يجيد الكتابة لا يمكن أن يقال له: لا تكتب، فالنهي المزعوم عن التدوين بذاته دالّ على وجود المؤهّل منهم للكتابة، أو دالّ على وقوعه، و إلاّ فالنهي يكون لغواً، خاصّة إذا كان شديداً.

وقال محقّق كتاب (ثبت البلدي) عند شرحه لحديث (لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن ومَن كتب فليمحه): فألفاظ الحديث تدلّ على وجود مَن كان يدوّن الحديث في حياة الرسول الأُولى...(٣) .

____________________

(١) علوم الحديث ومصطلحه: ٦.

(٢) تدوين السنّة الشريفة: ٣٩٢ - ٣٩٣، وقول السيوطيّ في تدريب الراويّ ١: ٨٨.

(٣) ثبت البلدي: ٧٧ مقدّمة المحقق.

٤٨

السبب الرابع

ما نقله الأستاذ أبو زهو والشيخ عبد الغنيّ

قال الأستاذ أبو زهو: وشيء آخر جعل النبيّ صلّى الله عليه وآله ينهاهم عن كتابة الحديث، هو: المحافظة على تلك المَلَكة التي امتازوا بها في الحفظ، فلو أنّهم كتبوا لاتّكلوا على المكتوب، وأهملوا الحفظ فتضيع مَلَكاتهم، بمرور الزمن(١) .

وقال الشيخ عبد الخالق عبد الغنيّ: القول الثاني: إنّه نهى عن كتابتها خوف اتّكالهم على الكتابة وإهمالهم للحفظ الذي هو طبيعتهم وسجيّتهم، وبذلك تضعف فيه ملكتهم... ولذلك كان هذا النهي خاصّاً بمن كان قويّ الحفظ آمناً من النسيان(٢) .

وقال قبله: الحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشرع، وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر. ومن هنا قد نفهم سبباً من الأسباب التي حملت الصحابة على حثّ تلاميذهم على الحفظ، ونهيهم إيّاهم عن الكتابة!

وذلك لأنّهم كانوا يرون أنّ الاعتماد على الكتابة يُضعف فيهم ملكة الحفظ، وهي ملكة طبعوا عليه، والنفس تميل إلى ما طبعت عليه، وتكره ما يخالفه و يضعفه(٣) .

وقال الدكتور محمّد عجاج الخطيب: (وأبَوا أن ينكبّ أهل الحديث على دفاترهم و يجعلوها خزائن علمهم، ولم يعجبهم أن يخالف سبيل الصحابة في الحفظ والاعتماد على الذاكرة. وحُقّ لهم أن يكرهوا الاتّكال على الكتب؛ لأنّ في الاتّكال

____________________

(١) الحديث والمحدّثون: ١٢٣.

(٢) حجّيّة السنّة: ٤٢٨، وانظر تدريب الراوي ٢: ٦٧.

(٣) حجّيّة السنّة: ٤٠٥.

٤٩

على المكتوب وحده إضعافاً للذاكرة، وانصرافاً عن العمل به)(١) .

وعلّق صاحب تدوين السنّة الشريفة على كلام الشيخ عبد الغنيّ بقوله: وهذا الكلام ليس فيه وراء الخطابة أمرٌ علميّ ولا استدلال بشي، بل هو بعيد عن الموضوعيّة، حيث إنّ البحث إنّما هو عن حرمة التدوين! وأين هذا الكلام من ذلك، فهو إنّما ينفق في سوق الرغبات والطبائع وما تحبّ أو تكره!

وهل هذا يوجب ترك أمر شرعيّ مهمّ - كالحديث - عرضةً للنسيان وغيره من آفات الذاكرة، وعدم ضبطه وتوثيقه بالكتابة والتدوين(٢) ؟!

ولنا مع هذا الرأي وقفتان:

الأُولى: يردُّ هذا التوجيه لو فرضنا كون النهي قد صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، لكنّ هذا النهي - كما سترى فيما بعد - لم يكن شرعيّاً، ولم يصحّ ما روي عنه صلّى الله عليه وآله في هذا المورد، بل إنّ أحاديث النهي قد صدرت تحت ظروف سياسيّة، وقناعات سابقة من أشخاص معيّنين، أرادوا للتحديث والتدوين أن لا ينطلقا في عالم أرحب.

الثانية: لو سلّمنا بصحّة هذا الرأي، فإنّ ذلك يستلزم أن تكون الكتابة محرّمة؛ مع أنّ كراهة الاتّكال على الكتابة لا تعني حرمته، بل تعني عدم الرغبة فيه. فلو كانت محرّمة لما كتبها بعض الصحابة، ومن ثمّ كانوا إذا حفظوها مَحَوها، كما نقل ذلك عن القاضي عياض(٣) .

ثمّ ألا ترى القول بمنع تدوين الحديث بدافع المحافظة عليه أشبه شي بالتناقض؟! وكيف يُتَصوّر أن يحثّ المعلّم تلاميذه على العلم ويحرّضهم على صون محفوظاتهم من النسيان ثمّ يوصيهم ألاّ يدوّنوها ولا يتدارسوها؟!

____________________

(١) السنّة قبل التدوين: ٣٣٣، وقد قال بهذا القول قبل هؤلاء السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء: ١٤٦ والقاضي عيّاض في الإلماع: ١٤٩، وابن الأثير في جامع الأصول ١: ٤٠، وابن الصلاح في مقدّمته: ٣٠١، وعلوم الحديث له: ١٩٢ وغيرهم.

(٢) تدوين السنّة الشريفة: ٣٧٠.

(٣) منهم: عاصم بن ضمرة (راجع المحدّث الفاصل ١: ٣٨٢)، وخالد الحذّاء (راجع تقييد العلم: ٥٩)، وعبيدة (انظر جامع بيان العلم ١: ١٦٦).

٥٠

أليس صون العلم والمحافظة عليه بالكتابة والتدوين أولى وأجدى من حفظه واستظهاره؟!

ولو تذكّرنا أنّ كلّ ما كُتِبَ قَرّ وكلّ ما حُفِظَ فَرّ، فَلِمَ التأكيد على حفظ الحديث وتجويزه من قبل الحفّاظ، والقول بأنّ منع الكتابة جاء للمحافظة على الذاكرة؟! وماذا نفعل بقوّة الحافظة لو مات الصحابيّ الحافظ؟!! ألم تكن الملائكة أكمل من بني الإنسان وأقدر منه على الحفظ، فلِمَ يكلّفهم الله عزّ وجلّ بالكتابة مع ذلك و يقول:( كِراماً كاتِبين ) (١) ؟!.

قد يقال: إنّ الحافظة ملكة يمكن أن تُدرَّب وتُشحَذ لتكون قويّة حادّة، كما هو شأن حاسّة السمع عند الأعمى التي تكون أقوى بكثير ممّا عند البصير؛ لأنّه غالباً ما يستعين بها بدل البصر المفقود، وكذا التاجر الأُمّيّ؛ فإنّ حافظته لكثرة اعتماده عليها وكثرة مزاولة استخدامها أقوى من حافظة التاجر المتعلّم؛ لأنّ الأوّل يعتمد على الحافظة بخلاف الثاني.

لكن لو صحّ أنّ شأن الصحابة مع الحفظ كان على هذه الشاكلة، وأنّ العرب كانوا ذوي حافظة قويّة، وخصوصاً الصحابة الذين قيّضهم الله لحفظ الشرع وصيانته، وحمله وتبليغه لمن بعدهم... فكيف يمكن تأويل ما أخرجه الخطيب في رواية مالك، والبيهقيّ في شعب الإيمان، والقرطبيّ في تفسيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر، قال: (تعلّم عمر سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلمّا ختمها نحر جزوراً)؟!(٢) .

وماذا يمكننا أن نقول في ذلك؟ هل يجب أن نُخَطِّئَ الشيخ عبد الغني والأستاذ أبا زهو ومَن ذهب إلى هذا الرأي، أم نخطّئ ابن الجوزيّ والذهبيّ والقرطبيّ لروايتهم هذا الخبر عن عمر؟

لابُدّ إذَنْ أن يكون في الأمر شي آخر غير الحافظة والاعتزاز بها. وهو ما سيتّضح

____________________

(١) الانفطار: ١١.

(٢) شرح النهج ١٢: ٦٦، الدرّ المنثور ١: ٥٤، سيرة عمر لابن الجوزيّ: ١٦٥، تفسير القرطبيّ ١: ٤٠ وفيه في بضع عشرة سنة، تاريخ الإسلام للذهبيّ (عهد الخلفاء الراشدين: ٢٦٧).

٥١

للقارئ - لاحقاً - إن شاء الله تعالى.

قال الأستاذ يوسف العشّ في مقدّمة كتاب تقييد العلم: (فذاكرة أكثر الناس أضعف من أن تتناول مادّة العلم بأجمعه، فتحفظها من الضياع، وتقيها من الشرود، ومهما قويت عند أُناس فلابدّ أن تهون عند آخرين، فتخونهم وتضعف معارفهم)(١) .

وقد عدّد أصحاب الجرح والتعديل في كتبهم أسماء مَن كان يخلط من الصحابة والرواة في كتبهم.

إنّ هذه الأمور تؤكّد أنّ المسألة لم تكن كما يصوّرها البعض، بل هناك شي آخر ينبغي الإشارة إليه، إذ أنّ السنّة النبويّة لم تكن حكراً على العرب، ليقال في التعليل: إنّهم أصحاب حافظة قويّة، حتّى يرد تعليل الشيخ عبد الغنيّ، والأستاذ أبي زهو، بل إنّ هناك - من مسلمي الفرس والأتراك وغيرهما - من كان يريد تدوين السنّة، فما الجواب في مثل هذه الحالة؟

ولو كان الحفظ واجباً في شي، ألا تراه في القرآن أوجب؟

ولو كانت سعة الحفظ وقوّة الذاكرة مانعة من كتابه شي، فلماذا لم تمنع من كتابة القرآن؟ مع وجود عدد كبير من حفّاظ الصحابة؟

ولو كان للحفظ هذه المنزلة فلماذا لا نجد في الحفظ عشر معشار الآيات النازلة في الكتابة والحث عليها وتمجيد الكتاب؟!

على أنّ الحافظة - التي ادّعي أن النهي عن الكتابة جاء لصيانتها - لم تستطع هي الأخرى أن تفي بالغرض وتسدّ حاجة المسلمين لسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ ولذلك صرّح أبو بكر بن أبي قحافة بأنّ الصحابة يحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله بأحاديث يختلفون في نقولاتها، وممّا لا شك فيه أنّ ضعف الحافظة وخيانتها من الأسباب الفاعلة في ذلك الاختلاف في النقل.

فمن خلال قول أبي بكر: (إنّكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون

____________________

(١) مقدّمة تقييد العلم: ٨.

٥٢

فيها) نفهم أنّ الخلاف في المسائل الفرعيّة آنذاك كان صادراً من جهة اختلاف وجوه النقل من قبل الصحابة(١) . وهذا معناه: إمّا كذب عدد منهم في النقل، كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله بقوله:(ستكثر بعدي القالةُ عليّ) (٢) فتتعارض نقولاتهم مع نقول الصادقين من الصحابة. وإمّا وقوع النسيان، أو السهو، أو الغلط لدى بعض منهم، بحيث يحدث الاختلاف مع نقولات الحافظين الذاكرين الصحيحي النقل.

وإمّا أن تكون النقولات متعارضة ظاهراً إلى حدّ أن يخفى على غير المتمرِّس بالشريعة وجه الجمع والعثور على القرائن الحاليّة، أو المقاليّة التي يمكن بواسطتها رفع الاختلاف.

إذَن، مَن يريد التثبّت في الحديث يلزمه أن يحتاط في الأخذ، ومن شكّ في صحّة حديث، فإنّه ينبغي عليه التحقيق فيه حتّى يتبيّن له المكذوب من الصحيح(٣) ، ولا يجوز أن يأمر بمحو الحديث وحرقه لمجرّد احتمال يَرِد عليه، وإلاّ فهو الإضاعة والتفريط والضبط.

وهنا أمر آخر يجب الإشارة إليه وهو أنّ النصوص المؤكّدة على تشديد الصحابة في نقل الأخبار، وقبولهم لها، وخوف سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود و... من التحديث وأن يزيد أو ينقص في الحديث، وقول زيد: كبرنا ونسينا الحديث عن رسول الله، كلّها تؤكّد عدم صحّة مقولة الحفاظ على الحافظة(٤) .

____________________

(١) انظر كتابنا تاريخ الحديث النبوي، المؤثرات في عهد أبي بكر: ١١١ - ١٢٤. ففيه تفصيل ذلك.

(٢) انظر المعتبر للمحقق الحلي ١: ٢٩، وفي صحيح البخاري ١: ٥٢ باب إثم من كذب على النبي ح ١٦ بسنده إلى علي بن أبي طالب يقول قال النبي صلّى الله عليه وآله:(لا تكذبوا عليّ فإنّه مَن كذب عليّ فليلج النار) .

(٣) كما جاء في خبر الرسول الذي رواه رافع بن خديج عنه صلّى الله عليه وآله المارّ ذكره.

(٤) الأضواء على السنّة المحمدية: ٥٨ - ٥٥، والحديث تجده في سنن ابن ماجة ١١: ١، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله والتغليط على من عارضه ح ٢٥، ومسند أحمد ٣٧٠: ٤، ح ١٩٣٢٣ و ١٩٣٢٤ وغيرها من المصادر.

٥٣

٥٤

السبب الخامس

ما ذهب إليه الخطيب البغداديّ وابن عبد البرّ

قال الخطيب: إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وتشديده عليهم في ذلك؟

قيل له: فعل ذلك عمر احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين، لأنّه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتّكلوا على ظاهر الأخبار. وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها ولا كلّ مَن سمعها عرف فقهها؛ فقد يَرد الحديث مجملاً و يستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحُكم خلاف مأخذه، وفي تشديد عمر - أيضاً - على الصحابة في روايتهم حفظ حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، وترهيب مَن لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها(١) .

قال الدكتور محمّد عجاج الخطيب، بعد نقله كلام الخطيب البغداديّ: هذا ما رآه ابن عبد البرّ والخطيب البغداديّ وغيرهما من أئمّة الحديث، و إليه أذهب وبه أقول(٢) .

هذا كلام الخطيب في المسألة. وهو كلام تثار حوله عدّة أسئلة:

منه: أترى أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان أحرص من رسول الله صلّى الله عليه وآله على دين الله؟ وما معنى خوفه واحتياطه ورسول الله يقول للسائل:(حدِّث عنّي ولا حرج) ؟ و يقول في آخر(اكتبوا ولا حرج) ؟

____________________

(١) شرف أصحاب الحديث: ٩٧ - ٩٨.

(٢) السنّة قبل التدوين: ١٠٦.

٥٥

وكيف لا يحتاط أبو ذرّ الغفاريّ وهو الصحابيّ الذي قال عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله:

(ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ) (١) وابن مسعود وغيرهم.

ثمّ إنّ ما فعله عمر بن الخطّاب من حظر التحديث والتدوين، وجمعُهُ للصحابة المحدِّثين في حوزته إلى آخر حياته - من أمثال أبي ذرّ وابن مسعود وأبي مسعود وغيرهم - ليشير بوضوح إلى افتعال ما نُسب لهؤلاء من روايتهم أحاديث منع التدوين والتحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقد ثبت من جهة أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب منع هؤلاء وفرض عليهم الإقامة الإجباريّة في المدينة، لتحديثهم عن رسول الله فلا يعقل في الجهة المقابلة أن يكون هؤلاء هم رواة أحاديث منع التدوين!! إذ لو كانوا كذلك لالتزموا بما سمعوا من منع النبيّ صلّى الله عليه وآله ولما حدّثوا عنه صلّى الله عليه وآله بشي.

بلى، لو صحّ أنّهم من مانعي الرواية والتحديث لما احتاج الخليفة إلى جمعهم ونهيهم عن التحديث؛ لأنّه تحصيل حاصل.

ثمّ ألم يكن في هذا القول ازدراء للصحابة؟ وتكذيب لما قاله ابن حجر عنهم: فنفى عنهم الكذب والخطأ والسهو والريب والفخر!

و إذا كان نقل الصحابة قد جاء تدريجيّاً واجتهاداً منهم، فهل يجوز لعمر نقض ما فعلوه؟

و إن لم يكن كذلك، فكيف يأمرهم أن يأتوه بمدوّناتهم؟

ألم يكن ذلك دليلاً على الجواز؟

وهل يعقل أن يمنع الرسول صلّى الله عليه وآله من تناقل حديثه الذي فيه بلاغ للناس؟ وهو القائل:(رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها عنّي) (٢) .

____________________

(١) مسند أحمد ٢: ١٦٣، ح ٦٥١٩، سنن ابن ماجة ١: ٥٥، باب فضل أبي ذر، ح ١٥٦، سنن الترمذي ٥: ٦٦٩، باب مناقب أبي ذر ٢، ح ٣٨٠١، الآحاد والمثاني ٢: ٢٣١، ح ٩٨٦، الكنى للبخاري ١: ٢٣، ح ١٨١.

(٢) سنن الترمذي ٥: ٣٤، كتاب العلم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، باب ما جاء في الحث على تبليغ السامع، ح ٢٦٥٨، المسند المستخرج على صحيح مسلم ١: ٤١، ح ١٢، سنن ابن ماجة ١: ٨٤، باب من بلغ علم، ح ٢٣٠ و ١: ٨٥، ح ٢٣١ و ١: ٨٦، ح ٢٣٦: مسند أحمد ٤: ٨٠، ح ١٦٧٨٤ و ٤: ٨٢، ح ١٦٨٠٠.

٥٦

والعجيب أنّهم يدّعون أنّ في المنع احتياطاً للدين، ويفوت عليهم أنّ منع المنع هو الاحتياط للدين؛ لأنّ معنى المنع هو ضياع كثير من الأحكام وعدم وصولها للمسلمين و إخفاء حكم الله، وأمّا التحديث والتدوين فهو و إن كان عرضة للخطأ والتصحيف و و... لكنّه أعوَدُ على المسلمين من بقائهم في الجهل وعدم معرفة الأحكام.

ولو تنزّلنا وقلنا بأنّ الخليفة الثاني منع من التدوين احتياطاً للدين، فإنّنا سنواجه مشكلة في سيرة الخليفة من كونه حادّاً سريعاً في اتّخاذ المواقف منذ الجاهلية(١) وصدر الإسلام، وهذا لا يتفق مع خوفه من (أن ينكلوا عن الأعمال ويتكلوا على ظاهر الأخبار) - كما قاله الخطيب - لأنّ عمر كان لا يتأنّى ولا يتمهّل، بل تراه يتسرّع في كثير من الأمور ثمّ يندم على ذلك، إذ نراه ندم على ما فعله سابقاً في صلح الحديبيّة(٢) وحينما صلّى النبي صلّى الله عليه وآله على المنافق(٣) ، ومثل ذلك ما تعجّل به عندما جيء بالحكم بن كيسان أسيراً للنبيّ صلّى الله عليه وآله فجعل النبيّ يدعوه إلى الإسلام، فأطال، فقال عمر: علامَ تكلّم هذا يا رسول الله؟! والله لا يسلم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه ويقدم على أُمّه الهاوية.

فكان النبيّ صلّى الله عليه وآله لا يقبل على عمر، حتّى أسلم الحكم.

قال عمر: فما هو إلاّ أن رأيته أسلم، حتّى أخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: كيف أردّ على النبيّ أمراً هو أعلم به منّي، ثمّ أقول: إنّما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله؟!

قال عمر: فأسلم، فحسن إسلامه، وجاهد في الله حتّى قُتِل شهيداً ببئر معونة ورسول الله راضٍ عنه، ودخل الجنان(٤) .

____________________

(١) انظر المنمّق: ١٣٠.

(٢) صحيح البخاري ٢: ٩٧٨، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح ٢٥٨١. و ٣: ١١٦٢، باب إثم مَن عاهد ثم غدر، ح ٣٠١١، و ٤: ١٨٣٢، باب إذ يبايعونك تحت الشجرة، ح ١٧٨٥ وصحيح مسلم ٣: ١٤١١ باب صلح الحديبية ح ١٧٨٥.

(٣) تاريخ المدينة لابن شبة ١: ٣٧٢ بسنده عن الشعبي قال: إنّ عمر قال: لقد أصبت في الإسلام هفوة ما هفوت مثلها قط، ثم ذكر قضية صلاة النبي على عبد الله بن أبي وهو كان منافقاً فاعترض عمر على النبي صلّى الله عليه وآله، آخذاً بثوبه ليمنعه من الصلاة عليه. الدر المنثور ٣: ٢٦٤، كنز العمّال ٢: ٤١٩، ح ٤٣٩٣.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ٤: ١٣٧ ترجمة الحكم بن كيسان، وعنه في الخصائص الكبرى ٢: ٢٦،

=

٥٧

وكانت له مثل هذه المواقف في خلافة أبي بكر، فقد جاء نفر من مؤلّفة المسلمين إلى أبي بكر يطلبون سهمهم، فكتب لهم به، فذهبوا إلى عمر ليعطيهم، وأروه كتاب أبي بكر، فأبى وبزق [ بصق ] فيه ثم ضرب به وجوههم... فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟! فقال: بل هو إن شاء(١) .

وقد أكثر من سرعة البتّ في الأمور في فترة خلافته، فغرّب نصر بن حجّاج؛ لأنّ امرأة هتفت به(٢) ، وشرّع الطلاق ثلاثاً(٣) ، وأراد أخذ ذهب البيت الحرام ثمّ أعرض عن ذلك لمخالفة الصحابة إيّاه،(٤) و و...

ومع هذا الذي نراه من سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، لا نستطيع أن نؤمن بأنّه فعل ذلك احتياطاً؛ لأنّ التسرّع والاجتهاد يتنافى مع الحذر والاحتياط.

وماذا نقول عن فعل الصحابة؟!

وهل يعقل أنّ الصحابة كانوا لا يرون الاحتياط في الدين؟ أم أنّهم كانوا يرون الاحتياط هو الأخذ برؤية تخالف ما ذهب إليه الخليفة؟!

وكيف يصحّ أن يقال إنّ فعل الخليفة عمر كان للاحتياط، مع أنّا نرى الصحابة أشاروا عليه بتدوين السنّة، فانفرد برأيه وأحرق المدوّنات ومنع من التدوين، ترى

____________________

=

باب ما وقع في إسلام الحكم بن كيسان، و المنتظم لابن الجوزي ٣: ٢٠٩.

(١) انظر فضائل الصحابة لابن حنبل ١: ٢٩٢، روح المعاني ١٠: ١٢٣، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء ٣: ٩٠، كنز العمّال ٣: ٩١٤، ح ٩١٥١ و ١٢: ٥٤٦، ح ٣٥٧٣٨، تاريخ دمشق ٩: ١٩٦، ت ٧٩٧ الأقرع بن حابس.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٣: ٢٨٥، باب ذكر استخلاف عمر، الاستيعاب ١: ٣٢٦، ترجمة الحجاج بن علاط السلمي، الإصابة ٦: ٤٨٥، ت ٨٨٤٥، لنصر بن حجاج بن علاط السلمي المبسوط للسرخسي ٩: ٤٥، كتاب الحدود.

(٣) صحيح مسلم ٢: ١٠٩٩، باب طلاق الثلاث، ح ١٤٧٢، المستدرك على الصحيحين ٢: ٢١٤، كتاب الطلاق، ح ٢٧٩٢ - ٢٧٩٣، المسند المستخرج على صحيح مسلم ٤: ١٥٣، باب في الرجل يطلق امرأته، ح ٣٤٧٢ و ٣٤٧٣ و ٣٤٧٤، مسند احمد ١: ٣١٤، ح ٢٨٧٧، السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٣٣٦، باب من جعل الثلاث واحدة، ح ١٤٧٤٩، ١٤٧٥٠، ١٤٧٥١.

(٤) الإحكام لابن حزم ٢: ١٥٢، ٦: ٢٤٩، فتح الباري ٣: ٤٥٦ - ٤٥٨، سنن أبي داود ٢: ٢١٥، باب في مال الكعبة، ح ٢٠٣١، سنن ابن ماجة ٢: ١٠٤٠، باب مال الكعبة، ح ٣١١٦، السنن الكبرى للبيهقي ٥: ١٥٩، باب ما جاء في مال الكعبة، ح ٩٥١١.

٥٨

كيف صار خلاف صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله احتياطاً؟!

إنّ الاحتياط في أن يوافق الخليفة رأي أكثر الصحابة؛ لقوله تعالى:( وأمرهم شورى بينهم ) (١) ، ولإيمانه هو بمبدأ الشورى، فمخالفة ما أشار به الصحابة يعدّ نقضاً للاحتياط، وهدماً لمبدأ الشورى الذي اتّخذه عمر بن الخطّاب.

بعد كلّ هذا يتجلّى ضعف هذا الرأي، وعدم صموده أمام النقد والتمحيص؛ فلذلك نرى أن ننتقل إلى سبب آخر عسى أن نقف على الحلّ فيه.

____________________

(١) الشورى: ٣٨.

٥٩

٦٠