اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 241
المشاهدات: 97457
تحميل: 6366

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97457 / تحميل: 6366
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كما نجد الإمامعليه‌السلام يعطي ضابطة سلوكية تكشف بدورها عن مستوى التديّن وعمقه في النفس قائلاً :( إذا رأيتم العبد يتفقّد الذنوب من الناس ، ناسياً لذنبه فاعلموا أنّه قد مكر به ) (١) .

القدوة الحسنة

ومن الوسائل التي استخدمها الإمامعليه‌السلام في منهجه التغييري وبنائه للمجمتع الفاضل هو اهتمامه وتركيزه على النموذج الشيعي الذي يشكّل القدوة الحسنة في سلوكه ليكون عنصراً مؤثراً ومحفّزاً للخير ومشجّعاً لنمو الفضيلة في داخل المجتمع وقد بذل الإمامعليه‌السلام جهداً منقطع النظير في تربيته وإعداده للنموذج القدوة وقد سلّحه بمختلف العلوم وأحاطه بجملة من الوصايا والتوجيهات العلمية والأخلاقية .

واستطاع الإمام بطاقاته الإلهية أن يصنع عدداً كبيراً من هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد قادةً ومناراً تهوي إليهم القلوب لتنهل من علومهم ، وبقي اسمهم مخلّداً في التأريخ يتناقل المسلمون مآثرهم جيلاً بعد جيل .

ونقتصر فيما يلي على بعض التوجيهات بهذا الصدد :

١ ـ جاء عنهعليه‌السلام فيما يخص العبادة التي يتميّز بها الشيعي وعلاقته بالله أنه قال :( امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة ، كيف محافظتهم عليها ، وإلى أسرارنا كيف حفظهم لها عند عدوّنا ، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها ) (٢) .

٢ ـ عن محمد بن عجلان قال كنت مع أبي عبد اللهعليه‌السلام فدخل رجل

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٦٤ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٦ .

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٨٣ ، وبحار الأنوار : ٦٨ / ١٤٩ عن قرب الإسناد : ٥٢ .

١٤١

فسلّم ، فسأله ،( كيف من خلّفت من إخوانك ؟ ) فأحسن الثناء وزكى وأطرى ، فقال له :( كيف عيادة أغنيائهم لفقرائهم ؟ ) قال : قليلة قال :( كيف مواصلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ؟ ) فقال : إنّك تذكر أخلاقاً ما هي فيمَن عندنا قالعليه‌السلام :( فكيف يزعم هؤلاء أنّهم لنا شيعة ؟ ) (١) .

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام أهميّة القدوة الحسنة في المجتمع قال المفضّل : قال أبو عبد الله وأنا معه :( يا مفضّل ! كم أصحابك ؟ ) فقلت قليل فلمّا انصرفت إلى الكوفة ، أقبلت عليَّ الشيعة ، فمزّقوني كل ممزق ، يأكلون لحمي ، ويشتمون عرضي ، حتى أنّ بعضهم استقبلني فوثب في وجهي ، وبعضهم قعد لي في سكك الكوفة يريد ضربي ، ورموني بكلّ بهتان حتى بلغ ذلك أبا عبد اللهعليه‌السلام ، فلمّا رجعت إليه في السنة الثانية ، كان أوّل مااستقبلني به بعد تسليمه عليّ أن قال :يا مفضّل : ما هذا الذّي بلغني أنّ هؤلاء يقولون لك وفيك ؟ قلت : وما عليّ من قولهم ، قال :( أجل بل ذلك عليهم ، أيغضبون ؟! بؤس لهم إنّك قلت إنّ أصحابك قليل ، لا والله ما هم لنا شيعة ، ولو كانوا لنا شيعة ما غضبوا من قولك وما اشمأزّوا منه لقد وصف الله شيعتنا بغير ما هم عليه ، وما شيعة جعفر إلاّ مَن كفَّ لسانه ، وعمل لخالقه ورجا سيّده ، وخاف الله حق خيفته ويحهم !! أفيهم مَن قد صار كالحنايا من كثرة الصلاة ، أو قد صار كالتائه من شدّة الخوف ، أو كالضرير من الخشوع أو كالضني (٢) من الصيام ، أوكالأخرس من طول صمت وسكوت ؟! أو هل فيهم مَن قد أدأب ليله من طول القيام ، وأدأب نهاره من الصيام ، أو منع نفسه لذّات الدنيا ونعيمها خوفاً من الله وشوقاً إلينا أهل البيت ؟! أنّى يكونون لنا شيعة وإنّهم ليخاصمون عدوّنا فينا حتّى يزيدوهم

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٦٨ / ١٦٨ ح٢٧ عن صفات الشيعة للصدوق : ١٦٦ .

(٢) ضنى ضناء : اشتدّ مرضه حتى نحل جسمه .

١٤٢

عداوةً ، وإنّهم ليهرّون هرير الكلب ويطمعون طمع الغراب أما إنّي لو لا أنّني أتخّوف عليهم أن أغريهم بك ، لأمرتك أن تدخل بيتك وتغلق بابك ثم لا تنظر إليهم ما بقيت ، ولكن إن جاؤوك فاقبل منهم ; فإنّ الله قد جعلهم حجّة على أنفسهم واحتجّ بهم على غيرهم .

لا تغرّنكم الدنيا وما ترون فيها من نعيمها وزهرتها وبهجتها وملكها فإنّها لا تصلح لكم ، فو الله ما صلحت لأهلها ) (١) .

ج : البناء الاجتماعي

رسم الإمام الصادقعليه‌السلام الخط العام للعلاقات الاجتماعية للجماعة الصالحة ، وبيّن نظامها ووضع الأسس والقواعد المبدئية لهذا النظام ورسّخها في نفوسهم ؛ ليتمكّن الفرد الصالح من العيش في المجتمع وفي الظروف الصعبة ، ويمتلك القدرة في مواجهة المخططات التي تسعى لتفتيت مثل البناء الذي يهدف له الإمام وهو النظام الاجتماعي الذي خطط له الإمام ، وأمدّه بعناصر البقاء والاستمرار ليمتدّ بجذوره في أوساط الأمة .

الانفتاح على الأُمّة

لقد أكّد الإمامعليه‌السلام على محور مهمّ يمدّ الجماعة الصالحة بالقدرة والانتشار هو محور الانفتاح على الأمة وعدم الانغلاق على أنفسهم ، وقد حثّ الإمام شيعته على توسيع علاقاتهم مع الناس وشجّعهم على الإكثار من الأصحاب والأصدقاء فقد جاء عنهعليه‌السلام :( أكثروا من الأصدقاء في الدنيا فإنّهم

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨ / ٣٨٣ ، عن تحف العقول : ٣٨٥ .

١٤٣

ينفعون في الدنيا والآخرة ، أمّا في الدنيا فحوائج يقومون بها وأمّا في الآخرة فإنّ أهل جهنّم قالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم ) (١) .

وجاء عنه أيضاً :( استكثروا من الإخوان فإنّ لكل مؤمن دعوة مستجابة ) .

وقال :( استكثروا من الإخوان فأنّ لكل مؤمن شفاعة ) (٢) كما أكّد الإمامعليه‌السلام على مواصلة هذا الانفتاح وشدّه بآداب وأخلاق تدعو للتلاحم والتعاطف بين المؤمنين فقال :( التواصل بين الإخوان في الحضر التزاور والتواصل في السفر المكاتبة ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( إنّ العبد ليخرج إلى أخيه في الله ليزوره فما يرجع حتى يغفر له ذنوبه وتقضى له حوائج الدنيا والآخرة (٤) ومن الآداب والأخلاق التي تصبّ في رافد التواصل الاجتماعي هو المصافحة التي حثّ الإمامعليه‌السلام عليها فقال :( تصافحوا فإنّها تذهب بالسخيمة ) (٥) .

وقال أيضا :( مصافحة المؤمن بألف حسنة ) (٦) .

وقالعليه‌السلام في التعانق :( إنّ المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة ، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلاّ وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا قيل لهما : مغفور لكما ، فاستأنفا ، فإذا أقبلا على المسألة قالت الملائكة بعضها لبعض تنحّوا عنهما فإنّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما ، قال إسحاق : فقلت : جعلت فداك فلا يكتب عليهما لفظهما

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٧ / ٤٠٧ .

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٨ .

(٣) تحف العقول : ٣٥٨ ، بحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٠ .

(٤) مشكاة الأنوار : ٢٠٩ .

(٥) الكافي : ٢ / ١٨٣ ، وتحف العقول : ٣٦ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٤٣ .

(٦) مشكاة الأنوار : ٢٠٣ .

١٤٤

وقد قال الله عزّ وجل :( ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد ) ؟!(١) قال : فتنفّس أبو عبد الله الصعداءعليه‌السلام ثمّ بكى حتى أخضلت دموعه لحيته وقال :يا إسحاق : إنّ الله تبارك وتعالى إنّما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنين إذا التقيا إجلالاً لهما ، وإنّه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما فإنّه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر وأخفى ) (٢) .

تأكيد علاقة الأُخوّة :

كان الإمامعليه‌السلام يعمّق ويجذّر علاقة الأُخوّة في الله ، ويضع لها التوجيهات المناسبة التي تزيد في التلاحم والتفاهم ، فمنها ما قالهعليه‌السلام لخيثمة :( أبلغ موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح وأن يعود صحيحهم مريضهم وليعد غنيهم على فقيرهم ، وأن يشهد جنازة ميّتهم ، وأن يتلاقوا في بيوتهم وأن يتفاوضوا علم الدين فإنّ ذلك حياة لأمرنا رحم الله عبداً أحيى أمرنا ) (٣) .

وقالعليه‌السلام في المواساة بين المؤمنين :( تقرّبوا إلى الله تعالى بمواساة إخوانكم ) (٤) .

قال محمّد بن مسلم : أتاني رجل من أهل الجبل فدخلت معه على أبي عبد الله فقال له حين الوداع أوصني فقالعليه‌السلام :( أُوصيك بتقوى الله وبرّ أخيك المسلم ، وأحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك ، وإن سألك فأعطه وإن كفّ عنك فأعرض عليه ، لا تملّه خيراً فإنّه لا يملّك وكن له عضداً فإنّه لك عضد ، وإن وجد عليك

ـــــــــــــــــ

(١) سورة ق (٥٠) : ١٨ .

(٢) الكافي : ٢ / ١٨٤ بحار الأنوار : ٧٦ / ٣٥ وسائل الشيعة : ٨ / ٥٦٣ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤٠٠ .

(٤) الخصال : ٨ وبحار الأنوار ٧٤ / ٣٩١ .

١٤٥

فلا تفارقه حتى تحلّ سخيمته (١) وإن غاب فاحفظه في غيبته ، وإن شهد فاكنفه وأعضده ووازره ، وأكرمه ولاطِفه فإنّه منك وأنت منه ) (٢) .

وقالعليه‌السلام مبيّناً صفة الأُخوّة في الله قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ستّ خصال مَن كُنّ فيه كان بين يدي الله عزّ وجلّ وعن يمين الله . فقال له ابن يعفور : وما هنّ جُعلت فداك ؟ قال :يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعزّ أهله ، ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله ويناصحه الولاية ( إلى أن قال )إذا كان منه بتلك المنزلة بثّه همّه ففرح لفرحه إن هو فرح ، وحزن لحزنه إن هو حزن وإن كان عنده ما يفرج عنه فرّج عنه إلاّ دعا له ) (٣) .

كما نجده يحذّر من بعض التصرّفات التي من شأنها أن تفسد العلاقة ، فقد قالعليه‌السلام لابن النعمان :( إن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينه ولا تباهينّه ، ولا تشارنه ، ولا تطلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك ، فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً ) (٤) .

كما حذّرعليه‌السلام من المجاملة على حساب المبدأ والتعاطف مع الخصوم فقال :( مَن قعد إلى سابّ أولياء الله فقد عصى الله ومَن كظم غيضاً فيما لا يقدر على إمضائه كان معنا في السنام الأعلى ) (٥) .

وقال أيضاً :( مَن جالس لنا عائباً ، أو مدح لنا قالياً أو واصل لنا قاطعاً ، أو قطع لنا واصلاً ، أو والى لنا عدواً ، أو عادى لنا وليّاً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني

ـــــــــــــــــ

(١) السخيمة : الحقد والضغينة حتى تسل سخيمته والسل الانتزاع والإخراج في رفق .

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٤٩ .

(٣) وسائل الشيعة : ٨/٥٤٢ .

(٤) الكافي : ١ / ١٦٥ ، وبحار الأنوار : ٧٨ / ٢٨٦ .

(٥) المصدر السابق .

١٤٦

والقرآن العظيم ) (١) .

وحذّر أيضاً من مرض الانقباض والشحناء مع الإخوان والمراء والخصومة فقالعليه‌السلام : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :( إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق ) (٢) .

موقف الإمامعليه‌السلام من الهجران والمقاطعة

وندّد الإمامعليه‌السلام بظاهرة المقاطعة بين المؤمنين قائلاً :( لا يفترق رجلان على الهجران إلاّ استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربّما استحق ذلك كلاهما فقال له معتّب : جعلني الله فداك ، هذا الظالم فما بال المظلوم ؟ قال :لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس ( يتغافل )له عن كلامه ، سمعت أبي يقول : إذا تنازع اثنان ، فعازّ أحدهما الآخر فليرجع المظلوم على صاحبه حتى يقول لصاحبه : أي أخي أنا الظالم ، حتى يقطع الهجران فيما بينه وبين صاحبه فإنّ الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم ) (٣) .

الخطّ التربوي للإمام الصادقعليه‌السلام

لم تكن علاقة الإمام الصادقعليه‌السلام مع جماعته وأصحابه من الناحية التربوية قائمة على أساس الوعظ والإرشاد العام من دون تشخيص لمستويات وواقع سامعيه فكرياً وروحياً وما يحتاجون إليه ، بل كانعليه‌السلام يستهدف البناء

ـــــــــــــــــ

(١) الأمالي للصدوق : ٥٥ وبحار الأنوار : ٢٧/٢٢ ، وسائل الشيعة : ١١/٥٠٦ .

(٢) وسائل الشيعة : ٨/٤٠٦ ، باب كراهة الانقباض من الناس .

(٣) الكافي : ٢/٣٤٤ / ح١ وبحار الأنوار : ٧٥/١٨٤ ، وسائل الشيعة : ٨/٥٨٤ .

١٤٧

الخاص ، ويميّز بينهم ويزقّ لهم الفكرة التربوية التي تحرّكهم نحو الواقع ليكونوا على استعداد تام لتحمّل مسؤولية إصلاح الأمة فكان يزوّدهم بالأُسس والقواعد التربوية الميدانية التي تؤهلهم لتجاوز الضغوط النفسية والاقتصادية ويمتلكوا الأمل الإلهي في تحقيق أهدافهم .

ونشير إلى بعض ما رفد به الإمام أصحابه من توجيهات ضمن عدّة نقاط :

النقطة الأولى : في الدعوة والإصلاح

قالعليه‌السلام :( إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مَن كانت فيه ثلاث خصال : عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى عادل فيما يأمر ، عادل فيما ينهى ، رفيق بما يأمر ، رفيق بما ينهى ) (١) .

واعتبر الإمامعليه‌السلام النقد البنّاء سبباً لسدّ الفراغ والضعف الذي يصيب الأفراد عادةً ، فقالعليه‌السلام :( أحبّ إخواني إليَّ مَن أهدى إليَّ عيوبي ) (٢) .

وقالعليه‌السلام :( إذا بلغك عن أخيك ما تكره ، فاطلب له العذر إلى سبعين عذراً فإنْ لم تجد له عذراً ، فقل لنفسك لعلّ له عذراً لا نعرفه ) (٣) .

النقطة الثانية : التعامل التربوي في مجال العلم والتعلّم

أكّد الإمام الصادقعليه‌السلام على الخطورة التي تترتّب على الرسالة العلمية إذا انفكت عن قاعدتها الأخلاقية وَوُظِّفَ العلم لأغراض دنيوية وما ينجم عنه من تشويه لهذه الرسالة المقدّسة وقد لعب هذا الفصل بين العلم وقاعدته

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٥٨ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٤٠ .

(٢) تحف العقول : ٣٦٦ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٤٩ .

(٣) إحقاق الحق : ١٢/٢٧٩ ، والمشروع الرويّ : ١/٣٥ .

١٤٨

الأخلاقية دوراً سلبياً حيث أنتج ظاهرة وعّاظ السلاطين التي وظّفت الدين لمصلحة السلطان ، من هنا حذّر الإمامعليه‌السلام من هذه الظاهرة ضمن تصنيفه لطلبة العلم قائلاً :( طلبة العلم ثلاثة فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم : صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل.

فصاحب الجهل والمراء ، مؤذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع ، فدقّ الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه .

وصاحب الاستطالة والختل ، ذو خبّ وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره .

وصاحب الفقه والعقل ، ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنّك في برنسه ، وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلاً داعياً مشفقاً ، مقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه فشدّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه ) (١) .

النقطة الثالثة : الضابطة التربوية للتصدّي والقيادة

وضع الإمامعليه‌السلام قاعدة أخلاقية عامة وضابطة يتعامل بها المؤمن ويطبّقها في كل ميادين الحياة ، وبها تنمو الفضيلة ، وتكون أيضاً سبباً للتنافس الصحيح والبنّاء والتفاضل المبدئي وبغياب هذه القاعدة واستبدالها بمقاييس مناقضة لها سوف يتقدّم المفضول على الفاضل وتضيع القيم وتهدر الطاقات ، قالعليه‌السلام :( مَن دعا الناس إلى نفسه ، وفيهم مَن هو أعلم منه ، فهو مبتدع ضالّ ) (٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي : ١/٤٩ ، وبحار الأنوار : ٨٣ / ١٩٥ .

(٢) تحف العقول : ٣٧٥ ، وبحار الأنوار : ٧٨/٢٥٩ .

١٤٩

النقطة الرابعة : المحنة والقدرة على المقاومة

لقد عبّأ الإمام الصادقعليه‌السلام شيعته وعاهدهم في أكثر من مرّة قائلاً : إنّ الانتماء لخطّه سوف يترتّب عليه من الاضطهاد والابتلاء ما لا يطيقه أحد إلاّ مَن اختاره الله سبحانه ، كما أنّ التشيّع لا يستحقه إلاّ أولئك الذين لديهم الاستعداد للتضحية العالية وتحمّل البلاء وهذا أسلوب إلهي استخدمه الله مع أوليائه ، فعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام عندما ذكر عنده البلاء وما يخص به المؤمن قال :سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن أشد الناس بلاءاً في الدنيا ؟ فقال : ( النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويُبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله فمَن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ومَن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه ) (١) .

وروى الحسين بن علوان عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال وعنده سدير :( إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً ) (٢) .

وقالعليه‌السلام :( قد عجز مَن لم يعد لكل بلاءٍ صبراً ، ولكل نعمة شكراً ، ولكل عسر يُسراً ، اصبر نفسك عند كل بلية ورزية في ولد أو في مال ، فإنّ الله إنّما يقبض عاريته وهبته وليبلو شكرك وصبرك ) (٣) .

وقالعليه‌السلام :( إنّا لنصبر ، وإنّ شيعتنا لأصبر منّا ، قال الراوي فاستعظمت ذلك ، فقلت : كيف يكون شيعتكم أصبر منكم ؟! فقالعليه‌السلام :إنّا لنصبر على ما نعلم ، وأنتم تصبرون على ما لا تعلمون ) (٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٢/٩٠٦ .

(٢) المصدر السابق : ٢/٩٠٨ .

(٣) تحف العقول : ٣٦١ ، وبحار الأنوار : ٦٧/٢١٦ .

(٤) مشكاة الأنوار : ٢٧٤ .

١٥٠

الباب الرابع :

فيه فصول :

الفصل الأول : نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي .

الفصل الثاني : حكومة المنصور واستشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثالث : من تراث الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام .

١٥١

الفصل الأول : نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العبّاسي

١ ـ المستجدّات السياسية

لقد تداعا النظام الأموي في هذه المرحلة التاريخية من حياته بعد أن فقد في نظر الأمة كلّ مبرّراته الحضارية ، عقائدية كانت أو سياسية ، ولم يبقَ في قبضته سوى منطق السيف الذي هو آخر مواطن القوّة التي كان يدير بها شؤون البلاد .

وحتى هذا المنطق لم يدم طويلاً أمام إرادة الأمة رغم صرامة آخر ملوك الأمويين (مروان) المعروف في حسمه .

لقد استحكمت قناعة الأمة وآمنت بضرورة التخلّص من الطغيان الأموي ، ولم يبق بعد شيءٌ بيد وعّاظ السلاطين ليرتشوا به ويدافعوا عن وجه الاستبداد الأموي الكالح فيوظّفوا القرآن والحديث لصالح مملكته ولزوم طاعة الأمة لحكّامها ؛ حيث تراكمت في ذهن الأمة وضميرها تلك المظالم التي ارتُكبت بحق ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدءاً بسمّ معاوية للإمام الحسنعليه‌السلام وسبّه الإمام علي أخي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه وزوج ابنته وجعل السبّ سُنّةً ، ثم قتل الحسين بن علي ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وخيرة أصحابه

١٥٢

بأمر يزيد وعمّاله ، وأخذه البيعة من أهل المدينة في واقعة الحَرّة الأليمة على أنّهم عبيد له بعد أن أباحها لجيشه ثلاثة أيام .

وقول عبد الملك بن مروان :( مَن أوصاني بتقوى الله ضُربت عنقه ) (١) وقتل الطاغية هشام لزيد بن عليعليه‌السلام وصلبه وحرق جثمانه الشريف .

وفساد الولاة الأمويين بالإضافة إلى جبايتهم الضرائب الظالمة ، وشقّ صف وحدة الأمة الإسلامية وتمزيقها إلى طوائف بإشاعتهم للروح القبلية حيث فرّقوا بالعطاء واستعبدوا الشعوب غير العربية .

وهكذا ظهرت إلى سطح الساحة الفكرية والفقهية آراء لا ترى أية شرعية للنظام الأموي وعبّرت عن ذلك في وسط الأمة وأصبح مدح العلويين أمراً تتناقله الناس رغم سلبية موقف السلطة منهم ، بعد أن كان الخوف يمنعهم من التعبير عن رأيهم .

وهكذا استعدت الأمة بفعل تراكم الظلم الأموي ؛ لأنّ تتقبّل أي بديل من شأنه أن ينقذها من الكابوس الأموي ، لعلّها تنعم بشيء من العدل والمساواة .

وهذا الجو قد شجّع على ظهور اتجاهات وادّعاءات سياسية تحرض الأمة وتدعوها إلى الانضمام تحت رايتها تحقيقاً لأطماعها في الخلافة ، كما تطلّعت الأمة للمنقذ باحثة عن أخباره بشغف وأخذت فكرة المهدي المنتظر تشقّ طريقها في أوساط الأمة المظلومة .

ومن جانب آخر اتّسع خط الإمامعليه‌السلام وامتدّ وكثرت أنصاره واستلهمت الأمة ثقافته حيث إنّه قد أثّر في عقلها وقراراتها ، ليس على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢١٩ .

١٥٣

المستوى الخاص الذي يحضى برعاية الإمام فحسب ، أو في دوائر محدودة ، بل أصبح له وجود في مختلف البلاد الإسلامية وتألّق الإمام الصادقعليه‌السلام ودخل صيته في كل بيت حتى أصبح مرجعاً روحياً تهوى إليه القلوب من كل مكان وتلوذ به لحل مشكلاتها الفكرية والعقائدية والسياسية .

ولم يكن هذا الامتداد منحصراً بين عموم الناس وسوادها بل كان الإمامعليه‌السلام مرجعاً لعلمائها وموئلاً لساستها ، فهذا سفيان الثوري يقول : دخلت على الإمام الصادقعليه‌السلام فقلت له : أوصني بوصيّة أحفظها من بعدك قال :( وتحفظ يا سفيان ؟ قلت : أجل يا بن رسول الله قال :يا سفيان لا مروّة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملول ولا خلّة لمختال ولا سؤدد لسيّء الخلق ) (١) .

ودخل عليه مرة أخرى يطلب منه المزيد من التعاليم فقالعليه‌السلام :( يا سفيان الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وترك حديث لم تروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه ، إنّ على كل حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه ) (٢) وكانت لسفيان الثوري لقاءات أخرى مع الإمامعليه‌السلام ، بل كانت علاقته به علاقة التلميذ بأستاذه .

وكان من جملة العلماء الذين يدخلون على الإمام للاستفادة منه : حفص بن غياث وهو أحد أعلام عصره وأحد المحدثين في وقته فكان يطلب من الإمامعليه‌السلام أن يرشده ويوصيه فقال له الإمامعليه‌السلام :( إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا ، وما عليك أن لم يثن الناس عليك ـ إلى أن قال ـ :إن قدرت أن لا تخرج من بيتك

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨/٢٦١ .

(٢) أصول الكافي : ١/٦٩ ح١ وتاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨١ وعن الكافي في بحار الأنوار : ٢/١٦٥ والإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/٣٢٢ .

١٥٤

فافعل فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ، ولا تكذب ولا تحسد ، ولا ترائي ، ولا تداهن ) .

وكان أبو حنيفة يغتنم الفرص ليحضر عند الإمام ويستمع منه ، وكان يقول بحق الإمامعليه‌السلام : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمدعليه‌السلام .

وكان مالك بن أنس ممّن يحضر عند الإمامعليه‌السلام ليتأدّب بآدابه ويهتدي بهديه فكان يقول : ما رأت عين ولا سمعت أُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً وقال : اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال إمّا مصلّياً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن ، وما رأيته قط يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ على طهارة ، ولا يتكلّم بما لا يعنيه ، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله(١) .

وشهد المنصور بحقّه وهو ألدّ أعدائه قائلاً : إنّ جعفر بن محمد كان ممّن قال الله فيه( ثم أورَثْنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) وكان ممّن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات(٢) .

ولم يكن الإمام مرجعاً للعلماء والفقهاء والمحدّثين وقائداً للنهضة الفكرية والعلمية في زمانه فحسب ، بل كان مرجعاً للساسة والثوّار حيث كان الزعيم الحقيقي للخط العلوي الثائر ، حيث نجد زيداً الشهيد بن علي بن الحسينعليهما‌السلام يرجع إليه في قضية الثورة ، كما كان زيد يقول بحق الإمامعليه‌السلام في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه ، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) مالك بن أنس للخولي : ٩٤ ، وكتاب مالك ، محمد أبو زهرة : ٢٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨٣ وقد أخذ هذا عن الصادقعليه‌السلام نفسه ، كما عنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/١٤٢ .

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ٤/٢٩٩ .

١٥٥

ولم يكن الإمام جزءاً منفصلاً عن الثورة فقد كان يدعم الثورة بالمال والدعاء والتحريض والتوجيه كما مرّ في البحوث السابقة(١) ، أمّا العلويون من آل الحسن أمثال عبد الله بن الحسن وعمر الأشرف بن الإمام زين العابدين فهم كانوا يرجعون إليه ويستشيرونه في مسائل حياتهم ، ولم يتجاوزه أحد في الأعمال المسلّحة والنشاطات الثورية .

من هنا فإنّ القناعة السائدة آنذاك في أوساط الأمة هي أنّ البديل للحكم الأموي هو الخط الذي يتزعّمه الإمامعليه‌السلام وهذه الحقيقة لم يمكن تغافلها ، كما سوف يتضح أنّ أهم قادة الحركة العباسية ورؤساؤها والمدبّرون لها أو قادتها العسكريون كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم بأنّ الإمامعليه‌السلام هو الأولى من غيره ، وصاحب القوّة والقدرة والحنكة في إدارة الثورة وقيادتها ; وذلك لطاقاته الإلهية وثقله الشعبي ، ولهذا فاتحه بالمبايعة كخليفة كلاًّ من : أبي سلمة الخلاّل وأبي مسلم الخراساني ، وقد ألحّ عليه بعض أصحابه أيضاً مؤكّداً ضرورة إعلان الثورة .

والجدير بالانتباه أنّ الإمامعليه‌السلام لم يتبوّأ هذا الموقع المقدّس من القلوب بسبب المعادلات السياسية الآنية ، فإنّ الأحداث والظروف المختلفة هي التي كانت قد خلقت هذا الجوّ وأكّدت بأن يكون الإمامعليه‌السلام لا غيره في هذا الموقع ويصبح هو البديل اللائق سياسيّاً وفكريّاً والخليفة الشرعي للمسلمين بدل الحكم الأموي الظالم .

وإنّ العمل الدؤوب والمنهج الإصلاحي الذي خطّه الإمامعليه‌السلام ومَن سبقه من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وبناء الأجيال الطليعية أدّى إلى ارتفاع هذا

ـــــــــــــــــ

(١) راجع ص : ٧٩ ـ ٨٠ حول موقف الإمام الصادق من ثورة زيد .

١٥٦

الوعي عند الأمة وخلق منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة ممّا أدّى إلى أن تنعم الأمة بالثروة الفكرية التي خلفتها تلك الفترة الذهبية لنا .

وكان الإمامعليه‌السلام في هذا الظرف الحسّاس يراقب التحركات السلبية التي تحاول العبث بمسار الأمة والأخذ بها إلى مطبّات انحرافية جديدة ، من هنا أصدر جملة من التوجيهات لأصحابه والتزم الحياد إزاء العروض السياسية الكاذبة التي تقدّم بها بعض الثوّار ; وذلك لمعرفته بالدوافع والمطامع التي كانت تحرّكهم .

وكان من تلك الاتجاهات التي تحرّكت لإقناع الناس بضرورة الثورة على الأمويين بهدف الاستحواذ على الخلافة وتفويت الفرصة على منافسيهم الاتجاه العبّاسي .

٢ ـ الحركة العبّاسيّة ( النشأة والأساليب )

سبقت الإشارة إلى النواة الأولى التي دفعت ببني العبّاس إلى أن يطمعوا في الخلافة ويمنّوا أنفسهم بها .

وقد مرّ فيما ذكرنا(١) أنّ أبا هاشم كان من رجالات أهل البيت البارزين ، وكان هشام بن عبد الملك يحذرّه ; لوجود لياقات علمية وسياسية عنده تؤهّله للقيادة ، فحاول هشام اغتياله ولمّا أحس أبو هاشم بالمكيدة ضدّه احترز من ذلك فأوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس بإدارة أتباعه في مقاومة الأمويين سنة ( ٩٩ هـ ) وكانت هذه الوصية هي بذرة الطمع التي حركت

ـــــــــــــــــ

(١) راجع البحث الذي مرّ تحت عنوان ( بداية الانفلات ) في الصفحة ٨٢ من هذا الكتاب .

١٥٧

محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ممّا جعلته يشعر بأنّه القائد والخليفة مستقبلاً .

وكانت الفرصة سانحة في ذلك الوقت بالتبليغ لشخصه ، لذا شرع في بثّ الدعاة إلى خراسان سرّاً لهذا الغرض واستمرّ بدعوته إلى أن مات سنة ( ١٢٥ هـ ) وترك من بعده أولاده ، وهم : إبراهيم الإمام ، والسفّاح ، والمنصور(١) ويبدو أنّ إبراهيم الإمام هو الذي كان يخطّط لقيام دولة عبّاسية ؛ لأنّه الأكثر دهاءً وحنكة وتخطيطاً من أخويه كما سيتضح ذلك .

نشط إبراهيم بالدعوة وأخذ يتحدّث بأهمّية الثورة وإنقاذ المنكوبين ، وشارك البسطاء من الناس آلامهم وأخذ يعطف على المظلومين ويلعن الظالمين وانتشر دعاة إبراهيم في بلاد خراسان وكان لهم الأثر الكبير هناك وكان منهم : زياد مولى همدان ، وحرب بن قيس ، وسليمان بن كثير ، ومالك بن الهيثم وغيرهم ، وقد تعرّض الدعاة العباسيون للقتل في سبيل دعوتهم ومثّل ببعضهم وحُبس البعض الآخر(٢) ، وكان في طليعة الدعاة نشاطاً وقوّة ودهاءً أبو مسلم الخراساني(٣) .

وتضمّن المنهج السياسي العبّاسي ـ لتضليل الأمة ـ عدّة أساليب كانت منسجمة مع الواقع ومقبولة عند الناس ; لذا لقيت الدعوة استجابة سريعة وانضم المحرومون والمضطهدون إليها .

ونشير إلى بعض هذه الأساليب فيما يلي :

ـــــــــــــــــ

(١) الآداب السلطانية : ١٢٧ .

(٢) تاريخ ابن الساعي : ٣ .

(٣) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٤٠ ـ ٣٤٤ .

١٥٨

الأُسلوب الأوّل :

حرّك العباسيون العواطف بقوّة وحاولوا إقناع الناس بأنّ الهدف من دعوتهم هو الانتصار لأهل البيتعليهم‌السلام الذين تعرّضوا للظلم والاضطهاد وأريقت دماؤهم في سبيل الحق ، وركّز العباسيون بين صفوف دعاتهم بأنّ الهدف المركزي من دعوتهم هو رجوع الخلافة المغتصبة إلى أهلها ؛ ولهذا تفاعل الناس مع شعار ( الرضي من آل محمد ) ووجدوا في هذا الشعار ضالّتهم .

وكان يعتقد الدعاة أنّ هذه الدعوة تنبئ بظهور عهد جديد يضمن لهم حقوقهم كما عرفوه من عدالة عليعليه‌السلام وقد حقّق هذا الشعار نجاحاً باهراً ، خصوصاً في البلاد التي كانت قد لاقت البؤس والحرمان ، وكانت تترقّب ظهور الحق على يد أهل بيت النبوّة .

وكانت ثقافتهم السياسية التي يروّج لها دعاتهم بين الناس تأتي على شكل تساؤلات ، منها : ( هل فيكم أحد يشك أنّ الله عزّ وجلّ بعث محمداً واصطفاه ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتشكّون أنّ الله أنزل عليه كتابه فيه حلاله وحرامه وشرائعه ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتظنّون خلفه عند غير عترته وأهل بيته ؟ فيقولون : لا ، فيقال : أفتشكّون أنّ أهل البيت هم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله الذي علمه الله ؟ فيقال : لا ...(١) .

بهذه الإثارات العامّة التي لا تعيّن المصداق وتكتفي بالإيحاء وتتّكئ

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل لابن الأثير : ٥/٣٦٢ .

١٥٩

على الغموض حصلوا على مكاسب جماهيرية هائلة حتى من غير المسلمين وكان هذا الأسلوب يشكّل سرقة لجهود الأئمةعليهم‌السلام حيث يوظّفونها لمصالحهم في الأوساط غير الواعية لطبيعة الصراع .

الأُسلوب الثاني :

ومن الأساليب التي سلكها الدعاة العباسيون ونفذوا من خلالها إلى أوساط الأمة النبوءات الغيبية التي كانت تكشف عن أحداث المستقبل ، وكان لهذا الأسلوب الماكر الأثر الكبير في كسب البسطاء واندفاع المتحمّسين للدعوة وانضمامهم إليها اعتقاداً منهم بصحّة ما يدعون إليه ، فمن تلك النبوءات الغيبية التي أشاعوها في ذلك الحين أنّ (ع) ابن (ع) سيقتل (م) ابن (م) ، ثمّ تأوّلوا أنّ المراد بالأوّل هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس والثاني هو مروان بن محمد بن مروان ، كما ادّعوا ـ أيضاً حسب زعمهم ـ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبشّر بدولة هاشمية على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّه العباس : إنّها تكون في ولدك .

ومن تلك الدعايات التي كانت تريد إضفاء الشرعية على دعوتهم هو زعمهم بأنّ لديهم كتباً تؤكّد انتقال الخلافة إلى بني العباس لكن لا يجوز إخراجها وكشفها لكل الناس وإنّما يطّلع عليها النقباء من خواصّهم وهذا الأسلوب كان قد زاد الدعاة تقديساً لدعوتهم كما أنّها قد زادتهم اندفاعاً لها(١) .

الأُسلوب الثالث :

واستخدموا أسلوباً لم يكن مألوفاً من قبل وهو في غاية من الدهاء السياسي ، حيث استطاعوا بواسطته أن يكسبوا الجولة ويوظّفوا الجهود والقناعات المختلفة نحو هدف واحد وهو أنّهم كانوا يتشدّدون في إخفاء اسم الخليفة الذي يدعون إليه ، من هنا التزموا بكتمان أمره ووعدوا الناس بأنّ

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : ٢/٣٠٩ .

١٦٠