اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 241
المشاهدات: 97485
تحميل: 6367

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97485 / تحميل: 6367
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخليفة لا يمكن إظهار اسمه إلاّ بعد زوال سلطان الأمويين حيث يعلق اسمه الذي تعرفه القوّاد والنقباء(١) .

الأُسلوب الرابع :

ومن الأساليب التي استخدمها العباسيون في دعوتهم هو لبس السواد ، حيث كانوا يرمزون به إلى محاربة الظالمين وإظهار الحزن والتألّم لأهل البيتعليهم‌السلام والشهداء الذين لحقوا بهم .

وهكذا قامت الدعوة العباسية باسمهم للانتقام من الأمويين وتركيزاً لهذا الشعار الذي كان له وقع بالغ في النفوس ، أرسل إبراهيم الإمام لواءً يُدعى الظل أو السحاب على رمح طويل ، طوله ثلاثة عشر ذراعاً ، وكتب إلى أبي مسلم : إنّي قد بعثت إليك براية النصر(٢) وقد تأوّلوا الظل أو السحاب فقالوا : إنّ السحاب يطبق الأرض وكما أنّ الأرض لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عبّاسي(٣) ، وأنّ ذلك يمثّل لواء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّهم ذكروا أنّ لواءه في حروبه وغزواته كان أسوداً .

وبعد أن حقّق العباسيون بدهاء إبراهيم الامام وأبيه من قبل وأنصاره في خراسان تقدّماً مشهوداً وكثرت أنصارهم هناك وشكّلوا مجاميع منظّمة تدعو لهم ، وتأكّدوا من نجاح أساليبهم في تضليل الناس وأنّها قد ترسّخت في نفوس دعاتهم ، حينئذٍ تحرّكوا خطوة نحو منافسيهم الحقيقيين وهم أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم الذين كان العباسيون يخشونهم أشدّ خشية ; لأنّ دعوتهم لم تحقّق أي

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣٠٩ .

(٢) الطبري : ٩ / ٨٢ .

(٣) الطبري : ٩ / ٨٥والكامل لابن الأثير : ٥ / ١٧٠ .

١٦١

نجاح إلاّ بواسطة الشعارات التي كانت باسم أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ حالة عزل الخط العلوي وتجاهله في بداية الأمر سوف تحبط مخططاتهم بأجمعها ، ومن هنا لجأ العباسيون إلى عقد اجتماع موسع يضم الطرف العباسي والعلوي بهدف احتواء الخط العلوي وزجّه في المعترك السياسي والإيحاء للجماهير الإسلامية بأنّ البيت العلوي وراء هذا النشاط الثوري .

وكان إبراهيم الإمام يعلم وعشيرته من بني العباس ، بأنّ الصادقعليه‌السلام يدرك جيّداً على ماذا تسير الأمور وما هو الهدف من هذا التخطيط ، وليس بمقدورهم احتواء الإمام وتوظيف جهده وزجّه ضمن مخطّطهم ، وسوف لن يستجيب فيما لو دُعي للحضور في الاجتماع المزمع عقده ؛ لذا عمدوا إلى شقّ الصفّ العلوي وإغراء آل الحسن بأن تكون الخلافة لهم .

اجتماع الأبواء

وكان الهدف من عقد هذا الاجتماع الصوري بالإضافة إلى الهدف الذي ذكر أعلاه تهيئة الأجواء الودية وإشاعة روح المحبّة والوئام بينهم وبين العلويين وتطميناً لخواطرهم ، وعلى أقل تقدير جعلهم محايدين في هذا الصراع ، ليتمّ لهم ما يهدفون إليه ويحشدوا ما استطاعوا من قوّة لصالحهم .

من هنا اجتمعوا في منطقة الأبواء ـ التي تقع بين مكة والمدينة ـ ودعوا كبار العلويين والعباسيين ، فحضر كل من : إبراهيم الإمام والسفاح والمنصور وصالح ابن علي وعبد الله بن الحسن وابناه محمد ذي النفس الزكية وإبراهيم وغيرهم .

١٦٢

وقام صالح بن علي خطيباً فقال : قد علمتم أنّكم الذين تمدّ الناس أعينهم إليهم ، وقد جمعكم الله في هذا الموضع ، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إيّاها من أنفسكم وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين .

ثم قام عبد الله بن الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهدي فهلمّوا لنبايعه .

فقال أبو جعفر المنصور : لأي شيء تخدعون أنفسكم ؟ والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أصور(١) أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ـ يريد به محمد بن عبد الله ـ قالوا قد ـ والله ـ صدقت إن هذا لهو الذي نعلم فبايعوا جميعاً محمّداً ، ومسح على يده كل من : إبراهيم الإمام والسفّاح والمنصور وكل مَن حضر الاجتماع(٢) .

وبعد أن أنهى مؤتمرهم أعماله بتعيين محمد بن عبد الله بن الحسن خليفة للمسلمين ، أرسلوا إلى الإمام الصادقعليه‌السلام فجاء الإمام وقال : (لماذا اجتمعتم ؟ قالوا : أن نبايع محمد بن عبد الله ، فهو المهدي ) .

قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام :لا تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد ، وهو ليس بالمهديّ ، فقال عبد الله ـ ردّاً على الإمامعليه‌السلام ـ : يحملك على هذا الحسد لابني ! فأجابه الإمامعليه‌السلام :والله لا يحملني ذلك ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم وضرب بيده على ظهر أبي العباس ، ثم قال لعبد الله :ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنّها لبني العباس ، وإنّ ابنيك لمقتولان ، ثم نهضعليه‌السلام وقال :إنّ صاحب الرداء الأصفر ـ يقصد بذلك أبا جعفر ـيقتله .

ـــــــــــــــــ

(١) أصور : أميل .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٥٦ ، وإعلام الورى : ١/٥٢٧ ، وكشف الغمّة : ٢/٣٨٦ .

١٦٣

قال عبد العزيز : والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتله وانفضّ القوم ، فقال أبو جعفر المنصور للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : تتمّ الخلافة لي ؟ فقال :نعم أقوله حقّاً )(١) .

تحرّك العبّاسيين بعد المؤتمر

بعد أن حقّق المؤتمر غرضه وأنِسَ الحاضرون بقراره الكاذب نشط إبراهيم الإمام في الاتجاه الآخر ليواصل عمله بشكل مستقل عن أعضاء المؤتمر فأصدر عدّة قرارات سرّية كعادته منها : أنّه كتب إلى شيعته في الكوفة وخراسان : إنّي قد أمّرت أبا مسلم بأمري فاسمعوا له وأطيعوا ، قد أمّرته على خراسان ، وما غلب عليه كان ذلك سنة ( ١٢٨ هـ ) وكان أبو مسلم لا يتجاوز عمره التسعة عشر سنة ووصفوه بأنّه كان يقظاً فاتكاً غادراً لا يعرف الرحمة ولا الرأفة ، وكان ماهراً في حياكة الدسائس .

ودهش الجميع لتعيين أبي مسلم في هذا المنصب الخطير نظراً لحداثة سنّه وقلّة تجاربه ، وأبى جمع من الدعاة طاعته والانصياع لأوامره إلاّ أنّ إبراهيم الإمام ألزمهم السمع والطاعة(٢) وأقدم أبو مسلم فيما بعد على إعدام جميع من عارض اختياره لقيادة هذه المنطقة .

أمّا ما هو الخط الذي سوف يتحرّك بموجبه أبو مسلم لإعلان ثورته هناك ؟ فقد جاء هذا الخط في وصيّة إبراهيم الإمام له عندما قال : يا عبد الرحمن إنّك منّا أهل البيت فاحفظ وصيّتي ، انظر هذا الحي من اليمن

ـــــــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٦ ، الخرائج والجرائح : ٢ / ٧٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ١٢٠ : ٢٥٦ .

(٢) الكامل في التاريخ : ٤ / ١٩٥ ، وتاريخ ابن الساعي : ٣ .

١٦٤

فأكرمهم ، وحلّ بين ظهرانيهم ، فإنّ الله لا يتم هذا الأمر إلاّ بهم ، وانظر هذا الحي من ربيعه فاتهمهم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مضر فإنّهم العدو القريب الدار ، فاقتل مَن شككت في أمره ومَن وقع في نفسك منه شيء ، وإن شئت أن لا تدع بخراسان مَن يتكلّم العربية فافعل ، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله(١) وهذه الوصيّة تلخّص السياسة العباسية مع المسلمين .

وقد أثّر أبو مسلم الخراساني في الناس لتعاطفه معهم حيث كان يتمتّع بصفات تؤهّله لهذا الموقع ، فهو خافض الصوت فصيح بالعربية والفارسية ، حلو المنطق راوية للشعر ، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلاّ في وقته ، ولا يكاد يُقَطّب في شيء من أحواله ، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور ، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرى مكتئباً وعندما سُئل إبراهيم الإمام عن أهلية أبي مسلم قال : إنّي قد جرّبت هذا الأصبهاني ، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حَجَر الأرض(٢) .

وكان محبوباً حتى عند غير المسلمين حيث نجد دهاقين المجوس اندفعوا إلى اتّباعه وأظهروا الإسلام على يديه ، كما استجاب للدعوة الإسلامية عدد كبير من أهل الآراء الخارجة عن الإسلام ، كل ذلك للظلم والجور الذي لحق بهم من الولاة الأمويين ، وبسبب ما شاهدوه من العطف من أبي مسلم الخراساني ؛ ولذا كان الكثير منهم يعتبرونه وحده الإمام ، واعتقدوا أنّه أحد أعقاب زرادشت الذي ينتظر المجوس ظهوره ، حتى أنّهم لم يعتقدوا بموت أبي مسلم بل كانوا ينتظرون رجعته(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٤ / ٢٩٥ .

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٤٥ .

(٣) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣١١ .

١٦٥

ومن جانب آخر أنّه هو الذي أنزل جثمان يحيى بن زيد وصلّى عليه ودفنه ، وبعد أن تقلّد المنصب كقائد عام للعسكر توجّه من فوره لخراسان ليقود الجماهير التي تنتظر الأوامر منه ، وكانت متحمّسة قبل هذا الحين للحرب مع الأمويين فخطب بالدعاة قائلاً : أشعروا قلوبكم الجرأة فإنّها من أسباب الظفر ، وأكثروا من ذكر الضغائن ، فإنّها تبعث على الإقدام ، وألزموا الطاعة فإنّها حصن المحارب(١) .

وفجّر الثورة هناك ، وكان يبذر الشقاق بين جنود الأمويين ليحصل الانقسام بينهم وقد استفاد بذلك ونجح في مهمّته ، وقد انجفل الناس من هرات والطالقان ومرو وبلخ وتوافروا جميعاً مسودين الثياب وأنصاف الخشب التي كانت معهم(٢) .

وباشر أبو مسلم إبادة الأبرياء فقتل ـ فيما ينقل المؤرّخون ـ ستمائة ألف عربي بالسيف صبراً عدا مَن قتل في الحرب(٣) .

وتقدّمت جيوش أبي مسلم ـ بعد أن هزمت ولاة الأمويين في خراسان ـ نحو العراق وهي كالموج تخفق عليها الرايات السود فاحتلّت العراق بدون مقاومة تُذكر وبهذا أُعلن الحكم العباسي على يد أبي مسلم الخراساني في الكوفة سنة ( ١٣٢ هـ ) .

والجدير بالذكر أنّه قبل أن يدخل أبو مسلم الخراساني الكوفة حدث هناك أمران ينبغي الالتفات إليهما :

ـــــــــــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر : ١ / ٣٢٦ .

(٢) حياة الحيوان ، الدينوري : ٣٦٠ .

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ١ / ٣٢٦ .

١٦٦

الأمر الأول : في سنة ( ١٣١ هـ ) بعد إعلان أبي مسلم الخراساني الثورة في خراسان ، وقبل دخوله الكوفة أُلقي القبض على إبراهيم الإمام ـ الرأس المدبّر للثورة ـ من قِبل الخليفة الأموي مروان وحبسه في حرّان ثم قتله بعد ذلك في نفس التاريخ ؛ وبهذا الحدث تعرّضت الحركة العباسية لانتكاسة كبرى .

الأمر الثاني : خاف أبو العباس السفّاح وأبو جعفر المنصور وجماعة فهربوا إلى الكوفة لوجود قاعدة من الدعاة العباسيين فيها وعلى رأسهم أبو سلمة الخلاّل الذي كان يضاهي أبا مسلم في الدهاء والنشاط وكان يُعرف بوزير آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخلى لهم داراً وتولّى خدمتهم بنفسه وتكتّم على أمرهم .

ولعلّ أبا سلمة الخلاّل كان يريد من خلال هذا الإجراء صرف الخلافة لآل علي ولكنّه غلب على أمره حتى فاجأته جيوش أبي مسلم الخراساني إلى الكوفة وظهر أمر بني العباس فأخرجوا السفّاح إلى المسجد وبايعوه يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول سنة ( ١٣٢ هـ ) .

واستقبلت الكوفة بيعة السفّاح بكثير من القلق ؛ لأنّها كانت تترقّب بفارغ الصبر حكومة العلويين حسب الشعارات المرفوعة ليبسطوا الأمن والرخاء .

أمّا الأوساط الواعية في الكوفة ، بل في كل أنحاء العالم الإسلامي ، فقد شجبت البيعة للسفّاح وأفتى الفقهاء في يثرب بعدم شرعيّتها(١) .

وبعد ذلك أخذوا به إلى المسجد لغرض الصلاة والخطبة لكنّه

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الامم والملوك : ٩ / ١٢٤ ، وتاريخ ابن قتيبة : ١٢٨ ، والطقطقي : ١٢٧ .

١٦٧

حُصِر وخطب مكانه عمّه داود ثمّ امتلك الجرأة فخطب وكان من جملة ما قاله في خطابه :

يا أهل الكوفة أنتم محل محبّتنا ، ومنزل مودّتنا ، أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فأنا السفّاح المبيح ، والثائر المنيح(١) .

ثمّ أرسل قوّاته بقيادة عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد بن مروان الحمار ولاحقته الجيوش العباسية من بلدة إلى أخرى حتى حاصرته في مصر في قرية يقال لها ( بوصير ) وقُتل هناك شرّ قتلة(٢) .

٣ ـ موقف الإمامعليه‌السلام من الأحداث

التزم الإمام الصادقعليه‌السلام إزاء المستجدّات السياسية في هذه المرحلة موقف الحياد لكنّه من جانب آخر واصل العمل في نهجه السابق ، وأخذ يتحرّك بقوّة ويوسّع من دائرة الأفراد الصالحين في المجتمع ؛ تحقيقاً لهدفه الذي خطّه قبل هذا الوقت وحفاظاً على جهده في بناء الإنسان .

ومن هذا المنطلق أصدر جملة من التوصيات لشيعته التي كان من شأنها أن تجنّبهم الدخول في المعادلات السياسية المتغيّرة التي تؤدّي بنتيجتها إلى استنزاف الوجود الشيعي في نظر الإمامعليه‌السلام محذّراً من أساليب العنف والمواجهة كخيار لهذه المرحلة .

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ : ٥/٤١٣ .

(٢) اليعقوبي : ٢/٣٤٦ وابن جرير وابن الأثير في الكامل في التاريخ : ٥/٤٢٦ .

١٦٨

فعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :( اتقوا الله وعليكم بالطاعة لأئمتكم ، قولوا ما يقولون ، واصمتوا عمّا صمتوا ، فإنّكم في سلطان من قال الله تعالى : ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) (١) ـ يعني بذلك ولد العباس ـفاتقوا الله فأنّكم في هدنة ، صلّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم ، وأدّوا الأمانة إليهم ) (٢) .

ويمكن بلورة سيرة الإمامعليه‌السلام ومنهجه السياسي ـ مع الأطراف الطامعة بالحكم ، أو العباسيين الّذين يرون في الإمام الصادقعليه‌السلام وخطّه خطراً حقيقياً على سلطانهم ـ من خلال المواقف التالية :

موقف الإمامعليه‌السلام من عرض أبي سلمة الخلاّل

لقد أدرك أبو سلمة الخلاّل أحد الدعاة العباسيين النشطين في الكوفة والذي لعب دوراً متميّزاً في نجاح الدعوة العباسية وتكثير أنصارها في الكوفة ؛ وذلك لما امتاز به من لياقة وعلم ودهاء ، وثراء حيث أنفق من ماله الخاص على رجال الدعوة العباسية ، وكانت له علاقة خاصة واتصالات مستمرّة مع إبراهيم الإمام ، وأدرك بعد موت إبراهيم الإمام بأنّ الأمور تسير على خلاف ما كان يطمح إليه أو لعلّه كان قد تغيّر هواه واستجدّ في نفسه شيء ، ولاحظ أنّ مستقبل الخلافة سيكون إلى أبي العباس أو المنصور وهما غير جديرين بالخلافة أو لطمعه بالسلطة ، نراه يكتب للعلويين وفي مقدّمتهم الإمام الصادقعليه‌السلام بأنّه يريد البيعة لهم .

لكنّنا لا نفهم من رسالة ـ أبي سلمة ـ للإمامعليه‌السلام بأنّها رسالة ندم أو

ـــــــــــــــــ

(١) إبراهيم (١٤) : ٤٦ .

(٢) الكافي : ٨ / ٢١٠ .

١٦٩

اعتراض على النهج العباسي وخديعتهم للعلويين أو إدانة أساليبهم في الاستيلاء على السلطة .

نعم ، إنّ الّذي نجده عند مشهور المؤرّخين(١) هو أنّ أبا سلمة الخلال أراد نقل الخلافة إلى العلويين ولم يوفّق لذلك .

ونجد في جواب الإمامعليه‌السلام على رسالة أبي سلمة : أنّ الإمامعليه‌السلام قد رفض العرض لا بسبب كون الظروف قلقة وغير مؤاتية فحسب ، بل كان الرفض يشمل أبا سلمة نفسه حيث قال :( مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ) (٢) .

وأكّد الإمامعليه‌السلام رفضه القاطع عندما قام بحرق الرسالة التي بعثها له أبو سلمة جواباً لأبي سلمة:

قال المسعودي : كاتب أبو سلمة الخلاّل ثلاثة من أعيان العلويين وهم جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام وعمر الأشرف بن زين العابدين ، وعبد الله المحض ، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم يسمى محمد بن عبد الرحمن ابن أسلم مولىً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال أبو سلمة للرسول : العجل العجل فلا تكونن كواقد عاد وقال له : اقصد أولاً جعفر بن محمد الصادق فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين ، وإن لم يجب فالق عبد الله المحض فإن أجاب فأبطل كتاب عمر وإن لم يجب فالق عمر .

فذهب الرسول إلى جعفر بن محمد أولاً ، ودفع إليه كتاب أبي سلمة فقال الإمامعليه‌السلام :( مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ؟! فقال له الرجل : اقرأ الكتاب ، فقال لخادمه :ادن السراج منّي ، فأدناه ، فوضع الكتاب على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٩ / ١٢٤ وابن قتيبة : ١٢٨ ، والطقطقي : ١٢٧ .

(٢) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ ، والآداب السلطانية : ١٣٧ .

١٧٠

النار حتى احترق ، فقال الرسول : ألا تجبه ؟ قالعليه‌السلام :قد رأيت الجواب عرّف صاحبك بما رأيت ) (١)

موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من العلويين

أمّا العلويون الذين خدعهم العباسيون في اجتماع الأبواء قبل انتصار العباسيين وبايعوا في حينه محمد بن عبد الله كخليفة للمسلمين ، فقد استجاب عبد الله بن الحسن أيضاً للعرض الذي تقدم به أبو سلمة وجاء للإمام الصادق مسروراً يبشّره بهذا العرض .

قال المسعودي : فخرج الرسول من عند الإمام الصادق وأتى عبد الله بن الحسن ، ودفع إليه الكتاب وقرأه وابتهج ، فلمّا كان غد ذلك اليوم الذي وصل إليه فيه الكتاب ركب عبد الله حتى أتى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام فلمّا رآه أبو عبد الله أكبر مجيئه ، وقال : يا أبا محمد ( وهي كنية عبد الله المحض ) أمر ما أتى بك ؟ قال : نعم هو أجل من أن يوصف ، فقال له : وما هو يا أبا محمد ؟

قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني للخلافة ، وقد قدمت عليه شيعتنا من أهل خراسان ، فقال له أبو عبد الله : يا أبا محمد ومتى كان أهل خراسان شيعة لك ؟ أنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟ وأنت أمرتهم بلبس السواد ؟ هؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وجّهت فيهم ؟ وهل تعرف منهم أحداً ؟

فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال : إنّما يريد القوم ابني محمداً لأنّه مهدي هذه الأمة .

فقال أبو عبد الله جعفر الصادق :( ما هو مهدي هذه الأمة ولئن شهر سيفه

ـــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ .

١٧١

ليقتلن ) .

فقال عبد الله : كان هذا الكلام منك لشيء .

فقال الصادقعليه‌السلام :( قد علم الله أنّي أوجب النصيحة على نفسي لكل مسلم ، فكيف أدّخره عنك فلا تمنّ نفسك الأباطيل ، فإنّ هذه الدولة ستتمّ لهؤلاء وقد جاءني مثل الكتاب الذي جاءك ) (١) .

نهاية أبي سلمة الخلاّل

ولم يخف أمر أبي سلمة الخلال على العباسيين فقد أحاطوه بالجواسيس التي تسجّل جميع حركاته وأعماله وترفعها إلى العباسيين ، فاتفق السفّاح وأخوه المنصور على أن يخرج المنصور لزيارة أبي مسلم ويحدّثه بأمر أبي سلمة ، ويطلب منه القيام باغتياله ، فخرج المنصور ، والتقى بأبي مسلم ، وعرض عليه أمر أبي سلمة فقال ، أبو مسلم : أفعلها أبو سلمة ؟ أنا أكفيكموه ؟ ثم دعا أحد قوّاده ( مرار بن أنس الضبي ) ، وقال له : انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته فسار إلى الكوفة مع جماعة من جنوده وكان أبو سلمة يسمر عند السفّاح الذي تظاهر بإعلان العفو والرضا عنه ، واختفى مرار مع جماعته في طريق أبي سلمة فلمّا خرج من عند السفّاح بادر إلى قتله ، وأشاعوا في الصباح : أنّ الخوارج هي التي قتلته(٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٢٥٤ ، ٢٥٥ ونحوه في اليعقوبي : ٢/٣٤٩ ، والآداب السلطانية : ١٣٧ ونحوه الحلبي في مناقب آل أبي طالب : ٤/٢٤٩ عن ابن كادش العكبري في مقاتل العصابة العلوية .

(٢) اليعقوبي : ٢/٣٥٤ وتاريخ الأمم والملوك ، أحداث سنة ( ١٣٢ ) قتل أبو سلمة في الخامس عشر من شهر رجب بعد هزيمة مروان بشهر واحد .

١٧٢

موقف الإمامعليه‌السلام من عرض أبي مسلم

أمّا أبو مسلم الخراساني الذي قاد الانقلاب على الأمويين في خراسان ، وتمّ تأسيس الدولة العباسية على يديه نجده في الأشهر الأولى من انتصار العبّاسيين وإعلان البيعة لأبي العباس السفاح بالكوفة يكتب للإمام الصادقعليه‌السلام رسالة يريد بها البيعة للإمامعليه‌السلام فقد جاء فيها : إنّي قد أظهرت الكلمة ، ودعوت الناس عن موالاة بني أُميّة إلى موالاة أهل البيت فإن رغبت فلا مزيد عليك(١) .

لا شك أنّ أبا مسلم الخراساني المعروف بولائه وإخلاصه للعباسيين وهو صنيعتهم حينما تصدر رسالة من عنده بهذه اللهجة تعتبر مفاجأة ولابد أن تتأثّر بعوامل طارئة قد غيّرت من قناعاته ، سواء كانت تلك العوامل ذاتية أو موضوعية وإلاّ فما هي الجهة التي تربطه بالإمامعليه‌السلام ؟

لم يحدثنا التاريخ عن أي علاقة بينه وبين الإمامعليه‌السلام عقائدياً أو سياسياً سوى لقاء واحد لم يتم فيه التعارف بينهما أو التفاهم نعم كان الإمامعليه‌السلام قد عَرِفه وذكر اسمه ومستقبله السياسي قبل إعلان العباسيين ثورتهم(٢) .

أمّا موقف الإمام من عرض أبي مسلم الخراساني فيمكن معرفته من جواب الإمام على الرسالة فقد جاء في جوابهعليه‌السلام ( ما أنت من رجالي ولا الزمان

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٢٤١ ، وفي روضة الكافي : ٢٢٩ جوابه لرسول أبي مسلم بكتابه إليه وعنه في بحار الأنوار : ٤٧/٢٩٧ .

(٢) إعلام الورى : ٢/٥٢٨ وعنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/٢٥٩ وبحار الأنوار : ٤٧/٢٧٤ ح١٥ .

١٧٣

زماني ) (١) .

كلمات مختصرة ومعبّرة عن تفسير الإمام للمرحلة وتشخيصه لأبي مسلم ; لأنّ أبا مسلم لم يكن من تربية الإمام ، ولا من الملتزمين بمذهبه ، فهو قبل أيام قد سفك من الدماء البريئة ما لا يُحصى وقيل لعبد الله بن المبارك : أبو مسلم خير أو الحجاج ؟ قال : لا أقول إنّ أبا مسلم كان خيراً من أحد ولكنّ الحجاج كان شرّاً منه(٢) وكان لا يعرف أحداً من خط أهل البيت ومواليهم ; إذ كانت علاقته محصورة بدائرة ضيّقة كما قد حددها له مولاه إبراهيم الإمام عندما أمره أن لا يخالف سليمان بن كثير ، فكان أبو مسلم يختلف ما بين إبراهيم وسليمان(٣) .

كما نجده بعد مقتل إبراهيم الإمام الذي كان يدعو له يتحوّل بولائه لأبي العباس السفّاح ومن بعده لأبي جعفر المنصور ، علماً أنّ العلاقة كانت بينه وبين المنصور سيئة وكان أبو مسلم يستصغر المنصور أيام حكومة السفّاح(٤) إلاّ أنّ المنصور ثأر لنفسه أيام حكومته فقتله شرّ قتلة .

أمّا المرحلة التي سادها الاضطراب فلم تكن في نظر الإمامعليه‌السلام وتقديره صالحة لتقبّل أطروحته إذ قال له :عليه‌السلام ( ولا الزمان زماني ) (٥) .

٤ ـ منهج الإمامعليه‌السلام في هذه المرحلة

قد أملت الظروف السياسية الساخنة وساهمت في إيجاد بعض

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ١٤٢ .

(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٤٥ وتاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٢١ : سُئل بعضهم ...

(٣) وفيات الأعيان : ٣/١٤٥ .

(٤) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٦٧ والمسعودي : ٣/٢٩١ وتاريخ مختصر الدول : ١٢١ .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٥٤ ، تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٤٩ .

١٧٤

التصوّرات والإرهاصات عند أصحاب الإمامعليه‌السلام أُسوة بباقي الناس ، وقد لاحظ هؤلاء بأنّ الظرف مناسب لتفجير الوضع واستلام الحكم لضخامة ما كانوا يشاهدونه من شعبية الإمام وكثرة الناس التي تواليه جاءت التصوّرات والتساؤلات عن ضرورة الثورة عند ما ورد إلى الإمام كتاب أبي مسلم الخراساني ، فعن الفضل الكاتب قال كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فأتاه كتاب أبي مسلم فقالعليه‌السلام :ليس لكتابك جواب أُخرج عنّا ـ وقد مرّ جواب الإمام على العرض الذي تقدّم به أبو مسلم ـ فجعلنا يُسار بعضنا بعضاً فقال :( أيّ شيء تسارُّون يا فضل ؟ إنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد ، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله ) ثم قال : إنّ فلان بن فلان ، حتى بلغ السابع من ولد فلان .

قلت : فما العلامة فيما بيننا وبينك جُلعتُ فداك ؟ قال :( لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني ، فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا ـ يقولها ثلاثاً ـوهو من المحتوم ) (١) .

وينقل المعلّى بأنّه جاء إلى الإمام بكتب كثيرة من شيعته تطالبه بالنهوض(٢) وقد مرّ جواب الإمامعليه‌السلام في البحوث السابقة بما حاصله أنّ الكثرة المزعومة وذلك العدد الذي لا يستهان به لهو أحوج إلى الإخلاص ورسوخ العقيدة في النفوس فلا يمكن للإمام أن يخوض المعركة بالطريقة التي يفكّر بها فضل الكاتب أو سهل الخراساني وغيرهم ، فإنّ المغامرة من هذا النوع والدخول في اللعب السياسية استغلالاً للظرف سيؤول إلى نتائج لم يدركها هؤلاء إذ تشكّل تجربة كأداء تعطّل المخطّط الإلهي الذي التزمه الإمامعليه‌السلام حتى في حالة نجاح الإمامعليه‌السلام وتسلّمه مقاليد الحكم .

ـــــــــــــــــ

(١) روضة الكافي : ٢٢٩ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧ / ٢٩٧ ، وسائل الشيعة : ١١ / ٣٧ .

(٢) الكافي : ٨ / ٢٧٤ .

١٧٥

التصعيد العبّاسي وموقف الإمامعليه‌السلام

وبعد أن تولّى أبو العباس السفّاح الحكم وصار أوّل حاكم عبّاسي قام بتعيين الولاة في البلاد الإسلامية ، فعيّن عمّه داود بن علي بن العباس والياً على يثرب ومكة واليمن وقد خطب داود أوّل تولّيه المنصب خطاباً في أهالي المدينة وتضمّن خطابه التهديد والوعيد بالقتل والتشريد قائلاً : أيّها الناس أغرّكم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال ، هيهات منكم ، وكيف بكم ؟ والسوط في كفّي والسيف مشهر .

حتى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كل مثقّف بالهامِ

ويقمن ربات الخدور حواسراً

يمسحن عرض ذوائب الأيتامِ(١)

وكان تعيين داود بن علي عم السفّاح والياً على المدينة له الأثر السلبي على حركة الإمام الصادقعليه‌السلام فقد بادر هذا الأحمق بمواجهة الإمام عن طريق اعتقال مولى الإمام ( المعلّى بن خنيس ) والتحقيق معه لغرض انتزاع أسماء الشيعة وقد امتنع هذا المخلص وصمّم على الشهادة ولم يذكر أي اسم حتى استشهد .

عن أبي بصير قال : فلمّا ولي داود المدينة ، دعا المعلّى وسأله عن شيعة أبي عبد اللهعليه‌السلام فكتمه ، فقال اتكتمني !؟ أما إنّك إن كتمتني قتلتك .

فقال المعلى : أبالقتل تهدّدني ؟! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم ، وإن أنت قتلتني لتسعدني ولتشقين ، فلمّا أراد قتله ، قال المعلّى أخرجني إلى الناس ، فإنّ لي أشياء كثيرة ، حتى أشهد بذلك .

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١ / ١٣٩ .

١٧٦

فأخرجه إلى السوق ، فلمّا اجتمع الناس ، قال : أيّها الناس ، اشهدوا أنّ ما تركت من مال عين ، أو دين ، أو أمة ، أو عبد ، أو دار ، أو قليل أو كثير ، فهو لجعفر بن محمدعليه‌السلام . فقُتل(١) .

لقد تألّم الإمام الصادقعليه‌السلام كثيراً لمقتل المُعلّى بن خنيس ، ولمّا التقى الإمامعليه‌السلام بداود بن علي بن العباس قال له :قتلت قيّمي في مالي وعيالي ، ثم قال لأدعونّ الله عليك قال داود : اصنع ما شئت .

فلما جنّ الليل قالعليه‌السلام :( اللّهم ارمه بسهم من سهامك فأفلق به قلبه ) فأصبح وقد مات داود والناس يهنّئونه بموته(٢) .

لقد أدرك الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ الظرف ينبئ بالخطر ، وأنّ الحاضر يحمل في داخله كثيراً من التعقيدات والمشاكل التي سوف يلقاها عن قريب ، لكن الوقت لازال فيه متسع من النشاط والتحرّك ويمكن للإمامعليه‌السلام أن يثبت ما بقي من منهجه ويرسّخه في ذهن الأمة ويمدّها بالآفاق الرسالية التي تحصنها في المستقبل ; لأنّ العباسيين الآن مشغولون بملاحقة الأمويين ؛ لذا نجدهعليه‌السلام لم يصطدم مع داود بن علي بسبب قتله للمعلّى بالطرق المتوقّعة ولم يعلنها ثورة ، كما لم ينسحب للمنطق الذي أبداه داود في تصعيده الموقف مع الإمام ، والذي كان يستهدف جهد الإمام وحركته ، بل قابله بمنطق أقوى يعجز من مثل داود أن يواجهه به .

إنّ لجوء الإمامعليه‌السلام إلى الدعاء سوف يدرك العباسيون من خلاله أنّ الإمام لا يريد المواجهة العسكرية ، لكن مثل هذه الأعمال لا تثنيه عن

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٣٧٧ ح ٧٠٨ و ٧١٣ وعنه في المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٣٥٢ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٢٩ .

(٢) الكافي : ٢ / ٥١٣ والخرائج والجرائح : ٢ / ٦١١ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٢٠٩ .

١٧٧

مواصلة نشاطه ومن فوائد دعاء الإمام أنّه كان يستبطن إيحاءاً لهم بأنّ الإمامعليه‌السلام لا يمتلك تلك القوّة التي تمكّنه من أن يقوم بعمل عسكري ـ مثلاً ـ يهدّد به كيانهم ، وهذا التصوّر الناشئ من هذا الموقف يُطمئن العباسيين ويتيح للإمامعليه‌السلام فرصاً جديدة من النشاط .

ثم نجد الإمامعليه‌السلام بعد أن أنهى مشكلة المعلّى بن خنيس بالطريقة التي مرّت وتفادى المواجهة ، يسافر إلى الكوفة التي يكثر فيها أنصاره وشيعته ولعلم الإمام بأنّ السفّاح ليس بمقدوره مواجهة الإمام في الوقت الحاضر ، وليس من صالح سياسته المستفيدة من اسم الإمامعليه‌السلام هذه المواجهة ، بل نجد السفّاح لا يفكّر حتى في مواجهة بني الحسن الذين وصلته عنهم معلومات تفيد أنّهم يخطّطون للثورة .

وبعد أن وصل الإمام إلى الكوفة قام ببعض النشاطات ، منها :

أنّ الإمامعليه‌السلام أوضح لخواصّ الشيعة بأنّ الحكومة الجديدة لم تختلف عن سابقتها ، لأنّ البعض من الشيعة كان قد التبس عليه الأمر وظنّ أنّ العلاقة بين الإمام وبني العباس طيّبة ؛ لذا طلب بعض الخواصّ من الإمام أن يتوسّط له ليكون موظّفاً في حكومة بني العباس .

ولمّا امتنع الإمام عن إجابته ظنّ بأنّ الإمام منعه مخافة أن توقعه الوظيفة في الظلم ؛ لذا قال : فانصرفت إلى منزلي ، ففكّرت فقلت : ما أحسبه منعني إلاّ مخافة أن أظلم أو أجور ، والله لآتينّه ولأعطينّه الطلاق والعتاق والأيمان المغلّظة أن لا أظلم أحداً ولا أجور ولأعدلنّ .

قال : فأتيته فقلت : جُعلت فداك إنّي فكّرت في إبائك ( امتناعك ) عليَّ فظننت أنّك إنّما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم وإنّ كلّ امرأة لي طالق ، وكل مملوك لي حُرّ عليَّ وعليَّ إن ظلمت أحداً أو جرت عليه ، وإن

١٧٨

لم أعدل .

فقال :كيف قلت ؟ قال : فأعدت عليه الأيمان ، فرفع رأسه إلى السماء فقال :( تناول السماء أيسر عليك من ذلك !! ) (١) .

ثم نجد الإمام الصادقعليه‌السلام يؤكّد بأنّ لقب ( أمير المؤمنين ) خاصّ بالإمام عليعليه‌السلام ولا يجوز إطلاقه على غيره حتى من ولده الأئمةعليهم‌السلام فكيف بمَن هو ظالم لهم .

جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب : لم يجوّز أصحابنا أن يطلق هذا اللفظ لغيره ( أي لغير الإمام علي ) من الأئمةعليهم‌السلام ) .

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين قال :( مَه ، فإنّه لا يرضى بهذهِ التسمية أحد إلاّ ابتُلي ببلاء أبي جهل ) (٢) .

ثم نجد للإمام توصيات كثيرة تحرّم التعاون مع الظلمة والتحاكم إليهم لكن لا يمكن تحديد زمنها .

لقد كان موقف الإمام من الحكومتين واحداً قالعليه‌السلام :( لا تعنهم ـ أي حكّام الجور ـعلى بناء مسجد ) (٣) .

وكان يقول لبعض أصحابه :( يا عذافر ! نبّئت أنّك تعامل أبا أيوب والربيع ، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟! ) (٤) .

وكان حضور الإمام الصادقعليه‌السلام في الحيرة ـ المدينة القريبة من الكوفة ـ قد لفت أنظار الأمة جميعاً واتجهت الناس حوله لتنهل من علومه وتستفيد

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي ٥/١٠٧

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٦٧ .

(٣) وسائل الشيعة : ٦/١٣٠ .

(٤) وسائل الشيعة : ٦ / ١٢٨ .

١٧٩

من توصياته وتوجيهاته حتى قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد فما كان لي من حيلة من كثرة الناس فلمّا كان اليوم الرابع رآني ، فأدناني(١) .

وهذا الحشد الجماهيري الكبير الذي يؤمن بأهليّة الإمام وأعلميّته والتفافه المستمر حول الإمام قد دفع بالحكومة العباسية إلى أن تحدّ من هذه الظاهرة لكنّ الإمامعليه‌السلام وانطلاقاً من محافظته على مسيرة الأمة ودفاعاً عن الإسلام ؛ نجده قد مارس مع السفّاح أسلوباً مرناً فعن حذيفة بن منصور قال : كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام بالحيرة ، فأتاه رسول أبي العباس السفّاح الخليفة يدعوه فدعى بممطر أحد وجهيه أسود والآخر أبيض ، فلبسه ، ثم قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( أما إنّي ألبسه ، وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار ) (٢) .

وجاء عن رجل قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( دخلت على أبي العبّاس بالحيرة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيّام اليوم ؟ فقلت : ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا فقال : يا غلام عليَّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله إنّه من شهر رمضان فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي ولا يُعبد الله ) (٣) .

ومن جانب آخر قد انتقد الإمام القتل الجماعي للأمويين ، وطلب من السفّاح الكفّ عن قتلهم بعدما أخذ الملك من أيديهم ودهش السفّاح وتعجّب من موقف الإمام تجاه ألدّ أعدائه الذين صبّوا على أهل البيتعليهم‌السلام ألوان الظلم ؛ لأنّ الإمام لا ينطلق من العصبية الجاهلية وروح التشفّي(٤) .

ـــــــــــــــــ

(١) فرحة الغري : ٥٩

(٢) الكافي : ٦ / ٤٤٩ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٤٥ .

(٣) الكافي : ٤ / ٨٣ .

(٤) حياة الإمام جعفر الصادق : ٧ / ٨٠ .

١٨٠