اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130008 / تحميل: 9611
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ودخل عدي بن حاتم بعد مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام على معاوية ، فسأله معاوية عما أبقى الدهر من حب علي. قال عدي : كله. وإذا ذكر ازداد.

قال معاوية : ما أريد بذلك إلا إخلاق ذكره.

فقال عدي : « قلوبنا ليست بيدك يامعاوية »(1) .

واجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، والمغيرة ، وغيرهم ، فقالوا له : « إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدِّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعه إلى ماهو أعظم ثم طلبوا منه إحضاره للحط منه الخ »(2) . والشواهد على ذلك كثيرة

وقد بدأت بوادر نجاح هذه السياسة تجاه أهل البيت تظهر في وقت مبكر ، ويكفي أن نشير إلى ما تقدم من أن عمر يسأل عمن يقول الناس : إنه يتولى الأمر بعده ، فلا يسمع ذكراً لعليعليه‌السلام .

هـ : عقائد جاهلية وغريبة :

ثم يأتي دور الاستفادة من بعض العقائد الجاهلية ، أو العقائد الموجودة لدى أهل الكتاب ، وذلك من أجل تكريس الحكم لصالح أولئك المستأثرين ، والقضاء على مختلف عوامل ومصادر المناوأة والمنازعة لهم. هذه العقائد التي قاومها الأئمة بكل ما لديهم من قوة وحول

__________________

1 ـ الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 134.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 285 والاحتجاج ج 1 ص 402 والبحار ج 44 ص 70 والغدير ج 2 ص 133 عن المعتزلي وعن المفاخرات للزبير بن بكار ، وعن جمهرة الخطب ج 2 ص 12. ونقل عن شرح النهج للآملي ج 18 ص 288 وعن أعيان الشيعة ج 4 ص 67.

٨١

ونذكر من هذه العقائد على سبيل المثال :

تركيز الاعتقاد بلزوم الخضوع للحاكم ، مهما كان ظالماً ومتجبراً وعاتباً ـ وهي عقيدة مأخوذة من النصارى ، حسب نص الإنجيل(1) ـ وقد وضعوا الأحاديث الكثيرة على لسان النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لتأييد ما يرمون إليه في هذا المجال(2) وقد أصبح ذلك من عقائدهم(3) .

ومن قبيل الإصرار على عقيدة الجبر ، التي هي من بقايا عقائد المشركين ، وأهل الكتاب(4) . الأمر الذي يعني : أن كل تحرك ضد حكام الجور لا يجدي

__________________

1 ـ راجع رسالة بولس إلى أهل رومية ، وراجع الهدى إلى دين المصطفى ج 2 ص 316.

2 ـ راجع : سنن البيهقي ج 8 ص 157 و 159 و 164 و ج 4 ص 115 و ج 6 ص 310. وصحيح مسلم ج 6 ص 17 و 20 ج 2 ص 119 و 122 وكنز العمال ج 5 ص 465 و ج 3 ص 168 و 167 و 170 والعقد الفريد ج 1 ص 8 و 9 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 329 ـ 335 و 339 ـ 344 ولباب الآداب ص 260 والدر المثور ج 2 ص 177 و178 و 176 ومقدمة ابن خلدون ص 194 والإسرائيليات في التفسير والحديث ، ونظرية الإمامة ص 417 وقبلها وبعدها ، وتاريخ بغداد ج 5 ص 274 وطبقات الحنابلة ج 3 ص 58 و ص 56 ، والإبانة للأشعري ص 9 ومقالات الإسلاميين ج 1 ص 323 ومسند أحمد ج 2 ص 28 و ج 4 ص 382 / 383 البداية والنهاية ج 4 ص 249 و 226 ومجمع الزوائد ج 5 ص 229 و 224 وحياة الصحابة ج 2 ص 68 و 69 و 72 و ج 1 ص 12 والإصابة ج 2 ص 296 والكنى والألقاب ج 1 ص 167 والاذكياء ص 142 و الغدير ج 7 ص 136 حتى ص 146 و ج 6 ص 117 و 128 و ج 9 ص 393 و ج 10 ص 46 و 302 و ج 8 ص 256 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 513 و 290 والسنة قبل التدوين ص 467 ونهاية الإرب ج 6 ص 12 و 13 ولسان الميزان ج 3 ص 387 و ج 6 ص 226 عن أبي الدرداء رفعه : « صلوا خلف كل إمام ، وقاتلوا مع كل أمير » وراجع : المجروحون لابن حبان ج 2 ص 102.

3 ـ راجع كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضا (ع) ص 312 متناً وهامشاً.

4 ـ راجع : الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 166 وجامع بيان العلم ج 2 ص 148 و 149 و 150 وضحى الإسلام ج 3 ص 81 زشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 340 و ج 12 ص 78 / 79 وقاموس الرجال ج 6 ص 36 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 183 والغدير ج 9 ص 34 و 95 و 192 و ج 5 ص 365 و ج 10 ص 333 و 245 و 249 و ج 7 ص 147 و 154 و 158 و ج 8 ص132 والإخبار الدخيلة ( المستدرك )

=

٨٢

ولا ينفع ، ما دام الإنسان مجبراً على كل حركة ، ومسيراً في كل موقف

ثم هناك عقيدة : أنه لا تضر مع الإيمان معصية. وأن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وإن أعلن الكفر

قالوا : « الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الأوثان ، أو لزم اليهودية ، أو النصرانية في دار الإسلام ، وعبد الصليب ، وأعلن

__________________

=

ج 1 ص 193 و 197 ومقارنة الإديان ( اليهودية ) ص 271 و 249 وأنيس الأعلام ج 1 ص 279 و 257 والتوحيد وإثبات صفات الرب ص 82 و 80 و 81 ومقدمة ابن خلدون ص 143 و 144 والإغاني ج 3 ص 76 ، وتأويل مختلف الحديث ص 35 والعقد الفريد ج 1 ص 206 و ج 2 ص 112 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج 2 ص 445 وبحوث مع أهل السنة والسلفية من ص 43 حتى 49 عن العديد من المصادر ، والمغزي للواقدي ص 904 وربيع الأبرار ج 1 ص 821 والموطأ ج 3 ص 92 و 93 وطبقات ابن سعد ج 7 ص 417 و ج 5 ص 148 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 265 و 83 /84 ومصابيح السنة للبغوي ج 2 ص 67 ومناقب الشافعي ج 1 ص 17 والبخاري ج 8 ص 208 وفي خطط المقريزي ج 3 ص 297 : إن جهماً انفرد بالقول بجواز الخروج عل السلطان الجائر وحياة الصحابة ج 2 ص 12 و 95 و 94 و 330 و ج 3 ص 229 و 487 و 492 و 501 و 529 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 3 ص 138 / 139 و ج 8 ص 208 و ج 1 ص 86. وصحيح مسلم ج 2 ص 86 وأبي داود ج 2 ص 16 والترمذي ج 1 ص 202 وابن ماجة ج 1 ص 209 وسنن البيهقي ج 9 ص 50 و ج 6 ص 349 ومسند أحمد ج 5 ص 245 ومجمع الزوائد ج 6 ص 3 و ج 1 ص 135 والطبري في تاريخه مقتل برير و ج 4 ص 124 و ج 3 ص 281 والبداية والنهاية ج 7 ص 79. انتهى.

والمعتزلة ص 7 و 87 و 39 / 40 و 91 و 201 و 265 عن المصادر التالية : المنية والأمل ص 12 وعن الخطط ج 4 ص 181 / 182 و 186 والملل والنحل ج 1 ص 97 / 98 والعقائد النسفية ص 85 ووفيات الأعيان ص 494 والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 3 ص 45 عن الطبري ج 6 ص 33 و ج 3 ص 207 وعن الترمذي ص 508 في رسالة عمر بن عبد العزيز

والتصريح بذلك في الكتب الكلامية ، وكتب فرق أهل السنة ، لا يكاد يحصى كثرة. وكنت قد جمعت فيما مضى قسماً كبيراً من كلمات التوراة وغيرها حول هذا الموضوع ، أسأل الله التوفيق لإتمامه.

٨٣

التثليث ، في دار الإسلام ، ومات على ذلك »(1) .

وهذه العقيدة ، وإن كانت هي عقيدة المرجئة ، إلا أنها كانت عامة في الناس آنئذٍ ، حيث لم يكن المذهب العقائدي لأهل السنة قد غلب وشاع بعد.

ومعنى هذا هو أن الحكام مؤمنون مهما ارتكبوا من جرائم وعظائم.

بل إنهم ليقولون : إن يزيد بن عبد الملك أراد أن بسيرة عمر عمر بن عبد العزيز ، فشهد له أربعون شيخاً : أن ليس على الخليفة حساب ولا عذاب(2) .

وحينما دعا الوليد الحجاج ليشرب النبيذ معه ، قال له : « يا أمير المؤمنين ، الحلال ما حللت »(3) .

بل إننا لنجد الحجاج نفسه يدَّعي نزول الوحي عليه ، وأنه لا يعمل إلا بوحي من الله تعالى(4) كما يدعي نزول الوحي على الخليفة أيضاً(5)

و : قدسية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هذا كله فضلاً عن سياستهم القاضية بتقليص نسبة الاحترام والتقديس للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتفضيل الخليفة عليه بل وسلب معنى العصنة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى لقد قالت قريش ـ في حياة الرسول ـ في محاولة منها لمنع عبد الله بن عمرو بن العاص من كتابه أقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه بشر يرضى

__________________

1 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 204.

2 ـ البداية والنهاية ج 9 ص 232 وراجع : تاريخ الخلفاء ص 246 وراجع ص 223.

3 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 70.

4 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 73 وراجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 ص 115.

5 ـ تهذيب تاريخ دمشق ج 4 ص 72.

٨٤

ويغضب(1)

بل لقد حاولوا المنع من التسمية باسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نجحوا في ذلك بعض الشيء(2)

كما أن معاوية يتأسف ، لأنه يرى : أن اسم النبي المبارك يذكر في الاذان ويُقْسِم على دفن هذا الاسم(3)

إلى غير ذلك من الوقائع الكثير جداً وقد ذكرنا شطراً منها في تمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أراده فليراجعه.

ولعل ذلك قد كان يهدف إلى فسح المجال للمخالفات ، التي كان يمكن أن تصدر عن الحكام ، والتقليل من شأن وأثر وأهمية ما كان يصدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أقوال ومواقف سلبية تجاه بعض أركان الهيئة الحاكمة ، أو من تؤهلهم لتولي الأمور الجليلة في المستقبل ، ثم التقليل من شأن مواقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإيجابية تجاه خصوم الهيئة الحاكمة ، أو من ترى فيهم منافسين لها.

ز : تولية المفضول :

ويدخل أيضاً في خيوط هذه السياسة : القول بجواز تولية المفضول مع

__________________

1 ـ راجع : سنن الدرامي ج 1 ص 125 وجامع بيان العلم ج 1 ص 85 وليراجع ج 2 ص 62 و 63 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 104 / 105 وتلخيصه للذهبي بهامشه وليراجع أيضاً سنن أبي داود ج 3 /318 والزهد والرقائق ص 315 والغدير ج 11 ص 91 و ج 6 ص 308 و 309 والمصنف لعبد الرزاق ج 7 ص 34 و 35 و ج 11 ص 237 وإحياء علوم الدين ج 3 ص 171 وتمهيد كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى عليه وآله وسلم وغير ذلك كثير.

2 ـ الغدير ج 6 ص 309 عن عمدة القاري ج 7 ص 143 والجزء الأول من كتابنا : الصحيح في سيرة النبي (ص).

3 ـ الموفقيات ص 577 ومروج الذهب ج 3 ص 454 وشرح النهج للمعتزلي ج 5 ص 129 و 130 وقاموس الرجال ج 9 ص 20.

٨٥

وجود الفضل ، كما هو رأي أبي بكر(1) الذي صار أيضاً رأي المعتزلة فيما بعد وذلك عندما فشلت محاولاتهم التي ترمي لرفع شأن الخلفاء ، الذين ابتزوا علياً حقه في أن فشلت محاولاتهم في الحط من عليّ(2) ، ووضع الأحاديث الباطلة في ذمه والعمل على جعل الناس ينسون فضائله وكراماته حيث لم يجدهم كل ما وضعوه واختلقوه في هذا السبيل شيئاً ولا أفاد قتيلاً

ح : سياسة التجهيل :

وهناك سياسة التجهيل التي كانت تتعرض لها الأمة من قبل الحكام ، ولا سيما أهل الشام ويكفي أن نذكر : أن البعض « قال لرجل من أهل الشام ـ من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم ـ : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الأمام على المنبر؟! فقال : أراه لصاً من لصوص الفتن »(3) !!

وفي صفين يسأل هاشم المرقال بعض مقاتلي أهل الشام : عن السبب الذي دعاه للمشاركة في تلك الحرب ، فيعلل ذلك بأنهم أخبروه : أن علياًعليه‌السلام لايصلي(4) .

__________________

1 ـ الغدير ج 7 ص 131 عن السيرة الحلبية ج 3 ص 386. ونقل أيضاً عن الباقلاني في التمهيد ص 195 إشارة إلى ذلك..

2 ـ راجع على سبيل المثال : الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59.

3 ـ مروج الذهب ج 3 ص 38.

4 ـ تاريخ الطبري ج 4 ص 30 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 313 والفتوح لابن اعثم ج 3 ص 196 وصفين ليصر بن مزاحم ص 354 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 36 والغدير ج 10 ص 122 و 290 عن أكثر من تقدم. وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج 2 ص 184 وترجمة الإمام عليعليه‌السلام لابن عساكر بتحقيق المحمودي ج 3 ص 99 ونقله المحمودي عن ابن عساكر ج 38 حديث رقم 1139. وراجع : المعيار والموازنة ص 160.

٨٦

وبلغ معاوية : أن قوماً من أهل الشام يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : « إنك بعثت إلي قوماً أفسدوا مصرهم وانغلوه ، ولا آمن أن يفسدوا طاعة من قِبَلي ، ويعلموهم ما لا يحسنونه ، حتى تعود سلامتهم غائلة »(1) .

قال ابن الاسكافي : « فبلغ من عنايتهم في هذا الباب : أن أخذوا معلميهم بتعليم الصبيان في الكتاتيب، لينشئوا عليه صغيرهم ، ولا يخرج من قلب كبيرهم. وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها بينهم. ويكتب لهم مبتدأ الأئمة : أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، ومعاوية بن أبي سفيان. حتى ان أكثر العامة منهم ما يعرف علي بن أبي طالب ولا نسبه ، ولا يجري على لسان أحد منهم ذكره.

ومما يؤكد هذا ما يؤثر عن محمد بن الحنفية يوم الجمل ، قال : حملت على رجل فلما غشيته برمحي قال : أنا على دين عمر بن أبي طالب وقال : فعلمت أنه يريد علياً فأمسكت عنه(2) .

وجاء حمصي إلى عثمان بنصيحة ، وهي : « لا تكل المؤمن إلى إيمانه ، حتىتعطيه من المال ما يصلحه. أو قال : ما يعيشه ـ ولا تكل ذا الأمانة إلى أمانته حتى تطالعه في عملك ، ولا ترسل السقيم إلى البرئ ليبرئه ، فإن الله يبرئ السقيم ، وقد يسقم البرئ. قال : ما أردت إلا الخير ـ قال : فردهم ، وهم زيد بن صوحان ، وأصحابه »(3) .

وقدمنا : أنه قد حلف للسفاح جماعة من قواد أهل الشام ، وأهل الرياسة والنعم فيها : أنهم ما كانوا يعرفون أهل البيت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرثونه غير بني أمية

__________________

1 ـ أنساب الأشراف ج 5 ص 43 ، والغدير ج 9 ص 32. وليراجع البداية والنهاية ج 7 ص 165.

2 ـ المعيار والموازنة ص 19.

3 ـ المصنف ج 11ص 334.

٨٧

بل إن أهل الشام يقبلون من معاوية أن يصلي بهم ـ حين مسيرهم إلى صفين ـ صلاة الجمعة في يوم الأربعاء ، كما قيل(1) .

وفي وصية معاوية ليزيد : « وانظر أهل الشام ، وليكونوا بطانتك ، فإن رابك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم : فاردد أهل الشام إلى بلادهم ، فإنهم إن أقاموا بها تغيرت أخلاقهم »(2) .

وحينما وقف أبو ذر في وجه طغيان معاوية ، وأثرته ، وانحرافاته ، في الشام ، قال حبيب بن مسلمة لمعاوية : « إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام ، فتدارك أهله ، إن كان لك فيه حاجة(3) .

وحسب نص آخر : « إن أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله : كيت وكيت. فكتب معاوية إلى عثمان بذلك. فكتب عثمان : أخرجه إلي. فلما صار إلى المدينة ، نفاه إلى الربذة »(4) .

وحينما جاء المصريون إلى المدينة يسألون عمر عن سبب عدم العمل ببعض الأحكام القرآنية ، أجابهم بقوله : « ثكلت عمر أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ، وقد علم ربنا : أن سيكون لنا سيئات؟ ، وتلا :( إن تجتنبوا كبائِر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلاً كريماً ) هل علم أهل المدينة فيما قدمتم؟! قالوا : لا. قال لو علموا لوعظت بكم ».

قال لهم هذا بعد أن أخذ منهم اعترافاً بأنهم لم يحصوا القرآن لا بالبصر ، ولا في اللفظ ، ولا في الأثر(5) .

وبعد كلام جرى بين معاوية ، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة ، قال لها

__________________

1 ـ مروج الذهب ج 3 ص 32 والغدير ج 10 ص 196 عنه.

2 ـ الفخري في الآداب السلطانية ص 112 والعقد الفريد ج 3 ص 373 مع تفاوت يسير.

3 ـ الغدير ج 8 ص 304 عن ابن أبي الحديد.

4 ـ الأمالي للشيخ المفيد ص 122.

5 ـ حياة الصحابة ج 3 ص 260 عن كنز العمال ج 1 ص 228 عن ابن جرير.

٨٨

معاوية : « هيهات يا أهل العراق ، نبهكم علي بن أبي طالب ، فلن تطاقوا ، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم ، وإنصافها »(1) .

والعجيب في الأمر هنا : أننا نجد عمر بن الخطاب يصر على الهمدانيين ـ إصراراً عجيباً ـ أن لا يذهبوا إلى الشام ، وإنما إلى العراق(2) !!

ونظير ذلك أيضاً قد جرى لقبيلة بجيلة ، فراجع(3) .

وقال عبد الملك بن مروان لولده سليمان ، حينما أخبره : أنه أراد أن يكتب سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه ، ورأى ما للأنصارمن المقام المحمود في العقبتين ، قال له : « وما حاجتك أن تُقدِم بكتاب ليس لنا فيه فضل ، تعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟! » ، فأخبره بتخريقه ما كان نسخه فصوب رأيه(4) .

وحينما طلب البعض من معاوية : أن يكف عن لعن عليعليه‌السلام ، قال : « لا والله ، حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر ذاكر له فضلاً »(5) .

وحينما أرسل عليعليه‌السلام إلى معاوية كتاباً فيه :

محمـد النبـي أخـي وصهـري

وحمـزة سيـد الشهـداء عمّـي

الأبيات

__________________

1 ـ العقد الفريد ج 2 ص 112 وبلاغات النساء ص 104 ط دار النهضة وليراجع صبح الأعشى أيضاً.

2 ـ المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 50.

3 ـ راجع : الكامل في التاريخ ج 2 ص 441.

4 ـ أخبار الموفقيات ص 332 ـ 334 وليراجع الأغاني ط ساسي ج 19 ص 59 في قضية أخرى.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 4 ص 57 والإمام الحسن بن عليعليه‌السلام لآل يس ص125 ، والنصائح الكافية ص 72.

٨٩

« قال معاوية : أخفوا هذا الكتاب ، لا يقرأه أهل الشام : فيميلون إلى علي بن أبي طالب »(1) .

وليراجع كلام المدائني في هذا المجال ، فإنه مهم أيضاً(2) .

عليُّ عليه‌السلام يبثّ العلم والإيمان :

ولكن أمير المؤمنينعليه‌السلام قد حاول بكل ما أوتي من قوة وحول : أن يبث المعارف الإسلامية في الناس ، وينقذهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، حتى لقد قال ـ كما سيأتي ـ : « وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على معالم الحلال والحرام ». هذاً فضلاً عن التوعية السياسية ، التي كان هو ووُلْدُه الأماجد يتمون في بثها وتركيزها.

ط : موقفهم من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ثم هناك التدبير الذكي والدقيق ، الذي كان من شأنه أن يحرم الأمة من الإطلاع على كثير من توجيهات ، وأقوال ، وقرارات ، ومواقف الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتمثلة في المنع عن رواية الحديث النبوي مطلقاً ، أو ببينة ، والضرب ، ثم الحبس ، بل والتهديد بالقتل على ذلك.

المنع عن كتابته والاحتفاظ به ،

ثم إحراق ما كتبه الصحابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

__________________

1 ـ البداية والنهاية ج 8 ص 8 و9.

2 ـ النصائح الكافية ص 72 / 73 /74.

3 ـ راجع في ذلك كله وحول كل ما يشير إلى التحديد والتقليل في رواية الحديث : المصادر التالية : جامع بيان العلم ج 1 ص 42 و 65 و 77 و ج 2 ص 173 و 174 و 135 و 203 و 147 و 159 و 141 و 148 والمصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 258 و 262 و 325 و 377 و ج 10 ص 381 وهوامش الصفحات عن مصادر كثيرة ، والسنة

٩٠

..................................................................................

____________

=

قبل التدوين ص 97 / 98 و 91 و 103 و 113 و 92 و 104 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 5 و 7 و 6 و 8 و 3 / 4 وشرف أصحاب الحديث ص 88 و 89 و 91 و 92 و 87 و 93 وتاريخ الطبري ج 3 ص 273 وكنز العمال ج 5 ص 406 عن التيهقي و ج 10 ص 179 و 174 و 180 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وتأويل مختلف الحديث ص 48 والتراتيب الإدارية ج 2 ص 248 و 427 حتى 432 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 2 و ج 4 قسم 1 ص 13 ـ 14 و ج 3 قسم 1 ص 306 و ج 5 ص 140 و 70 و 173 ، و ج 2 قسم 2 ص 274 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 61 وأضواء على السنة المحمدية ص 47 و54 و 55 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 64 و 61 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 2 ص 196 وحياة الصحابة ج 2 ص 82 و 569 و 570 و ج 3 ص 257 و 258 و 259 و 272 و 273 و 252 و 630 عن مصادر عديدة ، والبداية والنهاية ج 8 ص 106 و 107 وتقييد العلم ص 50 و 51 و 52 و 53 ومستدرك الحاكم ج 1 ص 102 و 110 وتاريخ الخلفاء ص 138 عن السلفي في الطيورات بسند صحيح ، ومسكل الآثار ج 1 ص 499 حتى 501 ومسند أحمد ص 157 و ج 4 ص 370 و 99 و ج 3 ص 19 والدر المنثور ج 4 ص 159 ووفاء الوفاء ج 1 ص 488 و 483 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 6 ص 114 وحلية الأولياء ج 1 ص 160 ومآثر الإناقة. وراجع أيضاً : تاريخ الخلفاء ص 138 والمجروحون ج 1 ص 35 / 36.

ونقل أيضاً في الغدير ج 6 ص 294 حتى 302 و 265 و 263 و 158 و ج 10 ص 351 و 352 عن المصادر التالية : الكامل لابن الاثير ج 2 ص 227 وابن الشحنة بهامشه ج 7 ص 176 وفتوح البلدان ص 53 وصحيح البخاري ط الهند ج 3 ص 837 وسنن أبي داود ج 2 ص 340 وصحيح مسلم ج 2 ص 234 كتاب الأدب انتهى.

ونقله في النص والاجتهاد ص 151 عن المصادر التالية : كنز العمال ج 5 ص 239 رقم 4845 و 4860 و 4865 و 4861 و 4862 والأم للشافعي ، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 120 والمعتصر من المختصر ج 1 ص 459 وابن كثير في مسند الصديق وصفين ص 248 والتاج المكلل ص 265 وشرح صحيح مسلم للنووي ج 7 ص 127.

ونقل أيضاً عن المصادر التالية : قبول الأخبار للبلخي ص 29 ، والمحدث الفاصل ص 133 والبخاري بحاشية السندي ج 4 ص 88 وصحيح مسلم ج 3 ص 1311 و 1694 والموطأ ج 2 ص 964 ورسالة الشافعي ص 435 ومختصر جامع بيان العلم

٩١

ي ـ تشجيع القصاصين ورواية الإسرائيليات :

مع تشجيعهم للقصاصين ، ولرواية الإسرائيليات.

وقد وضعوا الأحاديث المؤيدة لذلك(1) .

ثم السماح بالرواية لأشخاص معينين ، دون من عداهم(2) حتى إن أبا

__________________

=

ص 32 و 33. وثمة مصادر أخرى لامجال لتتبعها..

1 ـ راجع فيما تقدم حول رواية الاسرائيليات وتشجيع القصاصين ، المصادر التالية : التراتيب الإدارية ج 2 ص 224 حتى 227 و 238 و 338 و 345 و 325 و 326 و 327 وأضواء على السنة المحمدية ص 124. حتى 126 و 145 حتى 192 وشرف أصحاب الحديث ص 14 و 15 و 16 و 17 وفجر الإسلام ص 158 حتى 162 وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 34 حتى 37 والزهد والرقائق ص 17 و 508 وتقييد العلم ص 34 وفي هامشه عن حسن التنبيه ص 192 وعن مسند أحمد ج 3 ص 12 و 13 و 56. وراجع أيضاً : جامع بيان العلم ج 2 ص 50 و 53 ، ومجمع الزوائد ج 1 ص 150 و151 و 191 و 192 و 189 والمصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 109 و 110 وهوامشه ومشكل الآثار ج 1 ص 40 و 41 والبداية والنهاية ج 1 ص 6 و ج 2 ص 132 و 134 وكشف الأستار ج 1 ص 120 و 122 و 108 و 109 وحياة الصحابة ج 3 ص 286.

2 ـ راجع : الصحيح من سيرة النبي ج 1 ص 26.

بل لم يسمحوا بالفتوى إلا للأمراء ، راجع : جامع بيان العلم ج 2 ص 175 203 وراجع ص 194 و 174 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 4 ص 62 وسنن الدرامي ج 1 ص 61 والتراتيب اللإدارية ج 2 ص 367 و 368 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 179 ط ليدن و 258 ط صادر وكنز العمال ج 10 ص 185 عن غير واحد وعن الدينوري في المجالسة ، وعن ابن عساكر. والمصنف لعبد الرزاق ج 8 ص 301 وفي هامشه عن أخبار القضاة لوكيع ج 1 ص 83.

بل إن عثمان يتوعد رجلاً بالقتل ، إن كان قد استفتى أحداً غيره ، راجع تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 54 وحياة الصحابة ج 2 ص 390 / 391 عنه

٩٢

موسى ليمسك عن الحديث ، حتى يعلم ما أحدثه عمر(1) .

أضف إلى ذلك كله : حبسهم لكبار الصحابة بالمدينة ، وعدم توليتهم الأعمال الجليلة ، خوفاً من نشر الحديث ، ومن استقلالهم بالأمر(2) : وذلك بعد أن قرروا عدم السماح بالفتوى إلا للأمراء كما أوضحناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ك : لا خير في الإمارة لمؤمن :

وإذا كان الأمراء هم الذين ينفذون هذه السياسات ، وقد يتردد المؤمنون منهم في تنفيذها على النحو الأفضل والأكمل ، فقد اتجه العلم نحو الفجار ليكونوا هم أعوانه وأركانه.

وقد رووا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن(3) .

__________________

1 ـ مسند أحمد ج 4 ص 393 وفي ص 372 يمتنع أنس عن الحديث.

2 ـ راجع : تاريخ الطبري حوادث سنة 35 ج 3 ص 426 ومروج الذهب ج 2 ص 321 و 322 وراجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 120 و ج 1 ص 110 وكنز العمال ج 10 ص 180 وتذكرة الحفاظ ج 1 ص 7 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 20 ص 20 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 317 و 334 و 365 وراجع : التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير ص 208 و 209 والفتنة الكبرى ص 17 و 46 و 77 وشرف أصحاب الحديث ص 87 ومجمع الزوائد ج 1 ص 149 وطبقات ابن سعد ج 4 ص 135 و ج 2 قسم 2 ص 100 و 112 وحياة الصحابة ج 2 ص 40 و 41 و ج 3 ص 272 و 273 عن الطبري ج 5 ص 134 وعن كنز العمال ج 7 ص 139 و ج 5 ص 239.

وفي هذا الأخير عن ابن عساكر : أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة من الآفاق ووبخهم على إفشائهم الحديث.

3 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 83 ومجمع الزوائد ج 5 ص 204 عن الطبراني. وحياة الصحابة ج 1 ص 198 / 199 عنهما وعن كنز العمال ج 7 ص 38 وعن البغوي وابن

=

٩٣

وقد قال حذيفة لعمر : إنك تستعين بالرجل الفاجر. فقال : إني أستعمله لأستعين بقوته ، ثم أكون على قفائه.

وذكر أيضاً : أن عمر قال غلبني أهل الكوفة ، استعمل عليهم المؤمن فيضعف ، واستعمل الفاجر ، فيفجر(1) .

ل : أينعت الثمار واخضرّ الجناب :

وبعد ذلك كله فقد تهيأت الفرصة لمن سمح لهم بالرواية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن بني إسرائيل ، لأن يمدّوا الأمة بما يريدون ، ويتوافق مع أهدافهم ومراميهم ، من أفكار ومعارف ، وأقوال ومواقف ، حقيقية ، أو مزيفة

ثم تحريف ، بل وطمس الكثير من الحقائق التي رأوا أنها لا تتناسب مع أهدافهم ، ولا تخدم مصالحهم.

بل لقد طمست معظم معالم الدين ، ومحقت أحكام الشريعة ، كما أكدته نصوص كثيرة(2) .

بل يذكرون : أنه لم يصل إلى الأمة سوى خمس مئة حديث في أصول

__________________

= عساكر وغيرهما.

1 ـ الفائق للزمخشري ج 3 ص 215 و ج 2 ص 445 والنصائح الكافية ص 175 ولسان العرب ج 13 ص 346 و ج 11 ص 452. والاشتقاق ص 179.

2 ـ راجع الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج 1 ص 27 ـ 30 بالإضافة إلى : المصنف ج 2 ص 63و مسند أبي عوانة ج 2 ص 105 والبحر الزخار ج 2 ص 254 وكشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 260 ومسند أحمد ج 4 ص 428 و 429 و 432 و 441 و 444 والغدير ج 8 ص 166 ، وراجع أيضاً مروج الذهب 3 ص 85 ومكاتيب الرسول ج 1 ص 62.

٩٤

لأحكام ومثلها من أصول السنن(1) الأمر ، الذي يلقي ضلالاً ثقيلة من الشك والريب في عشرات بل مئات الألوف ، بل في الملايين(2) من الأحاديث ، التي يذكرون : أنها كانت عند الحفاظ ، أو لاتزال محفوظة في بطون الكتب إلى الأن. ولأجل ذلك ، فإننا نجدهم يحكمون بالكذب والوضع على عشرات بل مئات الألوف منها(3) .

وقد بلغ الجهل بالناس : أننا نجد جيشاً بكامله ، لايدري : أن من لم يُحْدِث ، فلا وضوء عليه ، « فأمر ( أبو موسى ) مناديه : ألا ، لا وضوء إلا على من أحدث. قال : أوشك العلم أن يذهب ويظهر الجهل ، حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل »(4) .

بل لقد رأينا : أنه : « قد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النصوص ، لما رأوا المصلحة في ذلك »(5) .

ويقول المعتزلي الشافعي عن عليعليه‌السلام : « وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ؛ لأنه كان متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين

__________________

1 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 419 وعن الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 243.

2 ـ راجع على سبيل المثال : الكنى والألقاب ج 1 ص 414 ، ولسان الميزان ج 3 ص 405 وتذكرة الحفاظ ج 2 ص 641 و 430 و 434 و ج 1 ص 254 و 276.

وهذا الكتاب مملوء بهذه الأرقام العالية ، فمن أراد فليراجعه.

والتراتيب الإدارية ج 2 ص 202 حتى ص 208 و 407 و 408.

3 ـ راجع لسان الميزان ج 3 ص 405 و ج 5 ص 228 والفوائد المجموعة ص 246 و 427 وتاريخ الخلفاء ص 293 وأنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 3 ص 96 وميزان الاعتدال ج 1 ص 572 و 406 و 509 و 316 و 321 و 12 و 17 و 108 و 148 والكفاية للخطيب ص 36 و سائر الكتب التي تتحدث عن الموضوعات في الأخبار. وراجع : المجرمون لابن حبان ج 1 ص 156 و 185 و 155 و 142 و 96 و 63 و 62 و ص 65 حول وضع الحديث للملوك وراجع أيضاً ج 2 ص 189 و 163 و 138 و ج 3 ص 39 و 63.

4 ـ حياة الصحابة ج 1 ص 505 عن كنز العمال ج 5 ص 114 وعن معاني الآثار للطحاوي ج 1 ص 27.

5 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 83.

٩٥

تحريمه. وقد قالعليه‌السلام لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمنتع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب »(1) انتهى.

ولعل ما تقدم من موقف عمر من المصريين المعترضين يشير إلى ذلك أيضاً.

كما أن الفقهاء ، قد « رجح كثير منهم القياس على النص ، حتى استحالت الشريعة ، وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة »(2) .

كما أن أبا أيوب الأنصاري لا يجرؤ على العمل بسنة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن عمر ، لأن عمر كان يضرب من عمل بها(3) .

ويصرح مالك بن أنس ، بالنسبة لغير أهل المدينة من المسلمين بـ : « أن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك »(4) .

وسيأتي المزيد مما يدل على إصرار الخلفاء ، وغير الخلفاء منهم ، على مخالفة أحكام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى من أمثال مروان بن الحكم ، والحجاج بن يوسف.

ماذا بعد أن تمهد السبيل :

وبعد هذا فإن الحكام والأمراء الذين مُنِحُوا ـ دون غيرهم ـ حق

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 28.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 84.

3 ـ المصنف ج 2 ص 433.

4 ـ جامع بيان العلم ج 2 ص 194.

٩٦

الفتوى! ، من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد أصبح بإمكانهم أن يفتوا بغير علم. بل أن يفتوا بما يعلمون مخالفته لما ورد عن سيد الخلق أجمعين ، محمد رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، ما داموا قد أمنوا غائلة اعتراض من يعلمون الحق ، ولم يعد يخشى من انكشاف ذلك للملأ من غيرهم الأمر الذي ربما يؤدي ـ لو انكشف ـ إلى التقليل من شأنهم ، وإضعاف مراكزهم ، ويقلل ويحد من فعالية القرارات والأحكام التي يصدرونها.

كما أن ذلك قد هيأ الفرصة لكل أحد : أن يدعي ما يريد ، وضع له الحديث الذي يناسبه ، بأييداً ، أو نفياً وتفنيداً.

كما أنهم قد أمنوا غائلة ظهور كثير من الأقوال ، والأفعال ، والمواقف النبوية ، والوقائع الثابتة ، التي تم مركز وشخصية من يهتمون بالتنويه باسمه ، وإعلاء قدره وشأنه ، أو ترفع من شأن ومكانة الفريق الآخر : أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا سيما سيدهم وعظيمهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وكل من يمت إليه وإليهم بأية صلة أو رابطة ، أو له فيهم هوى ، أو نظرة إيجابية وواقعية ، انطلاقاً مما يملكه من فكر واع ، ووجدان حي.

أضف إلى ذلك كله : أن سياستهم هذه تجاه الحديث ، وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنسجم مع رأي بعض الفرق اليهودية ، التي كان لأتباعها نفوذ كبير لدى الحكام آنئذ(1) .

ولسنا هنا في صدد شرح ذلك.

وعلي عليه‌السلام ماذا يقول :

هذا ولكننا نجد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشيعته ، والواعين من رجال هذه الأمة ، قد تصدوا لهذه الخطة بصلابة وحزم ، حتى لقد رفضعليه‌السلام في الشورى عرض الخلافة في مقابل اشتراط العمل بسنة الشيخين. وقد

__________________

1 ـ راجع كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ج 1 ص 26 / 27 متناً وهامشاً.

٩٧

طردعليه‌السلام القصاصين من المساجد ، ورفع الحظر المفروض على رواية الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

وقد رووا عنه : أنهعليه‌السلام قال : « قيدوا العلم ، قيدوا العلم » مرتين. ونحوه غيره(2) .

كما أنهعليه‌السلام يقول :

« من يشتري منا علماً بدرهم؟ قال الحارث الأعور : فذهبت فاشتريت صحفاً بدرهم ، ثم جئت بها ».

وفي بعض النصوص : « فاشترى الحارث صحفاً بدرهم ، ثم جاء بها علياً ، فكتب له علماً كثيراً »(3) .

وعن عليعليه‌السلام قال تزاوروا ، وتذاكروا الحديث ، ولا تتركوه يدرس(4) .

وعنهعليه‌السلام : « إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده ، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر ، وإن يك باطلاً كان وزره عليه »(5) . ومثل ذلك كثير

__________________

1 ـ سرگذشت حديث ( فارسي ) هامش ص 28 وراجع كنز العمال ج 10 ص 171 و 172 و122.

2 ـ تقييد العلم ص 89 و 90 وبهامشه قال : « وفي حض عليّ على الكتابة انظر : معادن الجوهر للأمين العاملي 1 : 3 ».

3 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 259 وطبقات ابن سعد ج 6 ص 116 ط ليدن و ص 68 ط صادر وتاريخ بغداد ج 8 ص 357 وكنز العمال ج 10 ص 156 وتقييد العلم ص 90 وفي هامشه عمن تقدم وعن كتاب العلم لابن أبي خيثمة 10 والمحدث الفاصل ج 4 ص 3.

4 ـ كنز العمال ج 10 ص 189.

5 ـ كنز العمال ج 10 ص 129 ورمز له بـ ( ك ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ).

٩٨

عنهعليه‌السلام (1) .

والإمام الحسن عليه‌السلام أيضاً :

وفي مجال العمل على إفشال هذه الخطة تجاه العلم والحديث ، وكتابته ، وكسر الطوق المفروض ، نجد النص التاريخي يقول : « دعا الحسن بن علي بنيه ، وبني أخيه ، فقال : « يا بني ، وبني أخي ، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ، فتعلموا العلم ، فمن لم يستطع منكم أن يرويه ، فليكتبه ، وليضعه في بيته »(2) .

ثم روى الخطيب ما يقرب من ذلك عن الحسين بن عليعليه‌السلام ، ثم قال : « كذا قال : جمع الحسين بن علي. والصواب : الحسن ، كما ذكرناه أولاً ، والله أعلم »(3) .

ولسنا هنا في صدد تفصيل ذلك ، ونسأل الله أن يوفقنا للتوفر على دراسة هذه الناحية في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

مشرعون جدد ، أو أنبياء صغار :

وطبيعي بعد ذلك كله وبعد أن كانت السياسة تقضي بتقليص نسبة

__________________

1 ـ راجع على سبيل المثال كنز العمال ج 10 كتاب العلم

2 ـ تقييد العلم ص 91 ونور الأبصار ص 122 وكنز العمال ج 10 ص 153 وسنن الدرامي ج 1 ص 130 وجامع بيان العلم ج1 ص 99 ، والعلل ومعرفة الرجال ج 1 ص 412 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 227 وفي هامش تقييد العلم عن بعض من تقدم ، وعن تاريخ بغداد ج 6 ص 399 ، ولم أجده ، وعن ربيع الأبرار 12 عن عليعليه‌السلام وراجع أيضاً التراتيب الإدارية ج 2 ص 246 / 247 عن ابن عساكر ، وعن البيهقي في المدخل.

3 ـ تقييد العلم ص 91.

٩٩

الاحترام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعمل على علو نجم قوم ، ورفعة شأنهم ، وأقول نجم آخرين ، والحط منهم وبعد أن مست الحاجة إلى المزيد من الأحكام الإسلامية ، والتعاليم الدينية ـ كان من الطبيعي ـ أن تعتبر أقوال الصحابة ، ولا سيما الخليفتين الأول ، والثاني ـ سنة كسنة النبي ، بل وفوق سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ساعد الحكام أنفسهم ـ لمقاصد مختلفة ـ على هذا الامر. وكنموذج مما يدل على ذلك ، وعلى خطط الحكام في هذا المجال ، نشير إلى قول البعض : « أنا زميل محمد » بالإضافة إلى ما يلي :

1 ـ « قال الشهاب الهيثمي في شرح الهمزية على قول البوصيري عن الصحابة : « كلهم في أحكامه ذو اجتهاد : أي صواب »(1) .

2 ـ وقال الشافعي : « لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل ، أو قياس على أصل. والأصل كتاب ، أو سنة ، أو قول بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع الناس »(2) .

3 ـ وقال البعض عن الشافعية : « والعجب! منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه ، ثم لا يرون مخالفته لأجل نص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(3) .

4 ـ ويقول أبو زهرة بالنسبة لفتاوى الصحابة : « وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنها من السنة ، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ، إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي. وهذا ينسحب على كل حديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى ولو كان صحيحاً »(4) .

ولا بأس بمراجعة كلمات الشوكاني في هذا المجال أيضاً(5) .

__________________

1 ـ التراتيب الإدارية ج 2 ص 366.

2 ـ مناقب الشافعي ج 1 ص 367 ، وراجع ص 450.

3 ـ مجموعة المسائل المنيرية ص 32.

4 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 251 / 255 ومالك ، لأبي زهرة ص 290.

5 ـ ابن حنبل لأبي زهرة ص 254 / 255 عن إرشاد الفحول للشوكاني ص 214.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

خصومه، واستغلال كلّ ما من شأنه أن يوهن العزيمة ويشلّ القوى فيهم .

وهكذا انكفأ عبيد الله بن عباس على نفسه واستجاب لداعي الخيانة، ملتمساً لعدوّه الذي وتره بابنيه، مخلّفاً وراءه لعنة التاريخ، وقد شاء لنفسه أن ينحدر إلى هذا المستوى الساقط فيدخل حمى معاوية ليلاً دخول المهزوم المخذول، الذي يأباه كلّ حرٍّ ينبض عنده الضمير .

وينبلج الصبح عن افتقاد المعسكر قائده، فترقص قلوب المنافقين والمسالمين، وتدمى عيون المخلصين، هذا والحسنعليه‌السلام لا يزال في موقفه الصلب بضرورة مقاتلة معاوية .

ويكاد الأمر ينتقض على الإمامعليه‌السلام في مسكن، ولكنّ القائد الشرعي ـ وهو الرجل المؤمن الصامد قيس بن سعد بن عبادة الذي جعله الإمامعليه‌السلام خلفاً لعبيد الله بن العباس إذا غاب عن القيادة ـ حاول جاداً في أن يحافظ على البقية الباقية من معنويات الجيش المنهارة بانهزام القائد وإقرار التماسك بين فرقِهِ وأفراده، فقام فيهم خطيباً وقال :

"أيّها الناس! لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل المولَّه، إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قطّ، إنّ أباه عمّ رسول الله خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين، وإنّ أخاه ولاّه على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أنّ ذلك له حلال، وإنّ هذا ولاّه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة، وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع"(١) .

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥ .

١٢١

وهكذا اندفع قيس الصامد في موقفه، المؤمن بهدفه، يودّع سلفه بهذه الكلمات الساخرة اللاذعة التي تكشف عن الماضي الهزيل له، وعن نفسيته الساقطة التي دفعته للتردّي في هذا المنحدر السحيق.

وقد فعل قيس في نفوس سامعيه ما أراد، فانطلقت الحناجر بحماس وتوثّب تنادي : "الحمد لله الذي أخرجه من بيننا"(١) فصنع قيس حالة من الشدّ والعزيمة في ذلك الموقف الذي كان للانهيار المؤلم الوشيك عرضة، وعاد النظام يسيطر على عناصر الجيش، واطمأنّ الناس لقائدهم الجديد .

١٠ ـ توالي الخيانات في جيش الإمامعليه‌السلام :

وصلت أنباء استسلام عبيد الله لعدوّه إلى المدائن، وشاع جوّ من المحنة في النفوس، وشعر الإمامعليه‌السلام بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس إليه وأخصّهم به، وتسرّبت إليه أنباء عن مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقوّاد لمعاوية وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والمواعيد(٢) .

وممّا يذكر : "أنّ معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه : أنّك إذا قتلت الحسن فلك مئة ألف درهم، وجندٌ من أجناد الشام، وبنتٌ من بناتي" .

فبلغ الحسنعليه‌السلام ذلك فاستلأم ولبس درعاً وسترها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٢٢ .

١٢٢

فيه لما عليه من اللامة(١) .

وهكذا توالت الخيانات في جيش الإمام، ومن ذلك : "أنّ الحسن بعث إلى معاوية قائداً من كندة في أربعة آلاف، فلمّا نزل الأنبار بعث إليه معاوية بخمسمئة ألف درهم، ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة، فصار إليه في مئتين من خاصّته، ثم بعث رجلاً من مراد ففعل كالأول بعدما حلف الأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنّه لا يفعل، وأخبرهم الحسن أنّه سيفعل كصاحبه"(٢) .

ويقف الإمام الحسنعليه‌السلام أمام هذه النكبات والمحن المتتالية، متطامناً على نفسه ناظراً في أمره، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة .

والذي يظهر لنا من بعض النصوص أنّ ابن عباس لم يفرَّ وحده، بل خرج معه عدد وفير من الزعماء والقوّاد والجند، وهو أمر يمكن أن يساعد عليه الجوّ المشحون بالتشاؤم واليأس من توقّع انتصار الإمامعليه‌السلام على عدوّه.

وهكذا أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار الخاصة من القواد والزعماء، وقدتبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند، حيث كان انهزامهم سبباً لحدوث تمرّد وفوضى شاملة في الجيش .

وقد ارتفعت أرقام الفارّين إلى معاوية بعد فرار عبيد الله وخاصّته إلى ثمانية آلاف، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه فيقول : "إنّه ـ يعني معاوية ـ أرسل إلى عبيد الله بن عباس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد على محاربته"(٣) .

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ٢٢ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام : ٨٠ .

١٢٣

واذا أخذنا في اعتبارنا أنّ الجيش الذي كان في "مسكن" إثنا عشر ألفاً فستكون نسبة الفارّين منه إلى معاوية وهي ثلثا الجيش نسبة كبيرة، في حين كان الجيش الذي يقوده معاوية لمواجهة الحسنعليه‌السلام ستين ألفاً تضاف إليه آلاف الفارّين من جيش الحسنعليه‌السلام .

وحقّاً أنّها لصدمة رهيبة ومحنة حادّة تتداعى أمامها القوى، وتنفرج بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمّل جزءً كبيراً من مسؤوليّتها عبيد الله بن العباس أمام الله والتاريخ .

والشيء الذي يمكن فهمه من هذا الفرار الجماعي هو وجود تآمر على الخيانة في أوساط جملة من الزعماء والوجوه، وإلاّ فبأيّ قاعدة منطقية يمكن تفسير فرار ثمانية آلاف مقاتل من جيش يستعد للقتال في فترة قصيرة، وهل يكون ذلك إلاّ عن سابق تفكير وإحكام لخطة خائنة؟!

ويقف الإمامعليه‌السلام باحثاً عن المخرج من هذا المأزق الذي تداعت به معنويات جيشه في "مسكن" وتزلزلت منه قوى جيشه في المدائن، خاصة إذا نظر بعين الموازنة بين جيشه وجيش عدوه من حيث العدد .

فكان جيشه يتألف من عشرين ألفاً فقط كما أجمعت عليه المصادر التاريخية(١) بينما يتألف جيش عدّوه من ستين ألفاً، وبعد لحاظ الآلاف الثمانية التي التحقت بمعاوية في "مسكن " بعد خيانة عبيد الله يصبح جيش الحسنعليه‌السلام خمس جيش عدوه، وهذا انهيار كبير حسب الموازين والحسابات العسكرية، هذا فضلاً عمّا تقوله بعض المصادر بخصوص فرار بعض أفراد الجيش في المدائن ممّن استهوتهم المطامع بالاستيلاء على

__________

(١) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام : ٨١ .

١٢٤

المغانم وجاءوا رغبة فيها إذا قدِّر الانتصار لجيش الإمام الحسنعليه‌السلام ، فواكبوا مسيرة الجيش، ثم فرّوا بعد أن أحسّوا تفوّق الطرف الآخر عسكرياً في العدَّة والعدد .

وممّا زاد في انهيار الموقف حرب الإشاعات الكاذبة التي شنّها معاوية للقضاء على البقية الباقية من معنويات الجيش في مسكن والمدائن، ونذكر هنا بعض هذه الشائعات ومدى تأثيرها على المعنويات العامة في جيش الإمام الحسنعليه‌السلام بكلا شقّيه في المدائن ومسكن .

وقد عمل معاوية بكلّ ما أمكنه من خبث ومكر من أجل الوقيعة بالجيش الكوفي وتفتيت قواه، وكان اختياره للأكاذيب ينمّ عن خبرة دقيقة في حبكها وانتقائها، فأرسل من يدسّ في معسكر المدائن : "... بأنّ قيس بن سعد وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس قد صالح معاوية وصار معه ..."(١) .

" ويوجّه إلى عسكر قيس في مسكن من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه ..."(٢) .

ثم ينشر في المدائن إشاعةً هي : ".. ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل فانفروا، فنفروا بسرادق الحسن فنهبوا متاعه فنازعوه بساطاً تحته، فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً، ودخل المقصورة البيضاء في المدائن ..."(٣) .

وهكذا طوّقت موجة الشائعات المتدفّقة بمكر معاوية وخبثة جناحي الجيش في المدائن ومسكن، وفَصَمَتْ ما تبقّى فيه من تماسك، وكانت سبباً في زلزلة فئات كثيرة من غوغاء الناس المتأرجحين بين الطاعة والعصيان

__________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٣) تأريخ ابن الأثير : ٣ / ٢٠٣ .

١٢٥

ومحبّي الفتن والاضطرابات .

وما الذي ينتظر أن تفعله الشائعات في جيش كجيش المدائن الذي سبق وأنّه علم بخيانة قائد "مسكن " الذي لم يكن قيس بمنزلته في نظره، فلِمَ لا يصدق خيانة قائدها الثاني أو خبر قتله ؟ وليس جيش مسكن بأقلّ حظّاً من تأثّره بهذه الشائعات، وقد سبق وأنّه أصيب بخيانة قائده من قبل .

وفي غمرة هذه الأحداث جاء وفد يمثّل أهل الشام مؤلّف من المغيرة بن شعبة وعبد الله بن كريز وعبد الرحمن بن الحكم وهو يحمل كتب أهل العراق ليُطلع الإمام الحسنعليه‌السلام عليها وما تكنّه ضمائر بعض أصحابه من السوء، وأنّهم تطوّعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة عندما يحين موعدها المرتقب، وتُنشر الكتب بين يدي الإمامعليه‌السلام ولم تكن لتزيده يقيناً على ما يعرف من أصحابها من دخيلة السوء وحبّ الفتنة، وكانت خطوطهم وتواقيعهم واضحة لديه وصريحة .

وعُرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة، ولكنّ الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية، وكان دقيقاً في جوابه، بحيث لم يشعرهم فيه بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، بل اندفع يعظهم ويدعوهم إلى الله عَزَّ وجَلَّ وما فيه نصح لهم وللأُمة ويذكّرهم بما هم مسئولون به أمام الله ورسوله في حقّه .

وحين رأى المغيرة ورفاقه أنّ الدور الأول من الرواية التي حاولها مكر معاوية قد فشلت في إقناع الإمامعليه‌السلام بالصلح بل بقي موقفه صامداً أمام هذه المؤثرات القوية انتقلوا لتنفيذ حلقة ثانية من سلسلة المحاولات المعدّة من قبل معاوية وإن آتت أُكلها لاحقاً، فلا أقل من أنّها ستترك أثراً سيّئاً يزيد موقف الإمام حراجةً وإن لم يتحقّق منها إقناع الإمام بالصُلح .

١٢٦

وغادر الوفد مقصورة الإمام مستعرضاً مضارب الجيش الذي كان يترقّب نتائج المفاوضات، فرفع أحد أفراد الوفد صوته ليسمعه الناس : "إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكّن الفتنة وأجاب إلى الصلح ..."(١) .

وهكذا مثّلوا دورهم أروع تمثيل، وخلقوا جوّاً لاهباً من المأساة تدهور على أثرها الموقف، وتفجّرت كوامن الفتنة واضطرب تماسك الجيش ولاحت في الأفق بوادر المحنة، فأيّ غائلة هذه التي ألهب نارها المغيرة ورفاقه ؟.

١١ ـ محاولات اغتيال الإمامعليه‌السلام :

ولم تقف محنة الإمامعليه‌السلام في جيشه إلى هذا الحدّ، فقد أقدم المرتشون والخوارج على قتله، وجرت ثلاث محاولات لاغتيالهعليه‌السلام وسلم منها، وهي كما يلي :

١ ـ إنّهعليه‌السلام كان يصلّي فرماه شخص بسهم فلم يؤثّر شيئاً فيه(٢) .

٢ ـ طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه، وقال الشيخ المفيد : " إنّ الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره، فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة، فلمّا اجتمع الناس قام خطيباً فقال :

"... أمّا بعد، فإنّي والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، وأنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة، وأنّي ناظر لكم خير من نظركم

__________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ١٠٦ .

١٢٧

لأنفسكم فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبّة والرضا" .

ونظر الناس بعضهم إلى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد ؟ واندفع بعضهم يقول : والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقالوا : كفر والله الرجل .

ثم شدّوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاّه من تحته، ثم شدَّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلّداً السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته ومنعوا منه من أراده، فقال :ادعوا إليّ ربيعة وهمدان ، فدعوا فأطافوا به ودفعوا الناس عنه عليه‌السلام وسار ومعه شعوب من غيرهم، فلمّا مرّ في مظالم ساباط بَدَرَ إليه رجل من بني أسد يقال له " الجراح بن سنان " فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وقال : الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه في فخذه فشقّه حتّى بلغ العظم، ثم اعتنقه الحسن عليه‌السلام وخرّا جميعاً إلى الأرض، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن عليه‌السلام يقال له " عبد الله ابن خطل الطائي " فانتزع المغول من يده وخضخض به جوفه فأكبّ عليه آخر يقال له " ظبيان بن عمارة " فقطع أنفه فهلك من ذلك، وأُخذ آخر كان معه فقتل وحمل الحسن عليه‌السلام على سرير إلى المدائن " (١) .

٣ ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة(٢) .

__________

(١) الإرشاد : ١٩٠ .

(٢) ينابيع المودة : ٢٩٢ .

١٢٨

١٢ ـ موقف الإمام الحسنعليه‌السلام :

قال الشيخ المفيد : " ونظر ( الإمام الحسنعليه‌السلام ) في أمورهم ( أي في أمور الناس ) فازدادت بصيرة الحسنعليه‌السلام بخذلان القوم له وفساد نيّات المحكِّمة فيه بما أظهروه له من السبّ والتكفير له واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوايله إلاّ خاصّته من شيعة أبيه وشيعته وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام، فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح، وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، فاشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطاً كثيرة، وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسنعليه‌السلام وعلم باحتياله بذلك واغتياله، غير أنّه لم يجد بدّاً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة لما كان عليه أصحابه ممّا وصفناه من ضعف البصائر في حقّه والفساد عليه والخلف منهم له وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه وما كان من خذلان ابن عمّه له ومصيره إلى عدوّه وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة ..."(١) .

__________

(١) الإرشاد : ١٩٠ ـ ١٩١ .

١٢٩

البحث الثاني : في الصلح وأسبابه ونتائجه

تعتبر المرحلة التي صالح فيها الإمام الحسنعليه‌السلام معاوية بن أبي سفيان من أصعب مراحل حياتهعليه‌السلام وأكثرها تعقيداً وحسّاسية وأشدها إيلاماً، بل إنّها كذلك وعلى مدى حياة أهل بيت رسول اللهعليه‌السلام ، وقد أصبح صلح الإمامعليه‌السلام من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي بما تستبطنه من موقف بطولي للإمام المعصومعليه‌السلام ، وبما أدّى إليه من تطورات واعتراضات وتفسيرات مختلفة طوال القرون السالفة وحتى عصرنا الحاضر، وألّف الباحثون المسلمون في توضيح وتحليل الصلح كتباً عديدة، وأصدر الأعداء والأصدقاء أحكامهم بشأنه.

وقد انبرى باحثون معاصرون من الطراز الممتاز مثل المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ راضي آل ياسين والشيخ باقر شريف القرشي للكتابة عن الإمامعليه‌السلام وصلحه الذي قام به من أجل الإسلام.

وسنبدأ بالحديث عمّا ورد عن هذا الصلح تأريخياً، ثم ننقل كلمات الإمامعليه‌السلام في الأسباب الكامنة وراء قبوله بالصلح، وبعد ذلك نقوم بالتحليل.

إتمام الحجّة :

ذكر المؤرّخون : أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام بعد أن رأى خيانات جيشه والمحيطين به ونفاقهم، مع أنّه لم يبق له ثمّة أمل في ثباتهم وصمودهم في مواجهة العدو، ومع انكشاف ما تنطوي عليه تلك الضمائر من رغبات، لكنّهعليه‌السلام ولكي يتمّ الحجة ألقى فيهم الخطاب الآتي :

" ويلكم ! والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنّ إن وضعتُ يدي في يده فأسلمه لم يتركني أدين بدين جَدّي، وإنّي اَقدِرُ أن أعبدَ الله عَزَّ وجَلَّ وحدي، ولكن كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على

١٣٠

أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون " (١) .

ومرّةً أخرى، وقبل أن يقبل باقتراح معاوية للصلح قام الإمامعليه‌السلام بإتمام الحجّة، من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه، واستخباراً لنيّاتهم، فقد قالعليه‌السلام بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه :

" أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فَشيب السلام بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجَّهون معنا ودينُكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلَين : قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر " (٢) .

وبعد ذلك عرض عليهم اقتراح معاوية الصلح، فقالعليه‌السلام :"وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَةٌ، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله ؟" (٣) .

وأضاف الراوي : " فنادى القوم بأجمعهم : بل البقيةُ والحياة "(٤) .

__________

(١) تاريخ الطبري : ٤ / ١٢٢، وتذكرة الخواص لابن الجوزي : ١١٢ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ .

(٤) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ .

١٣١

القبول بالصلح :

لم يبق أمام الإمام الحسنعليه‌السلام سبيلٌ غير القبول بالصلح، وترك أمر الحكم لمعاوية فترةً من الزمن، ويتبيّن من خلال التمعّن في بنود معاهدة الصلح أنّ الإمامعليه‌السلام لم يقدّم أيّ امتياز لمعاوية، وأنّهعليه‌السلام لم يعترف به رسمياً باعتباره خليفةً وحاكماً للمسلمين، بل إنّما اعتبر الحكم القيادة حقّه الشرعي، مثبتاً بطلان ادعاءات معاوية بهذا الصدد .

بنود معاهدة الصلح :

لم تذكر المصادر التأريخية نصّاً صريحاً لكتاب الصلح، الذي يعتبر الوثيقة التأريخية لنهاية مرحلة من أهم مراحل التأريخ الإسلامي، وبخاصة في عصوره الأول، ولا نعرف سبباً وجيهاً لهذا الإهمال .

وقد اشتملت المصادر المختلفة على ذكر بعض النصوص مع إهمال البعض الآخر، ويمكن أن تؤلف من مجموعها صورة الشروط التي أخذها الإمامعليه‌السلام على معاوية في الصلح، وقد نسّقها بعض الباحثين وأوردها على صورة مواد خمس، ونحن نوردها هنا كما جاءت، ونهمل ذكر المصادر التي ذكرها في الهامش اعتماداً عليه(١) .

وهي كما يلي :

١ ـ تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبسيرة الخلفاء الصالحين .

__________

(١) يراجع صلح الحسن، لآل ياسين : ص٢٥٩، وقد اعتمد في نقله على اُمهات الكتب والمصادر التاريخية كالطبري وابن الأثير وابن قتيبة والمقاتل وغيرها .

١٣٢

٢ ـ أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد .

٣ ـ أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير .

٤ ـ استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ألفي ألف درهم، وأن يُفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على بني عبد شمس، وأن يفرِّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر .

٥ ـ على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنة .

وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا .

وعلى أن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.

وقد اعتبر بعض الباحثين المادة الرابعة من موضوعات الأُمويين أو العباسيين لتشويه صورة أهل البيتعليهم‌السلام وبخاصة الإمام الحسنعليه‌السلام ،

١٣٣

باعتبار أنّ هذه المادة لا تتناسب وشأن الإمام الحسنعليه‌السلام ومقامه(١) والله أعلم .

هذه إذن هي المواد الخمس التي أوصلها لنا التاريخ كأسس للصلح بين الحسن ومعاوية، أو على الأقلّ أنّها تمثل طبيعة الشروط التي أملاها الإمامعليه‌السلام على معاوية .

أسباب الصلح كما تُصَورّها النصوص عن الإمام الحسنعليه‌السلام :

١ ـ روى الشيخ الصدوق في " علل الشرايع " بسنده عن أبي سعيد عقيصا الذي سأل الإمام الحسنعليه‌السلام عن السبب الذي دفعه إلى الصلح مع معاوية من أنّهعليه‌السلام يعلم أنّه على الحقّ وأنّ معاوية ضالّ وظالم، فأجابه الإمامعليه‌السلام :" يا أبا سعيد، ألستُ حجّة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماماً عليهم بعد أبي عليه‌السلام ؟ قلتُ : بلى، قال :ألستُ الذي قال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلتُ : بلى، قال :فأنا إذن إمام لو قمتُ، وأنا إمام إذا قعدتُ، يا أبا سعيد عِلّةُ مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني ضُمْرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسَفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته مُلتبساً، ألا ترى الخضر عليه‌السلام لمَّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه‌السلام فعله؟ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلاّ قُتِل " (٢) .

__________

(١) زندگانى امام حسن : ٢٢٣ .

(٢) علل الشرايع : ٢٠٠ .

١٣٤

ونقل الطبرسي في " الاحتجاج "(١) شبيه هذا السبب عن الإمام الحسنعليه‌السلام .

٢ ـ ذكر زيد بن وهب الجهني أنّه بعد أن جُرح الإمامعليه‌السلام في المدائن، سألته عن موقفه الذي سيتّخذه في هذه الظروف، فأجابعليه‌السلام :" أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمَن به في أهلي خيرٌ من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سِلْماً، فو الله لإن أسالمه وأنا عزيز خيرٌ من أن يقتلني وأنا أسيره أو يَمُنّ عليّ فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدّهر، ومعاوية لا يزال يَمُنُّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت " (٢) .

٣ ـ وذكر سليم بن قيس الهلالي أنه عندما جاء معاوية إلى الكوفة; صعد الإمام الحسنعليه‌السلام المنبر بحضوره، وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، قال :" أيّها الناس إنّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فاُقسم بالله لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قَطْرَها، والأرضُ بركتها، ولما طمعتَ فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ولّت أُمة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرُهم يذهب سِفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدةِ العجل " (٣) .

٤ ـ وعن سبب الصلح روى العلاّمة القندوزي في " ينابيع المودة " أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام ألقى في الناس خطاباً جاء فيه :" أيّها الناس قد علمتم أنّ الله

__________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ١٩ .

(٢) الاحتجاج للطبرسي : ١٤٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢٢ .

١٣٥

 (جلّ ذكره وعزّ اسمه) هداكم بجدَّي وأنقذكم من الضلالة، وخلّصكم من الجهالة، وأعزّكم به بعد الذلّة، وكثّركم به بعد القلّة، وأنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأُمة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تُسالموا من سالمني وتحاربوا مَن حاربني، فرأيتُ أن أسالم معاوية وأضعَ الحرب بيني وبينه، وقد صالحته ورأيتُ أنّ حقن الدماء خيرٌ من سفكها، ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم وبقاءكم ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) " (١) .

٥ ـ في رواية نقلها السيد المرتضى (رحمة الله عليه) أنّ حجر بن عدي اعترض على الإمامعليه‌السلام بعد موافقته على الصلح وقال له : "سوّدت وجوه المؤمنين" فأجابه الإمامعليه‌السلام :"ما كلُّ أحد يحبُّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلتُ ما فعلتُ إبقاءً عليكم" .

وبعد ذلك أشار إلى أنّ شيعة الإمامعليه‌السلام اعترضوا على الصلح وأعربوا عن تأسّفهم لقرار الإمامعليه‌السلام ، ومن بينهم سليمان بن صرد الخزاعي الذي قال للإمام : "ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية، ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظّاً من العطيّة، فلو كنت إذ فعلتَ ما فعلتَ أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه لم يفِ به، ثم لم يلبث أن قال على رؤوس الأشهاد : " إنّي كنتُ شرطتُ شروطاً ووعدتُ عداة إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراةً لقطع الفتنة، فلمّا أن جمع

__________

(١) ينابيع المودة : ٢٩٣ .

١٣٦

الله لنا الكَلِم والألفة فإنّ ذلك تحت قدمي" والله ما عنى بذلك غيرك، وما أراد إلاّ ما كان بينك وبينه، وقد نقض، فإذا شئت فأعِد، الحرب خدعة، وائذن لي في تقدّمك إلى الكوفة، فاُخرج عنها عاملَه واُظهر خلعه وتنبذ إليه على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين، وتكلّم الباقون بمثل كلام سليمان.

فأجابه الإمامعليه‌السلام : "أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا، فلو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة ولا أمضى عزيمةً، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلتُ إلاّ حقن الدماء فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره والزموا بيوتكم وأمسكوا"(١) .

تحليلان لأسباب الصلح :

التحليل الأوّل :

لقد حاول معاوية أن يظهر نفسه بأنّه رجل مسالم يدعو إلى السلام والصلح، وذلك عبر رسائله إلى الإمام الحسنعليه‌السلام التي يدعوه فيها إلى الصلح مهما كانت شروط الإمامعليه‌السلام ، وقد اعتبر الباحثون أنّ الخطاب السلمي لمعاوية كان أخطر حيلة فتّت عضد الإمامعليه‌السلام ، الأمر الذي أزّم ظروفهعليه‌السلام ولم يكن للإمام خيار غير القبول بالصلح .

وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء : " فوجد ـ أي الإمام الحسنعليه‌السلام ـ أنّه لو رفض الصلح وأصرّ على الحرب فلا يخلو: إمّا أن يكون هو الغالب ومعاوية المغلوب، وهذا وإن كانت تلك

__________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ ـ ٢٨ .

١٣٧

الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل، ولكن فليكن بالفرض هو الواقع، ولكن هل مغبة ذلك إلاّ تظلّم الناس لبني أمية؟ وظهورهم بأوجع مظاهر المظلومية؟ فماذا يكون موقف الحسن إذاً لو افترضناه هو الغالب؟

أمّا لو كان هو المغلوب فأول كلمة تقال من كلّ متكلم : إنّ الحسن هو الذي ألقى بنفسه إلى التهلكة، فإنّ معاوية طلب منه الصلح الذي فيه حقن الدماء فأبى وبغى، وعلى الباغي تدور الدوائر، وحينئذ يتمّ لمعاوية وأبي سفيان ما أرادا من الكيد للإسلام وإرجاع الناس إلى جاهليتهم الأُولى وعبادة اللاّت والعزى، ولا يُبقي معاوية من أهل البيت نافخ ضرمة، بل كان نظر الإمام الحسنعليه‌السلام في قبول الصلح أدقّ من هذا وذاك، أراد أن يفتك به ويظهر خبيئة حاله، وما ستره في قرارة نفسه قبل أن يكون غالباً أو مغلوباً، وبدون أن يزجّ الناس في حرب، ويحملهم على ما يكرهون من إراقة الدماء".

إنّ معاوية المسلم ظاهراً العدّو للإسلام حقيقة وواقعاً، كان يخدع الناس بغشاء رقيق من الدين خوفاً من رغبة الناس إلى الحسن وأبيه من قبل، فأراد الحسن أن يخلّي له الميدان، حتى يُظهِر ما يُبطِن، وهكذا فعل.

وفور إبرام الصلح; صعد المنبر في جمع غفير من المسلمين، وقال : "إنّي ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ..."!!.

أُنظر ما صنع الإمام الحسن بمعاوية في صلحه، وكيف هدّ جميع مساعيه وهدم كلّ مبانيه حتى ظهر الحقّ وزهق الباطل، وخسر هنالك المبطلون، فكان الصلح في تلك الظروف هو الواجب المتعيّن على الحسن، كما أنّ الثورة على "يزيد" في تلك الظروف كان هو الواجب المتعيّن على أخيه الإمام الحسين، كلّ ذلك للتفاوت بين الزمانين، والاختلاف بين الرجلين (أي: معاوية وابنه) .

ولو لا صلح الإمام الحسن ـ الذي فضح معاوية وشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام التي قضت على يزيد وانقرضت بها الدولة السفيانية بأسرع وقت ـ لذهبت جهود جدّهما بطرفة عين، ولصار الدين دين آل أبي سفيان، دين الغدر والفسق والفجور، دين إبادة الصالحين واستبقاء الفجرة الفاسقين .

١٣٨

ولو قيل : لماذا لم ينتهج الإمام الحسنعليه‌السلام سبيل الشهادة كما فعل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنَّ الحسينعليه‌السلام أيضاً كان يعلم أنّه لن يستطيع تحقيق النصر العسكري على يزيد ؟

فالجواب :

١ ـ إنّ معاوية كان يُظهر الإسلام، ويزيد كان يتجاهر بالفسق والفجور، فضلاً عن دهاء الأب وبلادة الابن .

٢ ـ مثّلت خيانة الكوفيين بالنسبة إلى الحسينعليه‌السلام خطوته الموفّقة في التمهيد لنجاحه المطّرد في التاريخ، ولكنّها كانت بالنسبة إلى أخيه الحسنعليه‌السلام (يوم مسكن والمدائن) عقبته الكؤود عن تطبيق عملية الجهاد، فإنّ حوادث نقض بيعة الحسين كانت قد سبقت تعبئته للحرب، فجاء جيشه الصغير يوم وقف به للقتال، منخولاً من كلّ شائبة تضيره كجيش إمام له أهدافه المثلى(١) .

التحليل الثاني :

إن معاوية كان قد نشط في عهد الخليفتين الثاني والثالث بإمارته على الشام عشرين سنة، تمكّن بها في أجهزة الدولة، وصانع الناس فيها وأطمعهم

__________

(١) صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين : ٣٧١ ـ ٣٧٢ .

١٣٩

به فكانت الخاصة في الشام كلّها من أعوانه، وعظم خطره في الإسلام، وعرف في سائر الأقطار بكونه من قريش أسرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه من أصحابه، حتى كان في هذه أشهر من كثير من السابقين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، كأبي ذرّ وعمّار والمقداد وأضرابهم .

هكذا نشأت "الأُموية" مرّةً أخرى، تغالب الهاشمية باسم الهاشمية في علنها، وتكيد لها كيدها في سرّها، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدع العامة بدهائها، وتشتري الخاصة بما تغدقه عليهم من أموال الأُمة، وبما تؤثرهم به من الوظائف التي ما جعلها الله للخونة من أمثالهم، تستغل مظاهر الفتح وإحراز الرضا من الخلفاء، حتى إذا استتبّ أمر "الأُموية" بدهاء معاوية; انسلّت إلى أحكام الدين انسلال الشياطين، تدسّ فيها دسّها، وتفسد إفسادها، راجعة بالحياة إلى جاهلية تبعث الاستهتار والزندقة وفق نهج جاهلي وخطة نفعية ترجوها "الأُموية" لاستيفاء منافعها، وتسخّرها لحفظ امتيازاتها(١) .

والناس عامة لا يفطنون لشيء من هذا، فإنّ القاعدة المعمول بها في الإسلام ـ أعني قولهم : الإسلام يجبّ ما قبله ـ ألقت على فظائع "الأُموية" ستراً حجبها، ولا سيَّما بعد أن عفا عنها رسول الله وتألّفها، وبعد أن قرّبها الخلفاء منهم، واصطفوها بالولايات على المسلمين، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم، فسارت في الشام سيرتها عشرين عاماً لا يتناهون عن منكر فعلوه ولا ينهون .

وقد كان الخليفة الثاني عظيم المراقبة لبعض عمّاله دقيق المحاسبة لهم

__________

(١) للتعرّف على عداء معاوية وموبقاته التي تمثّلت في تعطيله الحدود الإلهية وتحريف الأحكام الشرعية وشرائه لأديان الناس وضمائرهم وخلاعته ومجونه وافتعاله للحديث وغيرها من المنكرات الفظيعة، راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ١٤٥ ـ ٢١٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206