منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93169
تحميل: 6490

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93169 / تحميل: 6490
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ) و( كونوا مع الصادقين ) ( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ) و( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم ) و( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) و( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ) و( إنّما أنت منذر ولكلّ قومٍ هادٍ ) و( إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومَن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون ) (١) و...

فما هو الوجه والمبرّر لئن يكذب عليُّ على الله، بعد هذا إذَن؟!

وأمّا الكذب على رسوله، فإنّه شأن المتملّقين وأصحاب الأهواء والمطامع وأعداء الإسلام والمندسّين في صفوف المسلمين، الذين آذوا الرسول وكذّبوه، مخافةَ كشف أمرهم، وهم الذين رموه بالقمامة، وجعلوا في طريقه الشوك و...

وأمّا عليّ بن أبي طالب فهو ابن عمّه، والمدافع عنه بنفسه ومهجته، وهو أوّل مَن صدّقه بالنبوّة والرسالة، ونام على فراشه درءاً للخطر عنه صلّى الله عليه وآله، فمن كان هذا حاله، فهل يعقل أن يكذب على الرسول صلّى الله عليه وآله؟! ونحن نرى مئات النصوص منه صلّى الله عليه وآله في مدحه عليه السلام، منها قوله عنه:(إمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين) (٢) وفي آخر:(هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور مَن نصره، مخذول مَن خذله) (٣) . وفي ثالث:(أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمَن أراد العلم فليأت من الباب) (٤) ، وقوله:(أنت تُبَيِّن لأمّتي ما

____________________

(١) انظر مصادر نزول هذه الآيات وغيرها في عليّ وآله في كتاب المراجعات، المراجعة (١٢) صفحة ٨٧.

(٢) انظر مصادر نزول هذه الآيات وغيرها في عليّ وآله في كتاب المراجعات، المراجعة (١٢).

(٣) المستدرك للحاكم ٣: ١٤٠، ح ٤٦٤٤ وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تاريخ بغداد ٤: ٢١٨، ت ١٩١٥.

(٤) المعجم الكبير ١١: ٦٥، ح ١١٠٦١ عن ابن عباس، وانظر أيضاً المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٧، ح ٤٦٣٧، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه و ٣: ١٣٨، ح ٤٦٣٨ عن جابر بن عبد الله، فيض القدير ١: ٣٦.

٥٢١

اختلفوا فيه من بعدي) (١) وقوله:(أنا المنذر وعليّ الهادي، وبك يا عليّ يهتدي المهتدون (٢) من بعدي) وقوله لعليّ:(إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملّتي وتقتل على سنّتي، مَن أحبّك أحبّني، ومَن أبغضك أبغضني، وإنّ هذه ستخضب من هذا، يعني لحيته من رأسه) ...(٣) .

وقد أخرج أحمد بسند صحيح عن ابن عمر والحاكم عن عمر بن الخطاب قوله - والنص للثاني -: لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأَن تكون لي خصلة منها أَحب إليّ من أن أُعطى حمر النعم.

قيل: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟

قال: تزوّجه فاطمة بنت رسول الله، وسكناه المسجد مع رسول الله يحلّ له فيها ما يحلّ له، والراية يوم خيبر(٤) .

وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقّاص(٥) وابن عبّاس قريباً منه(٦) .

وعن عليّ أنّه قال:إنّ ممّا عهد إليّ النبيّ أنّ الأُمّة ستغدر بي بعده )(٧) .

وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله لعليّ:أما إنّك ستلقى بعدي جهداً ، قال:في

____________________

(١) المستدرك، للحاكم ٣: ١٣٢، ح ٤٦٢٠، حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٢) تفسير الطبري ١٣: ١٠٨ عن ابن عباس، وفتح الباري ٨: ٣٧٦، وتفسير ابن كثير ٢: ٥٠٣، والدر المنثور ٤: ٦٠٨.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣: ١٥٣، ح ٤٦٨٦ صحيح، وصحّحه الذهبيّ في تلخيصه، وانظر مسند البزار ٩: ٣٢٢، ح ٣٨٧٣، تاريخ دمشق ٤٢: ٢٦٩، وجاء مثله من طرق الشيعة كما في كمال الدين: ٢٥٧ للصدوق عن ابن سمرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: يابن سمرة! إذا اختلفت الأهواء وتفرّقت الآراء فعليك بعليّ بن أبي طالب فإنّه إمام أُمّتي وخليفتي عليهم من بعدي.

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٣٦٩، ح ٣٢٠٩٩، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٥، ح ٤٦٣٢، مجمع الزوائد ٩: ١٢٠.

(٥) صحيح مسلم ٤: ١٨٧١، ح ٢٤٠٤، سنن الترمذي ٥: ٦٣٨، ح ٣٧٢٤.

(٦) المعجم الأوسط ٨: ٢١٢، ح ٨٤٣٢، مجمع الزوائد ٩: ١٢٠، المستدرك ٣: ١٢٠، ح ٤٥٨٢، الاستيعاب ٣: ١٠٩٠، باب علي (رض)، تاريخ دمشق ٤٢: ٧٢.

(٧) مسند الحارث ٢: ٩٥٢، ح ٩٨٤، مسند البزار ٣: ٩٢، ح ٨٦٩، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٥٠، ح ٤٦٧٦ و ١٥٣، ح ٤٦٨٦.

٥٢٢

سلامة من ديني؟ قال:في سلامة من دينك. (١) وغيرها.

فمَن كان هذا حظّه من الله ورسوله، فهل هناك من داعٍ لأن يكذب على الله ورسوله؟! ولو قرأنا في نصّ للذهبيّ، لعرفنا هذه الحقيقة - من حيث يشعر أو لا يشعر الذهبيّ - وهو قوله عن محمّد بن الحسن المهديّ المنتظر: خاتمة الاثني عشر سيّداً الذي تدّعي الإماميّة عصمتهم، ومحمّد هذا هو الذي يزعمون أنّه الخلف الحجّة، وأنّه صاحب الزمان، وأنّه حيّ لا يموت حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فوددنا ذلك، والله.

فمولانا عليّ: هو من الخلفاء الراشدين.

وابناه الحسن والحسين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وآله، سيّدا شباب أهل الجنّة، لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك.

وزين العابدين: كبير القدر، ومن سادة العلماء العاملين، يصلح للإِمامة.

وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر: سيّد، إمام فقيه، يصلح للخلافة!

وكذا ولده جعفر الصادق: كبير الشأن، من أئمّة العلم، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور.

وكان ولده موسى: كبير القدر، جيّد العلم، وأولى بالخلافة من هارون.

وابنه عليّ بن موسى الرضا: كبير الشأن، له علم وبيان، ووقع في النفوس، صيّره المأمون وليّ عهده، لجلالته.

وابنه محمّد الجواد: من سادة قومه.

وكذلك ولده الملقّب بالهادي: شريف جليل.

وكذلك ابنه الحسن بن عليّ العسكريّ رحمهم الله تعالى(٢) .

كيف لا يكونون كذلك وهم عِدْل القرآن - كما في حديث الثقلين - وهم أمان

____________________

(١) مصنف ابن أبي شيبة ٦: ٣٧٢، ح ٣٢١١٧، مسند البزّار ٢: ٢٩٣، ح ٧١٦، مسند أبي يعلى ١: ٤٢٦، ح ٥٦٥، المستدرك على الصحيحين ٦: ٣٧٢، ح ٤٦٧٧. صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٢) سير أعلام النبلاء، للذهبيّ ١٣: ١٢٠ - ١٢١، ت محمد بن الحسن العسكري الإمام المنتظر.

٥٢٣

لأهل الأرض من الغرق - كما في حديث السفينة - وللأُمّة من الاختلاف كما أخرجه الحاكم في مستدركه(١) .

١ - إنَّ نسبة التحريف إلى أئمّة التعبّد المحض - وهم أئمّة أهل البيت - معدومة إذا ما قويست بغيرهم؛ لأنَّ أئمّتهم هم عليّ والحسن والحسين و... وهم المطهّرون والصادقون بنصّ الذكر الحكيم والسنّة النبويّة، وقد وردت بحقّ أتباعهم والسائرين على نهجهم، كابن عبّاس وابن مسعود وأبي ذرّ وعمّار و... نصوص عن رسول الله في مدحهم، وهم أُناس معروفون بالنزاهة ولم يذعنوا للأهواء والتيّارات، ولم يُتَّهم واحد منهم بالكذب والوضع، بخلاف ما قد نراه بين أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد من المتّهمين بالوضع والكذب، كأبي هريرة وسمرة بن جندب وكعب الأحبار و... وهذا فارق ملحوظ بين المدرستين، وهناك أمر آخر يلزم الإشارة إليه، وهو:

٢ - إنَّ أتباع التعبّد المحض كانوا يصرّون على نقل ما عرفوه وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم، وكانوا لا يداهنون في أمر الدين، كما هو الملاحظ في موقف الإمام عليّ يوم الشورى وعدم قبوله سيرة الشيخين لتنافيها مع سنّة رسول الله(٢) ، أو كموقف الإمام الحسين من يزيد، أو غيرها من المواقف الثابتة، وذلك بعكس أتباع نهج الاجتهاد والرأي، الذين أشاروا على عليّ عليه السلام بأن يساوم ويجامل ويداهن في أيّام خلافته بحجّة أنَّ في ذلك صلاحاً ومصلحة للمسلمين، وأشاروا على الإمام الحسين أن يبايع يزيد ويسكت كما سكت الآخرون بحجّة أنَّ الخلاف شرّ، وأنَّ قضاء الله قابل للتأويل و و...

٣ - إنّ الشرائع السماويّة - طبق الاستقراء والمنهج التاريخيّ القرآنيّ - ما نبتت وترعرعت إلاّ في أحضان الفقراء والمستضعفين، قال سبحانه وتعالى:( قالوا أنؤمن

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣: ١٦٢، ٤٧١٥.

(٢) ومن ذلك كلام قيس بن سعد بن عبادة لمّا بايع الإمام الحسن، ففيه تعريض بالشرط الإضافي الذي أقحم لأخذ البيعة يوم الشورى؛ إذ قال للإمام الحسن بن علي: أبايعك على كتاب الله وسنّة نبيّه فإنّه يأت على كل شرط. انظر تذكرة الخواص: ١٩٦.

٥٢٤

لك واتّبعك الأرذلون ) (١) ، وقال:( وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) (٢) ، وقال تعالى حاكياً قول الكافرين في اعتراضهم على بعثة النبيّ:( لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ) (٣) ، فهذه الآيات تنصّ على أنّ المستضعفين (الأرذلون) كانوا هم المسارعين إلى الاعتقاد بشريعة السماء، وكان الأنبياء أيضاً من أُولئك الفقراء، لم ينزل عليهم كنز، ولم يأتوا للناس بالذهب والفضّة والملذّات والشهوات، وإنّما جاءوا بالزهد والتواضع وعدم البذخ.

وما كان المشركون والكفّار إلاّ من طبقة الأغنياء المترفين، الذين لا يتلائمون مع روح الشريعة ومفاهيمها التي تقيّدهم، ولا تجعل لهم ميزة أو علوّاً على الآخرين، وهذا ما لا يروق لهم ولا يعجبهم، قال تعالى:( زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة ) (٤) ، وقال حاكياً قول المترفين واعتراضهم على النبيّ:( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) (٥) وقد مرّ عليك كلامهم:( لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ) .

فالنبيّ صلّى الله عليه وآله، وبعد وقوفه على حالة الأُمّة، نراه يفتخر بالفقراء ويحتضنهم، وقد اتّبعه الفقراء العازفون عن الدنيا: كعمّار والمقداد وسلمان وأبي ذرّ وبلال الحبشيّ وصهيب الروميّ و...

وأمّا الأغنياء من أمثال: أبي لهب، وأبي جهل وأبي سفيان، فكانوا ممّن آذوه وألقوا في طريقه الشوك، وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان. وإذا لحظنا هذه السنّة القرانيّة وطبقّناها على مدرستي (التعبّد المحض) و(الاجتهاد والرأي)؛ لوجدنا أتباع مدرسة التعبّد غالبتيها الساحقة من الفقراء، فقد عاش أبو ذرّ ومات فقيراً، غريباً، طريداً، منفيّاً،

____________________

(١) الشعراء: ١١١.

(٢) هود: ٢٧.

(٣) هود: ١٢.

(٤) آل عمران: ١٤.

(٥) الزخرف: ٥٣.

٥٢٥

وعاش عمّار كذلك حتّى استشهد ولم يترك شيئاً، وكذلك شأن الباقين من رؤساء هذه المدرسة وأتباعها.

وفي المقابل نرى الترف والبذخ عند عثمان بن عفّان، ومروان بن الحكم، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقد ذكر المؤرّخون ما تركه هؤلاء من أموال وعقارات بعد وفاتهم.

وهذا الترف المتزايد لا يتلائم مع منطق الدين وأحكامه، وقد عرف الخلفاء والحكّام ذلك حقّ المعرفة، فعن العبّاس بن سالم قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سلام الحبشيّ، فحمل على البريد، فلمّا قدم على عمر بن عبد العزيز، قال: يا أمير المؤمنين! لقد شقّ عَلَيَّ محملي على البريّة!

فقال عمر: ما أردنا المشقّة بك يا أبا سلام! ولكنّه بلغني عنك حديث ثوبان مولى رسول الله في الحوض، فأحببت أن تشافهني به، فقال أبو سلام: سمعت ثوبان مولى رسول الله يقول: سمعت رسول الله يقول:إنّ حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، أكاويبُهُ عدد نجوم السماء، مَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أوّل الناس وروداً عليه الفقراء ، فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله مَن هم؟ قال:هم الشعثُ رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعِّمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد.

فقال عمر بن عبد العزيز: لا جرَمَ والله لقد فتحتُ أبوابَ السدد، ونكحت المتنعمات: فاطمة بنت عبد الملك، إلاّ أن يرحَمَني الله، لا جرم لا أدهن رأسي حتّى يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي على جسدي حتّى يتّسخ(١) .

ففي هذا صراحة أنّ الشعث رؤوسهم هم المجاهدون في سبيل الله العابدون له، الذين لم يلتهوا ببهارج الدنيا، فهم شعث الرؤوس ودنس الثياب لاشتغالهم بالجهاد

____________________

(١) مسند عمر بن عبد العزيز: ١١٩، ح ٦٣، مسند أحمد ٥: ٢٧٥، ح ٢٢٤٢١ مسند أبي داود الطيالسي: ١٣٤، ح ٦٥٥. والسدّة جمع السّدة، وهي كالظلّة على الباب لتقي الباب من المطر. (لسان العرب ٣: ٢٠٩).

٥٢٦

والعبادة وعدم المبالاة بالدنيا، وقد اعترف ابن عبد العزيز بأنّه ليس من أُولئك، ثمّ أراد أن يلتحق بهم فظنّ أنَّ الاتّساخ - في الشَّعَر والملبس - هو سبيل الجنَّة، ولم يتنبّه إلى أنّ المراد منه هو عدم الاهتمام ببهارج الدنيا بحيث يبعده عن الجهاد في سبيل الله والعبادة الخالصة من حبّ الدنيا.

هذا، وقد اعترض سفيان الثوريّ على المنصور العبّاسيّ في إسرافه وتبذيره، فقال له المنصور: فإنّما تريد أن أكون مثلك؟!

فقال الثوريّ: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه. فقال له المنصور: اخرج(١) .

والذي يراجع التاريخ يقف على ما كان يفعله معاوية، ويزيد، ومروان، وعبد الملك، والوليد، وهشام بن عبد الملك، والمنصور، والمهدي، والرشيد وغيرهم من الشراهة والإسراف والتبذير في المطاعم ومجالس اللهو، وعدم المبالاة بتحريف الكتاب، والوضع على السنّة، وهؤلاء هم الذين دعوا إلى منع تدوين السنّة النبويّة ثم تدوينها حكومياً، وتصدّوا لمَذْهَبَة المسلمين بالمذاهب الأربعة، وهم الذين قد احتضنوا الرأي ودعوا إلى المصلحة والاجتهاد، وبالتالي فإنَّ نسبة احتمال التحريف والانحراف في ناس هذا شأنهم، يكون كبيراً جدّاً إذا ما قيس إلى مدرسة فقيرة قانعة بدين الله - أتباع مدرسة أبي تراب - فإنّها لا تحتاج إلى تبديل وتغيير الأحكام ثمّ اختلاق التأويلات لها.

٤ - إنّ التزلّف والتقرّب إلى السلاطين كان وما زال الداء العضال في الجبلّة البشريّة، فإنّ الحكومات المترفة كانت تحكّم الرشاوي والمحسوبيات في تقريب هذا وإبعاد ذاك، وهذا كلّه له الأثر الكبير في استقطاب ضعاف النفوس الذين يريدون إرضاء المخلوق ولو كان بسخط الخالق، وقد ورد هذا في معنى الحديث الشريف:

____________________

(١) الورع لأحمد بن حنبل: ١٩٤، حلية الأولياء ٧: ٤٣.

٥٢٧

(أخسرُ الناس مَن باع آخرته بدنياه، وأخسر من ذلك منه مَن باع آخرته بدنيا غيره) (١) .

وقد برزت هذه الظاهرة بشكل خطير في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان - بعد أن كانت محدودة شيئاً ما في عهد أبي بكر وعمر - لأنّه قد مهّد الأمر لأن تكون الخلافة الإسلاميّة كسرويّة وقيصريّة؛ وذلك بتوليته أقاربه المناصب والولايات وإقطاعه القطائع وإعطائهم الأموال، حتّى نُقل أنَّ بعض المسلمين مات وترك من الذهب ما يكسَّر بالفؤوس(٢) ، وقد ثبت عن عثمان أنّه أعطى خمس إفريقيا وفدك هبة لعبد الله بن أبي سرح(٣) ، ومروان بن الحكم(٤) ، وغيرها من الأعطيات للآخرين من أقاربه، كلّ ذلك ليدافعوا عنه وعن مبادئه وآرائه التي أدَّت إلى انشقاق المسلمين، ثمّ الهجوم عليه وقتله.

نعم، إنّ بعض البوادر قد ظهرت في أوائل خلافة أبي بكر، كلبس خالد بن الوليد الخزّ وتعمّمه بعمامة غرزها بالسهام - عتوَّاً وكبراً - حتّى أنَّ عمر نزع عمامته من رأسه وكسَّر السهام وهدَّده بالرجم؛ لدخوله بزوجة مالك بن نويرة وهي في العدّة.

وقد سمّى عمر معاوية بـ (كسرى العرب) وأجاز له لبس ما يعجبه لكونه على قرب من الروم، وعلى كلّ حال فإنّ ظاهرة التزلّف إلى الحكّام كانت وما تزال هي سجيّة أصحاب القلوب الضعيفة.

وفي قبال كلّ هذا نرى الإمام عليَّاً يفتخر بما نعته رسول الله بـ (أبي تراب).

ويقول عن مدرعته(والله لقد رقعتُ مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها) (٥) وكان يأكل الخبز اليابس مع الملح أو اللبن، ولا يجمع بينهما؛ لأنّه يريد أن يلقى الله خميص البطن(٦) .

____________________

(١) مواهب الجليل، للحطاب الرعيني ١: ٤١ باب ترجمة الإمام مالك وتأليفه.

(٢) الطبقات الكبرى ٣: ١٣٦. وهو الصحابي عبد الرحمان بن عوف.

(٣) تاريخ الطبري ٢: ٦٥١.

(٤) الطبقات الكبرى ٣: ٦٤.

(٥) نهج البلاغة ٢: ٦٠، الخطبة ١٦٠.

(٦) شرح النهج ١٩: ١٨٧.

٥٢٨

وقد جدّ في إرجاع أُعطيات عثمان للمتزلّفين وإيداعها في بيت المال حين ولي الأمر.

وبلغ الأمر به أن يحمي حديدة فيكوي بها يد أخيه عقيل؛ لأنّه طلب منه مالاً فوق حقّه.

أمَّا معاوية - وأضرابه - فقد استغلّ القصّاصين والوضّاعين وبذل الأموال لهم من أجل وضع المثالب في عليّ، ومنها: إعطاؤه سمرة بن جندب أربعين ألف دينار حتّى يروي أنَّ قوله تعالى:( ومن الناس مَن يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) نزلت في عليّ(١) .

ومنها: إطماع عمرو بن العاص بولاية مصر على أن يؤازره في حربه عليّاً عليه السلام، ومنها: تأويله لحديث رسول الله المشهور(يا عمّار، تقتلك الفئة الباغية) بأنّها تعني عليّاً؛ لأنّه هو الذي ألقاه بين الأسنّة والرماح. وغيرها الكثير ممّا لو أردنا استقصاءه لطال بنا المقام.

ومن هنا نخلص إلى أنّ مدرسة الاجتهاد كان يديرها الكبراء المترفون، وأنَّ مدرسة التعبّد المحض كان يتصدّرها الفقراء المضطهدون، فلا يمكن تصوّر التحريف عند المضطهَدين وأزمّة الأمور بيد الخلفاء! وقد قام المحقّق محمّد بن الوزير اليمانيّ بدراسة تتبَّع فيها أحاديث معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، توصَّل من خلالها إلى أنَّ الأحاديث المرويّة عن هؤلاء هي واحدة(٢) . وهذه الدراسة تؤكّد مدّعانا من أنَّ فقه الآنفين هو فقه واحد ويصبّ في مصبّ واحد، ويوضّح وحدة الاتّجاه بينهم.

ومن هذا الباب ما نراه من أنَّ الخلفاء - أمويّين وعبّاسيّين - كانوا يتّخذون القضاء كوسيلة لتحطيم شخصيّة المخالفين، واستغلالهم فتاوى الفقهاء لمصالحهم الشخصيّة.

____________________

(١) شرح النهج ٤: ٧٣، النصائح الكافية: ٧٦.

(٢) انظر (السنّة المطهّرة والتحدّيات) لنور الدين عتر، وتوضيح الأفكار ٢: ٤٥٣ - ٤٦٣، للإمام محمّد بن إسماعيل الصنعانيّ، والروض الباسم ٢: ١١٣ - ١٢٩ لليمانيّ.

٥٢٩

فقد ورد عن هارون الرشيد أنّه استدعى ليلةً أبا يوسف قاضي القضاة، فذهب إليه فزعاً مروعاً، فلمّا دخل عليه القصر وجده جالساً، وعن يمينه عيسى بن جعفر، فقال له الرشيد: أظنُّنا روَّعناك يا أبا يوسف؟

فقال: إي والله؛ كذلك مَن خلفي، ولمّا سكن روعه، قال له الرشيد: دعوتك لأشهدك على عيسى بن جعفر، فإنّ عنده جارية سألته أن يهبها أو يبيعها فامتنع، والله إن لم يفعل لأقتلنّه.

فقال عيسى بن جعفر: إنّ عَلَيَّ يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها.

فطلب الرشيد من أبي يوسف أن يضع له حلاًّ لهذه المشكلة، فقال أبو يوسف: يهب لك نصفها ويبيعك النصف الآخر.

فقال الرشيد لأبي يوسف: إنّي لا أستطيع أن أصبر حتّى تبرأ بحيضتها، لأنّها جارية مملوكة، ولابُدّ للجارية من ذلك، وإذا لم أدخل بها ليلتي هذه أخاف على نفسي من التلف.

فقال له أبو يوسف: الأمرُ أسهل من ذلك يا أمير المؤمنين، أعتِقْها وتزوَّج بها الساعة. وبهذه الحيلة انتزع الرشيد الجارية من مولاها وتزوّجها في تلك الليلة(١) .

فها نحن نرى المسألة المدبَّرة، والأحْجية المهيّأة لامتحان طاعة أبي يوسف للسلطان ومدى انقياده إليه، ومدى استعداده لتبديل الأحكام وتغيير الآراء في سبيل إرضاء الرشيد، والرشيدُ وإن كان لا يتقيّد ولا يحتاج إلى مثل هذه التمحّلات الفقهيّة الغريبة، وهو أعلم ببطلانها، لكنّه أراد أن يتّخذ الفقهاء غطاءً شرعيّاً يمرّر من خلاله ما يريد.

وروى المسعوديّ: أنَّ زبيدة زوج الرشيد كتبت إلى أبي يوسف: ما تقول في هذا

____________________

(١) انظر تاريخ الفقه الإسلاميّ للدكتور محمّد يوسف: ١٦٨ والخبر بكامله في تاريخ بغداد ١٤: ٢٥٠ فليراجعه مَن يحب.

٥٣٠

الأمر؟ وأحبُّ الأشياء إليَّ أن يكون كذا، فأفتاها بما وافق رغبتها، فأرسلت إليه بهديّة تحتوي على الذهب والفضّة والغلاّت والدوابّ والثياب وغير ذلك من النفائس، فقال له بعض مَن حضر مجلسه: قال رسول الله(من أُهديت إليه هديّة فجلساؤه شركاؤه) .

فقال أبو يوسف: ذاك إذا كانت هدايا الناس التمر واللبن(١) .

فلاحظ التصرّف في صرف المعاني عمّا يراد بها في الأحاديث النبويّة المباركة الواضحة الدلالة، بل أوضحها دلالةً كما في هذه الفقرة الأخيرة من كلام أبي يوسف.

وهذه بعض الأمثلة جئنا بها للاستشهاد لا الاستقصاء، وإلاّ فإنّ أمثالها الكثير الكثير، حتّى أنّ جمّاً غفيراً من كتّاب ومفكّري المسلمين، قدماء وجدداً، تنبّهوا إلى أنّ اندثار بعض المذاهب - كمذهب ربيعة الرأي، والأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ - كان مردّه وسببه الرئيسيّ هو إعراض الحكومات عنها لسبب أو لآخر، في حين لاقت بعض المذاهب الإسلاميّة كالمذاهب الأربعة رواجاً كبيراً بسبب إقبال وتشجيع السلطان لها، واحتضانه لأربابها أو لتلامذتهم.

قال ابن حزم: (مذهبان انتشرا في مَبْدَءِ أمرهما بالرئاسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة، فإنَّه لمّا وُلّي أبو يوسف القضاء كان لا يولّي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتمين إلى مذهبه. والثاني مذهب مالك...)(٢) .

وقال الدهلويّ في (حجّة الله البالغة): فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأُسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ودرسوا درساً ظاهراً في الناس، انتشر في أقطار الأرض، لم يزل ينتشر كلّ حين، وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ولم يولّوا القضاء والإفتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين)(٣) .

٥ - ثبت بين مطاوي الصفحات السابقة عدم اتّفاق الخلفاء مع نهج عليّ بل تخالفهم معه، وتحكيم الاختلافات القبليّة في سيرتهم معه، وأنّ التدوين الحكوميّ قد

____________________

(١) انظر تاريخ الفقه الإسلاميّ للدكتور محمّد يوسف: ١٦٨ أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد ١٤: ٢٥٢.

(٢) المغرب: ١٦٤، وفيّات الأعيان ٦: ١٤٤، نفح الطيب ٢: ٦، ٤٨٢.

(٣) حجّة الله البالغة ١: ١٥١ كما في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٢: ١١.

٥٣١

ظهر متأخّراً - وبعد قرن من الزمن - أي في زمن عمر بن عبد العزيز أو هشام بن عبد الملك؛ لقول الزهريّ: (كنّا نكره تدوين السنّة حتّى أكرهنا السلطان على ذلك) مع الإشارة إلى أنّ التدوين جاء على ضوء المحفوظات ولم يؤخذ من المدوّنات.

وعليه فالتحريف يمكن تصوّره في مدوّنات هؤلاء أكثر من مدوّنات الآخرين؛ لنزعاتهم القوميّة، ولوجود السلطة بيدهم، ولبُعد التدوين عندهم عن زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أمّا التحريف عند مدرسة أهل البيت فلا يمكن تصوّره لعكس العوامل التي مرَّت.

٦ - أنّ القول بمشروعيّة الرأي وتعدّديّته يدعو أنصاره إلى التحريف، بمعنى أ نّهم واستنصاراً لأئمّتهم يلزمون أنفسهم أن يضعوا الحديث أو يؤولوه تأييداً لما قالوه، ومن أجله نراهم عدّوا الوضع المذهبيّ من أقسام الوضع. وأمّا مدرسة التعبّد فلا ضرورة عندهم لذلك؛ لأنَّ حديثهم متناقل عن الأصول المدوّنة لقوله:(حديثي حديث أبي وحديث أبي حديثي) فلا يمكن بعد هذا تصوّر التحريف في أقوالهم لعدم تخالف نصوصهم، ولاستقائها من مصدر واحد واتّخاذهم القرآن كأصل يعرض عليه المشكوك والمنسوب إليهم.

٧ - وهناك فارق آخر هو وحدة المباني الفقهيّة الأصوليّة عند نهج (التعبّد المحض) واختلافها عند مدرسة (الاجتهاد والرأي)، لأنّ أئمّة أهل البيت كانوا يؤكّدون على لزوم استقاء الأحكام من الكتاب والسنّة لا غير. وأمّا نهج الاجتهاد والرأي فكانوا يشرّعون الرأي والاجتهاد بإزائهما، وهذا هو مدعاة للاختلاف في الأصول المتبنّاة عندهم، فالبعض يعتمد القياس والآخر يحذر منه، والثاني يقول بالمصالح والآخر يأباه، وهكذا.

فكان كلّ مذهب يحاول جرّ النار إلى قرصه، ممّا أفرز حالة ملحوظة من الزيادات والتأويلات نتيجة لتلك المنازعات، وقد رمى البعضُ منهم البعضَ الآخر بما هو بعيد عنه، أو بما هو غير مراده، فالمذاهب الأربعة المعهودة اليوم والمذاهب المنقرضة كانت تتضارب فكريّاً، وتتلاطم فيما بينها أمواج الاختلاف، حتّى فسّق بعضهم بعضاً.

٥٣٢

وهذا من أقوى دواعي التحريف والانحراف لكي ينتصر كلّ لمسلكه ومذهبه.

٨ - إنّ نظرة في الموثّقين والمضعّفين لرواة المدرستين، تدلّنا على حقيقة لا تخفى على ذي لبّ بصير، مفادها أنّ الموثِّقين والمضعِّفين - أي الرجاليّين عند مدرسة الرأي والاجتهاد - اختلفوا في توثيق أو تجريح الراوي الواحد لكثرة الاتّجاهات الموجودة عندهم، حتّى أنّنا نراهم قد اختلفوا في وثاقة نفس الرجاليّ وعدالته ومدى حجّيّة آرائه.

فابن معين مثلاً - إمام الجرح والتعديل - اختُلِف في وثاقته وحجّيّة توثيقاته؛ لأنّه كغيره طالما جرح شخصاً لأنّه لا يوافق مذهبه أو لأنّه يختلف معه في رأي ونظر ما، وطالما وثّق شخصاً لموافقته إيّاه في المذهب والمسلك، حتى أنّه قدح في الإمام الشافعيّ وعدّه غير ثقة؟

وقد جرح الكثيرون ابنَ معين ولم يعدُّوه ثقة، واعتمد عليه آخرون اعتماداً مطلقاً بحيث لا يقارنون بجرحه أو تعديله جرحاً أو تعديلاً آخر، مع أنّ الجميع ينتمون إلى مدرسة الرأي والاجتهاد.

ومثله حال الآخرين، فعبد العزيز الماجشون وابن أبي حازم ومحمّد بن إسحاق وغيرهم خدشوا في الإمام مالك(١) ، وقد ألّف الدارقطنيّ جزءاً فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في الموطّأ وغيّر فيه، وفيه أكثر من عشرين حديثاً، وهو من مخطوطات الظاهريّة بدمشق(٢) ، ونقل الخطيب البغداديّ في تاريخه (ترجمة الإمام أبي حنيفة) أسماء أكثر من ٣٥ شخصاً قد قدحوا في الإمام أبي حنيفة(٣) ومثله قالوا عن الإمام أحمد.

ثمّ إنّ بعض الرجاليّين ربّما وثَّقوا شخصاً ورفعوا بضبعه إلى السماء ثمّ رجعوا بعد مدّة بسبب اختلاف شخصيّ - لا دينيّ ولا مذهبيّ - فقدحوه وأنزلوه عن رتبته التي

____________________

(١) انظر تهذيب الكمال ٢٤: ٤١٥ ترجمة محمّد بن إسحاق.

(٢) أضواء على السنّة المحمّديّة: ٢٩٩.

(٣) تاريخ بغداد ١٣: ٣٢٣، ت ٧٢٩٦ لأبي حنيفة.

٥٣٣

كانت له من قبل.

وهذا الاختلاف في الموثّق ومدى عدالته وحجّيّته يلزم منه وجود الدور الصريح - كما يعبّر عنه في علم المنطق - فيما لو أردنا الأخذ بكلامه؛ إذ كيف نأخذ برواية راوٍ أو نردّها اعتماداً على جرح أو تعديل شخصٍ لم تثبت وثاقته.

والإمام الذهبيّ كان قد أعدَّ رسالة باسم (ذكر مَن يؤتمن قوله في الجرح والتعديل)(١) شرح فيه أُصول النقد، وطبقات النقّاد وكيفيّة أخذ أقوالهم.

لكنّا لو نظرنا في الموثِّقين عند مدرسة أهل البيت، وجدنا الاتّفاق على تعديلهم والأخذ بمدحهم وقدحهم؛ ولذلك لم نعهد أحداً منهم خدش في أبي العبّاس النجاشيّ، أو الكشّيّ، أو الطوسيّ، أو غيرهم من رجالييّهم، وهذا ما يدلّك على وحدة الفكر واتّحاد المسلك عندهم.

هذه هي بعض دواعي الانحراف والتحريف عند المدرستين، والبحث في أطرافه يستوجب مجلّداً إن لم نقل مجلّدات، ولو قدّر أن تدرس الدوافع بأجمعها دراسة مستوفية لكانت النتائج مذهلة إلى حدّ الإعجاب.

____________________

(١) توجد نسخة منه في آياصوفيا برقم ٢٩٥٣.

٥٣٤

نتائج البحث

بعد أن انكشف لنا بطلان الآراء الستّة المعلّلة لمنع التدوين، وعدم تماميّة السبب السابع كعلّة تامّة للمنع، وبعد أن وضّحنا أمّهات العوامل الحقيقية للمنع؛ تبيّنت لنا نتائج مهمّة ترتّبت على ذلك وأثّرت في التشريع الإسلاميّ، وكان أهمّ تلك النتائج:

١ - انقسام المسلمين إلى اتّجاهين فكريّين، صارا من بعد مدرستين مستقلّتين، لكلّ منهما أفكار وأُصول ومبانٍ خاصّة بها.

٢ - تحكيم مفاهيم أتباع منع التدوين في الثقافة الإسلاميّة، وبروز تعاليل شتّى ومبرّرات مختلفة لذلك المنع الُمحَكَّم.

٣ - طرح مقولة (حسبنا كتاب الله) و(بيننا وبينكم كتاب الله) كخطوة أُولى لإبعاد العترة وللتغطية على العجز الفقهيّ عن الإلمام بسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله، ثمّ تخطّيهم عمّا رسموه، كما هو المشاهد في نزاع الخليفة الأوّل مع الزهراء واستشهادها بالقرآن عليه، وتخطّي الخليفة الثاني عن الأخذ بصريح القرآن في الطلاق ثلاثاً والمؤلّفة قلوبهم و...، وأخيراً استغلال بعض المغرضين هذه المقولة، لإِنكار ما عدا القرآن.

٤ - منع الخلفاء من التدوين لخنق انتشار الأحاديث النبوّية المفسَّرة التي تبيّن أحقيّة أهل البيت بالخلافة، بعد محاولة غلق باب التفسير البياني الذي يصبّ في نفس المصبّ، متذرّعين في ذلك بأوهن الذرائع.

٥ - فتح باب الاجتهاد لسدّ الثغرة الحاصلة عن منع التدوين؛ وذلك عبر مراحل متعدّدة، هي:

٥٣٥

أ - وجود بوادر أوّليّة في زمان النبيّ صلّى الله عليه وآله عند مَن استلموا من بعده السلطة الفعليّة، فكانوا يخالفون النبيّ ويجتهدون ويذرون ما يأتي به صلّى الله عليه وآله.

ب - تطبيق الخليفة الأوّل لفكرة الاجتهاد عمليّاً في حياته.

ج - فتح الخليفة الثاني أوسع الأبواب لتطبيق اجتهاداته وآرائه، كما هو الملحوظ في المؤلّفة قلوبهم والطلاق ثلاثاً والمتعة و...

٦ - ظهور مفهوم (رأي رأيته) و(تأوَّل فأخطأ) في مرحلة مبكّرة من زمن حكومة المنع، وانجرارها إلى رسم أُصول جديدة، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها.

٧ - تأثير منع التدوين وفتح الاجتهاد بشكل جدّي في حدوث التضاربات والاختلافات في فتاوى وآراء الصحابة، بل في فتاوى وآراء الصحابيّ الواحد، ممّا أنتج:

أ - القول بمشروعيّة الاختلاف وتعدّديّة الآراء عند الصحابة، وبالتالي حجّيّتها جميعاً والقول بعدالة الصحابة.

ب - القول بالتصويب في الأحكام الشرعيّة، أي إنَّ الله يُثَبِّت أحكامه في اللوح المحفوظ طبق فتاوى المجتهدين.

ج - القول باجتهاد النبيّ وأنَّه بشر يُخطئ ويُصيب، ويقول في الرضا ما لا يقوله عند الغضب، كي يعذروا الشيخين.

د - تفسير أحاديث رسول الله بما يعجبهم، كما هو المشاهد في (اختلاف أُمَّتي رحمة) وغيره.

٨ - طرح الخليفة الثاني لفكرة أعلميّته، بعد أن كان لا يدّعي ذلك لنفسه، وتطوُّر هذه الفكرة إلى فكرة (أعلميّة الخلفاء) بالأحكام، وأنّهم أولى مَن يتصدّر للإِفتاء، وبناءً على ذلك ساغ:

أ - ضرب الخليفة مَن يُحدِّث بخلاف آرائه، أو مَن يسأله عمّا لا يُريد.

ب - حبس أجلاّء الصحابة بسبب إكثار الحديث.

٥٣٦

ج - لزوم انتظار الصحابيّ أمر الخليفة في الأحكام وغيرها.

٩ - ظهور أفكار جديدة في حياة المسلمين، منها: لزوم اتّباع الحاكم لقولهم (وقد قال فيه ولاة الأمر) و(الخلاف شرّ) و(اتّبِعْهُ وإن ضرب ظهرك) وعدم اشتراط العدالة في كثير من القضايا، كالقضاء وغيره، وحتّى العبادات فقد أجازوا الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر، وغيرها من الأفكار والآراء.

١٠ - اتّخاذ اجتهاد الصحابيّ أو سيرة الشيخين كأصل ثالث في التشريع، وعدّه قسيماً لكتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، وقد تبيّن هذا بأجلى صوره يوم الشورى.

١١ - فشل محاولة حصر الاجتهاد بالشيخين، وقَصْر العمل بما رأياه، وذلك لتوفّر الظروف والشروط الموضوعيّة لشمول الاجتهاد وعموميّته عند باقي الخلفاء، وفي ذلك نرى توسّع آراء عثمان ومعاوية ومَن بعدهما، حتّى أنَّ المسلمين ضاقوا ذرعاً بإحداثات عثمان، ولمّا أحسّ ببوادر الثورة عليه سخّر سعيد بن زيد بن نفيل(١) لوضع حديث العشرة المبشّرة بالجنّة دفعاً لاعتراضات المسلمين دون جدوى، لكنّها سرعان ما استغلَّت من بعد أيّما استغلال؛ فأثّرت في عقائد وفقه المسلمين.

١٢ - اختصاص المدوّنات المتأخّرة زمنيّاً بقسط كبير من آراء أتباع الاجتهاد عموماً، وتركيزها الأكيد على تدوين سيرة الشيخين خصوصاً، ممّا أضفى على آرائهما المدوّنة ميزة وأرجحيّة على باقي الآراء، وهذا معناه أنَّ محاولة حصر الاجتهاد، وإن كانت قد فشلت في الحصر التامّ، إلاّ أنّها نجحت في إضفاء هالة من القدسيّة والأولويّة على سيرتهما دون غيرهما.

١٣ - تسليط الأضواء على فقه المخالفين للتدوين والتعبّد، ورفض فقه المدوّنين

____________________

(١) انظر الاحتجاج ١: ٢٣٧، الكافئة: ٢٥، وجاء في صحيح البخاريّ ٥: ٢٠٩٥، كتاب الذبائح، باب ما ذبح على النصب والأصنام، ح ٥١٨٠ عن سالم أنّه سمع عبد الله يحدّث عن رسول الله: أنّه لقي زيد بن عمر بن نفيل بأسفل بَلْدَح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله الوحي، فقدّم إليه رسول الله سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها، ثمّ قال: إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ممّا ذكر اسم الله عليه! فلاحظ ما أُضفي من هالة على والد واضِعِ حديث العشرة المبشرة.

٥٣٧

المتعبّدين، وتقوية مكانة القرشيين ومتأخّري الصحبة - مَن هم ليسوا من عَلِيَّة الصحابة - وإعطاؤهم الأدوار المهمّة سياسيّاً وتشريعيّاً.

١٤ - إبعاد الأمّة عن المدوّنين والمدوّنات، وعلى رأسهم أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله ومدوّناتهم، وقد برزت في هذا المحور عدّة خطوات، منها:

أ - تبنّي الرؤية القائلة بعدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم.

ب - وضع الأحاديث في فضائل المانعين، واختلاق الهفوات للمدوّنين، ومن ثمّ الدعوة للأخذ بمسلك المانعين الفقهيّ.

ج - صنع فكرة أفضليّة الشيخين على سائر الناس، وإضافة عثمان ثالثاً من بعد، وإبقاء عليّ بن أبي طالب في محلّ يساوى به سائر الناس.

د - نسبة جلّ الآراء الفقهيّة الناتجة عن المنع إلى المدوّنين الذين ثبتت عنهم نقولات أُخرى ثابتة صحيحة نابعة عن منهج التدوين.

١٥ - خفاء الكثير من الأحكام، وضياع قسم منها، نتيجة للنهي عن التدوين لمدّة قرن من الزمن، حتّى أصبحت سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله منسيّة أو كالمنسيّة، وتطاول أمد المنع حتّى إذا فُتِحَ التدوين، كان تدويناً حكوميّاً ناقصاً خليطاً مملوءاً بالاجتهادات والآراء.

١٦ - خلق المبرّرات للاّحقين لتشريع ما يعجبهم والأخذ به وفرضه على المسلمين، وترك ما لا يعجبهم، وسهّل على الانتهازيّين طرق التمحّل والاستدلال انتظاراً لما يريده الحكّام، فكان أن نتج:

أ - السماح بالاجتهاد مطلقاً، فيما ورد فيه النصّ، وفيما لا نصّ فيه.

ب - تحكيم المصلحة المدّعاة - لا الواقعيّة - على النصوص.

ج - عدم لزوم عرض أقوال الصحابة على كتاب الله، بل اعتبر البعض ما يقوله الصحابيّ حجّة مطلقة وأنَّ فعله يخصِّص كتاب الله.

١٧ - إنَّ المنع أوجب اختلاف الحديث عن رسول الله نظراً للاتّجاهات والآراء.

١٨ - إنَّ إبعاد الأمّة عن أهل البيت فقهيّاً وسياسيّاً ألزم أئمّة أهل البيت في الإصرار

٥٣٨

على التدوين وحفظ ما ورثوه عن آبائهم خوفاً من الضياع. وهو ممّا جعل التراث الحديثيّ عند الشيعة أكثر ممّا عند أهل السنّة والجماعة؛ لأنّا نعلم أن سنن النسائيّ يمتاز على بقيّة السنن في اشتماله على أحاديث الأحكام؛ لقول مؤلّفه في رسالته لأهل مكّة: فهذه الأحاديث (أحاديث السنن) كلّها في الأحكام، فأمّا أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغير هذا فلم أخرجها.

وبلغت أحاديث هذه المجموعة (٥٢٧٤ ) حديثاً، فلو قيست هذه إلى أحاديث الأحكام في وسائل الشيعة (٣٥٨٥٠ ) ومستدرك الوسائل (٢٣٠٠٠ ) لكانت لاشيء بالنسبة إليها، وقد ثبت عند المحقّقين بأنَّ مرويّات الشيعة تعادل ضعفي ما في الصحاح والسنن العاميّة من أحاديث.

١٩ - انعدام قدسيّة الرسول الأكرم في نفوس الخلفاء بنسب متفاوتة شدّةً وضعفاً، ابتداءً من مناداته من وراء الحجرات وجرّهم إزاره صلّى الله عليه وآله، ومروراً بـ (أنَّ الرجل ليهجر) و(متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أُحرِّمهما وأُعاقب عليهما) وقول معاوية لمن ذكَّره بنهي النبيّ عن الربا (لا أرى بأساً بذلك)، وانتهاءً بتمثّل يزيد بن معاوية بأبيات ابن الزبعرى، وتمزيق الوليد بن يزيد لكتاب الله المجيد.

٢٠ - من كلّ ذلك كان اختلال النتائج والحصائل الفقهيّة والعقائديّة ملحوظاً، ولا سبيل لإنكاره في تاريخ التشريع الإسلاميّ، فلم يستطع التدوين المتأخّر ردم هذه الهوّة، بل زاد الأمر تعقيداً وحيرةً بتدوينه مختلف الآراء والاجتهادات مخلوطةً بالصحيح الوارد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ فلذا يعسر التوفيق بين المذاهب في أكثر المسائل الفقهيّة.

٢١ - نسبة منع التدوين إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله لتبرِئة ساحة المانعين الحقيقيّين، وإلقاء التبعة على رسول الدين، ومحاولة الموازنة والمقارنة بين روايات المنع والتدوين، مع أنَّ روايات المنع كلّها ضعاف وغير ناهضة لذلك، وإنَّما اختُلِقَتْ في وقت متأخّر لتبرير منع الشيخين ومَن حذا حذوهما للتدوين والتحديث.

٥٣٩

٢٢ - صيرورة منع التدوين ذريعة بيد المستشرقين للنيل من الإسلام، والطعن على الفكر الإسلاميّ والثقافة الأصيلة، بادّعاء أنَّ الدين هو مبعث التخلّف ومنع الشعوب من الرقيّ الحضاريّ.

٢٣ - تمحّل الكتّاب وأرباب القلم المؤيّدين لمدرسة الخلفاء، وسعيهم الدؤوب لخلق المبرّرات المختلفة لتبرئة الخليفة من تبعات المنع، وعدم امتلاكهم الشجاعة الكافية للتصريح بخطأ الخليفة وبيان الحقائق في هذا السياق.

٥٤٠