اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 206

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129978 / تحميل: 9606
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

اعلام الهداية - الإمام الحسن المجتبى (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد أنّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدّة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدّة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظنّاً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردّد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد أنّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

_____________________

١ - الأنبياء: ٨٧.

٨١

ممثّلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسّماً وممثّلاً لهذا الظن في كل مَن رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولمّا خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) .

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنّون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فإنّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أنّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوّته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيّدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأنّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكنّ بالمعنى الذي عرفت: أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

_____________________

١ - الحشر: ٢.

٨٢

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألدّاء، وكان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضرّاء، مظنّة لأن يتخيّل كل مَن وقف عليها من نبي وغيره، أنّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول:( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ) (١) .

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢) .

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضرّاء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّ-ها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجّر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة( متى نصر الله ) مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنّة تصوّر استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس ممّا ذكرناه.

_____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - البقرة: ٢١٤.

٨٣

الآية الثانية:

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٣) .

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، وقد استغلّها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسّر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخّل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يُلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلّمين على المصونية في هذا المجال.

وربّما يؤيّد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصّه وما فيه من الإشكال.

_____________________

١ - الحج: ٥٢.

٢ - الحج: ٥٣.

٣ - الحج: ٥٤.

٨٤

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن أنّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدلّ، فنقول: يجب توضيح نقاطٍ في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه:( إذا تمنّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه:( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله:( ثمّ يحكم الله آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته والمنيّة: الموت؛ لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدّره، ومنى مكّة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله(١) .

_____________________

١ - المقاييس: ٥/٢٧٦.

٨٥

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك مَن سبر الذكر الحكيم أنّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخطّطون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطّة بعد الخطّة، ويمهّدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم:( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين َ) (١) .

ويقول أيضاً:( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (٢) .

ويقول أيضاً:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ) (٣) .

ويقول سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٤) .

ويقول سبحانه:( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ ) (٥) .

هذا كلّه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته:( وَإِنّي كُلَّما

_____________________

١ - يوسف: ١٠٣.

٢ - فاطر: ٨.

٣ - النحل: ٣٧.

٤ - القصص: ٥٦.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٨٦

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) (١) .

ويقول سبحانه بعد عدّةٍ من الآيات:( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ) (٢) .

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم، وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وإن منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع؛ فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلمّ معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح، فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

١ - أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وأنّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

_____________________

١ - نوح: ٧ - ٩.

٢ - نوح: ٢١ - ٢٤.

٨٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنصّ القرآن الكريم؛ لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلّل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفيّ بنص الآيات.

٢ - أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياءعليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخطّطاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحضّ أقوام الأنبياءعليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه:( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (٣) .

_____________________

١ - الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥.

٢ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٣ - النساء: ١٢٠.

٨٨

وقال سبحانه:( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدّة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنّى ) أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدّمات( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) (بحضّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدّمات عقيمة غير منتجة ).

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه:( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) ، وقال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٤) .

_____________________

١ - إبراهيم: ٢٢.

٢ - غافر: ٥١.

٣ - المجادلة: ٢١.

٤ - الأنبياء: ١٨.

٨٩

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) (١) .

وقال في حق النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُونَ ) (٣) .

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبيّن معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبيّن المراد من قوله سبحانه:( ثمّ يحكم الله آياته ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق أضف إليه أنّه ليس كل نبيٍّ ذا كتاب وآيات ،

_____________________

١ - الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

٢ - التوبة: ٣٣.

٣ - الأنبياء: ١٠٥.

٩٠

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: إنّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني، فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه:( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (١) .

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

١ - الذين في قلوبهم مرض.

٢ - ذات القلوب القاسية.

٣ - الذين أُوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

_____________________

١ - الإسراء: ٨١.

٩١

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصموداً.

وهذه النتيجة حاكمة في عامّة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ ) (١) ، وإنّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : ( ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب)(٣) .

وقد وقفت بعد ما حرّرت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدّس الله سرّه - وهو قريب ممّا ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي، ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

_____________________

١ - الملك: ١٤.

٢ - الأنفال: ٢٨.

٣ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم: ٩٣.

٩٢

الصالح ما يشوّشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه، وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويؤيّد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم(١) .

وما ذكره - قدّس الله سرّه - كلام لا غبار عليه، وقد شيّدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسّك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومَن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو أنّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخّل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها ) واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (٢) فقرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ:( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين: ( تلك

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٤.

٢ - النجم: ١ - ٢.

٣ - النجم: ١٩ - ٢٠.

٩٣

الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) فتكلّم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:

( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان(٢) .

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحّة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله ( تمنّى ) بمعنى تلا، وأنّ لفظة ( أُمنيته ) بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث، ولو صحّ فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

_____________________

١ - الإسراء: ٧٣، ٧٥.

٢ - تفسير الطبري: ١٧/١٣١، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٩٤

نعم استدلّ بعضهم بقول حسّان على ذاك الاستعمال:

تمنّى كتاب الله أوّل ليلةٍ

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صحّ إسنادهما إلى عربي صميم كحسّان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذّة.

أضف إلى ذلك أنّ البيت غير موجود في ديوان حسّان، وإنّما نقله عنه المفسّرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج٦ ص٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج٥ ص٢٧٧).

ولو صحّ الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصّة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة، وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ(١) .

وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها؛ لأنّها تتضمّن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقيّة السورة إلى آخرها

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٩٥

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكنّ الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه:( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندّد بآلهتهم بشدّة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصّة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصّة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاًّ لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيّه الأكرم بقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيّه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيّه ما ينافي هذا التوصيف أشدّ المنافاة، وفي وسعه سبحانه صون نبيّه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذّبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_____________________

١ - النجم: ٢٢ - ٢٣.

٢ - النجم: ٣ - ٤.

٣ - الجن: ٢٧.

٩٦

وقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل * لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها(٢) .

وقال النسفي: إنّ القول بها غير مَرْضيّ وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٣) .

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصّة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصّة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا ( فروغ أبديت )(٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

_____________________

١ - الحاقة: ٤٤ - ٤٦.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٩.

٣ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٤ - كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طُبع في جزأين.

٩٧

الطائفة الثانية

ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمسّ بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

- ١ -

عصمة آدمعليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفي العصمة عن عدّة معيّنة من الأنبياء، وراعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدّم البحث عن عصمة آدمعليه‌السلام على البحث عن عصمة نوحعليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهيّ عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم ( كبيت القصيد ) في ذلك المجال، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

٩٨

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

ويقول سبحانه:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٢) .

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصّة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكّيّة وسورة البقرة مدنية، ولمّا توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

____________________

١ - البقرة: ٣٥ - ٣٧.

٢ - الأعراف: ١٩ - ٢٤.

٩٩

ويقول سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (١) .

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمّات هذه القصّة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

١ - ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:( لا تقربا ) ؟

٢ - ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

٣ - ماذا يراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

٤ - ماذا يراد من قوله:( فعصى آدم ربّه فغوى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

٥ - ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله:( ربّنا ظلمنا أنفسنا ) ؟

____________________

١ - طه: ١١٥ - ١٢٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

خصومه، واستغلال كلّ ما من شأنه أن يوهن العزيمة ويشلّ القوى فيهم .

وهكذا انكفأ عبيد الله بن عباس على نفسه واستجاب لداعي الخيانة، ملتمساً لعدوّه الذي وتره بابنيه، مخلّفاً وراءه لعنة التاريخ، وقد شاء لنفسه أن ينحدر إلى هذا المستوى الساقط فيدخل حمى معاوية ليلاً دخول المهزوم المخذول، الذي يأباه كلّ حرٍّ ينبض عنده الضمير .

وينبلج الصبح عن افتقاد المعسكر قائده، فترقص قلوب المنافقين والمسالمين، وتدمى عيون المخلصين، هذا والحسنعليه‌السلام لا يزال في موقفه الصلب بضرورة مقاتلة معاوية .

ويكاد الأمر ينتقض على الإمامعليه‌السلام في مسكن، ولكنّ القائد الشرعي ـ وهو الرجل المؤمن الصامد قيس بن سعد بن عبادة الذي جعله الإمامعليه‌السلام خلفاً لعبيد الله بن العباس إذا غاب عن القيادة ـ حاول جاداً في أن يحافظ على البقية الباقية من معنويات الجيش المنهارة بانهزام القائد وإقرار التماسك بين فرقِهِ وأفراده، فقام فيهم خطيباً وقال :

"أيّها الناس! لا يهولنّكم ولا يعظمنّ عليكم ما صنع هذا الرجل المولَّه، إنّ هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قطّ، إنّ أباه عمّ رسول الله خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله فأخذ فداءه فقسّمه بين المسلمين، وإنّ أخاه ولاّه على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أنّ ذلك له حلال، وإنّ هذا ولاّه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة، وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع"(١) .

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥ .

١٢١

وهكذا اندفع قيس الصامد في موقفه، المؤمن بهدفه، يودّع سلفه بهذه الكلمات الساخرة اللاذعة التي تكشف عن الماضي الهزيل له، وعن نفسيته الساقطة التي دفعته للتردّي في هذا المنحدر السحيق.

وقد فعل قيس في نفوس سامعيه ما أراد، فانطلقت الحناجر بحماس وتوثّب تنادي : "الحمد لله الذي أخرجه من بيننا"(١) فصنع قيس حالة من الشدّ والعزيمة في ذلك الموقف الذي كان للانهيار المؤلم الوشيك عرضة، وعاد النظام يسيطر على عناصر الجيش، واطمأنّ الناس لقائدهم الجديد .

١٠ ـ توالي الخيانات في جيش الإمامعليه‌السلام :

وصلت أنباء استسلام عبيد الله لعدوّه إلى المدائن، وشاع جوّ من المحنة في النفوس، وشعر الإمامعليه‌السلام بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس إليه وأخصّهم به، وتسرّبت إليه أنباء عن مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقوّاد لمعاوية وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والمواعيد(٢) .

وممّا يذكر : "أنّ معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه : أنّك إذا قتلت الحسن فلك مئة ألف درهم، وجندٌ من أجناد الشام، وبنتٌ من بناتي" .

فبلغ الحسنعليه‌السلام ذلك فاستلأم ولبس درعاً وسترها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٢٢ .

١٢٢

فيه لما عليه من اللامة(١) .

وهكذا توالت الخيانات في جيش الإمام، ومن ذلك : "أنّ الحسن بعث إلى معاوية قائداً من كندة في أربعة آلاف، فلمّا نزل الأنبار بعث إليه معاوية بخمسمئة ألف درهم، ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة، فصار إليه في مئتين من خاصّته، ثم بعث رجلاً من مراد ففعل كالأول بعدما حلف الأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنّه لا يفعل، وأخبرهم الحسن أنّه سيفعل كصاحبه"(٢) .

ويقف الإمام الحسنعليه‌السلام أمام هذه النكبات والمحن المتتالية، متطامناً على نفسه ناظراً في أمره، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة .

والذي يظهر لنا من بعض النصوص أنّ ابن عباس لم يفرَّ وحده، بل خرج معه عدد وفير من الزعماء والقوّاد والجند، وهو أمر يمكن أن يساعد عليه الجوّ المشحون بالتشاؤم واليأس من توقّع انتصار الإمامعليه‌السلام على عدوّه.

وهكذا أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار الخاصة من القواد والزعماء، وقدتبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند، حيث كان انهزامهم سبباً لحدوث تمرّد وفوضى شاملة في الجيش .

وقد ارتفعت أرقام الفارّين إلى معاوية بعد فرار عبيد الله وخاصّته إلى ثمانية آلاف، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه فيقول : "إنّه ـ يعني معاوية ـ أرسل إلى عبيد الله بن عباس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد على محاربته"(٣) .

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ٢٢ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام : ٨٠ .

١٢٣

واذا أخذنا في اعتبارنا أنّ الجيش الذي كان في "مسكن" إثنا عشر ألفاً فستكون نسبة الفارّين منه إلى معاوية وهي ثلثا الجيش نسبة كبيرة، في حين كان الجيش الذي يقوده معاوية لمواجهة الحسنعليه‌السلام ستين ألفاً تضاف إليه آلاف الفارّين من جيش الحسنعليه‌السلام .

وحقّاً أنّها لصدمة رهيبة ومحنة حادّة تتداعى أمامها القوى، وتنفرج بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمّل جزءً كبيراً من مسؤوليّتها عبيد الله بن العباس أمام الله والتاريخ .

والشيء الذي يمكن فهمه من هذا الفرار الجماعي هو وجود تآمر على الخيانة في أوساط جملة من الزعماء والوجوه، وإلاّ فبأيّ قاعدة منطقية يمكن تفسير فرار ثمانية آلاف مقاتل من جيش يستعد للقتال في فترة قصيرة، وهل يكون ذلك إلاّ عن سابق تفكير وإحكام لخطة خائنة؟!

ويقف الإمامعليه‌السلام باحثاً عن المخرج من هذا المأزق الذي تداعت به معنويات جيشه في "مسكن" وتزلزلت منه قوى جيشه في المدائن، خاصة إذا نظر بعين الموازنة بين جيشه وجيش عدوه من حيث العدد .

فكان جيشه يتألف من عشرين ألفاً فقط كما أجمعت عليه المصادر التاريخية(١) بينما يتألف جيش عدّوه من ستين ألفاً، وبعد لحاظ الآلاف الثمانية التي التحقت بمعاوية في "مسكن " بعد خيانة عبيد الله يصبح جيش الحسنعليه‌السلام خمس جيش عدوه، وهذا انهيار كبير حسب الموازين والحسابات العسكرية، هذا فضلاً عمّا تقوله بعض المصادر بخصوص فرار بعض أفراد الجيش في المدائن ممّن استهوتهم المطامع بالاستيلاء على

__________

(١) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام : ٨١ .

١٢٤

المغانم وجاءوا رغبة فيها إذا قدِّر الانتصار لجيش الإمام الحسنعليه‌السلام ، فواكبوا مسيرة الجيش، ثم فرّوا بعد أن أحسّوا تفوّق الطرف الآخر عسكرياً في العدَّة والعدد .

وممّا زاد في انهيار الموقف حرب الإشاعات الكاذبة التي شنّها معاوية للقضاء على البقية الباقية من معنويات الجيش في مسكن والمدائن، ونذكر هنا بعض هذه الشائعات ومدى تأثيرها على المعنويات العامة في جيش الإمام الحسنعليه‌السلام بكلا شقّيه في المدائن ومسكن .

وقد عمل معاوية بكلّ ما أمكنه من خبث ومكر من أجل الوقيعة بالجيش الكوفي وتفتيت قواه، وكان اختياره للأكاذيب ينمّ عن خبرة دقيقة في حبكها وانتقائها، فأرسل من يدسّ في معسكر المدائن : "... بأنّ قيس بن سعد وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس قد صالح معاوية وصار معه ..."(١) .

" ويوجّه إلى عسكر قيس في مسكن من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه ..."(٢) .

ثم ينشر في المدائن إشاعةً هي : ".. ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل فانفروا، فنفروا بسرادق الحسن فنهبوا متاعه فنازعوه بساطاً تحته، فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً، ودخل المقصورة البيضاء في المدائن ..."(٣) .

وهكذا طوّقت موجة الشائعات المتدفّقة بمكر معاوية وخبثة جناحي الجيش في المدائن ومسكن، وفَصَمَتْ ما تبقّى فيه من تماسك، وكانت سبباً في زلزلة فئات كثيرة من غوغاء الناس المتأرجحين بين الطاعة والعصيان

__________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٣) تأريخ ابن الأثير : ٣ / ٢٠٣ .

١٢٥

ومحبّي الفتن والاضطرابات .

وما الذي ينتظر أن تفعله الشائعات في جيش كجيش المدائن الذي سبق وأنّه علم بخيانة قائد "مسكن " الذي لم يكن قيس بمنزلته في نظره، فلِمَ لا يصدق خيانة قائدها الثاني أو خبر قتله ؟ وليس جيش مسكن بأقلّ حظّاً من تأثّره بهذه الشائعات، وقد سبق وأنّه أصيب بخيانة قائده من قبل .

وفي غمرة هذه الأحداث جاء وفد يمثّل أهل الشام مؤلّف من المغيرة بن شعبة وعبد الله بن كريز وعبد الرحمن بن الحكم وهو يحمل كتب أهل العراق ليُطلع الإمام الحسنعليه‌السلام عليها وما تكنّه ضمائر بعض أصحابه من السوء، وأنّهم تطوّعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة عندما يحين موعدها المرتقب، وتُنشر الكتب بين يدي الإمامعليه‌السلام ولم تكن لتزيده يقيناً على ما يعرف من أصحابها من دخيلة السوء وحبّ الفتنة، وكانت خطوطهم وتواقيعهم واضحة لديه وصريحة .

وعُرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة، ولكنّ الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية، وكان دقيقاً في جوابه، بحيث لم يشعرهم فيه بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، بل اندفع يعظهم ويدعوهم إلى الله عَزَّ وجَلَّ وما فيه نصح لهم وللأُمة ويذكّرهم بما هم مسئولون به أمام الله ورسوله في حقّه .

وحين رأى المغيرة ورفاقه أنّ الدور الأول من الرواية التي حاولها مكر معاوية قد فشلت في إقناع الإمامعليه‌السلام بالصلح بل بقي موقفه صامداً أمام هذه المؤثرات القوية انتقلوا لتنفيذ حلقة ثانية من سلسلة المحاولات المعدّة من قبل معاوية وإن آتت أُكلها لاحقاً، فلا أقل من أنّها ستترك أثراً سيّئاً يزيد موقف الإمام حراجةً وإن لم يتحقّق منها إقناع الإمام بالصُلح .

١٢٦

وغادر الوفد مقصورة الإمام مستعرضاً مضارب الجيش الذي كان يترقّب نتائج المفاوضات، فرفع أحد أفراد الوفد صوته ليسمعه الناس : "إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكّن الفتنة وأجاب إلى الصلح ..."(١) .

وهكذا مثّلوا دورهم أروع تمثيل، وخلقوا جوّاً لاهباً من المأساة تدهور على أثرها الموقف، وتفجّرت كوامن الفتنة واضطرب تماسك الجيش ولاحت في الأفق بوادر المحنة، فأيّ غائلة هذه التي ألهب نارها المغيرة ورفاقه ؟.

١١ ـ محاولات اغتيال الإمامعليه‌السلام :

ولم تقف محنة الإمامعليه‌السلام في جيشه إلى هذا الحدّ، فقد أقدم المرتشون والخوارج على قتله، وجرت ثلاث محاولات لاغتيالهعليه‌السلام وسلم منها، وهي كما يلي :

١ ـ إنّهعليه‌السلام كان يصلّي فرماه شخص بسهم فلم يؤثّر شيئاً فيه(٢) .

٢ ـ طعنه الجرّاح بن سنان في فخذه، وقال الشيخ المفيد : " إنّ الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره، فأمر أن ينادى بالصلاة جامعة، فلمّا اجتمع الناس قام خطيباً فقال :

"... أمّا بعد، فإنّي والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، وأنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة، وأنّي ناظر لكم خير من نظركم

__________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٢) حياة الإمام الحسن : ٢ / ١٠٦ .

١٢٧

لأنفسكم فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبّة والرضا" .

ونظر الناس بعضهم إلى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد ؟ واندفع بعضهم يقول : والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقالوا : كفر والله الرجل .

ثم شدّوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاّه من تحته، ثم شدَّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلّداً السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته ومنعوا منه من أراده، فقال :ادعوا إليّ ربيعة وهمدان ، فدعوا فأطافوا به ودفعوا الناس عنه عليه‌السلام وسار ومعه شعوب من غيرهم، فلمّا مرّ في مظالم ساباط بَدَرَ إليه رجل من بني أسد يقال له " الجراح بن سنان " فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وقال : الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه في فخذه فشقّه حتّى بلغ العظم، ثم اعتنقه الحسن عليه‌السلام وخرّا جميعاً إلى الأرض، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن عليه‌السلام يقال له " عبد الله ابن خطل الطائي " فانتزع المغول من يده وخضخض به جوفه فأكبّ عليه آخر يقال له " ظبيان بن عمارة " فقطع أنفه فهلك من ذلك، وأُخذ آخر كان معه فقتل وحمل الحسن عليه‌السلام على سرير إلى المدائن " (١) .

٣ ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة(٢) .

__________

(١) الإرشاد : ١٩٠ .

(٢) ينابيع المودة : ٢٩٢ .

١٢٨

١٢ ـ موقف الإمام الحسنعليه‌السلام :

قال الشيخ المفيد : " ونظر ( الإمام الحسنعليه‌السلام ) في أمورهم ( أي في أمور الناس ) فازدادت بصيرة الحسنعليه‌السلام بخذلان القوم له وفساد نيّات المحكِّمة فيه بما أظهروه له من السبّ والتكفير له واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوايله إلاّ خاصّته من شيعة أبيه وشيعته وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام، فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح، وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه، فاشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطاً كثيرة، وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسنعليه‌السلام وعلم باحتياله بذلك واغتياله، غير أنّه لم يجد بدّاً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة لما كان عليه أصحابه ممّا وصفناه من ضعف البصائر في حقّه والفساد عليه والخلف منهم له وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه وما كان من خذلان ابن عمّه له ومصيره إلى عدوّه وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة ..."(١) .

__________

(١) الإرشاد : ١٩٠ ـ ١٩١ .

١٢٩

البحث الثاني : في الصلح وأسبابه ونتائجه

تعتبر المرحلة التي صالح فيها الإمام الحسنعليه‌السلام معاوية بن أبي سفيان من أصعب مراحل حياتهعليه‌السلام وأكثرها تعقيداً وحسّاسية وأشدها إيلاماً، بل إنّها كذلك وعلى مدى حياة أهل بيت رسول اللهعليه‌السلام ، وقد أصبح صلح الإمامعليه‌السلام من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي بما تستبطنه من موقف بطولي للإمام المعصومعليه‌السلام ، وبما أدّى إليه من تطورات واعتراضات وتفسيرات مختلفة طوال القرون السالفة وحتى عصرنا الحاضر، وألّف الباحثون المسلمون في توضيح وتحليل الصلح كتباً عديدة، وأصدر الأعداء والأصدقاء أحكامهم بشأنه.

وقد انبرى باحثون معاصرون من الطراز الممتاز مثل المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ راضي آل ياسين والشيخ باقر شريف القرشي للكتابة عن الإمامعليه‌السلام وصلحه الذي قام به من أجل الإسلام.

وسنبدأ بالحديث عمّا ورد عن هذا الصلح تأريخياً، ثم ننقل كلمات الإمامعليه‌السلام في الأسباب الكامنة وراء قبوله بالصلح، وبعد ذلك نقوم بالتحليل.

إتمام الحجّة :

ذكر المؤرّخون : أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام بعد أن رأى خيانات جيشه والمحيطين به ونفاقهم، مع أنّه لم يبق له ثمّة أمل في ثباتهم وصمودهم في مواجهة العدو، ومع انكشاف ما تنطوي عليه تلك الضمائر من رغبات، لكنّهعليه‌السلام ولكي يتمّ الحجة ألقى فيهم الخطاب الآتي :

" ويلكم ! والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنّ إن وضعتُ يدي في يده فأسلمه لم يتركني أدين بدين جَدّي، وإنّي اَقدِرُ أن أعبدَ الله عَزَّ وجَلَّ وحدي، ولكن كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على

١٣٠

أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون " (١) .

ومرّةً أخرى، وقبل أن يقبل باقتراح معاوية للصلح قام الإمامعليه‌السلام بإتمام الحجّة، من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه، واستخباراً لنيّاتهم، فقد قالعليه‌السلام بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه :

" أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فَشيب السلام بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجَّهون معنا ودينُكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلَين : قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر " (٢) .

وبعد ذلك عرض عليهم اقتراح معاوية الصلح، فقالعليه‌السلام :"وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَةٌ، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله ؟" (٣) .

وأضاف الراوي : " فنادى القوم بأجمعهم : بل البقيةُ والحياة "(٤) .

__________

(١) تاريخ الطبري : ٤ / ١٢٢، وتذكرة الخواص لابن الجوزي : ١١٢ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ .

(٤) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ .

١٣١

القبول بالصلح :

لم يبق أمام الإمام الحسنعليه‌السلام سبيلٌ غير القبول بالصلح، وترك أمر الحكم لمعاوية فترةً من الزمن، ويتبيّن من خلال التمعّن في بنود معاهدة الصلح أنّ الإمامعليه‌السلام لم يقدّم أيّ امتياز لمعاوية، وأنّهعليه‌السلام لم يعترف به رسمياً باعتباره خليفةً وحاكماً للمسلمين، بل إنّما اعتبر الحكم القيادة حقّه الشرعي، مثبتاً بطلان ادعاءات معاوية بهذا الصدد .

بنود معاهدة الصلح :

لم تذكر المصادر التأريخية نصّاً صريحاً لكتاب الصلح، الذي يعتبر الوثيقة التأريخية لنهاية مرحلة من أهم مراحل التأريخ الإسلامي، وبخاصة في عصوره الأول، ولا نعرف سبباً وجيهاً لهذا الإهمال .

وقد اشتملت المصادر المختلفة على ذكر بعض النصوص مع إهمال البعض الآخر، ويمكن أن تؤلف من مجموعها صورة الشروط التي أخذها الإمامعليه‌السلام على معاوية في الصلح، وقد نسّقها بعض الباحثين وأوردها على صورة مواد خمس، ونحن نوردها هنا كما جاءت، ونهمل ذكر المصادر التي ذكرها في الهامش اعتماداً عليه(١) .

وهي كما يلي :

١ ـ تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبسيرة الخلفاء الصالحين .

__________

(١) يراجع صلح الحسن، لآل ياسين : ص٢٥٩، وقد اعتمد في نقله على اُمهات الكتب والمصادر التاريخية كالطبري وابن الأثير وابن قتيبة والمقاتل وغيرها .

١٣٢

٢ ـ أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد .

٣ ـ أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير .

٤ ـ استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ألفي ألف درهم، وأن يُفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على بني عبد شمس، وأن يفرِّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر .

٥ ـ على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنة .

وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا .

وعلى أن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.

وقد اعتبر بعض الباحثين المادة الرابعة من موضوعات الأُمويين أو العباسيين لتشويه صورة أهل البيتعليهم‌السلام وبخاصة الإمام الحسنعليه‌السلام ،

١٣٣

باعتبار أنّ هذه المادة لا تتناسب وشأن الإمام الحسنعليه‌السلام ومقامه(١) والله أعلم .

هذه إذن هي المواد الخمس التي أوصلها لنا التاريخ كأسس للصلح بين الحسن ومعاوية، أو على الأقلّ أنّها تمثل طبيعة الشروط التي أملاها الإمامعليه‌السلام على معاوية .

أسباب الصلح كما تُصَورّها النصوص عن الإمام الحسنعليه‌السلام :

١ ـ روى الشيخ الصدوق في " علل الشرايع " بسنده عن أبي سعيد عقيصا الذي سأل الإمام الحسنعليه‌السلام عن السبب الذي دفعه إلى الصلح مع معاوية من أنّهعليه‌السلام يعلم أنّه على الحقّ وأنّ معاوية ضالّ وظالم، فأجابه الإمامعليه‌السلام :" يا أبا سعيد، ألستُ حجّة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماماً عليهم بعد أبي عليه‌السلام ؟ قلتُ : بلى، قال :ألستُ الذي قال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلتُ : بلى، قال :فأنا إذن إمام لو قمتُ، وأنا إمام إذا قعدتُ، يا أبا سعيد عِلّةُ مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني ضُمْرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسَفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته مُلتبساً، ألا ترى الخضر عليه‌السلام لمَّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه‌السلام فعله؟ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلاّ قُتِل " (٢) .

__________

(١) زندگانى امام حسن : ٢٢٣ .

(٢) علل الشرايع : ٢٠٠ .

١٣٤

ونقل الطبرسي في " الاحتجاج "(١) شبيه هذا السبب عن الإمام الحسنعليه‌السلام .

٢ ـ ذكر زيد بن وهب الجهني أنّه بعد أن جُرح الإمامعليه‌السلام في المدائن، سألته عن موقفه الذي سيتّخذه في هذه الظروف، فأجابعليه‌السلام :" أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمَن به في أهلي خيرٌ من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سِلْماً، فو الله لإن أسالمه وأنا عزيز خيرٌ من أن يقتلني وأنا أسيره أو يَمُنّ عليّ فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدّهر، ومعاوية لا يزال يَمُنُّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت " (٢) .

٣ ـ وذكر سليم بن قيس الهلالي أنه عندما جاء معاوية إلى الكوفة; صعد الإمام الحسنعليه‌السلام المنبر بحضوره، وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، قال :" أيّها الناس إنّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فاُقسم بالله لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قَطْرَها، والأرضُ بركتها، ولما طمعتَ فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ولّت أُمة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرُهم يذهب سِفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدةِ العجل " (٣) .

٤ ـ وعن سبب الصلح روى العلاّمة القندوزي في " ينابيع المودة " أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام ألقى في الناس خطاباً جاء فيه :" أيّها الناس قد علمتم أنّ الله

__________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ١٩ .

(٢) الاحتجاج للطبرسي : ١٤٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢٢ .

١٣٥

 (جلّ ذكره وعزّ اسمه) هداكم بجدَّي وأنقذكم من الضلالة، وخلّصكم من الجهالة، وأعزّكم به بعد الذلّة، وكثّركم به بعد القلّة، وأنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأُمة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تُسالموا من سالمني وتحاربوا مَن حاربني، فرأيتُ أن أسالم معاوية وأضعَ الحرب بيني وبينه، وقد صالحته ورأيتُ أنّ حقن الدماء خيرٌ من سفكها، ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم وبقاءكم ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) " (١) .

٥ ـ في رواية نقلها السيد المرتضى (رحمة الله عليه) أنّ حجر بن عدي اعترض على الإمامعليه‌السلام بعد موافقته على الصلح وقال له : "سوّدت وجوه المؤمنين" فأجابه الإمامعليه‌السلام :"ما كلُّ أحد يحبُّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلتُ ما فعلتُ إبقاءً عليكم" .

وبعد ذلك أشار إلى أنّ شيعة الإمامعليه‌السلام اعترضوا على الصلح وأعربوا عن تأسّفهم لقرار الإمامعليه‌السلام ، ومن بينهم سليمان بن صرد الخزاعي الذي قال للإمام : "ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية، ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظّاً من العطيّة، فلو كنت إذ فعلتَ ما فعلتَ أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه لم يفِ به، ثم لم يلبث أن قال على رؤوس الأشهاد : " إنّي كنتُ شرطتُ شروطاً ووعدتُ عداة إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراةً لقطع الفتنة، فلمّا أن جمع

__________

(١) ينابيع المودة : ٢٩٣ .

١٣٦

الله لنا الكَلِم والألفة فإنّ ذلك تحت قدمي" والله ما عنى بذلك غيرك، وما أراد إلاّ ما كان بينك وبينه، وقد نقض، فإذا شئت فأعِد، الحرب خدعة، وائذن لي في تقدّمك إلى الكوفة، فاُخرج عنها عاملَه واُظهر خلعه وتنبذ إليه على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين، وتكلّم الباقون بمثل كلام سليمان.

فأجابه الإمامعليه‌السلام : "أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا، فلو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة ولا أمضى عزيمةً، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلتُ إلاّ حقن الدماء فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره والزموا بيوتكم وأمسكوا"(١) .

تحليلان لأسباب الصلح :

التحليل الأوّل :

لقد حاول معاوية أن يظهر نفسه بأنّه رجل مسالم يدعو إلى السلام والصلح، وذلك عبر رسائله إلى الإمام الحسنعليه‌السلام التي يدعوه فيها إلى الصلح مهما كانت شروط الإمامعليه‌السلام ، وقد اعتبر الباحثون أنّ الخطاب السلمي لمعاوية كان أخطر حيلة فتّت عضد الإمامعليه‌السلام ، الأمر الذي أزّم ظروفهعليه‌السلام ولم يكن للإمام خيار غير القبول بالصلح .

وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء : " فوجد ـ أي الإمام الحسنعليه‌السلام ـ أنّه لو رفض الصلح وأصرّ على الحرب فلا يخلو: إمّا أن يكون هو الغالب ومعاوية المغلوب، وهذا وإن كانت تلك

__________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢١ ـ ٢٨ .

١٣٧

الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل، ولكن فليكن بالفرض هو الواقع، ولكن هل مغبة ذلك إلاّ تظلّم الناس لبني أمية؟ وظهورهم بأوجع مظاهر المظلومية؟ فماذا يكون موقف الحسن إذاً لو افترضناه هو الغالب؟

أمّا لو كان هو المغلوب فأول كلمة تقال من كلّ متكلم : إنّ الحسن هو الذي ألقى بنفسه إلى التهلكة، فإنّ معاوية طلب منه الصلح الذي فيه حقن الدماء فأبى وبغى، وعلى الباغي تدور الدوائر، وحينئذ يتمّ لمعاوية وأبي سفيان ما أرادا من الكيد للإسلام وإرجاع الناس إلى جاهليتهم الأُولى وعبادة اللاّت والعزى، ولا يُبقي معاوية من أهل البيت نافخ ضرمة، بل كان نظر الإمام الحسنعليه‌السلام في قبول الصلح أدقّ من هذا وذاك، أراد أن يفتك به ويظهر خبيئة حاله، وما ستره في قرارة نفسه قبل أن يكون غالباً أو مغلوباً، وبدون أن يزجّ الناس في حرب، ويحملهم على ما يكرهون من إراقة الدماء".

إنّ معاوية المسلم ظاهراً العدّو للإسلام حقيقة وواقعاً، كان يخدع الناس بغشاء رقيق من الدين خوفاً من رغبة الناس إلى الحسن وأبيه من قبل، فأراد الحسن أن يخلّي له الميدان، حتى يُظهِر ما يُبطِن، وهكذا فعل.

وفور إبرام الصلح; صعد المنبر في جمع غفير من المسلمين، وقال : "إنّي ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ..."!!.

أُنظر ما صنع الإمام الحسن بمعاوية في صلحه، وكيف هدّ جميع مساعيه وهدم كلّ مبانيه حتى ظهر الحقّ وزهق الباطل، وخسر هنالك المبطلون، فكان الصلح في تلك الظروف هو الواجب المتعيّن على الحسن، كما أنّ الثورة على "يزيد" في تلك الظروف كان هو الواجب المتعيّن على أخيه الإمام الحسين، كلّ ذلك للتفاوت بين الزمانين، والاختلاف بين الرجلين (أي: معاوية وابنه) .

ولو لا صلح الإمام الحسن ـ الذي فضح معاوية وشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام التي قضت على يزيد وانقرضت بها الدولة السفيانية بأسرع وقت ـ لذهبت جهود جدّهما بطرفة عين، ولصار الدين دين آل أبي سفيان، دين الغدر والفسق والفجور، دين إبادة الصالحين واستبقاء الفجرة الفاسقين .

١٣٨

ولو قيل : لماذا لم ينتهج الإمام الحسنعليه‌السلام سبيل الشهادة كما فعل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنَّ الحسينعليه‌السلام أيضاً كان يعلم أنّه لن يستطيع تحقيق النصر العسكري على يزيد ؟

فالجواب :

١ ـ إنّ معاوية كان يُظهر الإسلام، ويزيد كان يتجاهر بالفسق والفجور، فضلاً عن دهاء الأب وبلادة الابن .

٢ ـ مثّلت خيانة الكوفيين بالنسبة إلى الحسينعليه‌السلام خطوته الموفّقة في التمهيد لنجاحه المطّرد في التاريخ، ولكنّها كانت بالنسبة إلى أخيه الحسنعليه‌السلام (يوم مسكن والمدائن) عقبته الكؤود عن تطبيق عملية الجهاد، فإنّ حوادث نقض بيعة الحسين كانت قد سبقت تعبئته للحرب، فجاء جيشه الصغير يوم وقف به للقتال، منخولاً من كلّ شائبة تضيره كجيش إمام له أهدافه المثلى(١) .

التحليل الثاني :

إن معاوية كان قد نشط في عهد الخليفتين الثاني والثالث بإمارته على الشام عشرين سنة، تمكّن بها في أجهزة الدولة، وصانع الناس فيها وأطمعهم

__________

(١) صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين : ٣٧١ ـ ٣٧٢ .

١٣٩

به فكانت الخاصة في الشام كلّها من أعوانه، وعظم خطره في الإسلام، وعرف في سائر الأقطار بكونه من قريش أسرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه من أصحابه، حتى كان في هذه أشهر من كثير من السابقين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، كأبي ذرّ وعمّار والمقداد وأضرابهم .

هكذا نشأت "الأُموية" مرّةً أخرى، تغالب الهاشمية باسم الهاشمية في علنها، وتكيد لها كيدها في سرّها، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدع العامة بدهائها، وتشتري الخاصة بما تغدقه عليهم من أموال الأُمة، وبما تؤثرهم به من الوظائف التي ما جعلها الله للخونة من أمثالهم، تستغل مظاهر الفتح وإحراز الرضا من الخلفاء، حتى إذا استتبّ أمر "الأُموية" بدهاء معاوية; انسلّت إلى أحكام الدين انسلال الشياطين، تدسّ فيها دسّها، وتفسد إفسادها، راجعة بالحياة إلى جاهلية تبعث الاستهتار والزندقة وفق نهج جاهلي وخطة نفعية ترجوها "الأُموية" لاستيفاء منافعها، وتسخّرها لحفظ امتيازاتها(١) .

والناس عامة لا يفطنون لشيء من هذا، فإنّ القاعدة المعمول بها في الإسلام ـ أعني قولهم : الإسلام يجبّ ما قبله ـ ألقت على فظائع "الأُموية" ستراً حجبها، ولا سيَّما بعد أن عفا عنها رسول الله وتألّفها، وبعد أن قرّبها الخلفاء منهم، واصطفوها بالولايات على المسلمين، وأعطوها من الصلاحيات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم، فسارت في الشام سيرتها عشرين عاماً لا يتناهون عن منكر فعلوه ولا ينهون .

وقد كان الخليفة الثاني عظيم المراقبة لبعض عمّاله دقيق المحاسبة لهم

__________

(١) للتعرّف على عداء معاوية وموبقاته التي تمثّلت في تعطيله الحدود الإلهية وتحريف الأحكام الشرعية وشرائه لأديان الناس وضمائرهم وخلاعته ومجونه وافتعاله للحديث وغيرها من المنكرات الفظيعة، راجع حياة الإمام الحسن : ٢ / ١٤٥ ـ ٢١٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206