منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 93205
تحميل: 6492

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93205 / تحميل: 6492
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

أحسنَ القَصص ) ، قلنا: انظر إليها، فإنَّ فيها حديثاً حسناً فجعل يمحوها، ثمّ قال: (إنّما هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره)(١) .

٣ -... عن عبد الرحمان بن الأسود، عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله فاستأذنا على عبد الله، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة، قال: فدعا الجارية ثمّ دعا بطست فيه ماء فقلنا له: يا أبا عبد الرحمان انظر فيها فإنّ فيها أحاديث حساناً. قال فجعل يميثها فيها، و يقول:( نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) ، القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه)(٢) .

٤ -... عن سليم بن أسود، قال: كنت أنا وعبد الله بن مرداس، فرأينا صحيفة، فيها قصص وقرآن، مع رجل من النَّخع، قال: فواعدنا في المسجد، قال: فقال عبد الله بن مرداس: أشتري صحفاً بدرهم، إنّا لقعود في المسجد ننتظر صاحبنا، إذا رجل، فقال: أجيبوا، عبد الله يدعوكم، قال: فتقوّضت الحلقة، فانتهينا إلى عبد الله بن مسعود فإذا الصحيفة في يده، فقال: إنّ أحسن الهدى هدى محمّد صلّى الله عليه وآله، و إنّ أحسن الحديث كتاب الله، و إنّ شرّ الأمور محدثاتها، و إنّكم تحدِّثون و يُحَدَّث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأول، فإنّما أهلك أهل الكتابين قبلكم مثل هذه الصحيفة وأشباهها، توارثوها قرناً بعد قرن حتّى جعلوا كتاب الله خلف ظهورهم، كأنّهم لا يعلمون، فأنْشدُ الله رجلاً علم مكان صحيفة إلاّ أتاني، فو الله لو علمتها بدير هند لانتقلت إليها(٣) .

٥ -... عن أشعث بن سليم، عن أبيه، قال: كنت أُجالس أُناساً في المسجد، فأتيتهم ذات يوم فإذا عندهم صحيفة يقرأونها، فيها ذكر وحمد وثناء على الله، فأعجبتني، فقلت لصاحبها: أعطِنيها فأنسخها، قال: فإنّي وعدت بها رجلاً فأعدَّ صحفك، فإذا فرغ

____________________

(١) تقييد العلم: ٥٤ - ٥٣. ومثله في جامع بيان العلم وفضله ١: ٦٦.

(٢) تقييد العلم: ٥٤ - ٥٥.

(٣) تقييد العلم: ٥٥.

٨١

منها دفعتها إليك، فأعددت صحفي، فدخلت المسجد ذات يوم فإذا غلام يتخطّى الخلق، يقول: أجيبوا عبد الله بن مسعود في داره، فانطلق الناس: فذهبت معهم، فإذا تلك الصحيفة بيده، وقال: ألا إنّ ما في هذه الصحيفة فتنة وضلالة وبدعة، وإنّما هلك مَن كان قبلكم من أهل الكتب باتّباعهم الكتب، وتركهم كتاب الله، و إنّي أُحَرِّجُ على رجل يعلم منها شيئاً إلاّ دلّني عليه، فو الذي نفس عبد الله بيده، لو أعلم منها صحيفة بدير هند لأتيتها، ولو مشياً على رِجلي، فدعا بماء فغسل تلك الصحيفة(١) .

٦ -...قال: بلغ ابن مسعود أنَّ عند ناس كتاباً، فلم يزل بهم حتّى أتوه به، فلمّا أتوه به محاه، ثمّ قال: (إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم، وأساقفتهم، وتركوا كتاب ربّهم، أو قال: تركوا التوراة والإنجيل حتّى درسا، وذهب ما فيها من الفرائض والأحكام)(٢) .

٧ - عن عبد الرحمان بن الأسود، عن أبيه، قال: جاء رجل من أهل الشام إلى عبد الله بن مسعود، ومعه صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه، فقال: يا أبا عبد الرحمان! ألا تنظر ما في هذه الصحيفة من كلام أخيك أبي الدرداء؟ فأخذ الصحيفة، فجعل يقرأ فيها و ينظر، حتّى أتى منزله، فقال: يا جارية ائتيني بالإجانة مملوءة ماء، فجاءت بها، فجعل يدلكها، و يقول:( الَر، تلك آيات الكتاب المبين * إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون * نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) أقصصاً أحسن من قصص الله تريدون أو حديثاً أحسن من حديث الله تريدون؟!(٣) .

فلو نظرنا إليها جميعاً وضممنا الواحدة منها إلى الأخرى؛ لأوصلتنا إلى نتائج تخالف ما توصّل إليه أصحاب الرأي المتقدِّم، ولنوضِّح ذلك في نقاط:

أ - يظهر من مرويّات تقييد العلم وغيره أنّ تلك الصحف والكتب - أو الكثير منها

____________________

(١) تقييد العلم: ٥٥ - ٥٦، مثله بالمعنى عن الأشعث في سنن الدارميّ، اعتقاد أهل السنّة ١: ٧٧ - ٧٨، ح ٨٥، وجامع بيان العلم ١: ٦٥.

(٢) تقييد العلم: ٥٦.

(٣) تقييد العلم: ٥٤ - ٥٥، والآيات ١ - ٣ من سورة يوسف.

٨٢

- كانت تحتوي على مواضيع مدهشة لم يسمعها المسلمون من قبل، ولا هي ممّا ينسجم مع طبيعة التشريع؛ فلذلك كانت مبعث الدهشة ومثار التعجّب. ولو كانت محتوياتها على نسق وغرار ما ألفوه ووعوه لما استغربوا وتعجّبوا منها، فقد وردت في تلك المرويّات العبارات الآتية: (وجدته بالشام فأعجبني) و (هذه صحيفة فيها حديث عجيب) و (عندهم صحيفة... فأعجبتني) و (إنّ عند ناس كتاباً يعجبون به)، فيظهر جليّاً أنّ ما في تلك الصحف لم يكن من كتاب الله ولا من سنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، و إلاّ لما تُعُجِّبَ منها وأُعجب بها، ولكانت كسائر ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله.

ب - إنّ تلك الصحف - سوى التي تحتوي على كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه - لم تضمّ كلام صحابيّ بعينه، ولا مَن نقل عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أو الصحابيّ، إذ لم يذكر في المرويّات أسماء المحدِّثين بتلك الأحاديث ولا الُمحَدَّثين بها، فهي - ناهيك عن كونها ليست مسانيد - ليست معلومة القائل كذلك، بل هي مجهولة بكلّ ما للكلمة من معنى، بل صُرّح في تلك الروايات ضمناً بجهالة كاتبها ومن روي عنه محتواها؛ فقد عُبّر عن تلك الصحف بمثل قولهم: (كتاباً وجدته)، و (أصبتُ... صحيفة)، و (جاء علقمة بكتاب)، و (جاء رجل من أهل الشام... ومعه صحيفة)، و (فرأينا صحيفة مع رجل من النخع)، و (كنت أُجالس أُناس... فإذا عندهم صحيفة)، و (إنّ عند ناس كتاباً)، و (رأيت مع رجل صحيفة)، فهذه كلّها تدلّ على أنّ تلك الصحف كانت مجهولة المصدر، وعلى هذا فلا يمكن الاعتماد عليها بحالٍ من الأحوال.

وأمّا صحيفة أبي الدرداء، فإنّها لم تكن حاوية إلاّ لكلامه دون كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولقصصٍ استقاها من مصادر لا تمتلك رصيداً من الحجّيّة والاعتبار.

ج - إنّ عدّة من الصحف جيء بها من الشام، وبعضها (من مكّة أو اليمن)، وبعضها لا نعرف من أين جاءت، فلم تكن تلك الصحف من مدوّنات الصحابة، ولا قد أتي بها من مهبط الوحي ودار النبوّة ومقرّ الصحابة، فقد ورد في بعضها (كتاباً وجدته بالشام)، و (جاء رجل من أهل الشام ومعه صحيفة)، وبعضها (من مكّة أو اليمن) مع أنّ الظاهر

٨٣

هو وقوع الترديد في نفس الأمر والواقع لا من الراوي، فهذه العبارات تدلّ على جهالة الصحابيّ والراوي الكاتب عنه. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى: فإنّه يظهر أنّ العامل الاجتماعيّ والجغرافيّ كان له أثر كبير في هذه المرويّات؛ وذلك لقرب الشام من الروم المسيحيّة الديانة، ولوجود الثقل المسيحيّ فيها آنذاك، فيمكن أنّ تكون تلك المرويّات (صحف تبشيرية) - لو صحّ التعبير - حاولوا من خلالها اختراق الفكر الإسلاميّ، فلم تكن تحتوي على ما قاله النبيّ صلّى الله عليه وآله حقّاً، ولسقوط مثل هذه الصحف المجهولة المصدر، والكاتب والمُملي - أي المحدِّث - نرى أنَّ أهل البيت عليهم السلام يلتفتون إلى هذه النكتة، و يعلمون أنّها مُسقِطة لمثل تلك الأحاديث عن الاعتبار؛ لذلك نراهم يؤكِّدون على الصحف التي عندهم، فيبيِّنون مصدرها وكاتبها وممليها، فيقول الصادق عليه السلام لمَن وسمه بأنّه صحفي:(أنا رجل صحفيّ، وقد صدق - أبو حنيفة -قرأتُ صحف آبائي؛ إبراهيم وموسى) (١) .

و يقول أئمّة أهل البيت عليهم السلام في وصف كتاب عليّ عليه السلام بأنّه (إملاء عليّ من فلق في رسول الله)، فهم عليهم السلام يوضِّحون: أنّ صحفهم متوارثة كابراً عن كابر عن رسول الله، وأنّ حَفَظَتَها وكُتَّابَها هم الأئمّة عليهم السلام، وأنّ فيها أحكام الله من لدن موسى و إبراهيم عليه السلام حتّى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله. وقد جاء في الكامل، لابن عديّ: ولجعفر بن محمّد حديث كثير عن أبيه عن جابر، وعن أبيه عن آبائه، ونسخ لآل البيت يرويها جعفر بن محمّد...(٢) .

د - إنّ تلك الصحف - أو الكثير منها - لم تكن تجمع في طيّاتها الفرائض والأحكام، ولا شيئاً من التفسير وشرح الآيات، و إنّما كانت تضمّ غير ذلك، ففيها على ما يبدو قصص وأخبار، وأحاديث وأذكار لم ينزل الله بها من سلطان، وهذا النوع غالباً ما تكون فيه يدٌ للقصّاصين والأخباريّين، من تضخيم لبعض الحقائق، وتعتيم على حقائق أُخرى، تبعاً للظروف والمُيول والأهواء والعصبيّات القبليّة، وغيرها من عوامل

____________________

(١) علل الشرايع للصدوق ١: ٨٩، وانظر روضات الجنّات ٨: ١٦٩، قاموس الرجال ترجمة محمّد بن عبد الله بن الحسن ٨: ٢٤٣، ورياض السالكين ١: ١٠٠.

(٢) الكامل لابن عديّ ٢: ١٣٤، وعنه في تهذيب التهذيب ٢: ٨٨، ت ١٥٦ والسنّة قبل التدوين: ٣٥٨.

٨٤

الزيادة والنقصان، وتغيير أو تبديل الأمور، فقد ورد في المرويّات قولهم: (صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه)، وقولهم: (فرأينا صحيفة فيها قصص وقرآن) وقولهم: (فيها ذكر وحمد وثناء على الله).

و يظهر أنّ ما في تلك الصحف من كلام أبي الدرداء وما فيها من قصص و (أحاديث حسان)، هي من قبيل ما نجده حتّى الآن مبثوثاً في تفاسير المسلمين ومؤلّفاتهم في سرد تفاصيل قصص القرآن، مأخوذ من التوراة، من مثل ما ورد في قضيّة النبيّ يوسف عليه السلام وأنّه قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة(١) ، وما ورد في قضيّة داود وأنّه أرسل أحد جنده إلى الحرب ليُقتل فيتزوّج بامرأته من بعده(٢) ، وما ورد من أنّ الناس قد هلكوا، فاتّفقتا ابنتا لوط عليه السلام على إسكار والدهما - والعياذ بالله - ففعلتا ووقع عليهما فحملتا، واستمرّ النسل من ذلك(٣) ، بل ما روي من أنّ أُمّ المؤمنين خديجة تآمرت فأسكرت والدها ثمّ أمرت النبيّ صلّى الله عليه وآله بخطبتها منه، فرضي بذلك وهو سكران، ثمّ أفاق فقيل له في ذلك فاستسلم للأمر الواقع، وإنّما فعلت ذلك لأنّ خويلداً كان لا يرتضي زواجها من النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله و و و...(٤) وهل ترى أنّ مثل هذه الموضوعات قد جاءت إلاّ من أبي الدرداء، وكعب الأحبار وأضرابهما من المتأثّرين بالمسيحيّة واليهوديّة!!

ويزداد هذا وضوحاً من تلاوة ابن مسعود لقوله تعالى:( نحن نقصّ عليك أحسن القصص ) ، و يقول: (أقصصاً أحسن من قصص الله تريدون، أو حديثاً أحسن من حديث الله تريدون)؟!، و يقول: (إنّ أحسن الهدى هدى محمّد صلّى الله عليه وآله، وإنّ أحسن الحديث كتاب الله و إنّ شرّ الأمور محدثاتها)، فهذه الكلمات كلّها ناظرة إلى ما تضمّنته بطون تلك الصحف.

____________________

(١) الأحكام لابن حزم ٥: ١٥٤، الباب ٣٣ في شرائع الأنبياء، وقال: هذا كثير جداً.

(٢) مصنف بن أبي شيبة ٦: ٣٤٣، ح ٣١٨٩٤، تفسير القرطبي ١٥: ١٦٨، ١٥: ١٨٠ - ١٨١.

(٣) راجع قصص القرآن.

(٤) سبل الهدى والرشاد ٢: ١٦٦، عن الزهري في سيرته، وانظر الروض الأنف ١: ٣٢٥.

٨٥

فكلام ابن مسعود (إنّ أحسن الهدى هدى محمد...) ليؤكد بأنّ ما أماثه بالماء ليس هو من سنّة النبي محمد صلّى الله عليه وآله، بل هو من المحدثات التي لا يرتضيها، وقد أراد بقوله ذلك إرجاع المعجبين بتلك الصحف إلى السنّة النبوية وهدى محمد والى كتاب الله العزيز؛ لأنّ رسول الله كان قد وبّخ عمر بن الخطاب لإعجابه في الأخذ عن صحف أهل الكتاب وتركه حديث رسول الله، فقد نقل السيوطي: أنّ عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها، فقال الرسول: يا ابن خطاب امتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية وأعطيت جوامع الكلم(١) .

تدبر في قول عمر (قد أخذت بقلوبنا) وقارنه مع ما قيل عن الصحيفة التي أتوا بها إلى ابن مسعود مثل قولهم: (إنّ عند ناس كتاباً يعجبون به) و (هذه صحيفة فيها حديث عجيب) و (عندهم صحيفة... فأعجبتهم) و (وجدته... فأعجبني) وغيرها.

وفي المقابل انظر إلى جواب الرسول الأكرم لعمر (لقد جئتكم بها بيضاء نقية) وقسه مع جواب ابن مسعود لمن أعجب بالصحيفة: (إنّ أحسن الهدى هدى محمد) لتعرف ما وراء نظرة المعجبين واتحاد جواب ابن مسعود مع جواب الرسول الأكرم، أضف إلى ذلك أنّنا لم نقف على رواية نطقت بهذا الإعجاب وذاك التهديد من رسول الله إلاّ تلك الروايات المروية عن عمر و إعجابه بمكتوبات اليهود، و إذا أمعنت النظر في تعليل ابن مسعود بالإماثة تراه يصب في المصب الشرعي، وخصوصاً حينما تراه يميثها بالماء ولا يحرقها بالنار، مؤكّداً على أنّ أحسن الهدى هدى محمد وأنّ أحسن الحديث كتاب الله وأنّ شر الأمور محدثاتها.

حتّى أنّ ابن مسعود زاد تصريحه وضوحاً بقوله في عدّة مرويات (إلا إنّ ما في هذه الصحيفة فتنة وضلالة وبدعة)، وبقوله في مقام آخر: (إنّما أُهلِك أهل الكتاب

____________________

(١) الدر المنثور ٥: ١٤٨، إرواء الغليل ٦: ٣٨، وقد علق الألباني على ذلك بقوله: والحديث على أقل تقدير حسن، وانظر مصنف عبد الرزاق ٦: ١١٤، وفيض القدير للمناوي ٢: ٧٢٠ كذلك.

٨٦

قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والإنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والأحكام).

فقد وضحَ أنّ الصحائف المأتي بها إلى ابن مسعود لم تكن تتعلّق بالفرائض والأحكام، و إنّما كانت تدوّن القصص والحكايات وبعض الأذكار المتعلّقة بهذه الحكايات المنسوبة في تلك الأساطير والخرافات والزيادات.

وبهذا يحتمل أن يكون في هذه الصحيفة قصص تميم الداري - الراهب النصرانيّ الذي استأذن عمر أن يقصّ فأذن له(١) و يحتمل أن تكون صحفاً مشابهة له.

ويتبيّن الأمر أكثر وضوحاً وجلاءً في قول ابن مسعود: (فأُنشِد الله رجلاً عَلِم مكان صحيفة إلاّ أتاني، فو الله لو علمتها بدير هند لانتقلتُ إليها)، وفي قوله: (فو الذي نفس عبد الله بيده لو أعلم منها صحيفة بدير هند لأتيتها ولو مشياً على رِجلي) وقوله - كما نقله الراوي - (وأُقسِمُ بالله لو أنّها كانت بدار الهند(٢) - أراه يعني مكاناً بالكوفة بعيداً - إلاّ أتيته ولو مشياً)(٣) ، فهذا الجدّ والإصرار منه على محو مثل تلك الصحف كان لنكتةٍ، ألا وهي اختلاط تلك الأحاديث واستقاؤها من أحاديث أهل الكتاب، فكأنَّ ابن مسعود يرى أنّها من صنع الأديرة، ومن قصص وأساطير أهل الكتاب التي غذّوا بها عقول الضعفاء من المسلمين والمغفّلين، ومَن يتعاطف معهم فكريّاً، بالإضافة إلى ميل النفوس إلى أُسلوب السرد القصصيّ وسماع الغرائب والعجائب، وكأنّ نشر تلك القصص كان أمراً متعمّداً مدروساً من النصارى، فلذا كان ابن مسعود يمحوها أحياناً

____________________

(١) المذكر والتذكير والذكر لابن أبي عاصم: ٦٣، كنز العمّال ١٠: ٢٨٠، ٢٩٤٤٥ و ٢٩٤٤٦.

(٢) دير الهند: من قرى دمشق. ودير هند الصغرى: بالحيرة، كانت تنزله هند بنت النعمان بن المنذر، ودير هند الكبرى: بالحيرة أيضاً، بَنَته هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكل المرار. [ معجم البلدان ٢: ٥٤٢ - ٥٤٣ ]. وقد يطلق دير هند و يراد به دير هند الصغرى [ انظر الأغاني ٢: ١٣١ ]. وعلى كلّ التقادير فالظاهر أنّ المراد (بدار الهند) (دير هند). ونحن نرجّح أنّ يكون مراد ابن مسعود هو الدير الذي بالشام؛ لما في ذلك من ارتباط بالصحف المأتي بها من الشام، ولأنّه أبلغ في البُعد؛ لأنّ الظاهر هو صدور هذه الأقوال من ابن مسعود في الكوفة، إذ الرواة كوفيّون.

(٣) سنن الدارمي ١: ١٣٠، ح ٤٧٩، المصنف لابن أبي شيبة ٥: ٣١٥، ح ٢٦٤٤٧.

٨٧

بمجرد إلقاء النظرة عليها، أو حتّى دون إلقاء النظرة الفاحصة لعلمه سلفاً بما تحويه تلك الصحائف والكتب.

فلذلك وقف ابن مسعود من تلك المدوّنات الموقف الحازم، الذي قد بدا سلبيّاً بسبب معاصرته للحملة التي قادها عمر بن الخطّاب ضدّ التحديث والتدوين، وبين المنعيَن فرق لا يخفى على كلّ ذي لبّ وبصر!!

وبعد الوصول إلى هذه النتيجة المتمخّضة عن النظر الشامل لروايات المنع المنسوب إلى ابن مسعود، يحقّ لنا أن نقول إنّ رواية الدارميّ التي تنصّ على أنّ محتوى الكتاب(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) ، لم تكن وافية، إذ لم تكن هذه الجمل فقط هي محتوى الكتاب، بل هناك أشياء أُخرى من قبيل ما مرّ ذكره في سائر الروايات، بقرينة قول ابن مسعود في الرواية الأخرى: (إنّ ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة)، إذ لا يعقل توجيهه هذا الكلام لمجرّد التسبيحة والتحميدة والتهليلة والتكبيرة، مع أنّه كان يقولها صباحاً ومساءً في صلواته الخمس، ولا يعقل صدور هذا الردع لهذه الكلمات الطيّبات من مسلم عاديّ، فضلاً عن صحابيّ من كبار صحابة النبيّ صلّى الله عليه وآله.

والقول: بأنّ الردع في كلامه موجّهٌ إلى نفس الكتابة والتقييد، وأنّها ضلالة بغض النظر عن المكتوب، لا تساعده العبارة المذكورة ولا تدلّ عليه؛ لأنّ قوله: (إنّ ما في هذا الكتاب) يدلّ على أنّ المقصود هو محتوى الكتاب، لا مجرّد ومحض التقييد والتدوين، و إلاّ لقال مثل: (إنّ الكتابة بدعة وفتنة وضلالة).

ومثل هذا الكلام نقوله في الرواية اليتيمة التي ادّعت أنّ في الصحيفة فضائل أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله، فإنّ جملة هذه القرائن تدلّ - إن صحّت هذه الرواية - على وجود أكاذيب ومختلقات وربّما شيء يُدّعى أنّه من سيرة أهل البيت وفضائلهم ممّا لا يمتّ إلى الواقع بصلة، أو ممّا بولغ فيه، ومهما يكن من شي فإنّ الإذعان لمحو ابن مسعود لفضائل أهل البيت محالٌ، خصوصاً بعد الفراغ من أنّ ابن مسعود كان من أكبر

٨٨

المحدّثين بفضائلهم والناشرين لمآثرهم.

هذا، ونرى أنّ ابن مسعود لم يكن كأبي بكر وعمر في أُسلوب المحو؛ لأنّه لم يلجأ إلى أُسلوب الحرق والإبادة الشاملة للمدوّنات، و إنّما اتّخذ أُسلوب الإماثة بالماء، وهو الأسلوب الشرعيّ لمحو كتب الضلال، التي فيها اسم من أسماء الله أو الأنبياء أو الأوصياء والأئمّة عليهم السلام، إذ يحرم الحرق، و ينحصر الإتلاف بالميث بالماء أو الدفن في الأرض.

وربّما يعضّد ما استنتجناه هنا بما صرّح به بعض الأعلام؛ إذ قال أبو عبيد: إنّه [ أي ابن مسعود ] يرى أنّ هذه الصحيفة أُخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد الله النظر فيها. وقال مرّة: أما أنّه لو كان من القرآن أو السنّة لم يمحُهُ، ولكن كان من كتب أهل الكتاب(١) .

وبهذا يمكن أن يكون نهي ابن مسعود جاء لما فصّلناه عنه سابقاً، وهناك احتمال آخر نراه هو الأقرب؛ وهو صدورها عنه تقيّةً أو مصلحة أو تخوّفاً من درّة عمر، إذ عرف عن عمر أنّه أمر بإتلاف الصحف والإقلال في التحديث، وقد ضرب بعض الصحابة على ذلك، وسجن آخرين كان من بينهم ابن مسعود، فلا يستبعد إذاً أن يكون ما فعله ابن مسعود مع الصحيفة جاء آنذاك مماشاةً للوضع العامّ في الدولة الإسلاميّة، وكي لا يتخطّى أمر الخليفة عمر بن الخطّاب، إمّا تخوّفاً من بطشه أو مداراة ومصلحة، فعن الحارث بن سويد قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: (ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلّماً به).

وقال ابن حزم معقّباً: (ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف)(٢) .

وجاء عنه أنّه صلّى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط - والي عثمان على الكوفة - تقيّة، وأنّ الوليد كان قد صلّى الصبح بهم أربعاً ثمّ قال: أزيدكم؟

____________________

(١) جامع بيان العلم وفضله، وسنن الدارمي ١: ١٣٤، ح ٤٧٧، كما في تدوين السنّة: ٣٤١.

(٢) المحلّى لابن حزم ٨: ٣٣٦ المسألة (١٤٠٩).

٨٩

فقال له ابن مسعود: مازلنا معك منذ اليوم في زيادة!(١)

وبهذا يصحّ القول في نهي ابن مسعود - لو صحّ عنه - أن يكون اتّقاءً من درّة عمر وحفظاً لكيان الإسلام، إذ اشتهر عنه أنّه صلّى مع عثمان بمنى أربعاً رغم خلافه معه اتّقاءً للفتنة والشرّ.

فقيل له: ألم تحدّثنا أنّ النبيّ صلّى ركعتين، وأبا بكر صلّى ركعتين؟

قال: بلى، وأنا أحدّثكموه الآن، ولكنّ عثمان كان إماماً فما أُخالفه، والخلاف شرّ(٢) .

وجاء عن ابن عوف أنّه لقي ابن مسعود - يوم اعتراضه على عثمان وإتمامه الصلاة بمنى - فقال له ابن مسعود: الخلاف شرّ، قد بلغني أنّه [ أي عثمان ] صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً.

فقال ابن عوف: قد بلغني أنّه صلّى أربعاً، فصلّيت بأصحابي ركعتين، أمّا الآن فسوف يكون الأمر الذي تقول: يعني نصلّي معه أربعاً(٣) .

وعليه فقد استبان لك خطّة الصحابة في الصدر الأوّل، وأنّهم كانوا يريدون الحفاظ على كيان الإسلام رغم احتفاظهم بما يعتقدون به باطناً. وهذا الكلام لا ينافي ما ذهبنا إليه من كون ابن مسعود من دعاة التحديث والتدوين، ومن الذين رووا في فضائل أهل البيت، إذ عرفت أنّ الإنسان قد يكتم ما يعتقده ولا يبيح به مصلحةً أو خوفاً، وترى هذا واضحاً في سيرة ابن مسعود؛ فالنصوص المنقولة عنه في عليّ والزهراء والحسن والحسين، وكونه من السبعة الذين شهدوا دفن الزهراء والاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر غصبه الخلافة، وتقارب فقهه معهم، كلّها تخالف ما جاء في تعليل غالب كتّاب الشيعة في خصوص ابن مسعود.

____________________

(١) شرح العقيدة الطحاويّة، للقاضي الدمشقيّ ٢: ٥٣٢ كما في واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة: ١٠٦.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ٣: ١٤٤، ح ٥٢٢١، البداية والنهاية ٧: ٢١٨.

(٣) تاريخ الطبري ٢: ٦٠٦، أحداث سنة ٢٩ هـ، وانظر الكامل لابن الأثير ٣: ٤٩٤، البداية والنهاية ٧: ١٥٤.

٩٠

إذ الشخص الذي يعدّ من أهل البيت لكثرة دخوله وخروجه عليهم حتّى قالوا عنه: ما نراه إلاّ عبد آل محمّد، واعتقاده بلزوم الصلاة على آل محمّد في الصلاة، وغيرها، لا يتّفق مع ما علّل سابق. وعليه فيلزم حمل الخبر على ما قلناه سابقاً من التقيّة والمصلحة وما شابه ذلك.

وعليه، فإنّا لا ننكر الرأي السابع برمّته و إن كنّا لا نعتقد في الوقت نفسه بصحّته على نحو الإطلاق وانحصار السبب الأساسيّ فيه، وبهذا يكون السبب السابع حسب ما فصّلناه رأياً قريباً للصحّة وأنّه جزء العلّة لإتمامه.

والآن لنواصل البحث عن السبب الواقعيّ في منع الشيخين لتدوين حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولنتعرّف على سبب صرف الخلفاء الناسَ إلى القرآن، كما لوحظ في مرسلة ابن أبي مُليكة، وقول الخليفة أبي بكر: (بيننا وبينكم كتاب الله)(١) وقول عمر وعائشة: (حسبنا كتاب الله)(٢) و (ليس بعد كتاب الله شي) وغيرها.

كانت هذه مبرّرات ذكرها الشيخان وبعض الكتّاب، مستشرقين ومسلمين، شيعةً وسنّةً، قديماً وحديثاً، وإليك السبب الأخير عسى أن تقف فيه على الحلّ المطلوب.

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١: ٢ - ٣، حجّيّة السنّة: ٣٩٤.

(٢) أمّا كلام عمر فهو معروف مشهور قاله ورسول الله مسجّى على فراش المرض (انظر البخاري) كتاب العلم باب كتابة العلم، وكتاب الجهاد باب المغازي باب مرض النبيّ، وكتاب المرضى باب قول المريض (قوموا عنّي)، وكتاب الاعتصام باب كراهية الخلاف.

وانظر شروح البخاري كفتح الباري ١: ٢٠٩، إرشاد الساري ١: ١٦٩، عمدة القاري ١: ٥٧٥، وشرح النووي على مسلم ٢: ٩٠ - ٩٢، والمصنّف لعبد الرزاق ٥: ٤٣٨ و ٤٣٩، ح ٩٧٥٧، ومسند أحمد ١: ٣٣٤، ح ٢٩٩٢، ١: ٣٣٦، ح ٣١١١، ودلائل النبوّة للبيهقي ٧: ١٨١، ٢٨٣، وغيره. أمّا كلام عائشة فهو (حسبكم القرآن) وقد أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز ٢: ٧٧، ح ١٢٢٦، صحيح مسلم ٢: ٦٤٢، ح ٩٢٩، باب التشديد في النياحة.

٩١

٩٢

السبب الأخير

هو ما نذهب إليه

إنّ منع التحديث والكتابة والتدوين لا يمكن أن يأتي وليد ساعته، ولا أن يعزى لعامل واحد فقط، بل لا بدّ أن تتظافر فيه عدّة عوامل ومقدمات لتكوين وتعميم فكرة المنع، ويتلخّص ذلك بنظرنا في أربعة عوامل، وقد تكون أكثر، وهي:

العامل الأوّل: هو ما مر في السبب السابع لكن بمعنى منع انتشار تفسير وبيان الأحاديث الواردة في أهل البيت، والتي لها أبعاد تمسّ مدرسة الخلافة في الصميم، وأمّا نقل الفضائل لوحدها دون التوعية الكامنة فيها فهو غير مقصودٍ بدرجة كبيرة في منعهم العام الشامل للأحاديث، ويدخل في هذا الإطار منع نشر مثالب ونقائص كبار قريش والنهج الحاكم؛ إذ القرآن الكريم ورسول الله مدح أشخاصاً وذمّ آخرين.

فمنعوا تفسير الصحابة البياني للقرآن وشأن النزول في الأحكام(١) والفضائل والمثالب(٢) أو حدّوه بدعوى اختلاطه مع القرآن والتثبّت في النقل!!

____________________

(١) منها ما جاء في مصحف عائشة وحفصة وأم سلمة وقراءتهن للآية:( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) هكذا: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) وقرأ ابن عباس وأُبي بن كعب وابن مسعود وعلي بن أبي طالب (فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن إلى أجل مسمّى) وأمثالها.

(٢) منها ما جاء في الدر المنثور للسيوطي ٢: ٢٩٨ بسنده عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول الله:( يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك - أنّ علياً مولى المؤمنين -وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته ) ، أو ما جاء في تفسير:( إن جاءكم فاسق بنبأ ) أو( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) و( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ) و( والشجرة الملعونة في القرآن ) وغيرها.

٩٣

العامل الثاني: عدم إحاطة الحكّام بجميع الأحكام الشرعية، وهذا ممّا حدا بهم لأن يرسموا شيئاً فشيئاً منهجاً في الشريعة يختلف فيه معهم أناس كثيرون.

فالخلفاء كانوا أولاً يساءلون الصحابة ممّا لا يعرفونه من الأحكام التي جاءت في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، ويخضعون لإجاباتهم دون أي حرج ظاهر، لكن وبمرور الأيام اكتسبت هذه الإجابات صبغة التخظئة والمناقشة - حسبما ستقف عليه لاحقاً - فجاء عن عمر بن الخطاب أنّه قرأ: (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم باحسان) فرفع (الأنصار) ولم يلحق الواو في (الذين) فقال له زيد بن ثابت:( مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) فقال عمر: (الذين اتبعوهم بإحسان) فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأُبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال أُبي لعمر: إنّي والله لقد قرأتها على رسول الله( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) وإنك يومئذٍ تسكن ببقيع الغرقد، فقال عمر: حفظتم ونسينا، وتفرغتم وشغلنا، وشهدتم وغبنا...(١) .

وفي هذا المأزق كان المنع من التحديث والكتابة والتدوين خير سبيل لسد باب الاحتجاج والوقوف أمام الحرج؛ فلذلك راح الخلفاء يهدّدون ويسجنون المحدثين بعد أن كانوا يأمرون بالإقلال منه.

العامل الثالث: تجويز الخلفاء لأنفسهم - في مراحل متأخّرة - أن يكونوا شِبْهَ مصادر التشريع، حتى شرّعت سيرة الشيخين قسيماً للكتاب العزيز والسنّة المطهّرة أولاً، ثم تلتها تشريعات أخرى، كل ذلك لتثبيت الحاكمية التشريعية للخلفاء بجانب الحاكمية الحكومية، وما مقولة عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح (نعمة البدعة هي)(٢) .

____________________

(١) جامع البيان ١١: ٧، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٣: ٣٠٥، الدر المنثور ٣: ٢٦٩، والكشف والبيان للثعلبي ٥: ١٨٣، وفيه ذيل الخبر الذي نقلناه، وانظر المحتسب لابن جني ١: ٣٠٠، وستقف لاحقاً على تخطئات كثيرة من الصحابة لعمر بن الخطاب.

(٢) صحيح البخاري ٢: ٧٠٧، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان ح ١٩٠٦، صحيح ابن خزيمة ٢: ١٥٥، ح ١١٠٠، السنن الصغرى للبيهقي ١: ٤٨١، ح ٨٤٧، السنن الكبرى للبيهقي ٢: ٤٩٣، ح ٤٣٧٩.

٩٤

وعن المتعة (كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما)(١) وغيرها إلاّ أمثلة لهذه الحاكمية التشريعية والتي سمّوها من بعد اجتهاداً، رافعين بضبع الخلفاء إلى مستوى الرسول، في الوقت نفسه منزلين الرسول صلّى الله عليه وآله إلى مستوى المجتهد المفتي طبق الظن، وعمليتهم هذه دعت لغلق باب التحديث والكتابة والتدوين، و إلاّ لظهر اختلاف المفتى به من قبل الخليفة مع ما شرّع في السماء وبينه الرسول.

العامل الرابع: وهو عامل البيئة والمجتمع وتأثيرهما على الأفكار والثقافات، حيث إنّ المانعين نشأوا في بيئة ومجتمع لا يعيران الاهتمام للكتابة والتدوين، بقدر ما كان يركّز على الشعر وأيام العرب والمفاخرات وما شابهها، وقد كان هذا عاملاً آخر للمنع؛ إذ أنت تعلم أنّ تضخيم هذه الأمور بحكم الضرورة التاريخية يتقاطع مع الثقافة الإسلامية العامة.

مؤكّدين للقارئ بأنّا سنسلط الضوء على العاملين الثاني والثالث أكثر من الأخيرين؛ لأنّ الإشارة إلى التفسير البياني للصحابة وعامل البيئة والمجتمع يحتاجان إلى دراسة مستقلة، نتركها إلى حينها مكتفين بما سنذكره استطراداً ضمن العاملين السابقين.

و إليك الآن تفصيل رؤيتنا من خلال محورين:

المحور الأوّل

(نشوء فكرة الاجتهاد)

إذا وقف المطالع في تاريخ الإسلام على مواقف الصحابة في عصر الرسالة والتشريع، وجد أنّهم كانوا طائفتين، باعتبار التعامل مع النصوص الصادرة عن الرسول صلّى الله عليه وآله.

الطائفة الأُولى: انتهجت منهاج الطاعة والامتثال لمطلق الأحكام الصادرة عن الله ورسوله؛ وذلك لعدّة اعتبارات:

منها: قداسة تلك الأحكام، باعتبارها صادرة عن الواحد الأحد (عزّ وجلّ)، فضلاً عن قداسة النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله.

ومنها: وجوب طاعة المُشرِّع، وعدم جواز مخالفته؛ لقوله تعالى:( أطِيعُوا اللهَ

____________________

(١) شرح معاني الآثار ٢: ١٤٦، كتاب السنن لسعيد بن منصور ١: ٣٥٢، ح ٨٥٢، التمهيد لابن عبد البر ٨: ٣٥٥، ١٠: ١١٣، ٢٣: ٣٦٥، المحلّى ٧: ١٠٧، تذكرة الحفّاظ ١: ٣٦٦، أحكام القرآن للجصاص ٢: ١٥٢.

٩٥

وَرَسوُلَهُ ) (١) ، وقوله:( ومَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ويَخْشَ اللهَ ويَتّقهِ فأولئك هُمُ الفائِزون ) (٢) ، وقوله:( ومَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهاكُمْ عُنْهُ فانْتَهُوا ) (٣) ، وقوله:( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمّ لا يَجِدُوا في أنفسِهم حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً ) (٤) ، وقوله:( إنّما كانَ قول المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيْحكُم بينهم أن يَقولوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأولئكَ هُمُ المُفْلِحون ) (٥) ، وقوله:( وما كان لِمُؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسُولُه أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الِخيَرةُ من أمْرِهِم ومَن يَعْصِ اللهَ ورسُولَه فقد ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً ) (٦) وغيرها.

ومنها: أنّه لا مجال للعمل بآراء شخصيّة لتنظيم سلوك الفرد والمجتمع؛ وذلك لتكامل الشريعة وبيان جميع الأحكام في القرآن، فلا حاجة ولا نقصان يحتاج معه إلى المكمّل للشريعة، بل هي كاملة تامّة بنفسها، قال تعالى:( وَنَزَّلنا عَليكَ الكِتابَ تِبياناً لكُلِّ شَيء ) (٧) .

فصارت سمة هذه الطائفة تعبُّدها بالنصوص الصادرة عن الرسول صلّى الله عليه وآله، وليس للرأي عندهم في مقابل ذلكم البيان الإلهيّ أيّ اعتبار، مع ملاحظة إمكان وقوع الخطأ والسهو والنسيان منهم؛ لعدم عصمة بعضهم!! وستقف على مصاديق ومواقف لهذه الطائفة لاحقاً.

والطائفة الثانية: هم الذين كانوا يتعاملون مع النبيّ كأنّه بشر غير كامل يصيب ويخطئ، ويَسبُّ ويَلعن، ثمّ يَطْلُبُ المغفرة لأولئك(٨) . وهؤلاء هم الذين لم يعطوا

____________________

(١) الأنفال: ٢٠، ٤٦.

(٢) النور: ٥٢.

(٣) الحشر: ٧.

(٤) النساء: ٦٥.

(٥) النور: ٥١.

(٦) الأحزاب: ٣٦.

(٧) النحل: ٨٩.

(٨) انظر صحيح البخاري ٥: ٢٣٣٩، ح ٦٠٠٠، باب قول النبي صلّى الله عليه وآله مَن آذيته فاجعله له، وصحيح مسلم

=

٩٦

للرسول القدسيّة والمكانة التي أعطاها الله إيّاه، ولم يتعاملوا معه كما أمر الله، وهذه حقيقة دلّ عليها القرآن والأثر:

أمّا القرآن ففيه آيات عديدة:

منها: قوله تعالى:( يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهَروا له بالقول كجَهْرِ بعضكم لبعض أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون ) (١) .

فالآية تشير إلى انعدام قدسيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله عند بعض الصحابة، مع تأكيده سبحانه وتعالى على لزوم مراعاة مكانته صلّى الله عليه وآله.

ومنه: قوله تعالى:( يا أيّها الذين آمنوا ما لَكُم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض... ) (٢) .

وهي تدلّ على عدم الطاعة والامتثال كما تدلّ على التثاقل عن الجهاد عند البعض.

ومنه: قوله تعالى:( إنّ الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه لَعَنهم الله... ) (٣) ، وقوله:( ومنهم الذين يؤذون النبيّ ) (٤) ، وهي صريحة في أنّ البعض من الصحابة كانوا يؤذون الرسول صلّى الله عليه وآله.

ومنها قوله:( ألَمْ ترَ إلى الذين نُهوا عن النجوى ثمّ يعودون لما نُهوا عنه ويتناجَون بالإثمّ والعُدوان ومعصيةِ الرسول وإذا جاءَوك حَيَّوك بما لم يُحَيِّك بهِ الله... ) (٥) .

كلّ هذه النصوص القرآنيّة وعشرات أمثالها تدلّ على وجود رجال من بين

____________________

=

٤: ٢٠٠٧، ح ٢٦٠٠ باب مَن لعنه النبي و ٢٠٠٨، ح ٢٦٠١ و ٢٠٠٠٩، ح ٢٦٠٢، ومسند أحمد ٢: ٣٩٠، ح ٩٠٦٢ و ٤٨٨، ح ١٠٣٤١ و ٣: ٤٠٠، ح ١٥٣٢٩، سنن الدارمي ٢: ٤٠٦، ح ٢٧٦٥.

(١) الحجرات: ٢.

(٢) التوبة: ٣٨.

(٣) الأحزاب: ٥٧.

(٤) التوبة: ٦١.

(٥) المجادلة: ٨.

٩٧

الصحابة لا يدركون حقيقة النبوّة وما للنبيّ من مكانة في التشريع الإسلاميّ، فتراهم يرفعون أصواتهم على صوت النبيّ صلّى الله عليه وآله(١) ويتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله(٢) ويعترضون على رسول الله في أعماله(٣) ، ويتّبعون ما تمليه عليهم المصلحة التي يتخيّلونها مع وجود النصّ(٤) ، ويفتون بالرأي وهم بحضرته(٥) . وبعض هؤلاء كانوا من الذين يطلبون من رسول الله أن يُغيّر بعض الأحكام تبعاً للمصالح، وهو يقول:( ما يكون لي أن أُبدِّله من تِلقاء نفسي إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحى إليّ ) (٦) ، وسبحانه يؤكّد عليه صلّى الله عليه وآله في أكثر من سورة بمثل قوله تعالى:( ثمّ جعلناكَ على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعْها ولا تَتّبع أهواءَ الذين لا يَعْلَمون ) (٧) . وهؤلاء الصحابة لم يقتصروا على المنافقين ومن أرادوا المصالح من المؤلّفة قلوبهم، بل إنّ الحقائق التاريخيّة وكتب تراجم الصحابة تدلّنا بوضوح على أنّ عدداً آخر منهم كانوا يحملون أفكاراً مغلوطة في التعامل مع نصوص الله. ومع أقوال وأفعال النبيّ صلّى الله عليه وآله خصوصاً، كان ذلك لما يحملون من رواسب وقناعات عرفيّة يؤمنون معها بأنّ النبيّ ما هو إلاّ رجل قائد مجرّب يمكن أن يخطئ ويصيب، فكانوا يعترضون عليه اعتراضات لا توجّه إلاّ لرجل عاديّ، مع أنّ الله سبحانه والسنّة النبويّة نفسها ردعت عن مثل هذه الأفكار.

فقد ثبتت نصوص كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في هذا السياق:

منها قوله صلّى الله عليه وآله لبعض أصحابه: ما لكم تضربون كتاب الله بعضَه ببعض؟! بهذا هلك مَن كان قبلكم(٨) ، وقوله في حديث آخر:أيُتلعَّب بكتاب الله وأنا بين

____________________

(١) انظر صحيح البخاري ٤: ١٨٣٣، باب لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، فتح الباري ٨: ٥٩٠، تفسير القرطبي ١٦: ٣٠٣، تفسير ابن كثير ٤: ٢٠٦، تفسير الطبري ٢٦: ١١٧ - ١١٩.

(٢) انظر تفسير ابن كثير ٢: ٣٥٨، تفسير الطبري ١٠: ١٣٣ - ١٣٤، تفسير البغوي ٢: ٢٩٢.

(٣) صحيح البخاري ٣: ١٣٢١، ح ٣٤١٤، الإحكام لابن حزم ١: ٨٩.

(٤) انظر صحيح مسلم ٢: ٨٩٦، ح ١٢٢٢، مسند أحمد ١: ٥٠، ح ٣٥١.

(٥) سبل الهدى والرشاد ٥: ٥٣، وانظر الأحاديث المختارة ١: ٣٢٥، المعجم الكبير ١: ٧٢ و ٦: ٨٨.

(٦) يونس: ١٥.

(٧) الجاثية: ١٧.

(٨) مسند أحمد ٢: ١٧٨، ح ٦٦٦٨ و ١٨٥، ح ٦٧٤١ و ٢: ١٩٥، ح ٦٨٤٥، فتح الباري ٩: ١٠٠ - ١٠١،

=

٩٨

أظهركم؟! (١)

وفي ثالث:أبهذا أمرتم؟ أوبهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنّما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم ممّا هاهنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا (٢) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي كرّسها النبيّ صلّى الله عليه وآله لإِبطال ذلك الفهم وإبداله بفهم آخر للنبيّ وعصمته؛ لأنّ المجتمع آنذاك كان لا ينظر النظرة الواقعيّة للنبيّ، بل يعتبره شخصاً عاديّاً يخطئ ويصيب و يسهو وينسى و... فلذلك اعتُرض على النبيّ صلّى الله عليه وآله في أكثر من واقعة وحادثة، كما وقع ذلك الاعتراض حول الصلاة على المنافق، وحول صلح الحديبيّة وغيرهما ممّا فعله النبيّ صلّى الله عليه وآله وبيَّن لهم الصحيح المُنزل من الله سبحانه وتعالى.

والدراسة الوافية لهذه الحالة قادَتْنا إلى أن نصرّح بحقيقة مرّة مفادها: أنّ الكثير من سالكي هذا المسلك لم يرتدعوا ولم ينقادوا لما وُضِّح لهم، بل سعوا وجدّوا في ترسيخ فكرتهم بعد رسول الله، ناسين أو متناسين وصايا الشارع المقدّس.

فمع بداهة عصمة دم مَن شهد الشهادتين، وتأكيد النبيّ صلّى الله عليه وآله على هذا في بدء الإسلام، نرى أُسامة بن زيد يقتل مرداس بن نهيك حين أغارت السريّة على قوم فيهم مرداس، وكان قد أسلم فلم يهرب من السريّة، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبَّر ونزل، وقال: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أُسامة بن زيد وساق غنمه، فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وآله فوجد وجداً شديداً، وقال:قتلتموه إرادة ما معه؟! ثمّ قرأ الآية:( ولا تقولوا لمَن ألقى إليكم السلام

____________________

=

المعجم الأوسط ٢: ٧٩ ح ١٣٠٨، و ٣: ٢٢٧، ح ٧: ١٢٤ ٢٩٩٥، ح ٧٠٥٢.

(١) سنن النسائي (المجتبى) ٦: ١٤٢، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليط، ح ٣٤٠١، ورواة الحديث ثقات كما نص عليه ابن حجر في فتح الباري ٩: ٣٦٢، المبدع ٧: ٢٦٢.

(٢) مسند أحمد ٢: ١٩٥، ح ٦٨٤٥، السنة لابن أبي عاصم ١٧٧: ١، ح ٤٠٦، اعتقاد أهل السنة ٦٢٧: ٤، ح ١١١٩، المعجم الأوسط ٧٩: ٢، ح ١٣٠٨.

٩٩

لستَ مؤمناً ) (١) .

وأصرح من ذلك ما فعله خالد بن الوليد ببني جذيمة، قال الطبري في أحداث السنة الثامنة من الهجرة:

وفي هذه السنة كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد بعث السرايا بعد الفتح فيما حول مكّة يدعون الناس إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان ممّا بعث خالد بن الوليد، بعثه داعياً ولم يبعثه مقاتلاً... فلمّا نزل خالد ذلك الماء أخذ بنو جذيمة السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإنّ الناس قد أسلموا، فوضعوا السلاح، فأمر خالد بهم فكُتّفوا، ثمّ عرضهم على السيف فقتل منهم من قَتَل، فلمّا انتهى الخبر إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله رفع يديه إلى السماء ثمّ قال:(اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد) ثمّ أرسل عليّاً ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم، فوَدى لهم الدماء والأموال...(٢)

واستمرّ هذا النهج، وظلّت تلك العقليّة تتحكّم وتؤثّر في الأحداث والأمور حتّى في زمن الشيخين، قال ابن حجر: وكان فيه [ أي في خالد ] تقدّم على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها أبو بكر(٣) .

ولم يكن أُسامة وخالد قد انفردا بهذا المسار، بل كان ذلك مساراً ومنهجاً عند الكثير من الصحابة الذين كانوا يرتجلون المواقف والآراء، ويعملون بها في زمان النبيّ صلّى الله عليه وآله خلافاً لكتاب الله وسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكانت نسبة المرتئين المجتهدين عند المهاجرين أكثر بكثرة ساحقة ممّا هي عليه عند الأنصار الذين سارت أغلبيّتهم الغالبة وفق نهج التعبّد المحض.

فهؤلاء الأنماط من الصحابة كانوا هم البذور الأوّليّة للاجتهاد والرأي، كما أصبحوا لاحقاً حجر الأساس في منع التحديث والكتابة والتدوين.

____________________

(١) النساء: ٩٤، القصة في تفسير أبي السعود ٢: ٢١٩، وانظر في تفسير الطبري ٢: ٢٢٤، وتفسير الفخر الرازي ١١: ٣، وتفسير الكشاف ١: ٥٥٢، وتفسير ابن كثير ١: ٨٥١ - ٨٥٢.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٢: ١٦٤، البداية والنهاية ٤: ٣١٣ - ٣٤١، ٦: ٣٢٣، المنتظم لابن الجوزي ٣: ٣٣١.

(٣) الإصابة ٢: ٢٥٥، ترجمة خالد بن الوليد الرقم ٢٢٠٣.

١٠٠