اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: ISBN: 964- 5688-25-6
الصفحات: 202
المشاهدات: 56774
تحميل: 5951

توضيحات:

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 202 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56774 / تحميل: 5951
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

اعلام الهداية - الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
ISBN: 964- 5688-25-6
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك) (١) .

ولمّا أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السجون تفرغ للطاعة والعبادة حتى بهر بذلك العقول وحير الألباب، فقد شكر الله على تفرغه لطاعته قائلاً:(اللّهم إنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهمّ وقد فعلت فلك الحمد) (٢) .

لقد ضرب الإمام المثل الأعلى للعبادة فلم يضارعه أحد في طاعته وإقباله على الله، فقد هامت نفسه بحبه تعالى، وانطبع في قلبه الإيمان العميق.

وحدّث الشيباني(٣) عن مدى عبادته، فقال: كانت لأبي الحسن موسىعليه‌السلام في بضع عشر سنة سجدة في كل يوم بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال(٤) ، وقد اعترف عدوه هارون الرشيد بأنه المثل الأعلى للإنابة والإيمان، وذلك حينما أودعه في سجن الربيع(٥) فكان يطل من أعلى القصر فيرى ثوباً مطروحاً في مكان خاص من البيت لم يتغير عن موضعه فيتعجب من ذلك ويقول للربيع: (ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع) ؟ !

ــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان: ٤ / ٢٩٣، وكنز اللغة: ٧٦٦، وتاريخ بغداد: ١٣/٢٧ وعنه في الأنوار البهية: ١٩٠.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣٤٣، ووفيات الأعيان: ٤/٢٩٣.

(٣) الشيباني: هو أبو عبد الله محمد بن الحسن مولى لبني شيبان حضر مجلس أبي حنيفة سنين، وتفقه على أبي يوسف، وصنف الكتب الكثيرة ونشر علم أبى حنيفة وقال الشافعي: حملت من علم محمد بن حسن وقر بعير وقال أيضاً: ما رأيت أحداً يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت فيوجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن. توفي بالري سنة (١٨٧ هـ) وهو ابن ثمان وخمسين سنة كما جاء في طبقات الفقهاء: ص ١١٤.

(٤) حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ١ / ١٤٠ عن بحار الأنوار.

(٥) الربيع بن يونس كان حاجباً للمنصور ثم صار وزيراً له بعد أبي أيوب، وكان المنصور كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه قال له يوماً: ويحك ياربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال له الربيع: ما طابت الدنيا إلاّ بالموت، قال له: وكيف ذلك؟ فأجابه لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، فقاله له: صدقت ، وقال له المنصور لمّا حضرته الوفاة: بعنا الآخرة بنومة، ويقال إن الربيع لم يكن له أب يعرف، وأن بعض الهاشميين وفد على المنصور فجعل يحدثه ويقول له: كان أبي رحمه الله، وكان، وكان،وأكثر من الترحم عليه، فقال له الربيع:كم تترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال له الهاشمي: أنت معذور لأنك لا تعرف مقدار الآباء فخجل أشدّ الخجل. توفي الربيع سنة (١٧٠ هـ) جاء ذلك في وفيات الأعيان: (ج١ / ص٢٣١ ـ ٢٣٣) ط. بولاق.

٢١

ـ يا أمير المؤمنين: ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له في كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.

فبهر هارون وانطلق يبدي إعجابه.

ـ أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم !!

والتفت إليه الربيع بعد ما سمع منه اعترافه بزهد الإمام وعزوفه عن الدنيا طالباً أن يطلق سراحه ولا يضيّق عليه قائلاً:

ـ يا أمير المؤمنين: ما لك قد ضيّقت عليه في الحبس !!؟

فأجابه هارون بما انطوت عليه نفسه من عدم الرحمة والرأفة قائلاً:

ـ (هيهات: لابد من ذلك !)(١) .

ب ـ صومه: كان الإمامعليه‌السلام يصوم في النهار ويقوم مصلّياً في الليل، خصوصاً لمّا سجنه هارون فإنه لم يبارح العبادة الاستحبابية بجميع أنواعها من صوم وغيره، وهو يشكر الله ويحمده على هذا الفراغ الذي قضاه في عبادته.

ج ـ حجّه: وما من شيء يحبه الله وندب إليه إلاّ فعله الإمام عن رغبة وإخلاص، فمن ذلك أنه حج بيت الله ماشياً على قدميه، والنجائب تقاد بين يديه، وقد حج معه أخوه علي بن جعفر وجميع عياله أربع مرات، وحدّث علي بن جعفر عن الوقت الذي قطعوا به طريقهم فقال: كانت السفرة الأُولى ستاً وعشرين يوماً، والثانية كانت خمساً وعشرين يوماً، والثالثة كانت أربعاً وعشرين يوماً، والرابعة كانت إحدى وعشرين يوماً(٢) .

ــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا: ١/٩٥ ح ١٤ وعنه في الأنوار البهية: ١٨٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨/١٠٠ ح ٢ عن قرب الإسناد.

٢٢

د ـ تلاوته للقرآن: كان الذكر الحكيم رفيق الإمام في خلواته، وصاحبه في وحشته وكان يتلوه بإمعان وتدبر، وكان من أحسن الناس صوتا به، فإذا قرأ يحزن، ويبكي السامعون لتلاوته(١) .

وحدّث حفص عن كيفية تلاوته للقرآن فقال: وكان قراءته حزناً فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً(٢) بهذه الكيفية كان يتلو آيات الذكر الحكيم فكان يمعن في تعاليمه ويمعن في آدابه، ويتبصر في أوامره ونواهيه وأحكامه.

هـ ـ عتقه للعبيد: ومن مظاهر طاعة الإمامعليه‌السلام عطفه وإحسانه على الرقيق فقد أعتق ألف مملوك(٣) كل ذلك لوجه الله، وابتغاء مرضاته، والتقرب إليه.

٣ ـ زهده:

كان الإمام في طليعة الزاهدين في الدنيا والمعرضين عن نعيمها وزخارفها فقد اتجه إلى الله ورغب فيما أعدّه له في دار الخلود من النعيم والكرامة، وقد حدثنا عن مدى زهده إبراهيم بن عبد الحميد فقال: دخلت عليه في بيته الذي كان يصلي فيه، فإذا ليس في البيت شيء سوى خصفة، وسيف معلق، ومصحف(٤) ، لقد كان عيشه زهيداً، وبيته بسيطاً فلم يحتو على شيء حتى من الأمتعة البسيطة التي تضمها بيوت الفقراء الأمر الذي دل على تجرده من الدنيا، وإعراضه عنها. على أنه كانت تجبى له الأموال الطائلة، والحقوق الشرعية من العالم الشيعي، بالإضافة إلى أنه كان يملك البسرية وغيرها من

ــــــــــــ

(١) المناقب: ٤ / ٣٤٨.

(٢) أصول الكافي: ٢/٦٠٦ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ١١١.

(٣) عن (الدر النظيم) في مناقب الأئمة ليوسف بن حاتم الشامي، مخطوط في مكتبة الإمام الحكيم العامة (النجف الأشرف).

(٤) بحار الأنوار: ٤٨/١٠٠، ح١ عن قرب الإسناد.

٢٣

الأراضي الزراعية التي تدر عليه بالأموال الخطيرة، وقد أنفق جميع ذلك بسخاء على البائسين والمحرومين في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وكانعليه‌السلام دوماً يتلو على أصحابه سيرة أبي ذر الصحابي العظيم الذي ضرب المثل الأعلى لنكران الذات والتجرد عن الدنيا والزهد في ملاذها، فقالعليه‌السلام : (رحم الله أبا ذر. فلقد كان يقول : جزى الله الدنيا عني مذمة بعد رغيفين من الشعير، أتغدى بأحدهما، وأتعشى بالآخر، وبعد شملتي الصوف أءتزر بأحدهما وأرتدي بالأخرى...)(١) .

٤ ـ جوده وسخاؤه:

لقد تجلّى الكرم الواقعي، والسخاء الحقيقي في الإمام فكان مضرب المثل في الكرم والمعروف، فقد فزع إليه البائسون والمحرومون لينقذهم من كابوس الفقر وجحيم البؤس وقد أجمع المؤرخون أنه أنفقعليه‌السلام جميع ما عنده عليهم كل ذلك في سبيل الله لم يبتغ من أحد جزاءاً أو شكورا، وكانعليه‌السلام في صِلاته يتطلب الكتمان وعدم الذيوع لئلا يشاهد على الآخذ ذلة الحاجة، وكان يلتمس في ذلك وجه الله ورضاه، ولهذا كان يخرج في غلس الليل البهيم فيصل الطبقة الضعيفة ببرّه وإحسانه وهي لا تعلم من أيّ جهة تصلها تلك المبرة، وكان يوصلهم بصراره التي تتراوح ما بين المئتي دينار إلى الأربعمئة دينار(٢) وكان يضرب المثل بتلك الصرار فكان أهله يقولون: (عجباً لمن جاءته صرار موسى وهو يشتكي القلة والفقر!!)(٣)

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ٢ / ١٣٤.

(٢) تأريخ بغداد: ١٣ / ٢٨.

(٣) عمدة الطالب: ١٨٥.

٢٤

وبلغ من عطفه المستفيض أنه إذا بلغه عن شخص يؤذيه ويسيء إليه بعث له بصرّة فيها ألف دينار(١) . وقد قامت هباته السرية وصلاته الخفية بإعاشة فقراء يثرب، فكانوا جميعاً يرتعون بنعمته ويعيشون من عطاياه.

وحدّث عيسى بن محمّد القرطي قال: (زرعت بطيخاً وقثاءً وقرعاً(٢) في موضع بالجوانيّة(٣) على بئر يقال لها أم عضام فلمّا استوى الزرع بغتني الجراد، فأتى على الزرع كلّه، وكنت قد غرمت عليه مع ثمن جملين مئة وعشرين ديناراً. فبينما أنا جالس إذ طلع عليّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام فسلّم ثم قال لي:كيف حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم بغتني الجراد فأكل كل زرعي فقال:كم غرمت فيه؟ فقلت: مئة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين. فالتفتعليه‌السلام لعرفة وقال له:زن لابن المغيث مئة وخمسين ديناراً . ثم قال لعيسى:فربحك ثلاثون ديناراً مع الجملين )(٤) .

٥ ـ حلمه:

وكان الحلم من أبرز صفات الإمام موسىعليه‌السلام فقد كان مضرب المثل في حلمه وكظمه للغيظ، وكان يعفو عمن أساء إليه، ويصفح عمن اعتدى عليه، ولم يكتف بذلك وإنما كان يحسن لهم ويغدق عليهم بالمعروف ليمحو بذلك روح الشر والأنانية من نفوسهم، وقد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من حلمه

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ١٣ / ٢٧.

(٢) القرع: نوع من اليقطين ، الواحدة قرعة.

(٣) منطقة قرب المدينة.

(٤) تاريخ بغداد: ١٣/٢٩، وكشف الغمة: ٢ / ٢١٧.

٢٥

فقد رووا: (أن شخصاً من أحفاد عمر بن الخطاب كان يسيء للإمام، ويكيل السب والشتم لجده أمير المؤمنينعليه‌السلام فأراد بعض شيعة الإمام اغتياله فنهاهمعليه‌السلام عن ذلك ورأى أن يعالجه بغير ذلك فسأل عن مكانه فقيل: أنه يزرع في بعض نواحي المدينة، فركبعليه‌السلام بغلته ومضى إليه متنكراً، فوجده في مزرعته فأقبل نحوه، فصاح به: لا تطأ زرعنا واستمر الإمام حتى وصل إليه، ولمّا انتهى إليه جلس إلى جنبه وأخذ يلاطفه ويحدّثه بأطيب الحديث، وقال له بلطف ولين:

ـكم غرمت في زرعك هذا ؟

ـ مئة دينار.

ـكم ترجو أن تصيب منه ؟

ـ أنا لا أعلم الغيب !!

ـإنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك منه ؟

ـ أرجو أن يجيئني منه مئتا دينار.

فأعطاهعليه‌السلام ثلاثمئة دينار، وقال:هذه لك وزرعك على حاله ، فتغير العمري وخجل من نفسه على ما فرط من قبل في حق الإمام، وتركهعليه‌السلام ومضى إلى الجامع النبوي، فوجد العمري قد سبقه، فلما رأى الإمام مقبلاً قام إليه تكريماً وانطلق يهتف: (الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء).

فبادر إليه أصحابه منكرين عليه هذا الانقلاب، فأخذ يخاصمهم، ويتلو عليهم مناقب الإمام ومآثره، ويدعو له، فالتفتعليه‌السلام إلى أصحابه قائلاً:أيّما كان خيراً؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟ )(١)

ــــــــــــ

(١) تأريخ بغداد: ١٣ / ٢٨ ـ ٢٩، والإرشاد: ٢/٢٣٣ وعنه في إعلام الورى: ٢/٢٦، ٢٧، وكشف الغمة: ٣/١٨، ١٩ واختصر في مناقب آل أبي طالب: ٤/٣٤٤.

٢٦

ومن آيات حلمهعليه‌السلام أنه اجتاز على جماعة من حسّاده وأعدائه، وكان فيهم ابن هياج فأمر بعض أتباعه أن يتعلق بلجام بغلة الإمام ويدّعيها فمضى الرجل إلى الإمام وتعلق بزمام بغلته فادعاها له فعرف الإمام غايته فنزل عن بغلته وأعطاها له(١) . لقد أقامعليه‌السلام بذلك أسمى مثل للإنسانية الفذّة والحلم الرفيع.

وكانعليه‌السلام يوصي أبناءه بالتحلّي بهذه الصفة الرفيعة ويأمرهم بالصفح عمن أساء إليهم فقد جمعهم وأوصاهم بذلك فقال:(يا بُنيّ: إني أوصيكم بوصية من حفظها انتفع بها، إذا أتاكم آت فأسمع أحدكم في الإذن اليمنى مكروهاً ثم تحوّل إلى اليسرى فاعتذر لكم، وقال: إني لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره) (٢) .

٦ ـ إرشاده وتوجيهه:

إنّ إرشاد الناس إلى الحق وهدايتهم إلى الصواب من أهم الأمور الإصلاحية التي كان الإمام يعنى بها، فقد قام بدور مهم في إنقاذ جماعة ممن أغرّتهم الدنيا وجرفتهم بتيّاراتها. وببركة إرشاده ووعظه لهم تركوا ما هم فيه من الغيّ والضلال وصاروا من عيون المؤمنين. وقد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة له في هذا المجال فقد رووا قصته مع بشر الحافي، إذ كان في بداية أمره ـ فيما يقول الرواة ـ يتعاطى الشراب ويقضي لياليه وأيامه في المجون والدعارة فتاب ببركة إرشاد الإمامعليه‌السلام وتوجيهه كما سوف نشير إلى قصّته مع الإمامعليه‌السلام فيما سيأتي(٣) .

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨/١٤٨ عن فروع الكافي: ٨/٨٦.

(٢) كشف الغمة: ٣/٨ عن الجنابذي، والفصول المهمة لابن الصباغ: ٢٣٥.

(٣) راجع تمام القصة في الفصل الثّاني من الباب الثّالث: ٨٠.

٢٧

وممن أرشدهم الإمامعليه‌السلام إلى طريق الحق: الحسن بن عبد الله، فقد كان شخصية مرموقة عند الملوك زاهداً في الدنيا، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، فاجتمع بالإمام فقالعليه‌السلام له:يا أبا علي ، ما أحب إليَّ ما أنت عليه وأسرني به ، إلا أنه ليست لك معرفة فاطلب المعرفة قال: وما المعرفة ؟ فقال له:تفقّه واطلب الحديث .

فذهب الرجل فكتب الحديث عن مالك وعن فقهاء أهل المدينة، وعرضه على الإمام فلم يرضعليه‌السلام ، وأرشده إلى فقه أهل البيت وأخذ الأحكام منهم، والاعتراف لهم بالإمامة فانصاع الرجل لذلك واهتدى(١) .

لقد كانعليه‌السلام يدعو الناس إلى فعل الخير ويدلّهم على العمل الصالح ويحذرهم لقاء الله واليوم الآخر، فقد سمع رجلاً يتمنّى الموت فانبرىعليه‌السلام له قائلاً: (هل بينك وبين الله قرابة يحابيك لها ؟ فقال: لا. فقال لهعليه‌السلام :فأنت إذن تتمنّى هلاك الأبد )(٢) .

٧ ـ إحسانه إلى الناس:

وكان الإمام بارّاً بالمسلمين محسناً إليهم، فما قصده أحد في حاجة إلاّ قام بقضائها، فلا ينصرف منه إلاّ وهو ناعم الفكر مثلوج القلب، وكانعليه‌السلام يرى أن إدخال الغبطة على الناس وقضاء حوائجهم من أهم أفعال الخير فلذا لم مبرّراً له، وقد فزع إليه جماعة من المنكوبين فكشف آلامهم وملأ قلوبهم رجاءاً ورحمة.

ــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهرآشوب: ٤ / ٣١٢.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف: ٥٥.

٢٨

ومن هؤلاء الذين أغاثهم الإمامعليه‌السلام شخص من أهالي الري(١) كانت عليه أموال طائلة لحكومة الري فلم يتمكّن من أدائها، وخاف على نعمته أن تسلب منه، فأخذ يطيل الفكر فيما يعمل، فسأل عن حاكم الري، فأخبر أنه من الشيعة، فطوى نيته على السفر إلى الإمام ليستجير به فسافر إلى المدينة فلما انتهى إليها تشرف بمقابلة الإمام فشكى إليه حاله، فزودهعليه‌السلام برسالة إلى والي الري جاء فيها بعد البسملة:اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلاً لا يسكنه إلاّ من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام .

وأخذ الرسالة، وبعد أدائه لفريضة الحج، اتّجه إلى وطنه، فلما وصل، مضى إلى الحاكم ليلاً، فطرق عليه باب بيته فخرج غلامه، فقال له: من أنت ؟

فقال: رسول الصابر موسى ؟

فهرع إلى مولاه فأخبره بذلك فخرج حافي القدمين مستقبلا له، فعانقه وقبّل ما بين عينيه، وجعل يكرر ذلك، ويسأله بلهفة عن حال الإمام، ثم إنه ناوله رسالة الإمام فقبّلها وقام لها تكريماً، فلما قرأها أحضر أمواله وثيابه فقاسمه في جميعها وأعطاه قيمة ما لا يقبل القسمة وهو يقول له: يا أخي هل سررتك ؟

فقال له: أي والله وزدت على ذلك !!

ــــــــــــ

(١) كان يُدعى: علي بن طاهر الصوري كما في مصدر الخبر.

٢٩

ثم استدعى السجل فشطب على جميع الديون التي عليه وأعطاه براءة منها، وخرج الرجل وقد طار قلبه فرحاً وسروراً، ورأى أن يجازيه على إحسانه ومعروفه فيمضي إلى بيت الله الحرام فيدعو له، ويخبر الإمام بما أسداه إليه من البر والمعروف، ولمّا أقبل موسم الحج مضى إليه ثم اتّجه إلى يثرب فواجه الإمام وأخبره بحديثه، فسرّعليه‌السلام بذلك سروراً بالغاً، فقال له الرجل: يا مولاي: هل سرّك ذلك ؟ فقال الإمامعليه‌السلام :(إي والله ! لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقد سرّ الله تعالى..) (١) .

وقد دلّ ذلك على اهتمامه البالغ بشؤون المسلمين ورغبته الملحة في قضاء حوائج الناس.

ــــــــــــ

(١) اعتمدنا في هذا الفصل على ما كتبه الأستاذ باقر شريف القرشي ، راجع حياة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : ١ / ١٣٨ ـ ١٦٢. وخبر الصوريّ من أهل الريّ رواه المجلسي في بحار الأنوار: ٤٨/١٧٤ ح ١٦ عن كتاب قضاء حقوق المؤمنين المنشور في نشرة تراثنا: ٣٤/١٨٦ ح ٢٤.

٣٠

الباب الثاني: وفيه فصول:

الفصل الأول: نشأة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام موسى الكاظم في ظلّ أبيهعليهما‌السلام .

الفصل الأوّل: نشأة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام

هو سابع أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، الكبير القدر العظيم الشأن، الجاد في العبادة المشهور بالكرامات، الكاظم الغيظ والعافي عن الناس، العبد الصالح وباب الحوائج إلى الله كما هو المعروف عند أهل العراق.

١ ـالأب : هو سادس أئمة أهل البيت بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو عبد الله جعفر ابن محمد الصادق معجزة الإسلام ومفخرة الإنسانية على مرّ العصور وعبر الأجيال، لم تسمع الدنيا بمثله فضلا ونبلا وعلماً وكمالا.

٢ ـالأم : لقد كانت أم الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام من تلكم النسوة اللاتي جلبن لأسواق يثرب وقد خصّها الله بالفضل وعناها بالشرف فصارت وعاءً للإمامة والكرامة وتزوّج بها أبو عبد الله، فكانت من أعزّ نسائه وأحبهن إليه، وآثرهن عنده.

واختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً في نسبها فقيل : إنها أندلسية، وتكنّى لؤلؤة(١) ، وقيل : إنّها رومية(٢) ، وقيل إنها من أجلّ بيوت الأعاجم(٣) ، وكانت

ــــــــــــ

(١) مرآة العقول: ١/٤٥١، معالم العترة.

(٢) تحفة الأزهار وزلال الأنهار، للسيد ضامن بن شدقم، مخطوط، يوجد في قسم المخطوطات، من مكتبة الإمام كاشف الغطاء في النجف الأشرف.

(٣) الأنوار البهية: ١٥٢.

٣١

السيدة حميدة تعامل في بيتها معاملة كريمة، فكانت موضع عناية وتقدير عند جميع العلويات، كما أن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يغدق عليها بمعروفه، وقد رأى فيها وفور العقل والكمال، وحسن الإيمان وأثنى عليها ثناءً عاطراً، فقال فيها:(حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، مازالت الأملاك تحرسها حتى أديت إليّ كرامة من الله وللحجة من بعدي...) (١) ، وقد غذّاها الإمام الصادق بعلومه حتى أصبحت في طليعة نساء عصرها علماً وورعاً وإيماناً، وعهد إليها بتفقيه النساء المسلمات وتعليمهن الأحكام الشرعية(٢) ، وأجدر بها أن تحتل هذه المكانة، وأن تكون من ألمع نساء عصرها في العفّة والفقه والكمال.

٣ ـالوليد المبارك : وامتدّ الزمن بعد زواج الإمام بها، وسافر الإمام أبو عبد الله إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، فحملها معه، وبعد الانتهاء من مراسيمه قفلوا راجعين إلى يثرب، فلمّا انتهوا إلى (الأبواء)(٣) . أحسّت حميدة بالطلق فأرسلت خلف الإمام تخبره بالأمر، لأنه قد عهد إليها أن لا تسبقه بشأن وليده، وكان أبو عبد الله يتناول طعام الغداء مع جماعة من أصحابه، فلما وافاه النبأ المسرّ قام مبادراً إليها فلم يلبث قليلاً حتى وضعت حميدة سيداً من سادات المسلمين، وإماماً من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

لقد أشرقت الدنيا بهذا المولود المبارك الذي ما ولد ـ في عصره ـ أيمن، ولا أكثر عائدة ولطفاً على الإسلام منه. لقد ولد أبرّ الناس، وأعطفهم على الفقراء، وأكثرهم عناءً ومحنة في سبيل الله وأعظمهم عبادة وخوفاً من الله.

وبادر الإمام أبو عبد الله فتناول وليده فأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨/٦، أصول الكافي: ١ / ٤٧٧، أعيان الشيعة: ٢/٥.

(٢) الأنوار الإلهية: ١٥٣.

(٣) الأبواء: بالفتح ثم السكون ، وواو وألف ممدودة، قرية من أعمال الفرع بالمدينة، وبه قبر الزاكية آمنة بنت وهب أم النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٢

وانطلق الإمام أبو عبد الله عائداً إلى أصحابه، وقد علت على ثغره ابتسامة فبادره أصحابه قائلين: أسرّك الله وجعلنا فداك يا سيدنا ، ما فعلت حميدة ؟ فبشرهم بمولوده المبارك، وعرّفهم عظيم أمره قائلاً:(قد وهب الله لي غلاماً، وهو خير من برأ الله) .

أجل أنه خير من برأ الله علماً وتقوىً وصلاحاً، وتحرّجاً في الدين وأحاط الإمام أصحابه علماً بأن وليده من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين فرض الله طاعتهم على عباده قائلاً لهم:(فدونكم، فوالله هو صاحبكم) (١) .

وكانت ولادته في سنة (١٢٨ هـ)(٢) وقيل سنة (١٢٩ هـ)(٣) وذلك في أيام حكم عبد الملك بن مروان.

٤ ـحب وتكريم : وقطع الإمام موسى شوطاً من طفولته وهو ناعم البال يستقبل الحياة كل يوم بحفاوة وتكريم، فأبوه يغدق عليه بعطفه المستفيض ، وجماهير المسلمين تقابله بالعناية والتكريم ، وقد قدمه الإمام الصادقعليه‌السلام على بقية ولده، وحمل له من الحب ما لا يحمله لغيره، فمن مظاهر ودّه

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ٢ ، عن بصائر الدرجات: ١٢٩، ب ١٢، ح٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣٤٩، وتهذيب التهذيب: ١٠ / ٣٤.

(٣) أعيان الشيعة: ٢ / ٥ ، وعن تحفة الأزهار أنه ولد قبل طلوع فجر يوم الثلاثاء من صفر سنة (١٢٧ هـ) وعن بحر الأنساب أنه ولد يوم الأحد لسبع ليال خلون من صفر.

٣٣

أنه وهب له قطعة من أرض تسمى البسرية، كان قد اشتراها بست وعشرين ألف دينار(١) .

وتكلّم الإمام موسى وهو طفل بكلام أثار إعجاب أبيه فاندفع أبوه قائلاً:(الحمد لله الذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء) (٢) .

٥ ـصفته : كان أسمر شديد السمرة(٣) ، ربع القامة، كث اللحية(٤) ووصفه شقيق البلخي فقال: كان حسن الوجه ، شديد السمرة، نحيف الجسم.

وحاكى الإمام موسى في هيبته هيبة الأنبياء، وبدت في ملامح شكله سيماء الأئمة الطاهرين من آبائه، فما رآه أحد إلاّ هابه وأكبره.

٦ ـنقش خاتمه : (الملك لله وحده)(٥) .

٧ ـكناه : أبو الحسن الأول ، أبو الحسن الماضي، أبو إبراهيم، أبو علي، أبو إسماعيل.

٨ ـألقابه : أمّا ألقابه فتدل على بعض مظاهر شخصيته، وجملة من جوانب عظمته، وهي كما يلي:

الصابر : لأنه صبر على الآلام والخطوب التي تلقاها من حكام الجور، الذين قابلوه بجميع ألوان الإساءة والمكروه.

الزاهر : لأنه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيء الذي مثل به خلق جده الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨/٢٤، عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١/٢٩.

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ٢٢٢ ، أخبار الدول: ١١٢.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٣٤٨.

(٥) أخبار الدول: ١١٢.

٣٤

العبد الصالح : ولقب بالعبد الصالح لعبادته، واجتهاده في الطاعة، حتى صار مضرب المثل في عبادته على ممرّ العصور والأجيال وقد عرف بهذا اللقب عند رواة الحديث فكان الراوي عنه يقول: حدثني (العبد الصالح).

السيد : لأنه من سادات المسلمين ، وإمام من أئمتهم، وقد مدحه بهذا اللقب الشاعر الشهير أبو الفتح بقوله:

وإذا كنت للشريف غلاماً

فأنا الحر والزمان غلامي(١)

الوفي : لأنه أوفى إنسان خلق في عصره، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته وبارّاً حتى بأعدائه والحاقدين عليه.

الأمين : وكل ما للفظ الأمانة من معنى قد مثل في شخصيته العظيمة فقد كان أمينا على شؤون الدين وأحكامه، وأميناً على أمور المسلمين وقد حاز هذا اللقب كما حازه جده الرسول الأعظم من قبل، ونال به ثقة الناس جميعاً.

الكاظم : وإنما لقّب بذلك لما كظمه من الغيظ عما فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق حتى قضى شهيداً مسموماً في ظلمات السجون لم يبد لأحد آلامه وأشجانه بل قابل ذلك بالشكر لله والثناء عليه، ويقول ابن الأثير: (إنه عرف بهذا اللقب لصبره، ودماثة خلقه، ومقابلته الشر بالإحسان)(٢) .

ذو النفس الزكية : وذلك لصفاء ذاته التي لم تتلوّث بمآثم الحياة ولا بأقذار المادة حتى سمت، وانبتلت عن النظير.

باب الحوائج : وهذا أكثر ألقابه ذكراً، وأشهرها ذيوعاً وانتشاراً، فقد اشتهر بين العام والخاص أنه ما قصده مكروب أو حزين إلا فرّج الله آلامه

ــــــــــــ

(١) أخبار الدول: ١١٣.

(٢) مختصر تأريخ العرب: ٢٠٩.

٣٥

وأحزانه وما استجار أحد بضريحه المقدس إلا قضيت حوائجه، ورجع إلى أهله مثلوج القلب مستريح الفكر مما ألم به من طوارق الزمن وفجائع الأيام، وقد آمن بذلك جمهور شيعته بل عموم المسلمين على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم، فهذا شيخ الحنابلة وعميدهم الروحي أبو علي الخلال يقول: (ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر إلا سهّل الله تعالى لي ما أحب)(١) .

وقال الإمام الشافعى: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرَّب)(٢) .

لقد كان الإمام موسى في حياته مفزعاً وملجأ لعموم المسلمين وكذلك كان بعد وفاته حصناً منيعاً لمن استجار به(٣) .

الفصل الثّاني: مراحل حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام

تبعاً لطبيعة الظروف التي مرّ بها الإمام الكاظمعليه‌السلام في حياته تنقسم الدراسة عن حياته إلى ثلاث مراحل متميّزة:

المرحلة الأولى : إذا اعتبرنا المرحلة الأولى من حياة الإمامعليه‌السلام هي مرحلة ما قبل التصدي للإمامة الشرعية أي منذ ولادته في سنة (١٢٨) أو (١٢٩ هـ) حتى استشهاد أبيه الصادقعليه‌السلام سنة (١٤٨ هـ).

فالمرحلة الأولى: هي مرحلة نشأته وحياته في ظلّ أبيهعليهما‌السلام وهي تناهز العقدين من عمره الشريف. وقد تميزت هذه المرحلة بظهور علمه الربّاني وقدرته الفائقة على الحوار والحجاج حتى أفحم مثل أبي حنيفة وهو صبي لم يتجاوز نصف العقد الواحد من عمره المبارك.

ــــــــــــ

(١) تأريخ بغداد: ١ / ١٣٣ طبعة دار الكتب العلمية بيروت.

(٢) تحفة العالم: ٢ / ٢٠.

(٣) لقد اعتقد أغلب المسلمين أن الله يكشف البلاء، ويدفع الضر بالالتجاء إلى ضريح الإمام عليه‌السلام ، وقال ابن شهر آشوب في مناقبه: رؤي في بغداد امرأة تهرول فقيل: إلى أين؟ قالت: إلى موسى بن جعفر فإنّه حُبس ابني، فقال لها حنبلي: إنّه قد مات في الحبس، فقالت: بحقّ المقتول في الحبس أن تريني القدرة، فإذا بابنها قد أطلق وأُخذ ابن المستهزئ بجنايته. المناقب: ٤ / ٣٠٥.

٣٦

المرحلة الثانية: وتبدأ بتسلّمه لزمام الأمور الدينية (العلمية والسياسية والتربوية) بعد استشهاد أبيه في ظروف سياسيّة قاسية كان يخشى فيها على حياته المباركة حتى اضطر الإمام الصادقعليه‌السلام لأن يجعله واحداً من خمسة أوصياء في وصيته المشهورة التي بدّد فيها تخطيط المنصور لاغتيال وصي الإمام الصادقعليه‌السلام .

واستمرت هذه المرحلة حتى مات المنصور سنة (١٥٨ هـ) واستولى المهدي ثم الهادي سنة (١٦٩ هـ) على مركز السلطة فهي تبلغ حوالي عقدين أو ما يزيد عليهما بقليل وكانت مرحلة انفراج نسبي لأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم سيَّما في عهد المهدي العباسي.

المرحلة الثالثة: وهي مرحلة معاصرته لحكم الرشيد حيث استولى على زمام الحكم سنة (١٧٠ هـ) وهو المعروف بحقده للعلويين بعد أخيه الهادي وأبيه المهدي. واستمرت هذه المرحلة حتى سنة (١٨٣ هـ) وهي سنة استشهاد الإمام الكاظم بيد أحد عمّال الرشيد. وهذه المرحلة هي من أحرج مراحل حياة الإمامعليه‌السلام وأدقّها من حيث تشديد التضييق عليه، ولم ينته العقد الأول من حكم الرشيد إلاّ والإمام في مطامير سجونه، تارة في البصرة وأخرى في بغداد. وتميّزت هذه السنوات العجاف بالتخطيط المستمر من قبل الرشيد لإدانة الإمامعليه‌السلام والسعي المتواصل لسجنه واغتياله.

وقد أخذ الإمام يكثّف نشاطه ضد الحكم القائم. فيما إذا قيس إلى مواقفه من المنصور والمهدي وانتهت هذه المرحلة بالتضييق والتشديد على أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم والإمام الكاظم بشكل خاص بالرغم من عدم قيام العلويين بالثورة ضد هارون الرشيد. ولكن الإمام قد استثمر كل طاقاته لبلوغ أهدافه رغم حراجة الظرف وتشديد القبضة على العلويين. وكان الإمام فيها يعلم بسياسة هارون وقراره النهائي باغتيال الإمامعليه‌السلام مهما كلّف الأمر حتى انه لم يتقبل وساطة أيّ واحد من مقربي بلاطه.

وانتهت هذه المرحلة بمقاومة الإمامعليه‌السلام وثباته على مواقفه وعدم تنازله عند رغبات الرشيد ومحاولاته لاستذلال الإمامعليه‌السلام بشكل وآخر ليركع أمام جبروته لقاء تنفّسه هواء الحرية خارج السجن.

٣٧

ولكن الإمام باشر مهامه بكل إحكام وإتقان وأوصى إلى ابنه الرضا وضمن للجماعة الصالحة استمرار المسيرة، وقضى مسموماً صابراً محتسباً. مكللاً جهاده بالشهادة في سبيل الله تعالى.

تأريخ الاستشهاد : استشهد مظلوماً في حبس السندي بن شاهك في ٢٥ من رجب سنة (١٨٣ هـ) ودفن في مقابر قريش في بغداد.

الفصل الثّالث: الإمام موسى الكاظم في ظلّ أبيهعليهما‌السلام

لقد تميّزت المرحلة التي نشأ فيها الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام وعاصرها مع أبيه ـ منذ ولادته سنة (١٢٨ هـ) حتى وفاة أبيه سنة (١٤٨ هـ) بعدّة منعطفات تاريخيّة ونشاطات نوعية من قبل الإمام الصادقعليه‌السلام حيث استطاع بقدراته الإلهيّة وحنكته الربانيّة أن يتجاوز تلك التحدّيات ، ويرسم الخط الإلهي الأصيل ويُنجز مهامّ الإمامة ويهيئ لولده الإمام الكاظمعليه‌السلام الطريق لكي يمارس دوره المستقبلي.

ولمّا كنّا بصدد إلقاء الضوء على أهم ما امتازت به حياة الإمام الكاظم مع أبيهعليهما‌السلام لنتصوّر من خلالها الأدوار المقبلة له أثناء تصدّيه للإمامة كان من الأهميّة أن نلخّص الظواهر البارزة في هذه المرحلة من حياته مع أبيهعليه‌السلام كما يلي:

١ ـ ظاهرة التمرّد على السلطة والاعتقاد بأهميّة الثورة ، والندم على موقف السكوت أمام الباطل ، والدعوة للعلويين الذين يشكّلون الخط المناهض للحكم الأموي ، فظاهرة التمرّد أفقدت المركزية للسلطة وانتهت إلى عدم الطاعة للأمراء، حتى أصبح شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه المرحلة حديث الساعة الذي كان يتداوله الناس هنا وهناك.

وهذه الظاهرة أتاحت للإمام الصادقعليه‌السلام أن ينفذ من خلالها لتطبيق برنامجه ما دامت السلطة مشغولة بالاضطرابات التي خلّفتها الثورة الحسينية.

٢ ـ في هذه الفترة ظهرت على المسرح السياسي مقدمات نشوء الدولة العبّاسية ، حيث استغلّ العبّاسيون هذه الأجواء وعقدوا اجتماعهم بالأبواء وقرّروا في ظاهر الأمر أن يكون الخليفة محمداً ذا النفس الزكية وروّجوا الدعوة للرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنهم دعوا الناس إلى البيعة للعبّاسيين سرّاً، وعيّن إبراهيم الإمام في حينها غلامه أبا مسلم الخراساني قائداً عسكرياً على خراسان وأوصاه بالقتل والإبادة الجماعية والأخذ على الظِنّة والتهمة لخصومه الأمويين.

وكان موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من هذه الحركة العبّاسية هو الحياد وعدم المشاركة

٣٨

فيها وعدم دعمها وإخباره وتنبّؤه بنتائجها، مع عدم توفر الظرف الملائم للثورة العلوية وذلك لفقدان الشروط الموضوعية لها ، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال مواقفهعليه‌السلام من العروض التي تقدّم بها قادة الدعوة العبّاسية للإمامعليه‌السلام أمثال أبي سلمة وأبي مسلم الخراساني حيث صرّح لهم مرّة بأن الزمان ليس بزمانه، ومرّة أخرى أحرق الرسالة التي وصلته من أحدهم. لقد كانت عروضاً سياسيّة مصلحية وكان الإمامعليه‌السلام يدرك خلفيّاتها. وبهذا تخلّص الإمامعليه‌السلام من هذه المنزلقات وخلّص شيعته ليفتح لهم آفاقاً أرحب للعمل والجهاد في سبيل الله تعالى.

٣ ـ تركّزت نشاطات الإمام الصادقعليه‌السلام نحو البناء الخاص ومعالجة التحدّيات التي كانت تعصف بالوجود الشيعي ضمن عدّة اتّجاهات:

أ ـ التغيير الثقافي والفكري: حين قرّر الإمامعليه‌السلام لزوم الحياد السياسي كان قد أعدّ برنامجه الذي يستوعب عن طريقه طاقات الأمة ويلبّي حاجاتها الاجتماعية والأخلاقية من خلال جامعة أهل البيتعليهم‌السلام والتي أسّسها وطوّرها كي يتمكّن عن طريقها من مواجهة المدّ الفكري المنحرف الذي روّج له الأمويون. وبسبب عجز التيّار السياسي عن معالجة الانحرافات استقطب مختلف الشرائح والاتجاهات، وتشكّلت لهذه الجامعة فروع في البلاد الإسلامية وأصبحت تيّاراً ثقافيّاً يروّج للاتجاه الجعفري الذي كان يمثّل خطّ أهل بيت الرسالة، وكان للإمام الكاظمعليه‌السلام دور بارز في مدرسة أبيهعليه‌السلام في هذا الظرف بالذات.

ب ـ وفي الوقت الذي كان الإمامعليه‌السلام يطور هذا التيّار الفكري كان يهيئ الأذهان الخاصّة لقبول قيادة الإمام الكاظمعليه‌السلام والإيمان بإمامته فقد جاء عن المفضّل بن عمر أنه قال: كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فدخل أبو إبراهيم موسى وهو غلام فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :استوص به وضَعْ أمره عند من تثق به من أصحابك (١) .

ج ـ وتحرّك الإمام الصادقعليه‌السلام لقطع الطريق أمام الدعوات المشبوهة التي كانت تهدف إلى تمزيق وحدة الصفّ الشيعي وتطرح نفسها كبديل للإمامعليه‌السلام ، فمن أساليبهعليه‌السلام خلال مواجهته للتيّار الإسماعيلي إخباره الشيعة بأنّ إسماعيل ليس هو الإمام من بعده، وعندما توفّي إسماعيل أحضر الإمام الصادقعليه‌السلام حشداً من الشيعة ليخبرهم بحقيقة موت إسماعيل لئلاّ يستغلّ المنحرفون موت إسماعيل لتمزيق الكيان الشيعي بالتدريج.

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣٠٨، ح ٤، والإرشاد: ٢/٢١٦.

٣٩

٤ ـ عاصر الإمام الكاظمعليه‌السلام معاناة أبيه الصادقعليه‌السلام وشاهد الاستدعاءات المتكرّرة له من قبل المنصور حتى استشهادهعليه‌السلام بعد الوصية

لابنه الإمام الكاظمعليه‌السلام وإبلاغها لخواصّ شيعته وربط عامّة الشيعة بإمامته.

٥ ـ الإمامة منصب ربّاني يتقوّم بجدارة الإنسان المرشّح للإمامة وقابليته لتحمّل أعباء هذه المسؤولية الكبرى، ولهذا يعتبر فيها الاجتباء الربّاني والاصطفاء الإلهي، ومن هنا كان النصّ على كل واحد من الأئمة ضرورة لا بدّ منها.

والنصوص العامّة والخاصّة قد بلّغها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صحابته وأهل بيته وتناقلتها كتب الحديث والأخبار. ولكن النصوص المباشرة من كل إمام على الذي يليه من أبنائه لها ظروفها الخاصّة التي تكتنفها فتؤثر في كيفية التنصيص وأساليب التعبير ودلالاتها التي تتراوح بين الإشارة تارة والتصريح تارة أخرى.

ومن يتابع نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام على إمامة ابنه أبي الحسن موسى الكاظمعليه‌السلام ويلاحظها بتسلسلها التاريخي يكتشف جانباً من أساليب الإمام الصادق وإضاءاته المكثّفة تجاه تقرير إمامة ابنه أبي الحسن موسى من بعده مراعياً فيها تقلّبات وتطوّرات الواقع الاجتماعي الذي عاشه الإمامعليه‌السلام خلال عقدين من الزمن قبل وفاته أي من حين ولادة ابنه موسى والذي ولد من أم ولد أندلسيّة في الوقت الذي كان قد ولد له أبناء آخرون من زوجته فاطمة بنت الحسين الأصغر (الأثرم) عمّ الإمام الصادقعليه‌السلام فكان أكبرهم إسماعيل والذي كان يحبّه أبو عبد الله حبّاً شديداً، وكان قوم من شيعته يظنون أنّه القائم بعد أبيه.

وقد توفّي إسماعيل سنة (١٤٢ هـ) وكان عبد الله بن جعفر المعروف بالأفطح أكبر أولاد الصادق بعد أخيه إسماعيل.

ومن هنا كان النصّ على إمامة موسى تكتنفه ملابسات عديدة بعضها تعود إلى أبناء الإمام وبعضها إلى أصحابه وجملة منها ترتبط بالوضع السياسي القائم آنذاك.

من هنا نقف قليلاً عند نصوص الإمام الصادق على إمامة ابنه موسىعليهما‌السلام مراعين تسلسل صدورها قدر الإمكان.

٤٠