منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93237
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93237 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

نماذج تطبيقيّة لفقه النهجين

بعد كلّ الذي قدمناه عن الفتح المبكّر لِباب التدوين عند مدرسة (التعبّد المحض) ومنعه عند مدرسة (الرأي والاجتهاد)، نقدّم الآن نماذج حيّة تطبيقيّة لفقهَي (التعبّد المحض) و(الاجتهاد والرأي) ولا نبتغي من ورائه إلاّ تجسيم كون الخلاف وقع في الفقه بعد أن كان في الخلافة من ذي قبل.

وهذا يوضّح ما قلناه في عوامل منع التدوين من قِبل الشيخين، وأنّ آثاره قد انعكست على واقع المسلمين اليوم؛ لأنّ التخالف في الفقه يرجع إلى التخالف في الأُصول والروايات المستقاة عند الطرفين، وحينما عرفت تاريخ السنّة وملابساتها فقد عرفت كلّ شيء.

وإليك أربع مسائل من المسائل الفقهيّة المختلف فيها بين الاتّجاهين، آثرنا أن نأتي بها من أبواب مختلفة في الفقه (الإرث، الأطعمة والأشربة، الحدود، الديّات) لكي يتّضح ما نقوله بأجلى صوره وأوضحها، وليتبيّن أنّ المنع الصادر عن الشيخين وأتباعهما قد أثّر تأثيراً كاملاً في جلّ أبواب الفقه الإسلاميّ إن لم نقل كلّه، إذ من آثار المنع هو القول بمشروعيّة تعدّد الآراء عند الصحابة، وبمعنى آخر: بمنع التدوين ينفتح باب الاجتهاد لا محالة؛ لأنّ الناس بحاجة إلى حلول في قضاياهم العامّة خصوصاً في المسائل المستحدثة، وبالاجتهاد مِن قبل الصحابة - سواء كان هذا الاجتهاد طبقَ النصّ أو لا - يُسَدُّ هذا العوز، ونحن نعلم أنّ الاجتهاد بطبيعته لا يلزم الفرد الوقوف عند الرأي الواحد، ومن هنا حدث الاختلاف بين الصحابة في آرائهم

٥٠١

وفقههم، وحتّى بين أقوال الصحابيّ الواحد بنفسه، وقد أثّر هذا الاختلاف بين الصحابة - بسبب وقوفهم على رأي واحد - على التابعين من بعدهم؛ لأنّ الخلفاء وبتدوينهم أقوال الصحابة بجنب حديث رسول الله قد أصّلوا تلك الاختلافات عنهم، وقد مرّ عليك قول الحسن بن كيسان واختلافه مع الزهريّ في كلام الصحابيّ، فهل هو من السنّة حتّى يدوّنه أو لا؟ فذهب ابن كيسان إلى أنّه ليس بسنّة، لكنّ الزهريّ كان يصرّ على تدوينه لأقوالهم معتقداً بأنّها سنّة، فقال ابن كيسان: دَوَّنَ وضيَّعتُ.

وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنّها سنّة(١) .

وبهذا قد درج الاختلاف إلى الأُصول وصارت شريعة لا يمكن مخالفتها، حتّى أنّا نرى اختلاف النقل عن الصحابّي الواحد بذاته، فهذا يأخذ برأيه الأوّل والآخر برأيه الثاني.

كلّ هذه المقدّمة وضّحت لنا أنّ السنّة النبويّة عند أهل السنّة والجماعة قد مرّت بمرحلتين:

١ - المنع.

٢ - التدوين.

فبالمنع شرّعت الآراء واختلطت سنّة رسول الله بما سنَّ عن الصحابة، وبالتدوين دوّنت تلك الآراء المختلفة وصارت شريعة يؤخذ بها.

أمّا مدرسة التعبّد المحض، فلم تمرّ إلاّ بمرحلة واحدة وهي الأخذ عن رسول الله وما كتبه عليّ عنه! (مِن فِيْهِ بيده) ولأجله لم نرَ اختلافاً جوهريّاً في المسائل المطروحة في فقه التعبّد المحض، وإليك نصوصاً في ذلك:

١ - الإرث

عن محمّد بن مسلم قال: نشر أبو عبد الله صحيفة، فأوّل ما تلقاني فيها (ابن أخ وجدّ، المال بينهما نصفان).

فقلت: جعلت فداك إنّ القضاة عندنا لا يقضون لابن الأخ مع الجدّ بشيء!!

____________________

(١) ابن حنبل لأبي زهرة: ٢٥٢ - ٢٥٥، ومالك لأبي زهرة أيضاً: ٢٩٠.

٥٠٢

فقال: إنّ هذا الكتاب بخطّ عليّ و إملاء رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله(١) .

وعنه في رواية أُخرى قال: نظرت إلى صحيفة ينظر فيها أبو جعفر فقرأت فيها مكتوباً (ابن أخ وجدّ، المال بينهما سواء) فقلت لأبي جعفر: إنّ من عندنا لا يقضون بهذا القضاء ولا يجعلون لابن الأخ مع الجدّ شيئاً، فقال أبو جعفر:أما إنّه إملاء رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وخطّ عليّ، مِن فيه ليَده (٢) .

هذان النصّان يعالجان مسألة من مسائل الفقه الإسلاميّ في الإرث، الذي كثر فيه الخلاف والجدل.

فمحمّد بن مسلم نقل عن قضاة بلده أنّهم لا يقضون بما في كتاب عليّ، والباقر عليه السلام أقرّ كلامه، وقرّر أنّ القضاة في المدينة لا يقضون بما يقضي به أئمّة أهل البيت؛ لذلك أكّد الباقر على أنّ حكمه مأخوذ من (فيه‏ صلّى الله عليه وآله ليَده) وأنّ الكتاب (بخطّ عليّ و إملاء رسول الله).

فتأكيد الإمام الباقر على أوثقية مصدره - وأهميّة التدوين عموماً وهذه المدوّنة بالذات - جاء ليؤكّد تخالف النهجين في الأصول، ومَن يراجع مصادر فقه الشيعة الإماميّة يراهم قد أطبقوا على توريث ابن الأخ وقيامه مقام الأخ في مقاسمة الجدّ الميراث(٣) .

وأمّا فقهاء أهل السنّة والجماعة فلم نر منهم مَن يقضي فيها بهذا القضاء، مع علمهم أنّ عليّاً وابن عبّاس كانا يقضيان لابن الأخ مع الجدّ نصفين سواء.

فقد أخرج الطحاويّ عن طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ، قال: حدّثت أنّ عليّ بن أبي طالب كان يُنزّل بني الإخوة مع الجدّ منزلة آبائهم، ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره(٤) وأخرج عبد الرزّاق بسنده إلى الشعبيّ مثله(٥) .

ويبدو أنّ إصرار مدرسة الاجتهاد والرأي على عدم الأخذ بقول عليّ وابن عبّاس

____________________

(١) الكافي ٧: ١١٢ باب ابن أخ وجد، ح ١، الوسائل ٢٦: ١٥٩، ح ٣٢٧١٤.

(٢) الكافي ٧: ١٣ باب أخ وجد، ح ٥، التهذيب ٣٠٨ ح ١١٠٤، وسائل الشيعة ٢٦: ١٦، ح ٣٢٧١٨.

(٣) انظر الخلاف ٤: ٩٠ المسألة رقم ١٠٠.

(٤) فتح الباري ١٢: ٢١.

(٥) مصنّف عبد الرزّاق ١٠: ٢٦٩ باب فرض الجد، ح ١٩٠٦٦.

٥٠٣

هو كون أمر الجدّ خطيراً جدّاً من وجهة نظر الخلفاء؛ وذلك لاختلاف وتضارب آرائهم فيه؛ فلذلك عتّموا ومنعوا كلّ ما ينقل مخالفاً لاجتهاداتهم في المسألة، حتّى أنّا نرى عليّاً يتّقي من شيوع حكمه في الجدّ، ويأمر ابن عبّاس بإتلاف ما كتبه إليه بهذا الصدد.

فقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الشعبيّ، قال: كتب ابن عبّاس إلى علي يسأله عن ستّة أخوة وجد، فكتب إليه أنِاجعَلْهُ كأحدهم وامحُ كتابي (١) ، وفي أُخرى(وامح كتابي ولا تخلّده) (٢) وهذا صريح في أنّ عليّاً كان يحاذر من بيان حكمه في المسألة ووقوع كتابه بيد من ليس بأهل.

ونقل عن عبد الله بن مسعود مثله، فعن شعبة بن التوأم الضبّيّ، قال: توفّي أخٌ لنا في عهد عمر وترك إخوته وجدّه، فأتينا ابن مسعود فأعطى الجد مع الإخوة السدس، ثمّ توفّي أخٌ لنا آخر في عهد عثمان وترك إخوته وجدّه، فأتينا ابن مسعود فأعطى الجدّ مع الإخوة الثلث، فقلنا له: إنّك أعطيت جدّنا من أخينا الأول السدس، وأعطيته الآن الثلث!! فقال: إنّما نقضي بقضاء أئمّتنا(٣) .

وكأنّ ابن مسعود يشير إلى عدم تمكّنه من الإفصاح عمّا سمعه من النبّي أو ما يراه؛ لما ذكر من اختلاف أقوال عمر فيه، مكتفياً بما يقضي به الخلفاء، وهذا الجواب يشبه إلى حدّ كبير جوابه لمَن سأله عن صلاته مع النبيّ بمنى ركعتين، ثمّ صلاته مع عثمان أربعاً، بقوله: (إن عثمان كان إماماًَ فما أخالفه، والخلاف شرّ).

فاختلاف أقوال الخليفة عمر في الجدّ، ثمّ تضارب أراء بعض الصحابة فيه، حدا ببعض الفقهاء أن يظنّ ظنّاً مغلوطاً، فقالت طائفة: (ليس للجدّ شيء معلوم مع الإخوة، إنّما هو على حسب ما يقضي فيه الخليفة)(٤) .

نعم إنّ النهج الحاكم كان يريد تثبيت رأي الخلفاء الماضين لا غير والإصرار على

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٢٦٠، ح ٣١٢٢٢، فتح الباري ١٢: ٢١.

(٢) فتح الباري ١٢: ٢١.

(٣) المحلّى ٩: ٢٨٥ - ٢٨٦.

(٤) المحلّى ٩: ٢٨٣.

٥٠٤

مخالفة نهج عليّ وابن عبّاس، فجاء عن الحجّاج أنّه بعث إلى الشعبي يسأله عن مسألة في الجدّ.

فقال [ الشعبيّ ]: قال فيها ابن مسعود وعليّ وعثمان وابن عبّاس و...

فقال الحجّاج: فما قال فيها ابن عبّاس وإنْ كان لمُتقناً... إلى أن قال الحجّاج: مُرِ القاضي يمضيها على ما أمضاها عليه أمير المؤمنين، يعني عثمان(١) .

ومن هذه النصوص اتّضح لك وضوح الرؤية ووحدتها عند عليّ وأهل بيته أخذاً من المدوّنة عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، كما اتّضح لك الرؤية الغائمة عند المانعين من التدوين.

٢ - مسألة في الصيد

روي عن الحلبّي أنّه قال: قال الصادق:كان أبي يفتي وكان يتّقي ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور، وأمّا الآن فإنّا لا نخاف ولا نحلّ صيدها إلاّ أن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب عليّ أنّ الله عزّ وجلّ قال: ( وما عَلَّمْتُمْ من الجوارح مُكَلِّبين ) (٢) فسمّى الكلاب (٣) .

ومعني الرواية أنّ الإمام الباقر كان يفتي خوفاً لكونه يعيش تحت ضغوط الإرهاب الفكريّ الأمويّ؛ لأنّ الأمويّين قد عرفوا بولعهم بالصيد بالصقورة والبزاة كما هو المشهور عن يزيد وغيره، وحينما ارتفع الخوف - في أوائل العصر العبّاسيّ - أخذ الإمام الصادق يوضّح حكمها بقوله:(أمّا الآن فإنّا لا نخاف ولا نُحلّ صيدها إلاّ أن تدرك ذكاته فإنّه...)

وإذا تصفّحنا هذه المفردة الفقهيّة؛ رأينا الأدلّة الواردة فيها تقتصر على حلِّيَّة أكل ما صاده الكلب المعلَّم لا غير، وقوفاً عند نصّ الآية المباركة.

فقد ورد عن أبي ثعلبة الخشنيّ، وعديّ بن حاتم الطائيّ: حلّيّة خصوص ما صاده

____________________

(١) المحلّى ٩: ٢٨٩.

(٢) المائدة: ٤.

(٣) الكافي ٦: ٢٠٧ باب صيد البزاة والصقور، ح ١، التهذيب ٩: ٣٢ - ٣٣، ح ١٣٠ والنص عنه، الاستبصار ٤: ٧٣، الباب ٦٤، ح ٢٦٦.

٥٠٥

الكلب المعلّم(١) .

وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنّه لا يجوز الصيد إلاّ بالكلب، لقوله تعالى:( وما علّمتم... ) الآية(٢) .

على أنّ ابن حزم الأندلسيّ صرّح بأنّ السنّة النبويّة المباركة وردت في خصوص المعلّم من الكلاب، ولم تذكر غيره(٣) .

كما أنّهم صرّحوا بضعف ما نسب إلى ابن عبّاس من قوله في تفسير الآية المباركة: هي الكلاب المعلّمة والبازي وكلّ طائر يُعَلَّم الصيد(٤) . لأنّ الرواية وردت عن طريق عليّ بن أبي طلحة، الذي لم يدرك ابن عبّاس، مع أنّ الأكثرين قد ضعّفوه(٥) .

وإذا أضفت كلّ هذا إلى ما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في حلّيّة خصوص مصيد الكلب المعلّم وحرمة مصيد غيره من الجوارح؛ علمت مدى وضوح الحكم، إلاّ أنّ الحكّام وما أرادوه أملى على بعض المسلمين أن يقولوا ما يريدونه، خوفاً ورهبة، حتّى ضاع على مَن أتى مِن بعدهم وجه الصواب.

لذلك نرى أنّ أكثر فقهاء العامّة خالفوا هذا الحكم الواضح، وأفتوا بحلّيّة مصيد البزاة والصقورة(٦) ، مع أنّنا لم نعثر لهم على مستند من السنّة النبويّة في هذا، بل السنّة على خلافه، وإنّما أفتوا بذلك بعد أن وسَّعوا موضوع الآية بلا حجّة ولا دليل، لا من كتاب ولا سنّة؛ لأنّهما مقتصران على الكلب المعلّم فقط، وقد صرّح ابن حزم بذلك(٧) ، وهو الظاهر من ابن قدامة أيضاً(٨) .

____________________

(١) المغني ٩: ٢٩٢، كتاب الصيد والذبائح.

(٢) المغني ٩: ٢٩٦، كتاب الصيد والذبائح.

(٣) المحلّى ٧: ٤٧٣.

(٤) المجموع ٩: ٨٨.

(٥) المجموع ٩: ٨٨.

(٦) انظر المغني ٩: ٢٩٣.

(٧) المحلّى ٧: ٤٧٢.

(٨) المغني ٩: ٢٩٣.

٥٠٦

بعد هذا تعلم يقيناً أنّ التدوين الذي بدأه عليّ عليه السلام كان فيه الخير العميم للمسلمين لو أخذوا به، لكنَّ الظروف والملابسات هي التي جعلت، هذه المفردة تابعة لما أُريد لها لا لما ورد في الكتاب وجاءت به سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله.

٣ - حدّ شارب الخمر والنبيذ

روي عن بريد بن معاوية، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إنّ في كتاب عليّ(يضرب شارب الخمر ثمانين وشارب النبيذ ثمانين) (١) .

وهذا الخبر يتضمّن مطلبين:

الأوّل: هو تعيين حدّ شارب الخمر وأنّه ثمانون جلدة.

والثاني: هو توسعة موضوع الخمريّة لكّل مسكر، وما من شأنه الإسكار كالنبيذ و...

أمّا الأوّل:

فقد ثبت عن أئمّة المذاهب الأربعة أنّ حدّ السكران ثمانون جلدة، اللّهمّ إلاّ ما ورد عن الشافعّي في أحد قوليه إنّه أربعون جلدة(٢) ، ومستند الأربعين ما ورد عن رسول الله من أنّه ضرب في الخمر بنعلين أربعين مرّة، أو بغيرهما ممّا كان له طرفان(٣) .

ومستند الثمانين قد انتزع من مشورة عمر الصحابة في حدّ الخمر، فقد صحّ عن عليّ قوله - في تلك المشورة: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدّوه حدّ المفتري، وعن ابن عوف قوله: اجعله كأخفّ الحدود ثمانين(٤) ، فانتهى رأي الصحابة إلى الثمانين.

والغريب أنّ هناك مَن ظنّ غير الحقّ، وهو خلو الشريعة من حكم الجلد، وأنّ الشارع صلّى الله عليه وآله لم يضع حداً كما صرّح به ابن حزم في المحلّى عن البعض(٥) .

____________________

(١) التهذيب ١٠: ٩٠، ح ٣٤٨، الكافي ٧: ٢١٤، باب ما يجب فيه الحد، ح ٤.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ٥: ٣١ - ٣٢ وانظر المغني ٩: ١٣٧.

(٣) المغني ٩: ١٣٧.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المحلّى ١١: ٣٦٤.

٥٠٧

وليس هنا محلّ مناقشة ما نقله ابن حزم وردّه، إلاّ أنّنا نشير إلى أنَّ القول بهذه الدعوى يلزم منه القول بنقصان الشريعة ولغويّة قوله تعالى (تبياناً لكلّ شيء) وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين.

وأمّا مَن استدلّ على الأربعين بفعل النبيّ أنّه صلّى الله عليه وآله ضرب بالشيء الذي له طرفان أو بنعلين فهو - إن صحّ - أقربُ إلى القول بالثمانين؛ لأنَّ العرف لا يعدّ الضرب بنعلين جلدةً واحدة بل يعتبرها جلدتين، وهذا دليل للثمانين لا الأربعين.

وقد اشتُهر عن عمر أنّه حدّ في الخمر - قبل مشورته للصحابة - بأربعين وبستّين إلى أن استقّر رأيه على الثمانين بعد المشورة، وجاء عنه أنّه نفى شارب الخمر وقال بعد ذلك: لا أُغرّب أحداً بعده(١) .

فمدرسة التعبّد المحض تقطع بأنّ حكم الثمانين لم يكن رأياً عن عليّ، بل هو ممّا ثبت عن رسول الله، بقرينة ضربه صلّى الله عليه وآله في الخمر بنعلين، وبدليل كتاب عليّ عليه السلام الذي هو بخطّ عليّ وإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله.

والعجيب من السرخسيّ ادّعاؤه في المبسوط أنّ الحكم بالثمانين كان استنباطاً من عليّ(٢) ، ولم يفطن إلى أنّ كلامه عليه السلام كان قد أخذه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإنّما جاء بذلك التعليل تقريباً للإفهام وترسيخاً لحكم رسول الله.

الثاني:

هو توسعة موضوع الخمر لكّل ما من شأنه الإسكار - كثيره، أو قليله الذي لا يسكر - وهذا هو الذي أجمعت عليه مدرسة التعبّد المحض.

وأمّا مدرسة الاجتهاد، فقد وقعوا في اختلاف شديد في هذه المسألة، فمنهم من وافق مدرسة التعبّد وذهب إلى حرمة كلّ مسكر على أنّه اسم جامع لكلّ ما من شأنه الإسكار، وإن لم يسكر قليله، كالشافعيّة والمالكيّة وغيرهم، فعن ابن حجر أنّه قال

____________________

(١) المحلّى ١١: ٣٦٥.

(٢) المبسوط ٢٤: ٣٢.

٥٠٨

في سبل السلام ما معناه:... ذهبت الشافعيّة والمالكيّة وغيرهم إلى حرمة كلّ مسكر، سواء كان من عصير أو نبيذ، ولا يجوز تناوله مطلقاً وإن قلّ ولم يسكر إذا كان في ذلك الجنس صلاحيّة الإسكار(١) .

ومنهم مَن ذهب إلى جواز شرب النبيذ الذي قليله لا يسكر، ومنهم اعتبروا أنّ شرب كثيره ليس بحرام، كإبراهيم النخعيّ، وسفيان الثوريّ، وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة، وأبي حنيفة، وسائر فقهاء الكوفيّين وأكثر علماء البصريّين؛ إذ قالوا: إنّ المحرّم من سائر الأنبذة هو السكر نفسه لا العين(٢) .

قال ابن قدامة: وقالت طائفة، لا يُحدّ إلاّ أن يَسْكَر، ومنهم أبو وائل والنخعيّ وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي.(٣)

وبقولهم هذا تراهم قد اشترطوا كون الإسكار فعليّاً، وهو خلاف ما قدّمناه عن مدرسة التعبّد المحض والشافعيّة والمالكيّة الذين يعتقدون بحرمة شرب كلّ ما له أهليّة الإسكار، وبما أنَّ النبيذ له هذه الخصوصية فهو محرّم عندهم ولا يجوز شربه قليلاً أو كثيراً.

وقد استحسن هذا الحكم من الشيعة حتّى أعداؤهم لموافقته للفطرة والعقل، فقال موسي جار الله: يعجبني دين الشيعة في تحريم كلّ شراب يسكر كثيره، ما أسكر كثيره فقليله حرام. حتّى أنَّ المضطر لا يشرب الخمر ساعة الاضطرار؛ لأنّها قاتلة. والشيعة تحرّم الجلوس على مائدة كانت أو تكون فيها الخمر.

واستحسنت كلّ الاستحسان مذهب الشيعة الإماميّة في مسائل الطلاق وبعض ما تراه الشيعة في أُصول المواريث(٤) .

وقد اشمأزّ ابن حزم في محلاّه من القائلين بالرأي الأوّل وتهجّم عليهم، ثمّ ذهب

____________________

(١) سبل السلام ٤: ٣٣.

(٢) انظر بداية المجتهد ١: ٣٤٥.

(٣) المغني ٩: ١٣٦.

(٤) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة: ١١٨ - ١١٩ و ١٤٠.

٥٠٩

إلى ما تقوله مدرسة التعبّد المحض، لقوله: (... فهذه الآثار المتظاهرة الثابتة الصحاح المتواترة عن: أُمّ المؤمنين وأبي هريرة وأبي موسى وابن عمر وسعد بن أبي وقاصّ وجابر بن عبد الله والنعمان بن بشير والديلم بن الهوشع، كلّهم عن النبيّ! بما لا يحتمل التأويل ولا يُقَدر فيه على حيلة، بل النصّ على تحريم الشراب نفسه إذا أسكر، وتحريم شراب العسل وشراب الشعير وشراب القمح إذا أسكر، وشراب الذرّة إذا أسكر، وتحريم القليل من كلّ ما أسكر كثيره، بخلاف ما يقول مَن خذَله الله تعالى وحرمهُ التوفيق...) إلى أن يقول:

(وجلح(١) بعضهم بعدم الحياء في بعض هذه الآثار، وهو قوله صلّى الله عليه وآله:كلّ مسكر حرام... فقال: إنّما عَنَى الكأس الأخير الذي يسكر منه).(٢)

ويعني ابن حزم بقوله: (بخلاف ما يقول مَن خذله الله تعالى وحرمه التوفيق) أبا حنيفة وأتباعه؛ لأنّهم جوّزوا درديّ الخمر(٣) على كراهة وقالوا: لا يحدّ من شربه إلاّ أن يسكر، فإن سَكَر حُدَّ، على ما نقله هو عنهم في المحلّى(٤) .

ونحن نعلم من النصّ السابق (إنّما عنى الكأس الأخير الذي يسكر منه) جواز شرب قليل المشروبات أو النبيذ؛ لأنّه لا يسكر فعلاً، دون الكأس الأخير الذي يتحقّق به الإسكار، فيجلد لذلك لا للكؤوس الأُولى منه.

والذي يظهر للمتتبِّع في مفردات تاريخ التشريع الإسلاميّ هو أنّ حجّة مَن ذهب إلى هذا القول هو فعل الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب وقوله فيه برأيه.

فقد ورد عنه: أنّ أعرابيّاً شرب من شرابه، فجلده عمر الحدّ، فقال الأعرابيّ، إنّما شربت من شرابك، فدعا عمر بشرابه فكسره بالماء ثمّ شرب، ثمّ قال: مَن رابه من

____________________

(١) جلح هو بمعني كابر.

(٢) المحلّى ٧: ٥٠٠.

(٣) درديّ الخمر: هو المتبقّي منه، وهو في نفسه خميرة لصنع خمر آخر.

(٤) المحلّى ٧: ٤٩٢.

٥١٠

شرابه شيء فليكسره بالماء(١) .

وعنه أنّه قال: إنّا لنشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا، فمَن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء(٢) . وقال أيضاً: إنّي رجل معجار البطن - أو معسار البطن - فأشرب هذا السويق فلا يلاؤمني، وأشرب هذا اللبن فلا يلاؤمني، وأشربُ هذا النبيذ الشديد فيسهِّل بطني(٣) .

ويظهر مدّعانا واضحاً بجلاء فيما جاء عن أبي حنيفة - في بعض النصوص - وأنّه قد احتجّ على دعواه في حلِّيَّة قليل ما أسكر كثيرُهُ بسيرة الخليفة عمر بن الخطّاب فيه.

فقد ورد عن عبيد الله - بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - أنّه اعترض على أبي حنيفة في النبيذ، فقال أبو حنيفة: أخذناه من قِبَلِ أبيك، قال: وأبي مَن هو؟ قال: (حدثونا من قِبل أبيك رحمة الله عليه قال): إذا رابكم فاكسروه بالماء.

فقال عبيد الله العمريّ: إِذا تيقّنت به ولم تَرْتَبْ، كيف تصنع؟ قال: فسكت أبو حنيفة(٤) .

فتراهم يتمسّكون بأبعد الدلالات لكي يصلوا إلى نتيجة ما في هذا الفرع الفقهيّ؛ فلذلك وقعوا في اختلافات شديدة ووصلوا إلى نتائج متضاربة بعد أن تركوا النصوص الصحيحة الصريحة الواردة في كتاب عليّ والواردة عن أهل بيته.

وكأنّي أرى الحكّام - أٌمويّين وعبّاسيّين - سعوا في التأكيد على هذا الحكم مشترطين فيه الإسكار الفعليّ؛ لكي يصرفوا الناس عن انتقادهم، ولكي يتسنّى لهم أن يشربوا المسكرات والنبيذ كما يحلو لهم دون أيّ رادع ولا وازع، مستغلِّين جواز شرب النبيذ الشرعيّ، بمعنى إلقاء بعض التمرات في الماء الآجن لتذهب ملوحته، فاستغلّوا هذا الترخيص الشرعيّ من قبل الرسول وسرَّوا الحكم إلى ما نشّ من النبيذ،

____________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ٤: ١٢٦.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٧٩، ح ٢٣٨٧٥، المحلّى ٧: ٤٨٧.

(٣) مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٨٠، ح ٢٣٨٧٩.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٣٠٦ والنص عنه، وسنن الدارقطني ٤: ٢٦١، وما بين القوسين عنه.

٥١١

ثمّ اشترطوا في الحرمة الإسكار الفعليّ.

قالوا بهذا وهم يعلمون أنّ رسول الله قال:لتستحلنّ طائفة من أُمّتي الخمر باسم يسمّونها إيّاه . رواه أحمد وابن ماجة(١) .

وروي عنه أنّه قال:لا تذهب الليالي والأيّام حتّى تشرب طائفة من أُمّتي الخمر ويسمّونها بغير اسمها . رواه ابن ماجة(٢) .

وإذا أردنا تطبيق إخبار النبّي هذا على الواقع الخارجيّ؛ وجدنا أنّ كبار الصحابة كانوا لا يشربون النبيذ - إلاّ ما ورد عن عمر مجتهداً في حليّة ذلك؛ لأنّه قد دعا بالنبيذ ليشربه حتّى قبل مقتله(٣) - ووجدنا أئمّة أهل البيت يحرّمونه تحريماً قطعيّاً، فلم يبق إلاّ أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أشار بذلك إلى الحكّام - أمويّين كانوا أم عبّاسيّين - الذين شربوا ذلك فعلاً، وجاوزوه حتّى شربوا الخمر الصراح.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الخلط بين الأُصول والمفاهيم لم يحصل لو كان هناك تدوين ثابت عند المسلمين، ولو أنّ الخلفاء تركوا المسلمين ليأخذوا معالم دينهم عن المدوّنات - ومنها كتاب عليّ - لكان أَعْوَدَ على الإسلام، وأنفعَ للمسلمين، ولما وصل الاختلاف بالأُمّة إلى هذا الحدّ في المسائل الفقهيّة.

٤ - ديّة الأسنان

روى الحكم بن عيينة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: إنَّ بعض الناس في فيه اثنان وثلاثون سنّاً، وبعضهم له ثمانية وعشرون سنّاً، فعلى كم تقسّم ديّة الأسنان؟ فقال:الخلقة إنّما هي ثمانية وعشرون سنّاً، اثنتا عشرة في مقاديم الفم. وستّ عشرة في مآخيره، فعلى هذا قسّمت ديّة الأسنان، فدية كلّ سنّ من المقاديم إذا كسرت حتّى

____________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٥: ٢١.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ٥: ٢١ أيضاً.

(٣) ففي السنن الكبرى للبيهقي ٣: ١١٣ عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: شهدت عمر بن الخطاب حين طعن... فأتاه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ فقال: النبيذ، فدعي بالنبيذ فشرب منه فخرج من إحدى طعناته.

٥١٢

تذهب خمسمائة درهم، فديتها كلّها ستّة آلاف درهم، وفي كلّ سنّ من المآخير إذا كسرت حتّى تذهب، فإنّ ديّتها مائتان وخمسون درهماً، وهي ستّة عشر سنّاً. فديّتها كلّها أربعة آلاف درهم، فجميع ديّة المقاديم والمآخير من الأسنان عشرة آلاف درهم، وإنّما وضعت الديّة على هذا، فما زاد على ثمانية وعشرين سنّاً فلا ديّة له. وما نقص فلا ديّة له، هكذا وجدناه في كتاب عليّ ...(١) .

ورواه الصدوق بإسناده عن ابن محبوب مثله(٢) .

وعن محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن محبوب نحوه(٣) .

وقد عمل بهذا فقهاء الإماميّة؛ لأنّه قد جاء في كتاب عليّ، ولأجله لم يختلفوا في هذا التقسيم، ففي جواهر الكلام:

وفي إذهابها أجمع الديّة كاملة بلا خلاف أجده فيه... بل عن ظاهر المبسوط الإجماع عليه، بل هو صريح محكي التحرير... وتقسّم الديّة على ثمانية وعشرين سنّاً، بل عن الخلاف أنَّ عليه إجماع الفرقة وأخبارها... ففي المقاديم ستمائة دينار [ وهي ستة آلاف درهم ] حصة كل سنّ خمسون ديناراً [ وهي خمسمائة درهم ]، وفي المآخير أربعمائة دينار [ وهي أربعة آلاف درهم ]، حصّة كلّ ضرس خمسة وعشرون ديناراً [ وهي مائتان وخمسون درهماً... ] وذلك تمام الديّة...(٤) .

وأجمعت الإماميّة أيضاً على أنَّ الزائد ليس فيه ديّة السن كاملة، وإنّما فيه ثلث الديّة أو الأرش أو المصالحة أو... وعلى كلّ التقادير فليس فيه ديّة السنّ، وهذا هو معنى ومؤدّى الرواية التي تنصّ على أنّ هذا الحكم هو عن كتاب عليّ‏ عليه السلام.

فإذن نصّت الرواية - التي في كتاب عليّ - على أنَّ ديّة الأسنان ديّة كاملة، وأنَّ في المقاديم التي هي اثنا عشر سنّاً ستمائة دينار، لكلّ سنّ خمسون ديناراً (٥٠٠ درهماً)،

____________________

(١) الوسائل ٢٩: ٣٤٣، ح ٣٥٧٤٠، التهذيب ١٠: ٢٥٤، ح ١٠٠٥، الاستبصار ٤: ٢٨٨، ح ١٠٨٩.

(٢) مَن لا يحضره الفقيه ٤: ١٣٧، ح ٥٣٠٤.

(٣) التهذيب ١٠: ٢٥٥، ح ١٠٠٦، الاستبصار ٤: ٢٨٨، ح ١٠٩٠.

(٤) جواهر الكلام ٤٣: ٢٢٩ - ٢٣١.

٥١٣

وفي مآخيرها أربعمائة دينار، لكلّ سنّ خمسة وعشرون ديناراً (٢٥٠ درهماً)، فالمجموع ألف دينار (١٠/٠٠٠ درهم) وهي ديّة الأسنان كاملة، وهي تساوي ديّة الإنسان كاملةً.

وأمّا مَن لم يأخذوا - أو لم يصلهم - ما في كتاب عليّ عليه السلام، فإنّهم اختلفوا اختلافاً كثيراً، وذهبوا مذاهب شتّى، وفق اختلاف نقولاتهم وآرائهم.

فقد روي عن عطاء أنّه قال: في السنّ والرباعيّتين خمس خمس، وفي الباقي بعيران بعيران. وهي الرواية الثانية عن عمر(١) .

وأمّا روايته الأُولى فتنصّ على أنّ الديّة في الباقي بعير لا بعيران في الأضراس(٢) .

ومن جهة أُخرى نسب صاحب المغني إلى عطاء التسوية في مطلق الأسنان، المقاديم والمآخير، في كلّ واحد خمس من الإبل(٣) . وعلى هذا القول تكون ديّة الأسنان التي هي ثمانية وعشرون سنّاً مائة وأربعين بعيراً، أي أنّ ديّة الأسنان لوحدها أكثر من ديّة الإنسان كاملةً.

وروي عن ابن عبّاس وعمرو أنّه يجب في كلّ ثنيّة خمسون ديناراً. وفي الناجذ أربعون، وفي كلّ ضرس خمس وعشرون(٤) . وعلى هذا النقل يكون للخليفة عمر بن الخطّاب رأي ثالث في ديّة الأسنان.

وللخليفة عمر رأي رابع في ديّة الأسنان نقله صاحب المغني، وأنّ الديّة هي التسوية بين الجميع(٥) . ونُسب هذا الرأي لابن عبّاس وعطاء أيضاً(٦)

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٣٦٦، ح ٢٦٩٧٨، مصنف عبد الرزاق ٩: ٣٤٥، باب الأسنان.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٣٦٧، ح ٢٦٩٨، ومثله في الموطّأ ٢: ٨٦١، ح ١٥٥٤ مختصراً، ونحوه في مصنف عبد الرزاق ٩: ٣٤٧، والسنن الكبرى للبيهقي ٨: ٩٠، باب الأسنان، عن الموطّأ، والمغني ٨: ٣٥٣.

(٣) المغني ٨: ٣٥٣ باب الأسنان.

(٤) نيل الأوطار ٧: ٢١٧.

(٥) المغني ٨: ٣٥٣.

(٦) المصدر نفسه.

٥١٤

فالملاحظ هنا أنّ للخليفة عمر أربعة آراء في ديّة الأسنان. ولعطاء وابن عبّاس أكثر من رأي منسوب لهما، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدّل على ارتباك النقل عن الصحابة أو الناقلين عنهم، وإلاّ فإنّ من المعلوم بديهةً أنّ الديّة لا تتغيّر كلّ يوم. ولا يمكن أن يكون لها كلّ وقت مقدار مغاير للمقدار الذي حدّده الشارع المقدّس. وهذا الاختلاف في النقل لا تجده عند أتباع مدرسة التعبّد المحض؛ لاعتمادهم على ما في كتاب عليٍّ المدوّن - القديم الأصيل - عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولو قُدِّرَ لأتباع مدرسة الرأي والاجتهاد أن تعمل بما في كتاب عليّ؛ لما وجدنا شيئاً من هذا التغاير العجيب عن الصحابيّ الواحد في المسألة الواحدة.

ومع أنّ النقل عن عليّ عليه السلام وأئمّة أهل البيت ثابت وصحيح في مقدار الديّة المذكور؛ نرى أنّ مدرسة منع التدوين تأخذ بالثابت الصحيح وتؤوّله وفق رأيها واجتهادها، فإنّ عمدة دليل أكثر أتباع مدرسة الرأي القائلين بالتسوية هو ما روي في كتاب عمرو بن حزم (في السنّ خمس من الإبل)(١) . وهذا لا يدلّ على العموم الذي يدّعونه؛ لأنّ التعبير بالسنّ، مع تعبير أحاديث أُخرى، بالأضراس والثنايا وغيرها، يبطل العموم والإطلاق المدَّعى لهذا النصّ بحيث يشمل الأضراس والمآخير وغيرها، فإنّ عمرو بن حزم الذي بعثه صلّى الله عليه وآله ‏إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات(٢) نُقل عنه هذا المقدار في الديّة، وهذا المقدار معتضد بما نقله أئمّة أهل البيت - كما سترى - لكنّ هذا النقل المبتور دون بيان الوجه والتفصيل، ودخول الرأي والاجتهاد هو الذي أوقع أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد في هذا الخطأ الذي أفتوا به.

فقد روي عن جعفر بن محمّد الصادق أنّه قال:في السنّ خمس من الإبل، أدناها وأقصاها وهو نصف عشر الديّة، إن كانت دنانير فدنانير، وإن كانت دراهم فدراهم،

____________________

(١) المهذّب ٢: ٢٠٤.

(٢) سنن النسائي (المجتبى) ٨: ٥٧، ح ٤٨٥٣، المستدرك على الصحيحين ١: ٥٥٣، ح ١٤٤٦، السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٨٩، ح ٧٠٤٧.

٥١٥

وإن كانت بقراً فبقراً، وإن كانت غنماً فغنماً، وإن كانت إبلاً فإبلاً. ..(١) .

فإنّ ما في هذه الرواية يراد منه المقاديم الاثنا عشر أقصاها وأدناها، وهو نصف عشر الديّة، فإن كانت إبلاً كان لكلّ سنّ خمس من الإبل، وإن كانت دنانير كان لكلّ سنّ خمسون ديناراً، وإن كانت دراهم كان لكلّ سنّ خمسمائة درهم، وأمّا ديّة باقي الأسنان فقد عَرَفْتَ إنّما فُصّلت في روايات أٌخرى، فما في كتاب عمرو بن حزم يوافق ما جاء عن أهل البيت. وهذا من فوائد التدوين، لكنّ التأويل وعدم الالتفات إلى النكت الأُخرى والتفاصيل التي في باقي المروّيات، والتعميم الذي جاء في غير محلّه، هو الذي أوقع أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد في هذا الغلط والاختلاف في مقدار ديّة الأسنان.

وأمّا استدلالهم بما روي عن ابن عبّاس من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: (الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء. هذه وهذه سواء)(٢) فهو على تقدير صحّة نقله ليس بمدوّن، وهو معارَضٌ بما مرّ نقله من اختلاف النقول عن الصحابة والتابعين والفقهاء.

هذا، ونرى الإمام أحمد بن حنبل - الذي هو محدِّث وراوٍ أكثر من كونه فقيهاً بإجماع المسلمين - يذهب إلى رأي يخالف فيه كلّ فقهاء العامّة ومنقولاتهم، ويوافق فيه ما ورد عن أهل البيت وأتباع مدرسة التعبّد المحض.

فقد ذهب الإمام أحمد إلى أنّ الديّة في المقاديم ستمائة دينار (٦٠٠٠ درهم) وفي المآخرِ أربعمائة دينار (٤٠٠٠ درهم)، وهما تمام الديّة، وقد صرَّح بذلك عنه النوويّ في المجموع(٣) ، وهو ظاهر المغني(٤) .

____________________

(١) التهذيب ١٠: ٢٦١، ح ١٠٣٠، الاستبصار ٤: ٢٨٩، ح ١٠٩٣ مختصراً، الوسائل ٢٩: ٣٤٤، ح ٣٥٧٤٤.

(٢) المغني ٨: ٣٥٥.

(٣) المجموع ١٩: ٩٩.

(٤) المغني ٨: ٣٥٣.

٥١٦

بعد هذه النماذج اليسيرة التي أخذناها، اتّضح لنا أهمّيّة التدوين وقيمة مدوّنة وكتاب عليّ عليه السلام، وأنّ الآخذين بالتدوين من أتباع مدرسة التعبّد المحض هم أقرب للصواب وأصحّ منقولاتٍ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، بعكس أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد المانعين للتدوين، فإنّهم ابتعدوا عن التدوين والمدوّنات فوقعوا في الاختلاف والحيرة وتعدّد الآراء، وإن وصلهم شيء من الأحكام عن طريق بعض المدوّنات، فإنّما هو نقل ناقص تدخّلت فيه الآراء والاجتهادات، فأبعدته هو الآخر عن جادّة الصواب، وبالتالي أصبح الفقه الإسلاميّ عند مدرسّة الرأي والاجتهاد فقهاً يبتني على الآراء، والرأي بطبيعته مختلف، ولذا ترى تعدّديّة الرأي، بعكس الفقه عند التعبّد المحض والمدوّنين للسنّة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله والمحافظين عليه من بعده، فإنّه ظلّ أبعد ما يكون عن الخطأ والتغيّر والنقصان، مع وضوحٍ في وجوه التفصيل وترابطٍ في المنقولات عن المدوّنات، بحيث خرجوا بحكم واحد لا شبهة ولا شائبة فيه.

ونحن نهيب بالباحثين أن يدرسوا ما نقل من كتاب عليّ في الفقه الإسلامي دراسة تمحيصية؛ لتتبيّن أكثر فأكثر أهميّة التدوين عموماً، وما في هذه الصحيفة المدوّنة بالذات.

٥١٧

٥١٨

دواعي التحريف والانحراف عند النهجين

أوضحت دراستنا - فيما مرّ - بعض أُصول الخلاف بين المدرستين، التي نبعت واتّسعت متأثّرة بمنع التحديث والتدوين، وأوصلتنا وأوصلت معنا القارئ إلى نتائج مثمرة بأكبر رصيد من الصحّة حول بنَى المدرستين (الاجتهاد والرأي) و(التعبّد المحض)، واتّضح لنا الأثر الإيجابيّ الذي خلّفه التدوين على فقه المدوّنين، والسلبيّ على فقه المانعين، وبالتالي عرفنا قيمة المخزون الفقهيّ لكلتا المدرستين.

والآن نحاول عرض حصائلنا ووزنها بميزان آخر لمعرفة مدى تلائم كلّ من الاتّجاهين مع السير الطبيعيّ للسنن التاريخيّة وقواعد علم الاجتماع والأخلاق، ومدى انسياقها وتلائمها مع الظروف المختلفة التي أحاطت بهما؛ لنعرف أيّ المدرستين أبعد من التحريف والانحراف، وأيّهما أقرب لذلك.

فعن عليّ بن أبي طالب في خطبة له:

(ولقد بلغني أنّكم تقولون (عليٌّ يكذب) قاتلكم الله، فعلى مَن أكذب؟! أعلى الله، فأنا أوّل مَن آمن به، أم على نبيّه؟ فأنا أوّل من صدَّقه) (١) .

وهذا النصّ يختزن في طيّاته أدقّ وأروع معاني الاحتجاج والتنظير، وهو يشير إلى تأزّم مرض أخلاقيّ اجتماعيّ مُني به مجتمع كامل - أو شريحة كبيرة منه - إذ صَبَّت جام غضبها وكذبها على شخصيّة في أعلى درجات النزاهة والوضوح.

من هنا استدلّ الإمام على بطلان مزاعم تلك الشريحة بأنّ الكاذب لابُدّ وأن تكون

____________________

(١) نهج البلاغة ١: ١١٩، الخطبة رقم ٧١.

٥١٩

له دوافع ذاتيّة أو خارجيّة تحدو به لأن يتّخذ الكذب مطيّة إلى مآربه وأهدافه. فإنّ الكاذب إمّا أن يكون مصاباً بعمى القلب والانهماك في المحرّمات والعصيان والتمرّد، ممّا يجعله شخصاً يستطيب ويستعذب الكذب، ولا يرتدع عن ارتكاب أقبح وأسوء الصفات.

وإمّا أن يكون ممّن يرجو مطمعاً ويبتغي عرضاً من الحياة الدنيا، فلا يمكنه الوصول إليه عن طريق الصدق، ممّا يضطرّه إلى أن يكذب ليصل إلى بغيته وطلبته.

وإمّا أن يكون جباناً يخاف عاقبة أمره، وأن يطاله العقاب القانونيّ الدنيويّ، فيلجأ إلى الكذب للتخلّص من المأزق الذي هو فيه.

وإمّا أن يكون للتخلّص من سؤال محرج لا يهتدي فيه إلى وجه الصواب، فيتّخذ الكذب غطاءً ليغطّي عجزه وعوزه للدليل، و...

والذي يتصفَّح التاريخ الإسلاميّ، يرى أنّ غالبية الكاذبين على الله ورسوله كانوا ذوي نزعات جاهليّة أو ميول نفسانيّة أو عجز فكريّ فاضح، وهم في الغالب ممّن أسلموا خوفاً من السيف أو اندسّوا في صفوف المسلمين كمسلمة الفتح ومن بعدهم، وكالمنافقين و...

وهذه الدواعي وما ضارعها، كلّها منتفية في حقّ عليّ بن أبي طالب؛ لأنّه الصحابيّ المخلص - الذي له أروع المواقف وأعلى الصفات - بلا خلاف بين المسلمين، كما أنّه ينتمي إلى شأوٍ نسبيّ رفيع لا يحتاج معه إلى رفع رافع ولا يضطرّ معه إلى الكذب - والعياذ بالله - لتغطية النقص الاجتماعيّ الذي يحصل من ذلك؛ ولأجل ذلك تراه يقول:(فعلى مَن أكذب، أعلى الله فأنا أوّل مَن آمن به، أم على نبيّه، فأنا أوّل مَن صدّقه) .

وقد صدق عليٌّ في قوله، إذ لا داعي لمثل ذلك، وهو الذي نزل فيه وفي آله الذكر الحكيم، كما في آيات التطهير، والمباهلة، والمودّة في القربى، وسورة الدهر، وقوله تعالى:

٥٢٠