اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)0%

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 241

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 241
المشاهدات: 97487
تحميل: 6367

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97487 / تحميل: 6367
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

اعلام الهداية - الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الأول : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام (١١٤ ـ ١٣٢ هـ)

تصدّى الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام لموقع الإمامة بعد أبيه محمد الباقرعليه‌السلام سنة ( ١١٤ هـ ) ؛ فكان مرجعاً في الدين والسياسة والفكر والثقافة للمسلمين عامة ، ولأتباع أهل البيتعليهم‌السلام بشكل خاص .

وهذا الأمر نجده واضحاً في جوابه لأبيه عندما أوصاه بصحابته وخاصّته قال الإمام الصادقعليه‌السلام :لمّا حضرت أبي الوفاة قال : يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً قلت : ( جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في مصر فلا يسأل أحداً ) (١) .

بهذا المستوى العالي من الإقدام الشجاع أعرب الإمامعليه‌السلام عن نواياه وبرنامجه الذي أعدّه لمستقبل الشيعة في ظل إمامته والخطّة التي تؤهّلهم لأن يكونوا ذلك النموذج السامي في المجتمع الإسلامي حيث يتحرّك كلٌ منهم برؤى واضحة المسار ، بلا فوضى في الاختيار ولا ضلالة في الفكر والسلوك ; لأنّ هذا الإعداد العلمي والثقافي يجعلهم أغنياء عن الأخذ من الغير ، ويرتقي

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ١ / ٤٠ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٢ .

٦١

بهم إلى مستوى استغنائهم عن سؤال أحد من المسلمين وغير المسلمين ماداموا قد تمسّكوا بالحبل المتصل بالله ، وهو حبل أهل بيت الرسالة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .

وكان الإمام الباقرعليه‌السلام قبل هذا الوقت قد هيّأ الشيعة وأعدّهم لأخذ معالم الشريعة من الإمام الصادقعليه‌السلام عندما قال : ( إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا فإنّه الإمام والخليفة بعدي وأشار إلى ابنه جعفر )(١) .

وباشر الإمام الصادقعليه‌السلام مسؤولياته بدءاً بالتعريف بإمامته وإثباتها بشكل علمي وعملي .

جاء عن عبد الرحمن بن كثير : إنّ رجلاً دخل المدينة يسأل عن الإمام ، فدلّوه على عبد الله بن الحسن ، فسأله هنيئة ثمّ خرج ، فدلّوه على جعفر بن محمدعليه‌السلام فقصده فلمّا نظر إليه جعفرعليه‌السلام قال :( يا هذا إنّك كنتَ دخلتَ مدينتنا هذه ، تسأل عن الإمام ، فاستقبلك فتية من ولد الحسن فأرشدوك إلى عبد الله بن الحسن ، فسألته هنيئة ثم خرجت ، فإن شئت أخبرتك عمّا سألته ، وما ردّ عليك ثم استقبلك فتية من ولد الحسين ، فقالوا لك : يا هذا إن رأيت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل فقال : صدقت كان كما ذكرت) (٢) .

وهكذا أخذ الإمامعليه‌السلام يمارس ألواناً من الأساليب ؛ لئلاّ يضيع أتباع أهل البيت بين القيادات المتعدّدة إلى أن تبلور في الأذهان أنّ الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام هو الرمز الإلهي والقائد الحقيقي للأمة بعد

ـــــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر : ٢٥٤ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٥ .

(٢) المناقب لابن شهر آشوب : ٣/٣٤٩ ، وبحار الأنوار : ٢٥/١٨٤ ، و : ٤٧/١٢٥ .

٦٢

أبيه الباقرعليه‌السلام .

واستمرّ الإمام بتعزيز خطواته فتحرّك بأسلوب آخر بغية تعميق العلاقة بينه وبين الوجود الشيعي الذي أعدّ تفاصيله ورسم معالمه الإمام الباقرعليه‌السلام .

ومن هنا نجد الإمام الصادقعليه‌السلام يشحذ هممهم ويثير في نفوسهم الحماس ويخاطب مواطن الخير والقوّة فيها ، مشيراً إلى أنّ الكثرة من الناس قد خذلتهم وجهلت حقّهم ، وإنّ المسلم الذي تحمّل ساعة الشدّة وبقي ملازماً لهم حتَّى صقلته التجارب ولم يستجب للإغراءات لهو جدير بحمل الأمانة ومواصلة الطريق معهم .

ولنقرأ النص الثاني الذي يرتبط بجماعة موالية لأهل البيتعليه‌السلام من الكوفة على الإمام الصادقعليه‌السلام في المدينة بعد استشهاد أبيه قال عبد الله بن الوليد : دخلنا على أبي عبد اللهعليه‌السلام في زمن بني مروان ، فقال ممّن أنتم ؟ قلنا : من الكوفة قال :ما من البلدان أكثر محبّاً لنا من أهل الكوفة ، لا سيّما هذه العصابة (١) ، إنّ الله هداكم لأمر جهله الناس فأحببتمونا وأبغضنا الناس ، وبايعتمونا وخالفنا الناس ، وصدّقتمونا وكذَّبنا الناس ، فأحياكم الله محيانا ، وأماتكم مماتنا (٢) .

وبعد هذا العرض الموجز للمرحلة التي انتهى منها الإمام الباقرعليه‌السلام وبدأها الإمام الصادقعليه‌السلام ، لا بد أن نقف على ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام في شتّى النواحي والمجالات .

ـــــــــــــــــ

(١) يقصد الشيعة لأنّها أخص .

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ١ / ١٤٣ ، وبحار الأنوار : ٦٨ / ٢٠ ح٣٤ .

٦٣

١ ـ الوضع السياسي

لم يكن الوضع السياسي الذي يريد أن يتحرّك في وسطه الإمام الصادقعليه‌السلام قد تبدّل ؛ فهشام بن عبد الملك الذي أقدم على اغتيال الإمام الباقرعليه‌السلام لازال هو الحاكم ، وسياسته مع الإمام الباقرعليه‌السلام وشيعته هي السياسة نفسها ، وهي سياسة قائمة على أساس الحقد الجاهلي وتتلخّص في التشريد والاضطهاد .

إنّ الثائر زيد بن عليعليه‌السلام يكشف لنا عمق المأساة التي كانت تعيشها الأمة آنذاك ، حين تعرّض هذا الثائر العظيم في زمن الإمام الباقرعليه‌السلام لإذلال وتوهين من قِبل هشام باعتباره أحد رجال الشيعة ومن رموزها البارزين .

أخذ زيد يزداد قناعة بضرورة الثورة ضد الأمويين حتى صمّم على ذلك بلا تردّد ، وبدوافع إسلامية خالصة .

وحين ذكر جابر بن يزيد الجعفي رأي أخيه الباقرعليه‌السلام بثورته وسلامة قراره وذكر له أنّه مقتول لا محالة قال زيد لجابر :

يا جابر لم يَسَعن أن أسكت ، وقد خولف كتاب الله وتحوكم بالجبت والطاغوت ، وذلك أنّي شاهدت هشاماً ورجل عنده يسبّ رسول الله فقلت للسابّ : ويلك يا كافر ! أما إنّي لو تمكّنت منك لاختطفتُ روحَك وعجّلتك إلى النار فقال لي هشام : مَه ، جليسنا يا زيد .

قال زيد لجابر : فو الله لو لم يكن إلاَّ أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتَّى أفنى(١) .

ـــــــــــــــــ

(١) حياة الإمام محمّد الباقر ، دراسة وتحليل : ١/٧٢ .

٦٤

والرواية التالية أيضاً تصوّر لنا حقيقة دوافع زيد ومدى عزمه على مناهضة بني أمية :

فعن محمّد بن عمر بن عليعليه‌السلام قال : كنت مع زيد بن عليعليه‌السلام حين بعث بنا هشام إلى يوسف بن عمر ، فلمّا خرجنا من عنده وسِرنا حتى كنّا بالقادسية قال زيد : اعزلوا متاعي عن أمتعتكم ، فقال له ابنه : ما تريد أن تصنع ؟

قال : أريد أن أرجع إلى الكوفة ، فو الله لو علمت أنّ رضى الله عزَّ وجلَّ عَنّي في أن أقدح ناراً بيدي حتَّى إذا اضطرمت رميتُ نفسي فيها لفعلت ، ولكن ما أعلم شيئاً لله عزَّ وجلَّ عني أفضل من جهاد بني اُميّة(١) .

والتحق مع زيد كثير من الفقهاء والمحدثين والقضاة من أصحاب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام (٢) .

وعندما قرّر الثورة ، لم يتجاوز إمام عصره حيث طرح الأمر على الإمام الصادقعليه‌السلام .

قال الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام :سمعت أبي يقول : رحم الله عمّي زيداً لقد استشارني في خروجه ، فقلت لهُ : يا عمّ إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك (٣) .

وهكذا أقرّ الإمام الصادقعليه‌السلام سلامة قراره كما أخبره بنبأ شهادته .

أمّا توجيهات الإمام الصادقعليه‌السلام للمخلصين من أصحابه حِيال الثورة بشكل عام فكانت من نوع آخر ؛ حيث لا يريد الإمامعليه‌السلام أن يلقي بكلّ ثقل

ـــــــــــــــــ

(١) تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) راجع كتاب زيد الشهيد للسيد عبد الرزاق المقرّم حيث تجد قائمة بأسماء الشخصيات التي شاركت مع زيد في ثورته .

(٣) الكناسة اسم محلّة بالكوفة مسند أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢/٥٠٥ .

٦٥

وجوده في معركة واحدة .

فعن أبي بكر الحضرمي أنّه قال : ذكرنا أمر زيد وخروجه عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فقال :( عمّي مقتول إن خرج قُتِل ، فقرّوا في بيوتكم ، فو الله ما عليكم بأس ) ، فقال رجل من القوم : إن شاء الله(١) .

زيد يعلن الثورة

وجمع زيد بن علي الأنصار والدعاة فأعلن ثورته والتحق به عدد غفير .

لكن المتتبّع للوضع السياسي والأخلاقي لتلك المرحلة ، يرى أنّ الاضطراب العقائدي والأخلاقي كان سمة من سمات ذلك العصر بالرغم من وجود قناعة كانت تعيشها الأمة وهي التذمّر من بني أمية وجورهم من جهة وتوجّههم إلى أنّ البديل السياسي المرتقب هو الخط العلوي الذي كافح الظلم وتحمّل ألوان العذاب من الحكم الأموي المنحرف لكنّ هاتين القناعتين ـ كما سترى ـ لا تفيان بكامل الشروط الموضوعية لنجاح الثورة .

غير أنّ الثورة على مستوى حاجة مسيرة الأمة تعتبر ضرورة اجتماعية وسياسية لئلاّ تتنازل الأمة مطلقاً للظالمين عن حقوقها وشخصيّتها ولتحافظ على هويّتها الإسلامية من حيث الحيوية والحساسية ضد الباطل بشكل عام .

من هنا كان العمل الثوري مفيداً للأمة وإن لم تنجح الثورة على المدى القريب وهكذا نجد الإمامعليه‌السلام مع علمه بنتائج الثورة يعمّق هذا المفهوم في

ـــــــــــــــــ

(١) كشف الغمة : ٢/١٩٨ ـ ١٩٩ ، بحار الأنوار : ٤٧/١٤٨ .

٦٦

نفوس الشيعة ويدعم الثّوار كما سنرى .

لقد فَجَّر زيد ثورته وحقَّق نصراً حاسماً ضد الأمويين بعد أن خاض حرباً طاحنة كادت أن تنتهي لصالح زيد لولا وقوع الفتنة في صفوف أتباعه حيث احتال عليه بعض مَن كان يهوى هشاماً فدخلوا عليه وقالوا : ما تقول في أبي بكر وعمر ؟ فقال زيد : رحم الله أبا بكر وعمر صاحبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أين كنتم قبل اليوم ؟

لقد كان الغرض من إلقاء السؤال في ذلك الموقف الحرج وفي ساحة الحرب هو أحد أمرين وفي كليهما نجاح تلك الخدعة وتحقيق تلك المؤامرة ، فإما أن يتبرّأ زيد من الشيخين فيكون حينئذ أقوى لقتل زيد ; لأنّه يسيء القول في الشيخين وتلك وسيلة اتّخذها الأمويون ومن بعدهم للقضاء على خصومهم وإمّا أن لا يتبرأ ممّن ظلم أهل البيت حقّهم فيكون جوابه على أيّ حال سبباً لإيجاد الخلاف بين أصحابه .

وبالفعل نجحت المؤامرة وتفرّق أهل الغدر وذوو الأطماع وكانت هذه الحيلة من الوالي يوسف بن عمر أقوى سلاح لجأ إليه ، كما أغرى بعض جواسيسه بالأموال ليتعرّف على أصحاب زيد(١) .

وخُذِل زيد وتفرق جيشه حتَّى قال : أراها حسينية وبعد قَتله حملت جثته وصلبت بالكناسة بالكوفة(٢) وذلك في سنة ( ١٢١ هـ ) .

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الأمم والملوك : ٨/٢٧٧ .

(٢) النزاع والتخاصم للمقريزي : ٣١ ، وأنساب الأشراف : ٣ / ٤٣٩ و ٤٤٦ .

٦٧

موقف الإمام الصادقعليه‌السلام من ثورة زيد

يقول مهزم الأسدي دخلت على الإمام الصادقعليه‌السلام فقال :يا مهزم ما فعل زيد ؟ قال : قلت : صلب ، قال :أين ؟ قلت : في كناسة بني أسد قال :أنت رأيته مصلوباً في كناسة بني أسد ؟ قال : قلت : نعم ، فبكى حتَّى بكت النساء خلف الستور(١) .

نجد الإمام الصادقعليه‌السلام عليه‌السلام في مواقف متعدّدة يتبنّى الدفاع عن عمّه زيد ويتَرحّم عليه ويوضح منطلقاته وأهدافه ويرسّخ في النفوس مفهوماً إسلامياً عن ثورته حيث يعتبر هذه الثورة جزءاً من حركة الإمامعليه‌السلام وليس حدثاً خارجاً عنها ، كما نجده يردّ على الإعلام المضادّ للثورة ضمن عدّة مواقف وتصريحات :

١ ـ يقول الفضيل بن يسار : بعد قتل زيد ذهبت إلى المدينة لألتقي بالإمام الصادقعليه‌السلام وأخبره بنتائج الثورة ، وبعد أن التقيته وسمع منّي ما دار في المعركة قال :يا فضيل شهدت مع عمّي قتال أهل الشام ؟ قلت : نعم قال :فكم قتلتَ منهم ؟ قلتُ : ستّة قال :فلعلّك شاكٌّ في دمائهم ؟ قال : فقلت : لو كنت شاكّاً ما قتلتهم ثمّ قال : سمعته يقول :أشركني الله في تلك الدماء ، مضى واللهِ زيدٌ عمّي وأصحابه شهداء ، مثل ما مضى عليه عليٌّ بن أبي طالب وأصحابه )(٢) .

٢ ـ يقول عبد الرحمن بن سيّابه : دفع إليَّ أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام ألف دينار وأمرني أن أقسّمها في عيال مَن أصيب مع زيد بن علي بن الحسينعليهما‌السلام ، فقسّمتها فأصاب عبد الله أخا الفضيل الرسّان أربعة

ـــــــــــــــــ

(١) أمالي الطوسي : ٢/٢٨٤ .

(٢) أمالي الصدوق : ٢٨٦ .الصفحة

٦٨

دنانير(١) .

هكذا كان الإمامعليه‌السلام يتابع ثورة عمّه زيد ويتحمّل نتائجها وأعباءها وتكشف لنا الروايتان عن مستوى العلاقة القائمة بين الإمامعليه‌السلام والشيعة الثائرين عندما يأمر أحدهم بإحصاء عوائل الشهداء وتوزيع المال عليهم .

٣ ـ أمر الإمامعليه‌السلام شيعته بدفن زيد ؛ لأنّ الأمويين كانوا قد علّقوه على أعواد المشانق ، قال سليمان بن خالد : سألني الإمام الصادقعليه‌السلام فقال : ما دعاكم إلى الموضع الذي وضعتم فيه زيداً ؟ قلت : خصال ثلاثة : أمّا إحداهنّ فقلّة مَن تخلّف معنا(٢) إنّما كنا ثمانية نفر ، أمّا الأخرى فالذي تخوّفنا من الصبح أن يفضحنا ، وأمّا الثالثة فإنّه كان مضجعه الذي كان سبق إليه ، فقال : كم إلى الفرات من الموضع الذي وضعتموه فيه ؟ قلت : قذفة حجر فقال : سبحان الله أفلا كنتم أوقرتموه حديداً وقذفتموه في الفرات وكان أفضل ؟(٣) .

الإمامعليه‌السلام وهشام بن عبد الملك

في هذا الجو المشحون بتزاحم الإرادات وحدوث تمرّد على الحكومة هنا وهناك ، خصوصاً بعد ثورة زيدرحمه‌الله والإمام الصادقعليه‌السلام مشغول بترتيب أوضاعه الرساليّة ، والتهم تثار ضدّ الشيعة تارةً بالخروج على السلطان ، وأخرى بالزندقة وجواز سبّ الخلفاء ، يدخل هشام إلى المدينة ويستقبله بنو العباس بالشكوى على الإمام الصادقعليه‌السلام بأنّه أخذ تركات ماهر الخصي دوننا هنا يخطب أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام فيقول :كان أبوكم طليقنا وعتيقنا وأسلم كارهاً تحت سيوفنا ، لم يهاجر إلى الله ورسوله هجرة قط فقطع الله ولايته منّا بقوله : ( والَّذين آمنوا ولم

ـــــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق : ٢٧٥ .

(٢) أي من أتباع زيد فإنّ بعضهم قتل وبعضهم هرب .

(٣) الكافي : ٨ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ ح٣٥١ .

٦٩

يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء ) (١) ثم قال :هذا مولى لنا مات فحزنا تراثه ، إذ كان مولانا ، ولأنّا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأُمّنا فاطمة أحرزت ميراثه (٢) .

وبعد موت هشام بن عبد الملك تولّى الخلافة الوليد بن يزيد سنة (١٢٥ هـ) وكان يسمّى بالفاسق ؛ إذ لم يكن في بني أمية أكثر إدماناً للشراب والسماع ولا أشد مجوناً وتهتّكاً واستخفافاً بأمر الأمة منه ، حتَّى أنّه واقع جارية له وهو سكران وجاءه المؤذّنون يؤذنونه بالصلاة فحلف أن لا يصلّي إلاَّ هي ، فلبست ثيابه ، وصلّت بالمسلمين وهي جنب وسكرانة .

وكان قد اصطنع بِركة من الخمر ، فكان إذا طرب ألقَى نفسه فيها وكان يشرب منها حتَّى يبين النقص في أطرافه(٣) .

وممّا كان من فسقه أنّه نكح أمهات أولاد أبيه ، وتفاءل يوماً بالمصحف الكريم فخرجت الآية :( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) فمزّق المصحف وأنشأ يقول :

أتوعد كلّ جبارٍ عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد(٤)

وقد تمادى في الغيّ حتّى قال له هشام : ويحك والله ما أدري أعلى دين الإسلام أنتَ أم لا ؟!

بداية الانفلات

لم تكن هذه اللحظات التأريخية من حياة الأمة التي بدأت فيها بالمطالبة

ـــــــــــــــــ

(١) الأنفال : ٨ / ٧٢ .

(٢) المناقب لأبن شهر آشوب : ١/٣٢١ ، وبحار الأنوار : ٤٧/١٧٦ ح٢٢ .

(٣) حياة الحيوان : ١/٧٢ .

(٤) مروج الذهب : ٣/٢١٦ .

٧٠

بإزاحة بني أمية من مركز الحكم لتتحقّق بشكل عفوي ، وإنّما جاءت نتيجةً لفعاليات ثوريّة بدأت من ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ، واستمرّت حتَّى ثورة زيد التي أطاحت بهيبة هشام بن عبد الملك الأموي وطغيانه .

وفي هذا الظرف كتب عامل الوليد بن يزيد في خراسان : بتردّي الأوضاع وحدوث ثورات فأجابه : إنّي مشغول بالعريض ومعبد وابن أبي عائشة ، وهم المغنّون الَّذين كان قد أحضرهم عنده(١) .

وقد صرّح الإمام الصادقعليه‌السلام بعاقبة هذا الانحدار والتردّي والتمّرد على حرمات الله قائلاً :( إنّ الله عزَّ ذكره ، أذن في هلاك بني أمية بعد إحراقهم زيداً بسبعة أيّام ) (٢) .

وكان الوليد هو الذي أمر بإنزال جثمان زيد الشهيد ـ بعد أن بقي أربع سنوات على أعواد المشانق ـ وأمر بإحراقه وكان تشديد الحراسة من السلطة على جثمان زيد ـ خشية إنزاله من قِبَل العلويين ـ دليلاً على وجود فعّاليات منظمة ضد الحكم القائم ، وقد كان الإمام الصادقعليه‌السلام يعاتب الشيعة على عدم تصدّيهم لإنزال جثمان زيد الشهيد .

وعندما اشتدّت المعارضة كتب الوليد إلى عامله في الكوفة يوسف بن عمر : خُذ عجل أهل العراق فأنزله جذعة ( يعني زيد بن عليعليه‌السلام ) وأحرقه بالنار ثم أنسفه في اليمّ .

ونفّذ يوسف ما أمره سيّده فأحرق جسد زيد بن علي ورماه في نهر الفرات(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام للذهبي : ٥/١٧٨ .

(٢) الكافي : ٨/١٦١ ، وتفسير العياشي : ١/٣٢٥ .

(٣) الطبري : ٨ / ١٢٢ ، وابن الأثير : ٥ / ١٢٧ ، وتاريخ اليعقوبي : ٢ / ٣٩١ .

٧١

الإمام الصادقعليه‌السلام يشيد بثورة عمّه زيد

كانت السلطة الحاكمة عندما تريد الانتقام من خصومها تلقي عليهم تهماً مستهجنة في نظر عامة الناس ، مثل شق عصا المسلمين ، وتهمة الزندقة ؛ لتكون مسوّغاً لاستباحة دمائهم وتحشيد البسطاء من الناس عليهم .

ومن هنا قالوا بأنّ ثورة زيد بن عليعليه‌السلام هي خروج على سلطان زمانه (هشام بن عبد الملك) المفروضة طاعته من قِبل الله ! لأهداف كان يريدها زيد لنفسه .

وهذا الاتهام قد ردّ عليه الإمام الصادقعليه‌السلام وحاربه حين قال :لا تقولوا خرج زيد ، فإنّ زيداً كان عالماً صدوقاً ولم يدْعُكم إلى نفسه ، إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولو ظفر لَوَفى بما دعاكم إليه ، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه (١) .

وحدث حوار بين يحيى بن زيد ورجل شيعي وكان الرجل يستفهم عن موقف زيد من يحيى بن زيد قال الرجل : قلت : يا بن رسول الله إنّ أباك قد ادّعى الإمامة وخرج مجاهداً ، وقد جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن ادّعى الإمامة كاذباً ! فقال : مَه يا عبد الله إنّ أبي كان أعقل من أنْ يدّعي ما ليس له بحق ، وإنمّا قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) عنى بذلك ابن عمّي جعفراً قلت : فهو اليوم صاحب الأمر ؟ قال : نعم هو أفقه بني هاشم(٢) .

مقتل يحيى بن زيد

وفي أيام الوليد بن يزيد قُتل يحيى بن زيد أيضاً ، وذلك أنّ يحيى خرج من الكوفة بعد مقتل أبيه وتوجّه إلى خراسان ، فسار إلى الري ، ومنها أتى

ـــــــــــــــــ

(١) الحور العين : ١٨٨ .

(٢) مستطرفات السرائر : ٣/٥٥٠ فما بعدها .

٧٢

سرخس ، ثم خرج ونزل بلخ على الحريش بن عبد الرحمن الشيباني ولم يزل عنده حتّى هلك هشام وولي الوليد(١) .

وكتب والي الكوفة إلى نصر بن سيار يخبره بأنّ يحيى بن زيد موجود في منزل الحريش ، وهنا طلب نصر من الحريش بأن يسلّم إليه يحيى ، فردّ الحريش على الوالي نصر بن سيّار قائلاً : لا علم لي به ولهذا السبب ضُرب الحريش ستمائة سوط ثم قال الحريش : والله لو أنّه تحتَ قدميّ ما رفعتهما(٢) .

وبقيت أجهزة النظام تراقبه ، وجرت بعد ذلك حوادث يطول ذكرها ، وأخيراً أرسل نصر جيشاً يُقدّر بعشرة آلاف فارس وكان يحيى في سبعين رجلاً ، وفي المعركة الأخيرة أُصيب يحيى بسهم في جبهته فقُتل وقتل أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ عن آخرهم وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه(٣) وكان ذلك في سنة (١٢٥ هـ) وصُلب جسده الشريف بالجوزجان ، ولم يزل مصلوباً حتَّى ظهر أبو مسلم الخراساني فأنزله وصلّى عليه ودفنه(٤) .

وفي سنة ( ١٢٦ هـ ) قُتل الوليد بن يزيد من قِبل الأمويين أنفسهم وتوّلى الخلافة من بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك وفي هذه الفترة حدثت فوضى سياسيّة لم تُشهد من قبل حيث تحرّك كل مَن كان له أدنى طمع في الرئاسة ; لأنّ الأمّة في هذا الظرف كانت مستعدة لأن تستجيب لأيّ لافتة تدّعي العدالة ، وتريد الانتقام من الأمويين ، فكانت تتقبل هذه الدعوات بلا فحص ولا تدقيق ؛ ولهذا ظهرت في هذا الظرف مذاهب سياسية شتّى !

ـــــــــــــــــ

(١) زيد بن علي ، للسيد عبد الرزاق المقرم : ١٧٦ .

(٢) الكامل لأبن الأثير : ٥/١٢٧ .

(٣) المصدر السابق .

(٤) المصدر السابق : ٥ / ١٢٧ .

٧٣

وهذا الواقع السياسي لم يمكن مسكه ولا السيطرة عليه وتكريسه باتّجاه واحد من قِبل الإمامعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ موقفهعليه‌السلام من هذا الوضع كان موقف المصلح المرشد حيث نراه تارة يحذّر من الاندفاع وراء أهل المذاهب الأخرى ، وتارة يدعو للموقف الثوري لكن للّذي يعتمد العقيدة الصحيحة إن وجد .

فالإمامعليه‌السلام محيط بتفاصيل واقعه ; لأنّه كان على رأس حركة لم تكن وليدة الساعة ، وإن جاءت كردّ فعل للواقع المنحرف ولا تخفى عليه حركة التيارات الطارئة في هذا الظرف ولا الأطماع التي تحرّك رؤساءها .

فهو إذن يعلم جيداً ما كان يستتر خلف هذه اللافتات من نوايا وأهداف كشعار بني العباس الذي خدعوا به الأمة ، من هنا حذّر الإمامعليه‌السلام من الانسياق وراء تلك الدعوات ، وأكّد ضرورة الالتزام بالقيم والمبادئ المفقودة ، وأعطى ملامح الخط السياسي الذي كان ينسجم مع المرحلة ، لكن ليس على حساب العمل الجهادي الذي يستهدف الأمويين ، وهذا ما شاهدناه من خلال مواقفهعليه‌السلام من ثورة زيد ودعمه لها .

موقف الإمامعليه‌السلام إزاء الأحداث السياسية

ويمكن تلخيص الموقف السياسي الذي خطّه الإمامعليه‌السلام إزاء الأحداث ، وإزاء العروض التي تقدّمت بها جماعات موالية وأخرى متعاطفة في نقطتين :

الأولى : موقفه من العروض التي تقدّمت بها فئات مختلفة من الأمة .

الثانية : تأكيده على الموقف المبدئي وتحذير الشيعة من الموقف الانفعالي والانجراف وراء الأحداث .

٧٤

موقف الإمامعليه‌السلام من العروض التي قُدّمت له

العرض الأوّل : روي عن عبد الحميد بن أبي الديلم أنّه قال : كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فأتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم ، وكتاب الفيض بن المختار وسليمان بن خالد يخبرونه أنّ الكوفة شاغرة(١) برجلها وأنّه إن أمَرَهُم أن يأخذوها أخذوها فلمّا قرأعليه‌السلام كتابهم رمى به ، ثمّ قال :ما أنا لهؤلاء بإمام ، أما علموا أنّ صاحبهم السفياني ؟ (٢) .

العرض الثاني : هو الذي تقدّم به جماعة من منطقة خراسان إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ولم يكن في الحقيقة عرضاً من أجل الثورة ودعوة الناس لمبايعة الإمامعليه‌السلام ، وإنّما كان استفساراً حول الدعوة التي قد أشاعها شخص كان قد جاء من الكوفة وادّعى أنّه يمثّل الإمام وهو رسوله إليهم .

لنستمع إلى كلام راوي الحدث ـ الحارث بن حصيرة الازدي ـ حيث قال : قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ففرقة أطاعته وأجابت ، وفرقة جحدت وأنكرت ، وفرقة ورعت ووقفت قال : فخرج من كلّ فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد اللهعليه‌السلام ـ وقد كان في بعض القوم جارية فخلا بها الرجل الذي كان يعرف بالورع ووقع عليها ـ فلمّا دخلنا على أبي عبد اللهعليه‌السلام وكان الرجل الذي خلا بالجارية هو المتكلّم فقال لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أصلحك الله قدم علينا رجل من أهل الكوفة فدعا الناس إلى طاعتك وولايتك فأجاب قوم ، وأنكر قوم ، وورع

ـــــــــــــــــ

(١) شاغرة : شغر البلد شغوراً : إذا خلى من حافظ يمنعه .

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢ / ٦٤١ / ح٦٦٢ ، بحار الأنوار : ٤٧ / ٣٥١ .

٧٥

قوم ووقفوا قال :فمن أيّ الثلاث أنت ؟ قال : أنا من الفرقة التي ورعت ووقفت قال :فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا ؟ قال : فارتاب الرجل(١) .

العرض الثالث : أوضح الإمام الصادقعليه‌السلام سياسته في هذه المرحلة أمام حشد من معارضي الأمويين وأشار بشكل غير مباشر إلى الخلل العقائدي والفكري والأهداف التي كان يسعى لها بعض عناصر المعارضة نلاحظ ذلك فيما روي أنّ عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم من كبار المعتزلة التقوا بالإمام الصادقعليه‌السلام وطرحوا عليه فكرة القيام بالثورة والاستيلاء على الحكم ، وطلبوا منه التأييد لهم والانضمام معهم .

هنا لم يجب الإمام على نفس السؤال ولم يلبّ طلبهم وإنّما عالج مسألة أخرى هي أهمّ من الاستجابة لطلبهم مستخدماً نفس الطريقة السابقة ; فإنّ العمل المسلّح لا ينفع إذا كانت نوازع الثائرين لا تختلف عن مباني نوازع الأمويين في الحكم ؛ ولهذا شخّص الإمامعليه‌السلام لهؤلاء الداء الذي سبّب تلك العواقب المظلمة والانحرافات التي ألمّت بالمجتمع الإسلامي .

والحدث كما يرويه لنا عبد الكريم بن عتبة الهاشمي هو كما يلي :

قال : كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام بمكة إذ دخل عليه أُناس من المعتزلة فيهم : عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم ، وأُناس من رؤسائهم ، وذلك حين قُتل الوليد بن يزيد واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا فأكثروا ، وخطبوا فأطالوا ، فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمدعليه‌السلام :إنّكم قد أكثرتم عليَّ فأطلتم ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، فليتكلّم بحجّتكم وليوجز فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فأبلغ وأطال فكان فيما قال : قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض وتشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروّة ،

ـــــــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات : ٢٦٤ / ح ٥ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٧٢ .

٧٦

ومعدن للخلافة ، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، ثم نظهر أمرنا معه ، وندعوا الناس إليه ، فمَن بايعه كنّا معه ، وكان منّا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومَن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغيه ، ونردّه إلى الحق وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فإنّه لا غنى بنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة شيعتك .

فلمّا فرغ ، قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :أكلّكم على مثل ما قال عمرو ؟ قالوا : نعم .

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتجّ عليهم بحجج ثم أقبل على عمرو ، وقال :اتّق الله يا عمرو ، وأنتم أيها الرهط ، فاتّقوا الله ، فإنّ أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنّة رسوله : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( مَن ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين مَن هو أعلم منه فهو ضال متكلّف ) (١) .

فهؤلاء مع اعترافهم بفضل الإمامعليه‌السلام وتقدّمه على مَن سواه كيف كانوا يفكّرون في مبايعة غيره ويتوقّعون تأييد الإمامعليه‌السلام لهم ؟! وقد دعاهم إلى أمر معقول ومشروع فلا بدّ لهم من إعادة النظر فيما يريدون الإقدام عليه .

الإمامعليه‌السلام يحذّر الشيعة من المواقف الانفعالية

ولإيضاح هذه النقطة نطالع بعض النماذج التالية :

النموذج الأوّل : ويتضمّن تأكيد الإمامعليه‌السلام على التثبّت والتحقيق وعدم التسرّع في الاستجابة لكل مَن يرفع شعار الثورة حتى ، ولو كان هذا الشعار هو شعار أهل البيتعليهم‌السلام ; لأنّ الإنسان إن لم يتثبّت لكان هو الخاسر ولكانت الخسارة عظيمة جداً ; لأنّه سوف يخسر الحياة التي سيحاسب على صغيرها

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ١١٨ ، و ٥ / ٢٣ ، بحار الأنوار : ٤٧ / ٢١٣ ـ ٢١٦ ح٢ و ٣ .

٧٧

وكبيرها وسوف لا ينفعه الندم والتوبة إن قتل ; لا على بيّنة أو دليل قوي .

وفي هذا خير تحذير من الاختراقات السياسية التي كانت تحاول توظيف الوجود الشيعي لصالحها وتدّعي بأنّ لها صلة بالإمام لكنّها في الحقيقة كانت تريد الاستغفال .

لنقرأ ما جاء عن عيص بن القاسم حين قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له ، انظروا لأنفسكم فو الله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي ، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الّذي هو فيها ، يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها ، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت ، فقد والله ذهبت التوبة ، فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آت منّا فانظروا على أي شيء تخرجون (١) .

النموذج الثاني : وفيه يشير الإمامعليه‌السلام إلى أنّ المرحلة أحوج ما تكون إلى النماذج الصالحة والقدوة الحسنة لترفد المجتمع بسلوكها الصالح وفكرها الصائب .

فعن عمر بن أبان قال : سمعت أبا عبد الله يقول :( يا معشر الشيعة إنكم نُسِبْتُم إلينا ، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً ، ما يمنعكم أن تكونوا مثل أصحاب علي رضوان الله عليه في الناس ؟! إن كان الرجل منهم ليكون في القبيلة ، فيكون إمامهم ومؤذّنهم ، وصاحب أماناتهم وودائعهم عُودوا مَرضاهم ، واشهَدوا جنائزهم وصَلّوا في مساجِدِهم ولا يسبقوكم إلى خير ، فأنتم ـ والله ـ أحقّ منهم به ) (٢) .

ـــــــــــــــــ

(١) الكافي : ٨ / ٢٦٤ .

(٢) مشكاة الأنوار : ٦٧ ، والكافي : ٢ / ٢٩٣ ، ووسائل الشيعة : ١ / ٥٢ .

٧٨

٢ ـ الوضع الفكري

إنّ الظواهر الفكرية والعقائدية السائدة في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام ـ مثل : الزندقة ، الغلّو ، والاعتزال ، والجبر ، والرأي ، وما نتج عنها من ظهور صيغ جديدة لفهم الرسالة في مجال الفقه وتفسير الحديث والقرآن الكريم ـ لم تكن وليدة الظرف الّذي عاصره الإمام ولم تأتي بالمصادفة ، وإنّما يعود وجودها إلى ذلك المنهج الّذي خطّه الأمويون ومَن سبقهم من الخلفاء الذين اجتنبوا منهج أهل البيتعليهم‌السلام وسلكوا طريقاً آخر طيلة عشرة عقود أو أكثر ، فعكس للأجيال صورة مزيّفة عن الدين لا يتجاوز كونه أداة موجهة بيد الحكّام يحمون به سلطانهم ويوظّفونه حسب ما تتطلّبه سياستهم ، ضد المستضعفين حين أصبح المسلم آنذاك لا يرى إلاّ الصورة المقيتة عن الدين ؛ ولهذا كانت الزندقة ردّة فعل لهذا الانحراف بعد تلاعب الحكّام بالدين ، وقد لقيت رواجاً في هذا الوسط الديني المضطرب والمليء بالمفاهيم الخاطئة .

إنّ اضطراب الموازين والقيم قد أدّى إلى التشكيك حتى في السُنّة النبوية ، بل في فهم الكتاب الإلهي العظيم والركون إلى الرأي والاستحسان والتجاوز عن مداليل النصوص المأثورة بلا قانون علمي قويم .

فإذا أردنا أن نحاكم الأفكار المنحرفة التي انتشرت في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام كان علينا أن نعرف الخلفيات التي انتهت بالأمة إلى هذا الاضطراب .

من هنا نتناول مفردات من المنهج الأموي التحريفي ودوره التخريبي

٧٩

في فهم القرآن والسنّة وحوادث التاريخ ، مقتصرين على ذكر بعض النماذج في كل مجال .

تحريف مصادر التشريع والتاريخ :

أ ـ التحريف في مجال تفسير القرآن الكريم

كان التعامل مع النص القرآني وتفسيره يعتمد الرأي أو الروايات الإسرائيلية ، ويوظّف لصالح سياسة الخليفة ، ومن الأمثلة على ذلك :

١ ـ استخدم المجبّرة النصوص القرآنية لتأييد نظريتهم مثل قوله تعالى :( والله خلقكم وما تعملون ) (١) ، زاعمين أنّ القرآن يدلّ على أنّ الله يجبر العباد على أعمالهم ...

٢ ـ أمّا عقيدة التجسيم التي بُنيت على التعامل مع القرآن على أساس الجمود على ظواهر النصوص ، فلا تتجاوز المعنى الحرفي للفظ حتى أخذت تصرّح بأنّ لله يداً ووجهاً محتجّة بقوله تعالى :( يد الله فوق أيديهم ) (٢) ، وقوله :( ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام ) (٣) وقالوا بالرؤية البصرية لله تعالى استناداً إلى قوله تعالى :( وجوه يؤمئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة ) (٤) .

واعتماد هذه التفاسير والقصص الإسرائيلية في تفسير الآيات المباركة هو السبب في هذه الصور المشوّهة فقد جاء في تفسير القرطبي عن كعب الأحبار أنّه قال : لمّا خلق الله العرش قال العرش : لم يخلق الله أعظم منّي واهتزّ

ـــــــــــــــــ

(١) الصافات : ٩٦ .

(٢) الفتح : ١٠ .

(٣) الرحمن : ٢٧ .

(٤) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣ .

٨٠