من قضايا النهضة الحسينية الجزء ٢

من قضايا النهضة الحسينية0%

من قضايا النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 146

من قضايا النهضة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فوزي آل سيف
تصنيف: الصفحات: 146
المشاهدات: 20274
تحميل: 4189


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 146 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20274 / تحميل: 4189
الحجم الحجم الحجم
من قضايا النهضة الحسينية

من قضايا النهضة الحسينية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من قضايا النهضة الحسينيّة

(أسئلة وحوارات)

الجزء الثاني

تأليف: فوزي آل سيف

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين

مقدّمة

الإقبال الذي شهده القسم الأول المطبوع من هذا الكتاب، تبعاً لشرف المكتوب عنه (عليه السّلام) وعظمة قضيته، حفّزني للاستمرار وإصدار القسم الثاني الماثل بين يديك عزيزي القارئ.

كما إنّ ردود الفعل والتي أرى أنّ أكثرها ينطبق عليه(الكلمة الطيبة صدقة) (١) كانت محفّزاً آخر، ودافعاً إضافياً للاستمرار. وأسأل الله أن يشركهم في ثواب ما كُتب. وهنا اُنبّه إلى أهمية التفاعل مع عمل الخير، والدفع باتّجاه المزيد؛ فإنّ كلمة تأييد أو تشجيع يقولها قائلها وينساها بعد فترة من الزمان لكنّها يمكن أن تكون بمثابة الجزء الأخير من العلّة في إنجاز العمل؛ فيُثاب المرء ويُحسب له من الأجر ما لا يتصوّره.

ومن هنا أقدّم لكلّ اُولئك شكري، ومنهم الذين كانت لديهم بعض

____________________

١ - من وصية الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) لأبي ذر الغفاري.

٥

الملاحظات على ما ورد في القسم الأول، أو كانت له مناقشات في بعض ما جاء فيه، وأعتبر أنّ تلك الملاحظات من شأنها أن تُثري الموضوع، وتنير الدرب لِمَنْ يريد مناقشة قضايا التاريخ. وليس متوقّعاً أن يكتب أحد في موضوع (تاريخي) ويكون متسالماً عليه من قبل الجميع، وموافقاً لآراء الكلّ.

وقضايا التاريخ تختلف عن القضايا العقيدية في أنّ الثانية يوجد فيها ثوابت، ومسلّمات يعتبر المساس بها غير صحيح، بخلاف الأولى فليس لها من القداسة ذلك المقدار. كما إنّ منهج مناقشة النوعين من القضايا يختلف.

ومع أنّه لا يزال الكثير من الأسئلة والقضايا التاريخية في السيرة الحسينيّة (على صاحبها آلاف التحية والثناء) ممّا يمكن أن يكون القسم الثالث للكتاب في المستقبل، إلاّ أنّ عدداً من الإخوة أشاروا عليّ بأن أقدّم هذا للطباعة فامتثلت ذلك، وها هو القسم الثاني بين يديك أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به، وأن يجعل ثوابه لوالدي (تغمدهما الله بالرحمة).

وأكرّر مرّة أُخرى شكري لذوي الكلمة الطيّبة الذين كان لهم أثر واضح في صدور هذا القسم، كما لا أنسى ذوي الفعل الطيّب من الطيّبين الذين ساهموا في صدور السابق ويساهمون في تاليه.

فوزي آل سيف

تاروت - القطيف - جمادى الثاني ١٤٢٣

٦

المنبر الحسيني بين التطوير والتكلّس

هناك دعوتان متطرّفتان على طرفي نقيض ترتبطان بالمنبر والخطابة الحسينيّة، وثالثة نؤمن بها؛ الأولى تدعو إلى إنهاء المنبر الحسيني والخطابة من الوجود الاجتماعي، بزعم أنّ المنبر كان في يومٍ مؤثراً عندما لم تكن وسائل الاتصال ونقل المعلومات كالتي نراها اليوم، فكان روّاد شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) وقادتهم يحتاجون إلى وسيلة لإيصال ثقافتهم وأفكارهم إلى العامّة، ولم يكن أفضل من المنبر الحسيني وسيلة نافعة؛ فهو يلهب العواطف، ويهيئ النفوس مع ذلك للاستقبال.

ويزعم هؤلاء أنّ المنبر الحسيني وما يرتبط به من مكان وتقاليد كان يخدم غرضاً كيانيّاً في السابق، بحيث كان يمثّل نقطة الاجتماع والحشّد والتعبئة لدى الطائفة الشيعية التي كانت تحيطها التحدّيات، فكانت تحتاج إلى محور يجتمع فيه أبناؤها ويتفاعلون معه، ولم يكن هناك

٧

أفضل من المنبر والموسم الحسيني الذي كان يخدم هذا الهدف أيّما خدمة.

لكن يرى هؤلاء بأنّ الأوضاع قد تغيّرت، وأصبح التعبير عن الوجود والكيان له مظاهر متعدّدة، ولم يعد المنبر الحسيني وما يرتبط به إلاّ واحداً من المظاهر تلك، وليس هو الأقوى فيها.

وبالنسبة إلى وسائل الاتصال الثقافي تضيّقت الدائرة، وأصبح تناول الثقافة سهلاً يسيراً مع وجود الانترنت والفضائيات فضلا عن الكتاب، فما كان وسيلة وحيدة في وقت أصبح اليوم من أضعف الوسائل.

ويضيفون أموراً أُخرى، منها عدم تأثير المنبر في سامعيه، بحيث يخرج هؤلاء المستمعون بعد المنبر ليمارسوا حياتهم الاعتيادية ضمن معادلاتهم السابقة وكأنّهم لم يسمعوا شيئاً، وهذا يدلّ في رأيهم على أنّه لا ينبغي الاهتمام بقضية المنبر الحسيني(١) .

والأُخرى على الطرف الآخر، ترى أنّ المنبر الحسيني بصورته الحالية، بل حتّى التقليدية السابقة له دور عظيم في الأُمّة وينبغي دعمه وحمايته في أصل وجوده، وفي هيكله المعروف وصورته القائمة، ويرون أنّ أيّ محاولة لتطويره وتحديثه تحمل ولو على المدى البعيد نتيجة إنهاء المنبر؛ ولذا فهم يقفون من أيّ محاولة تطويرية موقف المعارضة أو التشكيك في غاياتها(٢) .

____________________

١ - في حوار جرى عبر أحد المواقع في الانترنت سألني أحدهم: سمعت همساً يُغضب الكثير أوّد أن أرى تعليق الشيخ عليه (المنبر الحسيني مات، وإكرام الميت دفنه!).

٢ - يتحدّث الخطيب المعاصر الدكتور الوائلي (حفظه الله) في كتابه (تجاربي مع المنبر) =

٨

ورأيهم في ذلك ينتهي إلى أنّ هناك حملة، أو مؤامرة لتشكيك المؤمنين في ثوابتهم العقائدية، وممارساتهم الشعائرية، واُصولهم المتسالم عليها من قبل علماء الطائفة جيلاً بعد جيل. والقبول بالفصل الأوّل يجرّ إلى الثاني وهكذا تتابع حبّات المسبحة؛ ولذا ينبغي النظر إلى محاولات التجديد والتحديث في هذا الإطار الكلّي كما يرى هؤلاء. فلا ينبغي التشجيع عليها، ولا الإصغاء إليها، بل لا بدّ من التحذير منها؛ توقّياً لمّا يحدث بعدها، وسدّاً للباب الذي يُفتح خلفها.

فاليوم يتمّ التشكيك في بعض روايات السيرة، وغداً في أصل السيرة الحسينيّة، وبعدها في الإمامة.. وهكذا؛ ولذا يرى أصحاب هذه النظرية أنّ من الضروري تجنّب الانسياق مع دعوات التطوير والتجديد خوفاً ممّا ستؤول إليه.

وهناك طريق ثالث نحن نتبنّاه، كما يتبنّاه الكثير من العلماء والخطباء وأصحاب الرأي، وهو يتمثّل في النقاط التالية:

____________________

= عن تجربة رائدة لم تتحقّق في تطوير المنبر الحسيني، مع أنّ روّادها كانوا من العلماء الكفوئين، منهم الشيخ محمّد ابن شيخ الشريعة، والشيخان المظفّران محمّد رضا ومحمد حسين، والشيخ عبد المهدي مطر وآخرون، ويتحدّث عن اتصالهم لهذا الغرض بالمرجعية حينئذ للاستفادة من مكان معين، فأجازت المرجعية الاستفادة إلى أن تحرّكت جماعات مضادّة انتهت إلى سحب الإجازة، فقام روّاد الفكرة باستئجار دار للغرض ذاته ولكنّ التحرّك المضاد عاد هذه المرّة بشكل أعنف انتهى إلى الهجوم على المكان وتخريب محتوياته، وهرب القائمين عليه خوفاً من الإيذاء!

ويعلّل الشيخ الوائلي ذلك بأمور مختلفة منها - ما يتّصل بموضوعنا - أنّ قسماً من المخالفين لهذه الحركة التطويرية صوّروا الأمر في الأذهان على أنّه محاولة لتحسين صورة بني أُميّة في الأذهان، والقضاء على الشعائر الحسينيّة.. إلى آخر ما ذكره.

٩

١ - نحن نعتقد أنّ المنبر الحسيني لا يزال الوسيلة المهمّة في نشر فكر أهل البيت (عليهم السّلام)، بنحو لم تستطع سائر الوسائل الأخرى بما فيها الحديثة منها (كالفضائيات والانترنت) أن تقوم به؛ وذلك لجهات:

الأولى: سهولة تناوله من قبل جميع الطبقات الاجتماعية، بخلاف تلك الوسائل التي لا تتمكّن منها سوى طبقة معينة من الناس؛ سواء لجهة عدم توفّر أدواتها، أو التزامها بنحو معين من الخطاب لا يستقطب جميع الشرائح.

مثلاً: مَنْ لا يعرف الانترنت ولا يستخدمها لا يمكن له أن يستفيد من إمكاناتها، ولا تستطيع هذه المواقع الموجودة فيها مخاطبته. وهكذا الحال في أمر الفضائيات، بخلاف المنبر الحسيني الذي يتوفّر للجميع وليس على المرء سوى أن ينقل قدمه إلى المكان المعين.

الثانية: إنّ الكثير من الباحثين يذكرون التوافق الجمعي، والحضور في ضمن مجموع كبير كواحد من الجهات المؤثّرة في المتلقّي، بخلاف ما لو كان يتلقّى هذا الأمر بمفرده، أو ضمن مجموعة محدودة، ولا شك أنّ المنابر الحسينيّة يتوفّر فيها هذا الجوّ العام.

الثالثة: إنّ المنبر الحسيني وما يحتويه من توجيه (ولائي، أو أخلاقي، أو ثقافي) خطّ ممتدّ مع عمر الإنسان المتلقّي، فلو فرضنا أنّ شخصاً من أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) كان يحضر في المنابر كما هي عادة كثير منهم في موسم محرّم ورمضان مجلساً واحداً في كلّ ليلة، فإنّ معنى ذلك أنّه عندما يكون في السبعين من العمر يكون قد استمع الى أكثر من ألفي محاضرة بما تحتوي عليه من قضايا تأريخية وأدبية وثقافية عامّة، والمتعرّض لهذا المقدار من المحاضرات والأحاديث لا شك سيكون ذا ثقافة مناسبة. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل مستوى الكثير من هؤلاء برغم أُمّية بعضهم، أعلى من غيرهم وأفضل.

١٠

٢ - إنّ هذه الوسيلة (المنبر) كان لها دور عظيم في الحفاظ على تراث أهل البيت (عليهم السّلام) وفكرهم، إضافة إلى دورها المحوري داخل المجتمع الشيعي، ولا تزال تمتلك المقوّمات الكافية للاستمرار في هذا الدور، بل يمكن دعوى دور أكبر لها عن طريق الاستفادة من الوسائل المتقدّمة كالانترنت والفضائيات.

لقد كان المنبر في الأزمنة السابقة يمارس تأثيره في حدود منطقة القريبين منه، بينما هو اليوم بفضل تقدّم الوسائل قادر على مخاطبة البعيدين، ممّا يعني أنّ بإمكانه أن يقوم بدور أكبر في استقطاب الجمهور والتأثير عليهم.

٣ - إنّنا نعتقد أنّ هذه الوسيلة القوية يمكن لها أن تكون أقوى وأفضل ممّا هي عليه الآن عندما تتعرّض إلى عملية تطوير وتحديث شاملة تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الذاتية؛ كونها حسينيّة وتخدم غرضاً معيناً، وأيضاً الأوضاع القائمة بما فيها من مشاكل فكرية، وتستفيد من تقنيات الاتصال والتخاطب والإقناع؛ حيث إنّ الخطابة والتأثير على المستمع أصبح علماً كاملاً ومتطوّراً يُدرس كاختصاص في الجامعات، وإنّ البقاء في الحالة التقليدية التي تُتوارث من قِبل اللاحقين عن السابقين في الكيفيات والأساليب يعرّض هذه الوسيلة إلى التراجع والاضمحلال.

هذا مع أصرارنا على أن لا يفقد المنبر، كما سيأتي، مقوّماته الأساسية، ومن أهمّها القضية الحسينيّة، والجانب الرثائي بما فيه من حرارة المصيبة ولوعة المأساة.

ولهذا نقول: إنّ كلتا الدعويين اللتين ذُكرتا أوّل الحديث غير

١١

صحيحة؛ لا يزال المنبر قادراً وفاعلاً في حدوده الطبيعية(١) التي تنتظر منه، بل ربما يكون أقدر من الماضي على التأثير بما توفّر له من الوسائل التي تساهم في نقله هنا وهناك.

ونقول أيضاً: إنّ المنبر كسائر الأشياء ما لم يستجب للتغيير في وسائله، والتطوير في آلياته سينتهي به الحال إلى التراجع والاضمحلال، وسينهزم في معركة وسائلها عند الآخرين مطوّرة ومجدّدة، هذا مع الحفاظ على أساسياته، كما سيتبيّن في الكلمات القادمة.

إنّ تخوّف بعض المخلصين على المنبر من التطوير، واعتقادهم أنّه متى فُسح المجال للتطوير في هذا الجانب فإنّه بالتدريج سوف يفقد المنبر قدسيته، وسيفقد مقوّماته بمرور الزمان، يقابله تخوّف الكثير من المخلصين في الجانب الآخر، من أن ينتهي المنبر من التأثير في حياة الناس الحقيقية، ويتحوّل إلى قطعة من تحفيات العصر القديم، أو يتعامل معه كجزء من الفلولكور المنتهي، فيكون الذي ارتُجي أن يعطي الحياة للمجتمعات، والتألق للنفوس، هو بنفسه يذوى ويموت.

____________________

١ - نقول في حدوده الطبيعية المنتظرة منه؛ وذلك أنّ قسماً من الناس يتصوّرون المنبر الحسيني عصاً سحريّة سوف تحلّ لهم جميع المشاكل، فهم يطلبون منه ما لا تقدر الدول على تحقيقه؛ فيتحدّثون عن أنّه لماذا لا تتكلّمون عن البطالة؟ وكأنّ الحديث عنها فوق المنبر سوف يؤدّي إلى تشغيل ألوف العاطلين! ويقولون: لماذا نجد أنّ الظاهرة الفلانية مستمرة، هذا يدلّ على أنّ المنبر لا يقوم بدوره! ولماذا ينتشر الفساد الخُلقي؟ ولماذا يسوء السلوك الاجتماعي؟ ولماذا تضيع الذّمة المالية... إلخ، وهذا تحميل للمنبر ما لا يحتمل.

١٢

مبادئ وآليات في التطوير

١ - التطوير ضمن خصائص المنبر، وضمن الدور الذي يفترض أن يؤدّيه.

ينبغي أن يكون حادي المطالبين بتطويره وسائقهم.

ربما يطرح البعض وسائل للتطوير بعيدة عن خصائص المنبر، مثل أن يتحوّل إلى ندوة أو محاضرة تتخللها المناقشات والمداخلات.. أقول: بعيدة عن خصائصه؛ فإنّ المأخوذ في المنبر أن يكون فيه جانب الوعظ والتلقّي والإرشاد، بينما ليس كذلك - بالضرورة - في الندوة أو النقاش المفتوح.

أو قد يطرح فيه أمر القراءة على الورقة المكتوبة، بينما المألوف فيه والأكثر تأثيراً هو الخطاب المباشر ارتجالاً، والارتجال لا يعني بالضرورة عدم الإتقان أو عدم التحضير.

٢ - لا للتطوير القفزي والقسري.

مع إيماننا بضرورة التطوير، إلاّ أنّ المقبول منه أيضاً ينبغي أن يكون تطويراً تدريجيّاً حتّى يتقبّله المجتمع بصورة سلسة؛ فإنّه ليس أعسر على الناس من تغيير عاداتهم ومألوفهم.

إنّ الحقّ مع وضوحه لكنّه مع ذلك يحتاج إلى أسلوب مناسب في إيصاله إلى الناس و (بلاغ مبين)، ويحتاج (قولاً ليّناً). وتكوير المنبر وتجديده، وإضفاء عناصر القوّة عليه أيضاً يحتاج إلى عمل تدريجي بحيث يستقبله الناس.

إنّ الصورة التي نراها اليوم للمنبر الحسيني ليس هي نفس الصورة التي كان عليها قبل مئات السنين، بل ولا قبل عشرات السنين، وإنّما تعرّض لتطوير - كما سنتعرّض إليه - على مدى سنوات، من مجرّد كونه فترة رثائية إلى ما نراه اليوم من كونه، إضافة إلى مساحة الحزن التي

١٣

يحتلّها، مشعلاً ثقافيّاً وعلميّاً.

٣ - الحاجة إلى العمل بالوسائل الحديثة العامة في التطوير.

بالرغم من أنّ الدعوة إلى تطوير المنبر ينبغي أن يستشعر بها كلّ ممارس لهذه المهمّة المقدّسة، وأن يقوم بتطوير منبره، وتحسين أدائه فيه باندفاع ذاتي، إلاّ أنّ ذلك لا يغني عن الدعوة إلى التطوير العام باستخدام الطرق الحديثة التي يعتمدها العلم اليوم.

فمن المهم مثلاً أن تُقام دورات تخصّصية في فنّ الخطابة؛ سواء في الجانب الرثائي والعزائي، أو جانب الموضوع وكيفية إعداده، أو طرق التأثير على الناس. فإنّ ما سوى الجانب الأوّل توجد فيه كتب ومتخصّصون، ومع أنّ في منابرنا جانباً خاصاً؛ سواء لجهة المستمعين، أو نوعية الحديث، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من الاستفادة من الأمور العامّة التي لا تخصّ خطاباً دون غيره.

بل ينبغي أن يسعى إلى تأسيس معاهد وكلّيات للخطابة، ولو في الحوزات العلميّة، وأن تُعقد مجالس خاصة للخطباء يتمّ فيها تداول أمر المنبر الحسيني؛ سواء في تقييم الدور الذي يقوم به في كلّ مجتمع، أو في المواضيع التي ينبغي أن تُطرح، ولأجل استفادة كلّ جيل من خبرات الجيل الذي سبقه.

ونحن نحمد الله أنّ هناك حركة طيبة بهذا الاتجاه، فهناك مجلاّت تخصّصية تعنى بشأن المنبر الحسيني، وهناك دورات كثيرة قد تأسست في الحوزات والمدارس الدينية، وهناك مكاتب تخصّصية(١) ، وإن كانت

____________________

١ - نشير هنا بإكبار للعمل الموسوعي الضخم الذي يقوم به المحقّق الشيخ الكلباسي في كتابه (دائرة المعارف الحسينيّة) الذي يفترض أن يزيد على الخمسمئة مجلّد.

١٤

المهمّة أعظم من هذا المقدار الموجود كماً وكيفاً، لكنّه عمل يُبشّر بالكثير من الخير المستقبلي، جزى الله القائمين عليها خير الأجر والثواب.

مجالات التطوير المقترحة

مجال الرثاء والتعزية(١)

كانت بدايات المآتم الحسينيّة وما يُذكر فيها من أمور مأساوية جرت في كربلاء تحقّق أمرين؛ تفريغ زخم اللوعة والألم الموجود في نفوس أهل البيت (عليهم السّلام) وشيعتهم، ونشر الظلامة الحسينيّة وشحن النفوس على أثرها بالنقمة على أعداء الحسين (عليه السّلام).

وهنا تحوّل إلى دور رسالي رائد؛ ولهذا أصرّ أهل البيت (عليهم السّلام) على عقد المجالس بما يُستطاع، فإنّه من جهة كانت تصنع الفرد الرسالي وتربيه، وكانت أيضاً تهدف هدم صروح الظلم بالوسيلة المتيسّرة.

ومع أنّ هناك مَنْ ينتقد التعاطي مع الرثاء وجانب المصيبة في المجلس، إلاّ أنّه لا بدّ من التعادل في الأمر، فلا يصحّ التخلّي عنه من جهة، كما إنّه لا ينبغي الإغراق فيه من جهة أخرى، وإنّما نمسك العصا من وسطها فنقف بين المصرّين عليها وعلى توسعتها، وبين المطالبين بحذفها والاستغناء عنها.

ويُقترح أن يتمّ التركيز على الشعر القريض والمنتقى، والذي يتميّز بأداء حار ومستوى مرتفع، بل حتّى في الشعر الدارج والعامي يوجد ما

____________________

١ - سوف نستفيد في هذا العنوان بشكل أساسي من الكتاب القيّم الذي أنصح قارئي بقراءته للشيخ الوائلي: تجاربي مع المنبر.

١٥

هو عالي المضامين، وجيد السبك، وفيه ما هو هابط، فليُنتخب ما هو في مستوى إعلاء شأن صاحب النهضة وأصحابه ونسائه.

انظر إلى الفرق بين شعر الشريف الرضي(١) ، والسيد حيدر الحلّي(٢) ، والكعبي، والكوّاز، والقسّام، والهندي(٣) ونظرائهم، وفي المقابل استمع الى بعض ما يُقرأ في المجالس؛ حيث لا تجد غير ركّة المعاني واصطناع الألفاظ.

ثمّ تأمّل في الصور التي يُظهرها هذا الشاعر أو ذاك ويجليها في أفضل نحو، كما نجد في ملحمة الدمستاني (أحرم الحِجّاج...) فقد جمع (كلّ الصيد في جوف الفرا)، ومثلّما صنع الجمري(٤) في تصويره شجاعة الحسين (صوّل أبو سكنه...) والتي أبدع فيه رسم صور البطولة بقدر ما أجاد في التقاط معاني الثورة، وغيرهم. ولا نريد الآن التعرض إلى كل

____________________

١ - محمّد بن الحسين بن موسى، توفي عام ٤٠٦ هـ في بغداد، فقيه عالم وأشعر الطالبيين. انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده. له ديوان شعر، وعدّة كتب منها؛ المجازات النبويّة، وحقائق التأويل في متشابه التنزيل، ورسائل الصابي، والشريف الرضي، وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام).

٢ - حيدر بن سليمان الحلّي، توفي عام ١٣٠٤ هـ في الحلّة، شاعر أهل البيت (عليهم السّلام)، له ديوان الدرّ اليتيم، والأشجان في مراثي خير إنسان. وأفضل شعره حولياته في الحسين (عليه السّلام).

٣ - تجد تراجمهم وتراجم غيرهم من عمالقة الشعر الحسيني في كتب متعدّدة، منها: أدب الطفّ - للسيد جواد شبر، والنجفيات - للشيخ علي الخاقاني، وشعراء الحسين (عليه السّلام).

٤ - عطية بن علي الجمري البحراني، خطيب حسيني وشاعر مجيد لا سيّما بالدارجة، يُفضل شعره على غيره من قبل خطباء المنبر، طُبع من شعره خمسة مجلدات باسم (الجمرات الودّية في المودّة الجمرية).

١٦

من أجاد وأحسن.

وفي المقابل مثلاً الصورة التي نجدها عن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وكأنّه لا يدري عن شيء ممّا يجري حوله في المعركة، فلا هو يعلم عن الأنصار وشهادتهم، ولا يعرف شيئاً عن بني هاشم وقتالهم، بل كان نائماً(١) ، ويحتاج إلى زينب أن توقظه وتخبره! أو أنّه في طريق السبي يصيح: وا ذلاّه أين عشيرتي؟!

ومع أنّ الخطيب يبحث عادة عن القصيدة شديدة الوقع على المستمع حتّى يبكي ويحظى الخطيب والمستمع بثواب (مَنْ بكى وأبكى)، إلاّ أنّ من القصائد ما هو عالي المضمون، وجيد السبك، وشديد التأثير في نفس الوقت.

لا ننسى أن نشير هنا، ونحن في هذه العجالة، إلى أنّ ارتفاع المستوى الثقافي للمستمعين، والذي يلاحظه الخطيب بأدنى تأمّل، يحتاج أيضاً إلى الارتفاع في مستوى الصور حتّى الرثائية منها والتي تُلقى على أسماعهم.

كما إنّه ينبغي اختيار القصائد التي تنسجم في مضامينها مع القضايا التاريخية الثابتة في السيرة؛ وذلك إنّ الشعر هو أيضاً من منافذ الثقافة العامّة التي تتسرّب للمستمع، فأنت تجد مَنْ يعتقد بقضية والدليل عليها هو أنّها قد وردت في شعر دارج قد سمعه من خطيب، كما حدث أن سأل أحدهم عن عدد الجيش الأموي، فلمّا قيل له: إنّهم حوالي ثلاثين ألفاً، لم يقبل ذلك؛ لأنّ العباس (عليه السّلام) قد قتل في كلّ حملة عشرة آلاف

____________________

١ - هناك بعض الروايات تشير إلى أنّ مرض الإمام زين العابدين (عليه السّلام) قد حصل من مشاركته في القتال، وأنّه جُرح حتّى ارتث، وقد نتعرّض إلى تحقيقها وملاحظتها.

١٧

كما في بعض الأشعار التي سمعها.

وسؤال البعض عن قدوم الإمام علي (عليه السّلام) ليلة الحادي عشر من المحرّم، وفي بعض الأشعار أنّه كان بصورة أسد، أو وجود ابن العقيلية في الشام... وهكذا. وهذه كلّها قضايا تحتاج إلى تحقيق، لكنّها تحوّلت بعدما صارت شعراً إلى جزء من السيرة الثابتة.

مجال المواضيع والمضمون

كما سبق إن ذكرنا أنّ المنبر الحسيني لا يزال الوسيلة الأساس الفعالة التي يمتلكها شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) في نشر فكرهم، وتعريف أنفسهم للعالم، وتعريف أبنائهم ببصائر أهل البيت (عليهم السّلام) فكراً وفقهاً؛ ولهذا فإنّ تأثّر هذا المجال بتغير الظروف وارتفاع المستوى العام للمستمع، بل حتّى تأثّره باختلاف المناطق التي يتمّ الاستماع فيها أمر لا ينبغي أن يختلف فيه لوضوحه؛ فإنّ المشاكل والاهتمامات الموجودة في بلد ليست بالضرورة موجودة في بلد آخر، والمستوى الثقافي الموجود في منطقة، بل ضمن مجلس في منطقة قد يختلف عن حضور المجلس الآخر في نفس المنطقة.

وهنا نوجّه إلى الملاحظات التالية:

* أنّ حديثنا عن التطوير لجهة الموضوع لا ينبغي أن يغفل جانب الموعظة والإرشاد؛ فالمنبر وسيلة هداية ودعوة وليس مجرّد معلومات نظرية تُلقى، بل أخذ فيه أن يكون كما روي عن الإمام السجّاد (عليه السّلام) في تشخيصه لحدود المنبر:«أتكلم بكلام لله فيه رضا وللجالسين أجر وثواب» .

إنّ الموعظة هي عمل الأنبياء( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ

١٨

تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى... ) (١) ، وطريقة دعوتهم( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) ، ولا بد أن يتمثّل الخطيب وهو على المنبر سيرة الرسل ودورهم حتّى يشعر بمسؤولية ما يتحدّث، ويلقي في أذهان سامعيه( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ) (٣) .

وإن تصوّر بعض الخطباء أو السامعين أنّ الوعظ معاد، أو مكرّر أو لا ينفع، هو أمر مجانب للصواب؛ فإنّ الخطيب قبل أن يكون موسوعة نظرية من الإحصاءات والأفكار، هو«طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عُمي، وآذان صُمّ، وألسنة بُكم» كما وصف أمير المؤمنين (عليه السّلام) الرسول الأعظم محمّداً (صلّى الله عليه وآله).

هذا هو الدور الذي يجب أن يرتقي إليه وإن كان الفارق هو ما بين الثرى والثريا.

ونسجّل هنا نقطة في تراجع هذا الجانب في الكثير من الخطابات والمنابر الحسينيّة ممّا يعدّ نقصاً ينبغي الالتفات إليه. والاعتذار بأنّ القائل يجب أن يُطبّق ما يقول قبل أن يدعو إليه، ليس بصحيح، بمعنى الامتناع عن الوعظ. نعم، هو صحيح بمقدار ما يدفع القائل لتشديد الالتزام بما يقول.

فوظيفة المستمع أن يقبل الحكمة والحقّ من القائل من دون شرط

____________________

١ - سورة سبأ / ٤٦.

٢ - سورة النحل / ١٢٥.

٣ - سورة الأعراف / ٦٢.

١٩

عمل القائل به، وأن يأخذ الموعظة ممّن قالها وإن لم يعمل بها، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«كلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها» (١) .

كما إنّ وظيفة الخطيب أن يقول الحكمة والموعظة، ولا ينتظر أن يعمل بها في أعلى صورها حتّى يقولها. وأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تُقيّد بعمل الآمر بها، وانتهاء الناهي عنها، مع أنّه ينبغي لو أراد التأثير فالأفضل أن يقول بعد العمل، ولا يجوز أن يُفهم من هذا التشجيع على القول ومخالفته بالعمل.

الخطيب والمستوى العلمي

في فترة سابقة كان المألوف في المجتمع الشيعي العربي أنّ العالم لا ينبغي له أن يصعد المنبر الحسيني، وإنّما المنبر هو شغل مَنْ ليس له مستوى علمي، ومَنْ لم يفلح وينجح في الدراسة، فهذا هو الذي يكون (روزه خون)(٢) ، وأما الذكي وصاحب المستوى العلمي فينبغي أن ينشغل في علوم الفقه والاُصول والحكمة.

____________________

١ - ميزان الحكمة / ٢.

٢ - كلمة فارسية معناه قارئ الروضة، وأصل ذلك أنّ عالماً يُسمّى الملا حسين الكاشفي (توفي حوالي ٩١٠ هـ) قد ألّف كتاباً باسم (روضة الشهداء)، يتناول مصارع شهداء كربلاء ومصائب العترة الطاهرة، وهو من أوائل مَنْ كتب في هذا المجال بذلك النحو، فكان الخطباء يقرؤون منه على المنبر، فسُمّي الخطيب لذلك (قارئ الروضة)، أي كتاب روضة الشهداء، ومع أنّه قد كُتبت كتب أُخرى في نفس الموضوع، بل إنّ الخطباء لم يعودوا يقرؤون من الكتب لكنّ الاسم بقي ولم يتغيّر.

٢٠