من قضايا النهضة الحسينية الجزء ٢

من قضايا النهضة الحسينية0%

من قضايا النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 146

من قضايا النهضة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فوزي آل سيف
تصنيف: الصفحات: 146
المشاهدات: 20460
تحميل: 4243


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 146 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20460 / تحميل: 4243
الحجم الحجم الحجم
من قضايا النهضة الحسينية

من قضايا النهضة الحسينية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنتجت تلك النظرة السقيمة، والتي اختصّ بها المجتمع الشيعي العربي، ولذا لا تجدها في المجتمع الشيعي الإيراني ولا الهندي، أو الباكستاني أو التركي الذي يكثر فيها (المجتهدون الخطباء)، أنتجت أن صار المنبر مقتصراً في الغالب على الرثاء، وعلى المعاجز والقصص العجيبة التي لا ينتظر من الخطيب غيرها، ولا ينتظر السامع منه غير أن يحصل على الثواب بسبب الحضور في مجلس عقد باسم الحسين (عليه السّلام).

لكنّ الوضع تغيّر في الفترة الأخيرة بحمد الله بعدما توجّه أعاظم العلماء، وروّاد المرجعية إلى الدور الاستثنائي الذي يقوم به المنبر في صقل النفوس، وفي إيصال الفكر المحمّدي والعلوي إلى الناس، فكان أن وجّهوا وشجّعوا العديد من ذوي الكفاءة الأدبية والعلميّة إلى الاهتمام بالمنبر والخطابة، ونتج من ذلك ما نراه اليوم من بركات.

ومع عودة المنبر إلى مكانه الطبيعي، وإقبال الناس على الحضور إليه لاسيما في الموسمين (محرّم ورمضان) فإنّ ذلك يحمّل الخطيب مسؤولية مضاعفة، وربما يتصوّر بعض الناشئة من الخطباء أنّ الطريق السهل والسريع إلى الصعود والشهرة هو الصوت الجميل والحفظ الكثير، وهو صحيح في بداية الأمر لكنّه ليس دائماً، فقد يستمرئ شخص عصيرا طيّباً ولكنّه لا يتّخذه إلى الأخير غذاء لبدنه. وقد يحلو لشخص استماعه لترنيمة حزينة ولكنّه لا ينفق الساعات دائماً لاستماعها، ولك أن تتحقّق من صدق هذه المقولة بما نلاحظه في المجتمع عياناً؛ فقد أصبح المستمع يُقيم الخطيب الفلاني بتميزه عن سائر الخطباء، ويميّز خطابه اليوم عن خطابه بالأمس من ناحية المستوى، ويُطالب بمستويات أعلى، وهكذا.

٢١

وهذه الأمور تدعو إلى أن نتوجّه وإخواني الخطباء إلى تحصيل مزيد من العلم والمعرفة، والحصول على قدرة في التحقيق والتدقيق في المسائل والقضايا التي نطرحها للناس.

الالتزام بالإعداد المناسب للحديث

من المهمّ جدّاً أن يشعر الخطيب أنّ الناس قد ائتمنوه على أفضل ما عندهم، وأعطوه عقولهم لينقش فيها على مدى ساعة من الزمان أو نصفها ما يريد؛ فليتق الله في هذه الأمانة، ولا يصبّ في تلك العقول إلاّ ما ينفعها في دنياها وأُخراها.

ولو أردنا أن نحسب الأمر من الناحية الكميّة، فإنّ معنى أن يجتمع لخطيب ألف شخص تحت منبره، هو أن ألف ساعة من وقت المجتمع قد وضعت تحت تصرّف هذا الخطيب، فكيف سيتصرّف فيها؟ منها ساعة الطبيب، وساعة المهندس، وساعة المدرّس.. إلخ، وكلّ واحدة من هذه لها قيمة مالية خاصة.

إنّ ارتقاء المنبر والتشريق حيناً والتغريب حيناً آخر على غير هُدى ولا هدف يُعدّ جريمة بحقّ هذه الساعات التي يحتاجها المجتمع. ويُعدّ كارثة بالنسبة لتلك العقول التي سلّمت لهذا الشخص.

ونحن نتحدّث هنا مع القادر من المنبريين على العطاء من خلال الإعداد الجيد، والتهيؤ المناسب للمناسبة، وإلاّ فلو كان الخطيب في مستوى معيّن لا يستطيع تجاوزه، فـ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) ، ويكون الحاضر إليه قد (أقدم) على إنفاق هذا المقدار من الوقت، قاصداً بذلك الثواب.

وبهذه المناسبة نشير إلى طريقتين يعتمد الكثير من الخطباء المعاصرين

٢٢

[ على ] إحداهما أو كليهما في تهيئة الموضوع:

الأولى: تعتمد على أن يختار الخطيب نصاً من النصوص؛ سواء كان آية قرآنية، أو رواية، ثمّ يبدأ في التأمّل في كلماتها ويشرحها، ويبيّن ما يتّصل بها من أحكام فقهية، أو قضايا تأريخية، أو مسائل عقائدية، وأحياناً لفتات أدبية ولغوية بمقدار ما يشير إليه النصّ الذي اختاره في البداية.

الثانية: أن يشخّص الخطيب حالة أو مشكلة، أو موضوعاً على أنّه يهمّ المجتمع الذي سيُلقي فيه، وبعد تشخيصه لذلك الموضوع يبدأ بالبحث عن كيفية طرحه، وتهيئة المواد اللازمة للحديث فيه، فقد يرى مشكلة اجتماعية (كالطلاق) مثلاً، فيقوم باختيار النصّ القرآني، أو الروائي المناسب للحديث، ثمّ يفكّر في أسبابه متّخذاً من الحالات القائمة، أو الدراسات الاجتماعية مصدراً، ويتأمّل في طرق الإسلام التي تتحدّث عنها الروايات ويستفيدها من الأحكام الشرعية، والتي تقلل من الطلاق وأسبابه، أو إنّه يتناول جانباً تأريخيّاً ويستفيد منه مواقع العبرة والدروس.. وهكذا.

وقد تكون هناك طرق أُخرى تختلف أو تتّفق مع الطريقتين السابقتين، لكنّ المهمّ في الأمر هو أن يقوم الخطيب بتقدير المهمّة العظيمة التي تحمّلها، ويراعي في ذلك أوقات الناس بالكمية والكيفية التي تقدّمت، فيهيئ أحاديثه بمقدار ما وسعه التهيئة والإعداد.

أختم هذا العنوان بكلمات جميلة لديل كارنيجي في كتابه (فن الخطابة)(١) ، والذي ينصح بقراءته لفائدته، قال: حدّد موضوعك مسبقاً

____________________

١ - بالطبع هناك شيء من الاختلاف بين ظروف مَنْ يتحدّث عنهم، وظروف خطبائنا ولو لجهة العدد الكبير من المواضيع التي يُراد منهم التحدّث عنها، ولكن استشهادنا هو في أصل الطريقة.

٢٣

حتى يتسنى لك الوقت للتفكير به مراراً. فكّر به طيلة سبعة أيّام، واحلم به طيلة سبعة ليال، فكّر به أثناء خلودك إلى الراحة، وفي الصباح وأنت تستحم، وفي طريقك إلى المدينة، أو... وناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك، واسأل نفسك جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلّق به.

لقد ذكر تجربة أحدهم ممّن كان خطيباً مشهوراً عندما سُئل عن كيفية تحضيره لخطاباته، فقال: ليس لدي أيّ سرّ حين أختار موضوعاً أكتب اسمه على مغلف كبير، ولدي الكثير من هذه المغلفات، فإذا وجدت أثناء القراءة شيئاً جيّداً حول الموضوع الذي سأتحدث عنه أنقله إلى المغلف الصحيح، وأضعه جانباً، ودائماً أحمل معي دفتر ملاحظات، فإذا استمعت إلى عبارات أثناء أي احتفال تُلقي ضوءاً على الموضوع الذي يهمّني أسجّلها، ثم أنقلها إلى المغلف وربما تركته جانباً لمدّة سنة أو أكثر، وحين أريد أن ألقي خطبة أتناول ما أكون قد جمعته فأجد مادة كافية ممّا جمعته هناك إضافة إلى اجتهادي الخاص.

وفي موضع آخر يقول: حين تنهمك في جمع مادة خطبة لاحتفال معين، اكتب جميع الأفكار المتعلّقة بالمادة التي تخطر ببالك، دوّن جميع أفكارك ببضع عبارات كافية؛ لتثبيت الفكرة، ودع عقلك يبحث عن المزيد منها، تلك هي الطريقة التي من خلالها يتدرّب العقل على الإنتاج، وبها تبقى عملياتك الذهنية نشيطة وبنّاءة(١) .

____________________

١ - فنّ الخطابة - دايل كارنيجي

٢٤

مجال الأداء والكيفية

الخطابة ليست كلمات محفوظة يتلوها المتكلّم عن ظهر قلب وتنتهي المهمّة بانتهاء الوقت المعين له، وإنّما هي صناعة وفنّ يهدف إلى التأثير على المستمع وإقناعه بما لدى المتكلّم، والخطابة الناجحة يُفترض فيها اجتماع عوامل التأثير المختلفة، حيث يتوجّه فيها الكلام كما قال بعضهم (إلى عقل السامع وقواه التي تعتمد على المخيلة والشعور، والسمع والنظر، فيتوجّه الكلام إلى المخيلة بالصور البيانية، وإلى الشعور بالحيوية الانفعالية، وإلى السمع بالصوت، وإلى النظر بالإشارة والحركة).

وحيث إنّ هذا الكتاب لم يوضع للحديث عن الخطابة فإنّي أُحيل القارئ المتابع لهذا الموضوع إلى عدد من الكتب التي تنفعه في هذا المجال: ككتاب فن الخطابة لديل كارنيجي، وكتاب تجاربي في المنبر للمرحوم الإمام الشيرازي، وصناعة الخطابة للسيد عبد الحسين القزويني، ودور المنبر الحسيني في التوعية الإسلاميّة - وهو رسالة دكتوراه للشيخ باقر المقدسي. وقد سبقت الاشارة إلى كتاب الشيخ الوائلي، وللمرحوم الشيخ محمّد تقي فلسفي الذي يعدّ من أكبر خطباء الإيرانيين، كتاب قيّم باللغة الفارسية، لا أعلم إن كان قد تُرجم للعربية أو لم يُترجم.

وهناك عدد من الخطباء لديهم دروس قيّمة على أشرطة الكاسيت في فنّ الخطابة كالشيخ عبد الحميد المهاجر.

تطوير الخطابة النسائية

بالرغم من أنّ الخطابة النسائية في مجتمعنا الشيعي، لاسيما في الخليج، لا تزال تستقطب أعداداً ليست بالقليلة، إلاّ أنّ الغالب فيها أنّها لا تزال تعيش معادلات العقود الماضية، ويد التطوير التي أفادت المنبر الحسيني في قسم الرجال لم تصل إلى الخطابة الحسينيّة النسائية،

٢٥

فلا تزال الطريقة نفس الطريقة المعتمدة على ذكر المصيبة من أوّل المجلس إلى آخره، والقراءة على بعض الكتب التي يخلو أكثرها من الاعتبار.

ولو اطّلعت عزيزي القارئ على بعض تلك الكتب، وما ورد فيها من قصص( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) ، كما إنّها تخلو من التوجيه والإرشاد والمضمون غالباً.

وقد نستطيع استثناء المجالس النسائية التي يقوم عليها وعلى إدارتها نساء واعيات؛ إمّا ممّن درسن في الحوزات العلميّة لبعض الوقت، أو ممّن أُتيح لهنّ التثقّف بالثقافة الدينية والإسلاميّة باندفاع ذاتي، فهؤلاء حاولنَ أن يوجدنَ جسراً بين ما حصل من التطوّر (في المنابر الرجالية) وبين منابرهنّ ومجالسهنّ؛ ولهذا استطعنَ استقطاب الكثير؛ سواء من الفئات الشابّة، وأحياناً من كبيرات السنّ أيضاً. ولقيت منابرهنّ النجاح ممّا يُغري بمواصلة هذا المشوار والعمل على تكريسه، بحيث يكون هو الصورة الغالبة، والكلام فيه هو نفس الكلام السابق، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع النسائي؛ سواء في جهة الموضوع، أو في جهة الأداء والرثاء.

وينبغي بعد هذا التطواف أن لا يُفهم أنّ الفترات السابقة والأجيال الماضية لم تقدّم شيئاً مهمّاً للمنبر الحسيني، بل على العكس تماماً، نحن نعتقد أنّ الأجيال الماضية، والخطباء الحسينيون السابقون (حشرهم الله مع الحسين (عليه السّلام» قد بذلوا أقصى ما في وسعهم، وما بإمكانهم ضمن ظروف المرحلة السابقة، واستطاعوا أن يطوّروا المنبر بمقدار ما كانت إمكاناتهم الذاتية، وظروفهم الموضوعية (في الزمان والمكان والموضوع) تسمح لهم، وقد قضوا ما عليهم، وأوصلوا المنبر إلى هذا المستوى الذي بلغنا بعدما أمدّوه من طاقاتهم وقدراتهم.

٢٦

وحينما ندعو إلى التطوير لهذا الجهاز، فإنّما نسير في نفس الاتجاه الذي ساروا فيه، فهم أيضاً وصل إليهم المنبر ضمن مستوى معين فقام كلّ منهم بجهده في تطويره إلى أن صار في المستوى الذي وصلَنا، وعلينا أن نطوّره أيضاً، ونضيف إليه من عناصر القوّة حتّى يزداد عطاؤه وإنتاجه.

نسأل الله سبحانه أن يوفّق هذه الفئة المهتمّة بقضايا المنبر الحسيني، رجالاً كانوا أو نساء، لتطوير أداء هذه الوسيلة المقدّسة، والحفاظ على دورها وتدعيمه في المجتمع إنّه على كلّ شيء قدير.

الخطابة للأطفال

إنّ من المهمّ جدّاً أن يتمّ التفكير في اصطناع منابر خاصة للأطفال، والذي يحدونا إلى التفكير في ذلك:

١ - إنّ حضور الأطفال من سنّ السادسة إلى الثالثة عشر في المجالس والمواكب الحسينيّة كبير جدّاً، إمّا بمعية آبائهم أو أصدقائهم.

٢ - إنّهم يستطيعون استيعاب مقدار غير قليل ممّا يُلقى فوق المنابر، مع أنّ المنابر التي يجلسون إليها لم تُخصّص لهم، ولا يُتكلّم فيها عادة على مستوى عقولهم وإدراكاتهم.

٣ - إنّ إمكانية التأثير في شخصياتهم، ثقافةً وسلوكاً، هي في تلك الفترة من العمر أفضل من سائر الفترات كما يقول أمير المؤمنين (عليه السّلام):«إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء إلاّ قبلته» . ويقول الإمام الصادق (عليه السّلام) لمؤمن الطاق:«... عليك بالأحداث؛ فإنّهم أسرع إلى كلّ خير» (١) .

وتعطينا كربلاء صورة واضحة عن شخصية الأحداث عندما تتأثّر

____________________

١ - ميزان الحكمة - محمدي الريشهري ٢ / ١٤٠٠.

٢٧

بالثقافة الصحيحة، فهذا القاسم بن الحسن (غلام لم يبلغ الحلم) وقد قاتل بين يدي عمّه (عليه السّلام) ذلك القتال العظيم ونال الشهادة، وذاك أخوه عبد الله بن الحسن وهو غلام، انفلت إلى عمّه الحسين (عليه السّلام) وهو صريع على الأرض ليصدّ عنه ضربات الأعداء، حتّى قطعوا يده ثمّ قتلوه بسهم، وذاك (غلام قد قُتل أبوه) قبله، ويريد الحسين (عليه السّلام) أن يردّه إلى أُمّه فيرفض إلاّ القتال، قائلاً: (إنّ أُمّي هي التي ألبستني لامة حربي)، وهكذا.

وممّا يؤسف له عدم التوجّه إلى التخاطب المناسب مع الأطفال؛ سواء على مستوى الكتابة لهم إلاّ في القليل من الحالات، أو على مستوى الخطابة، أو حتّى مواكب العزاء(١) .

فينبغي التفكير جدّياً في أمر الخطابة للأطفال، بحيث يعدّ الخطيب - ويحبذ أن يكون في سنّ مقارب لهم - خطابته بنحو يستطعيون من خلاله الإلمام بقضية كربلاء، خصوصاً وإنّها قصّة ذات حوادث كثيرة تستهوي الأطفال الذين يحبّون القصص أكثر من إقبالهم على الأفكار.

ومن خلال قصّة كربلاء يمكن تضمين الكثير من المعاني الأخلاقية والدينية في أحداثها بحيث يتأثّر الأحداث بها.

____________________

١ - يوجد في بعض المجتمعات مواكب عزائية خاصة بالأطفال، والتجربة تشهد بنجاحها.

٢٨

أسئلة في السيرة والنهضة

سؤال: هل الذهاب إلى العمل يوم العاشر حرام؟ وهل يجب التصدّق بما كسبه ذلك اليوم؟

الجواب: ليس حراماً، ولكن يُستفاد من بعض الروايات استحباب ترك السعي في الأمور الدنيوية، وعدم الانشغال بها، واستحباب التفرّغ لإحياء الذكرى الحسينيّة؛ فقد روى الشيخ الصدوق في الأمالي(١) عن

____________________

١ - حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق (رحمه الله)، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد الهمداني، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه عن الرضا (عليه السّلام).... والرواية يمكن أن تكون معتبرة؛ فإنّ محمّد بن إبراهيم هو الطالقاني، وقد روى عنه الصدوق مترضّياً عليه، بناء على أنّ ترضي مثل الصدوق كاشف عن حسن حال المترضّى عنه، وإن ناقش في ذلك بعض العلماء.

وأحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني هو أبو العباس بن عقدة، قالوا عنه: أنّه جليل القدر، عظيم المنزلة، وأمره في الحفظ والجلالة أشهر من أن يُذكر، توفي سنة ٣٣٣ هـ.

وعلي بن الحسن بن فضال، فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم كما ذكر =

٢٩

أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السّلام)، قال:«مَنْ ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَنْ كان يوم عاشوراء يوم مصيبة وحزنه وبكائه جعل الله (عزّ وجلّ) يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه» .

كما روى شيخ الطائفة الطوسي (رحمه الله) بسنده(١) عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث زيارة الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء من قرب وبعد... إلى أن قال: قلت: وكيف يُعزّي بعضنا بعضاً؟

قال:«تقول: عظّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين (عليه السّلام)، وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليه الإمام المهدي من آل محمّد. وإن استطعت أن لا تنشر (لا تنتشر) يومك في حاجة

____________________

= النجاشي، وأبوه الحسن بن علي ثقة عظيم القدر. قيل: إنّه كان فطحياً وعاد عن ذلك.

ولا نحتاج إلى هذا بعدما كانت الرواية من الروايات الواعدة بالثواب، وهي مشمولة لقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

١ - نقله في وسائل الشيعة - الحرّ العاملي ١٤ / ٥٠٩: محمّد بن الحسن، في (المصباح) عن محمّد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن أبيه، عن علقمة.

والرواية من حيث السند غير تامّة؛ فإنّ صالح بن عقبة (ابن قيس بن سمعان) وإن كان من رجال تفسير علي بن إبراهيم القسم الأوّل، ويكون ثقة على المبنى، إلاّ أنّه قد ضُعّف واتّهم بالكذب كما عن الخلاصة، إلاّ أن يُقال: إنّ يونس بن عبد الرحمن والذي هو من أصحاب الإجماع قد روى عنه، ويكون على المبنى المعروف مقبول الرواية.

وقد يُناقش ما ذكر في الخلاصة بأنّه معتمد في جرحه ذاك على كتاب ابن الغضائري، والمعروف عندهم التشكيك في كون كلّ ما في الكتاب الموجود صحيح النسبة إلى الشيخ ابن الغضائري (والمسألة بحاجة إلى بحث أكثر، وللتفصيل مقام لا يتّسع له هذا المختصر).

وأبوه عقبة بن قيس أيضاً لم يوثّق لا بتوثيق عام ولا خاص، ومثله علقمة (ابن محمّد الحضرمي).

٣٠

فافعل؛ فإنّه يوم نحس لا تُقضى فيه حاجة مؤمن، وإن قُضيت لم يُبارك له فيها، ولا يرى فيها رشداً...» .

هذا لو كان عمل الإنسان مملوكاً له، كما هو حال مَنْ يعملون في الأعمال الحرّة، والتجارة لأنفسهم فإنّه يحسن بهم في مثل ذلك اليوم أن يتوجّهوا لإحياء الذكرى ما لم ينطبق على سعيهم للعمل ذاك عنوان ملزم.

وأمّا بالنسبة لغيرهم وهم الأكثر ابتلاء، كالعاملين في مؤسسات مملوكة لأشخاص، أو تابعة للحكومات، فلا يستطيع الشخص الغياب في ذلك اليوم من غير أن يأذن له ربّ العمل، وإلاّ كان غير مالك لأجرة ذلك اليوم في المؤسسات والشركات الأهلية والشخصية، حيث إنّ مقتضى عقده معهم أن يعمل في الأيام المتعارفة، باستثناء التعطيلات الرسمية، أو ما أذنوا له في التغيّب، وليس العاشر منها بحسب الفرض، وإخلاله بهذا العقد بمقدار ذلك اليوم يجعله غير مستحق لأجرته ولا يملكها؛ فلا بدّ من استئذان ربّ العمل، أو إخباره عن غيابه ذاك واسترضائه في أمر المال أو إرجاعه عليه.

وبالنسبة للمؤسسات الحكومية، فإنّ الحكومات غير الخاضعة للفقيه، وإن لم تُملك كما هو المشهور بين المعاصرين من الفقهاء، فلا ولاية لها مالكية ولا شرعية(١) على التعاقد وإعطاء المال واستحصال العمل، إلاّ أنّ ذلك لا يسوغ للعامل وهو طرف العقد أن يتملك أجرة في مقابل يوم عمل لم يذهب إليه ولم يقم به؛ ولذا فإنّه يشكل أمر تملّكه من

____________________

١ - أمضى بعض المراجع المعاصرين العقود القائمة بين الموظفين وبين الحكومات، وبناء عليه ترجع المسألة إلى القسم السابق.

٣١

قبله؛ حيث إنّ الفقهاء قد صرّحوا في فتاواهم بأنّهم لا يأذنون في الاستلام إلاّ مع قيام العامل بواجباته بحسب ما ورد في العقد؛ ولذا لا بدّ في ذلك من التصدّق بذلك المقدار من المال على الفقير المؤمن، والأحوط أن يكون بإذن الحاكم الشرعي (المجتهد) الذي له ولاية على مجهول المالك.

سؤال: من الملاحظ أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قال في أثناء خروجه من المدينة كلاماً، وأثناء خروجه من مكة كلاماً آخر، وفي الطريق غيره، وهكذا في كربلاء. كيف تفسّرون تعدّد لحن هذه الكلمات، والمعاني المختلفة فيها؟

الجواب: مع التنبيه على دقّة ملاحظة السائل ونظرته الفاحصة نقول: نعم، يلاحظ المتأمّل أنّ هناك تعدّداً في طريقة إجابات الإمام الحسين (عليه السّلام)، ولعلّ في النقاط التالية ما يلقي بضوء على السبب:

١ - من المعلوم أنّ مستويات السائلين للإمام الحسين (عليه السّلام) تتفاوت وتختلف، فمن الحكمة أن تكون الأجوبة على (قدر عقولهم)، فليس معقولاً أن يُجيب شخصاً قد تربّى على التخاذل وآثر الحياة الدنيا بأنّه لا بدّ من الثورة على الظالمين، وأمر الإسلام أعزّ من أمر الشخص وحياته، ولو أجابه بذلك النحو لما وافق الحكمة، وإنّما ينبغي أن يقرّب له الهدف الذي ينشده بمقدار ما يستطيع ذلك الشخص تعقّل وإدراك الكلام الحسيني.

٢ - إنّ النصوص التي تركها الإمام الحسين (عليه السّلام) من خلال محاوراته أو تلك التي ابتدأ بها الناس، تنقسم إلى قسمين:

- قسم يمكن اعتباره وثائق أساسية تمثّل العناوين الرئيسة لكامل

٣٢

نهضته وحركته، وتُلقي الضوء على كلّ تفاصيلها. وهي بمثابة (الروايات الحاكمة) في تعبيرات الفقهاء التي تقوم بالشرح والتفسير لغيرها، ولو خالفتها غيرها، فإنّ هذه الروايات الحاكمة هي التي تتقدّم، بغض النظر عن نسبة باقي الروايات إليها.

هنا أيضاً في النهضة الحسينيّة نحن نجد بعض الكلمات له (صلوات الله عليه) بمثابة هذه الروايات الحاكمة، وخطابات أو وصايا هي التي تفسّر مجمل حركته.

وهناك قسم من كلماته لا تعبّر عن هذا المعنى المتقدّم، وإنّما ربما قيلت في جواب مَنْ لم يشأ الإمام (عليه السّلام) أن يُخبره بتفاصيل أهدافه.

والخطأ الذي قد يقع فيه مؤرّخون أو قُرّاء للسيرة هو الخلط بين القسمين من الكلمات، فيقيسون نهضة الحسين (عليه السّلام) بمقياس الكلمات من القسم الثاني مع أنّها لا ينبغي أن تُقاس إلاّ بالنحو الأوّل.

٣ - إنّ هناك عدّة عوامل يمكن الحديث عنها في النهضة الحسينيّة، وكلّ واحد من هذه العوامل كان يتطلّب نوعاً من ردّ الفعل، والتوجيه الخطابي والثقافي، وكان الإمام (عليه السّلام) بحسب تقديره للظرف يُجيب بالنحو المناسب.

فقد كان من عوامل النهضة الحسينيّة(١) رفض البيعة ليزيد، واستجابته لدعوة أهل الكوفة بأن يقدم إليهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذه العوامل بينها ترتّب في الأهمّية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان أهمّ العوامل جميعاً، وقد حدّد الإمام (عليه السّلام) في بداية خروجه

____________________

١ - حقيقة النهضة الحسينيّة - الشهيد مرتضى مطهري، تعريب صادق البقال.

٣٣

هدفه بأنّه يريد هذا الأمر، وبقي هذا العامل على قوّته ودفعه إلى الأخير بعدما تعطّلت العوامل الأخرى؛ فإنّه بعدما ظهر للجميع أنّ دعوة أهل الكوفة ليست بتلك الصورة، وإن كان الحسين (عليه السّلام) ليس بعيداً عنها، ولكنّه لم يكن ليستطيع أن يغفل آلاف الرسائل الواردة إليه من قبلهم، بما كان يقوله آخرون أنّهم لن يفوا، ولن يستمروا، ولن يصمدوا، وبالتالي فإنّ عليه أن لا يُعطيهم غير الأذن الصماء.

هذا لم يكن صحيحاً، وإنّما استجاب الإمام (عليه السّلام) إلى بيعة أهل الكوفة، وطلبهم منه أن يقدم عليهم، ولكنّ هذا العامل لم يكن العامل الأساس؛ فقد أشار عليه الكثيرون، ومنهم ناصحون له بأن لا يذهب إليهم، ولم يكن أيضاً بالذي يعزب عنه الرأي.

كما إنّ عامل رفض البيعة لم يكن العامل الأساسي، وإن كان أهمّ من عامل بيعة أهل الكوفة، إلاّ أنّه كان يمكن له أن يتخلّص من البيعة باللجوء إلى اليمن، أو الاحتماء بالحرم أو غير ذلك ممّا أشار عليه به عدد من الصحابة.

والخطأ هو عندما تختلط هذه الأمور فيظنّ البعض أنّ الحسين (عليه السّلام) إنّما خرج استجابة لكلام أهل الكوفة فخُدع بهم، بينما هو يقول: إنّه إنّما خرج لطلب الإصلاح وللأمر بالمعروف.

وقد تحدّث الإمام (عليه السّلام) عن كلّ واحد من العوامل على حدة، وفي بعض الحالات كان يجمع عاملين في الحديث كما سيأتي.

من الأمثلة على العناوين العامّة، وهي بمثابة الاُصول الأصيلة للثورة الحسينيّة، ما يلي من الكلمات:

١ - ما قاله الحسين (عليه السّلام) في جواب الوليد بن عتبة بن أبي سفيان

٣٤

عندما دعاه إلى مبايعة يزيد أراد الإمام (عليه السّلام) أن يُنهي اللقاء بنحو (دبلوماسي)، فقال له كلاماً قبله الوليد وهو:«إنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّاً، وإنّما أحبّ أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحداً» .

وكان يمكن أن ينتهي اللقاء بهذا النحو، ولكنّ دخول مروان بن الحكم على الخطّ اضطر الإمام الحسين (عليه السّلام) أن يكشف آخر سطر في صفحة موقفه:«أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يُبايع لمثله، ولكن نُصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة» .

وهذه الكلمات التي قالها في التالي تختلف اختلافاً كبيراً عن ما قاله في البداية، ففي البداية كان يريد إنهاء الأمر ودّيّاً من دون إعلان موقف صريح، وكان الوليد بن عتبة راغباً في حلّ الأمور بذلك النحو. فلم يكن يريد الاصطدام مع الحسين (عليه السّلام)، لكن فيما بعد جرت الأمور بنحو جعل الحسين (عليه السّلام) يضع الأمر في إطاره العقيدي والسياسي الصريح، وقال موقفه بأنّ:«مثلي لا يُبايع مثله» ، معلّلاً ذلك بأنّه: (أهل بيت النبوّة، بنا فتح الله، وبنا يختم.. بينما يزيد رجل فاسق شارب خمر...).

٢ - وصية الإمام الحسين (عليه السّلام) لأخيه محمّد بن الحنفيّة تعتبر من الاُصول التي تكشف عن أغراض وأهداف الحسين (عليه السّلام) من ثورته المقدّسة؛ فقد كتب:«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن على بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة؛ أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب

٣٥

فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور. وأنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي؛ أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي على بن أبي طالب (عليهما السّلام)، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين. وهذه وصيتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أُنيب» .

وهذه الوثيقة التاريخية التي يحصر فيها (عليه السّلام) هدف ثورته بأنّه إنّما خرج لطلب الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسير بسيرة جدّه وأبيه من أهمّ الوثائق التأريخية التي حفظت للثورة سطوعها وصفاءها.

٣ - من المواضع التي جمع فيها الحسين (عليه السّلام) بين أكثر من عامل للحديث عن دعوة أهل الكوفة، وبين أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمسؤولية ما نقله المؤرّخون من أنّ الحسين (عليه السّلام) خطب أصحابه وأصحاب الحرّ بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:«أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلال الله، وأنا أحقّ من غير. قد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أُسوة، وإن لم تفعلوا

٣٦

ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم! والمغرور مَنْ اغتر بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .

وأمّا القسم الثاني من كلماته (عليه السّلام)، والتي كانت أشبه بدفع الجواب، والحديث مع الطرف المقابل بما يقنع به، فهي كثيرة، منها ما قاله الإمام الحسين (عليه السّلام) للمسوّر بن مخرمة الذي نصح الحسين بأنّه: إيّاك أن تغتّر بكتب أهل العراق، أو يقول لك ابن الزبير: الحقّ بهم فإنّهم ناصروك. إيّاك أن تبرح الحرم؛ فإنّهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك فتخرج في قوّة وعدّة.

فجزاه الحسين (عليه السّلام) خيراً وقال:«استخير الله في ذلك» . فإنّ طريقة الحسين (عليه السّلام) في نهضته لم تكن قائمة على الاستخارة، هذا بناء على أنّ مقصود الإمام هو الاستخارة المعروفة.

ومثله كلامه (عليه السّلام) مع أبي بكر (عمر) ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، الذي قال له: يابن عمّ إنّ الترحّم نظارتي عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟

قال:«يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغش ولا يُتّهم فقل» .

قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَنْ قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَنْ أنت أحبّ إليه ممّن ينصره، فاذكرك الله في نفسك.

فقال له الحسين (عليه السّلام):«جزاك الله يابن عم خيراً، فقد اجتهدت رأيك، ومهما يقضي الله من أمر يكن» .

٣٧

فقال أبو بكر: إنّا لله، عند الله نحتسب أبا عبد الله.

وهكذا قوله لعبد الله بن مطيع العدوي الذي استقبله في طريق مكة، فقال: أين تريد أبا عبد الله، جعلني الله فداك؟!

قال:«أمّا في وقتي هذا أريد مكة، فإذا صرت إليها استخرت الله تعالى في أمري بعد ذلك» .

فقال له عبد الله بن مطيع: خار الله لك يابن بنت رسول الله فيما قد عزمت عليه، غير أنّي أُشير عليك بمشورة فاقبلها منّي.

فقال له الحسين (عليه السّلام):«وما هي يابن مطيع؟» .

قال: إذا أتيت مكة فاحذر أن يغرّك أهل الكوفة؛ فيها قتل أبوك، وأخوك بطعنة طعنوه كادت أن تأتي على نفسه، فالزم الحرم فأنت سيد العرب في دهرك هذا، فوالله لئن هلكت ليهلكنّ أهل بيتك بهلاكك والسّلام.

وروى الدينوري أنّ الإمام (عليه السّلام) قال لابن مطيع:«يقضي الله ما أحبّ» .

ويمكن أن نصنّف أيضاً إجاباته القائلة بأنّه رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه أمره بأمر لا بدّ أن يمضي إليه؛ لما أخبره الرسول في هذا الجانب، وليس معنى ذلك أنّه لم يكن الخبر حقيقياً، ولكنّه بهذه الطريقة يقطع النزاع مع أشخاص مثل ابن عباس، أو ابن الحنفيّة بحيث لا مجال مع ذلك للحديث عن الأفضل والأحسن.

إنّنا نلاحظ التركيز في بعض الأماكن كان على كلمات بعينها، باعتبار أنّ السامعين أقرب إلى فهم تلك المفردات والمعاني. فمثلاً هو (عليه السّلام) في المواجهة العسكرية مع الجيش القادم من الكوفة يركّز على أنّهم هم الذين دعوه وطلبوه، وهذا أبلغ في الاحتجاج(١) .

انظر مثلاً

____________________

١ - جاء في ترجمة الشهيد عمر بن ضبيعة التميمي أنّه كان شجاعاً، وكان ممّن خرج مع عمر بن سعد فلمّا رأى ردّ الشروط على الحسين (عليه السّلام)، وعدم تمكينهم إيّاه من الرجوع من حيث أتى انتقل إلى الحسين (عليه السّلام)، وهكذا حال يزيد بن زياد (أبو الشعثاء الكندي) وغيره.

٣٨

إلى خطبته في الجيش المعادي يوم عاشوراء، قال (عليه السّلام):«فتبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم...» .

ولعلّ هذه الخطبة كانت نهاية نقطة التحوّل الذي حدث عند الحرّ الرياحي، وهو نفسه عندما خطب في جيش الكوفة بعد انتقاله إلى معسكر الحسين (عليه السّلام) ركّز على هذه النقاط أيضاً، فقال: يا أهل الكوفة، لأُمّكم الهبل والعبر! إذ دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب، فمنعتموه التوجّه في بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمّداً في ذريّته، لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا، وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه(١) .

سؤال: كيف توفّقون بين كون جابر بن عبد الله كفيف البصر في كربلاء حيث كان يقوده خادمه أو غلامه عطية، وبين كونه قد رأى الإمام الباقر (عليه السّلام) في المدينة وهو صغير، فقال: شمائل كشمائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ بلّغه سلام النبي؟ فإن كان كفيفاً كيف رأى الباقر، وإن كان مبصراً حينئذ

____________________

١ - الطبري ٤ / ٣٢٦.

٣٩

فكيف كان كفيفاً في الأربعين (العشرين من صفر)؟

الجواب: في البداية نحبّ أن نوضّح جانباً من حياة الراوي الثقة عطية العوفي؛ فإنّه يغمط حقّه عادة مع أهمّية دوره، وربما لا يُذكر اسمه في المحافل إلاّ في مرّة واحدة هي كونه غلاماً، أو خادماً لجابر. ولم يكن غلاماً، وإنّما هو تلميذ نجيب لجابر، وراوٍ واعٍ لأحاديثه، وصاحب مواقف، وإليك بعض الكلمات عنه ثمّ نجيب على السؤال الأصلي:

عطية بن سعد بن جنادة العوفي توفي سنة ١١١ هـ

كان أبوه سعد بن جنادة وهو من بني جديل أوّل مَنْ أسلم من أهل الطائف(١) ، وصحب النبي (صلّى الله عليه وآله)، وروى عنه عدداً من الأحاديث(٢) ، وبعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ممّن عرف أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ووالاه وشارك معه في حروبه، وروى عنه بعض الأحاديث(٣) .

وربما كان في أواخر خلافة أمير المؤمنين (عليه السّلام) عندما ولد له ابن جاء به إلى الإمام (عليه السّلام)؛ لكي يسمّيه، فقال:«هذه عطية الله» . وسمّاه عطية.

ونشأ عطية في الكوفة؛ ولذا لقّبه بعضهم بالكوفي (إضافة إلى العوفي)، وتشرّب التشيّع من أجوائها، وممّن صحبهم فيها، ولعلّ أكثرهم تأثيراً فيه جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري (أو الكلبي).

____________________

١ - أسد الغابة ٢.

٢ - منها قوله (صلّى الله عليه وآله):«إنّ الله زوّجني في الجنّة مريم ابنة عمران، وامرأة فرعون، وأُخت موسى...» ، وفي حديث آخر يخاطب فيه خديجة،«زوّجني معك...» .

٣ - منها قوله (عليه السّلام):«أمرت بقتال القاسطين والناكثين والمارقين...» كما في تاريخ دمشق ٤٢.

٤٠