من قضايا النهضة الحسينية الجزء ٢

من قضايا النهضة الحسينية0%

من قضايا النهضة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 146

من قضايا النهضة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فوزي آل سيف
تصنيف: الصفحات: 146
المشاهدات: 20464
تحميل: 4244


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 146 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20464 / تحميل: 4244
الحجم الحجم الحجم
من قضايا النهضة الحسينية

من قضايا النهضة الحسينية الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولعلّ الناظر إلى نوعية الأحاديث التي رواها، وأكثر منها يعرف سرّ تضعيف رجاليي الجمهور لعطية؛ فإنّه قد روى حديث الثقلين(١) ، وأنّ الأئمّة اثنا عشر(٢) ، وحديث سفينة نوح(٣) ، وتفسير آية( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) في أهل البيت (عليهم السّلام)(٤) ، وحديث الغدير، والمنزلة،

____________________

١ - ففي مسند أحمد ج ٣: حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا عبد الملك يعني ابن سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):«إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر؛ كتاب الله (عزّ وجلّ) حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» .

٢ - في كفاية الأثر - للخزاز القمي: أخبرنا أبو المفضل (رضي الله عنه)، قال حدّثنا الحسين بن زكريا العدوي، عن سلمة بن قيس، عن علي بن عباس، عن ابن الحجاف، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:«الأئمّة بعدي تسعة من صلب الحسين (عليهم السّلام)، والتاسع قائمهم، فطوبى لمَنْ أحبّهم، والويل لمَنْ أبغضهم» .

٣ - أخرجه الطبراني في المعجم الصغير ٢ / ٢٢: حدّثنا محمّد بن عبد العزيز بن ربيعة الكلابي أبو مليل الكوفي، حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حمّاد المقري، عن أبي سلمة الصائغ، عن عطية، عن أبي سعيد الخدرى سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:«إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح مَنْ ركبها نجا ومَنْ تخلّف عنها غرق، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل مَنْ دخله غُفر له» .

٤ - المعجم الأوسط - الطبراني ٢ / ٢٢٩: حدّثنا أحمد قال: حدّثنا محمّد بن عباد بن موسى قال: حدّثنا أبو الجواب الأحوص بن جواب عن سليمان بن قرم، عن هارون بن سعد، عن عطية العوفي قال: سألت أبا سعيد الخدري مَنْ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟ فعدّهم في يده خمسة؛ رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين، قال أبو سعيد: في بيت أُمّ سلمة أُنزلت هذه الآية.

٤١

وسد الأبواب غير باب علي (عليه السّلام)، وحديث إعطاء النبي (صلّى الله عليه وآله) فدكاً، وروى خطبة الزهراء الفدكية(١) ، وروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المهدي أنّه«رجل من أهل بيتي» (٢) . وغيرها.

لم يكتف عطية فيما يظهر من حياته بمجرّد الولاء النفسي والموقف الفكري، بل كان لديه رؤية واضحة في المجال السياسي، تجلّت في موقفه المضاد للحكم الأموي معتمداً على ما رواه من أصحاب رسول الله، عنه (صلّى الله عليه وآله):«إذا بلغ بنو العاص أربعين رجلاً اتّخذوا دين الله دغلاً، وعباد الله خولاً، ومال الله دولاً...» (٣) .

وهو وإن لم يلحظ له ذكر في أيام الحسنين (عليهما السّلام) إلاّ ما يروى عن ذهابه مع شيخه جابر بن عبد الله إلى كربلاء يوم العشرين من صفر، وافتراقه عنه بعد ذلك كما يظهر من ذيل الرواية التي نقلها عماد الدين الطبري في كتابه (بشارة المصطفى)، إلاّ أنّنا نلاحظ له دوراً فيما بعد كربلاء؛ فقد شارك بدور فاعل في ثورة المختار الثقفي، وكان على رأس الجماعة الطليعيين والأقوياء الذين أرسلهم المختار إلى مكة المكرّمة لإنقاذ الهاشميين الذين سجنهم عبد الله بن الزبير بعد أن رفضوا مبايعته، وعزم على إحراقهم في خندق إن لم يستجيبوا لبيعته.

(... فقطع المختار بعثاً إلى مكة فانتدب منهم أربعة آلاف فعقد لأبي عبد الله الجدلي عليهم، وقال له: سر فإن وجدت بني هاشم في الحياة فكن

____________________

١ - بلاغات النساء - لابن طيفور.

٢ - كتاب الفتن - للمروزي.

٣ - البداية والنهاية - لابن كثير ١٠.

٤٢

لهم أنت ومَنْ معك عضداً، وأنفذ لما أمروك به، وإن وجدت ابن الزبير قد قتلهم فاعترض أهل مكة حتّى تصل إلى ابن الزبير، ثمّ لا تدع من آل الزبير شفراً ولا ظفراً....

فسار القوم ومعهم السلاح حتّى أشرفوا على مكة، فجاء المستغيث أعجلوا فما أراكم تدركونهم، فقال الناس: لو أنّ أهل القوّة عجّلوا، فانتدب منهم ثمانمئة رأسهم عطية بن سعد بن جنادة العوفي حتّى دخلوا مكة فكبّروا تكبيرة سمعها ابن الزبير، فانطلق هارباً حتّى دخل دار الندوة، ويُقال: بل تعلّق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ الله!

قال عطية: ثمّ ملنا إلى ابن عباس وابن الحنفيّة وأصحابهما في دور قد جمع لهم الحطب، فأحيط بهم حتّى بلغ رؤوس الجدر، لو أنّ ناراً تقع فيه ما رُئي منهم أحد حتّى تقوم الساعة، وعجّل علي بن عبد الله بن عباس وهو يومئذ رجل فأسرع في الحطب يريد الخروج فأدمى ساقيه. وأقبل أصحاب ابن الزبير فكنّا صفّين نحن وهم في المسجد نهارنا ونهاره، لا ننصرف إلاّ إلى صلاة حتّى أصبحنا،

وقدم أبو عبد الله الجدلي في الناس، فقلنا لابن عباس وابن الحنفيّة: ذرونا نريح الناس من ابن الزبير. فقالا: هذا بلد حرّمه الله، ما أحلّه لأحد إلاّ للنبي (عليه السّلام) ساعة ما أحلّه لأحد قبله، ولا يحلّه لأحد بعده...)(١) .

ولمّا عادت الأمور إلى سيطرة بني أُميّة، وعاث الحجّاج في الأرض فساداً يتطلّع إلى الرؤوس اليانعة، ويسكر بمنظر الدماء ترقرق بين العمائم واللحى، وضجّ الناس من عموم الظلم وشموله حتّى الذين كانوا محسوبين تاريخياً على بني أُميّة كبني الأشعث لم يتحملوا ذلك

____________________

١ - الطبقات الكبرى ٥.

٤٣

المقدار؛ فكان أن أعلن عبد الرحمن بن الأشعث تمرّده على الحجّاج بعدما جمّرهم في البعوث، لا يهمّه غير الانتصار على عدوّه لجلب الغنائم، ولا يخسر شيئاً على التقديرين؛ فإن قُتل هؤلاء فقد استراح من همّ القلب، وإن قُتل اُولئك جاءت غنائمهم وجواريهم.

وكان عطية من جملة الثائرين. قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث على الحجّاج، فلمّا انهزم جيش ابن الأشعث هرب عطية إلى فارس، فكتب الحجّاج إلى محمّد بن القاسم: أن ادعُ عطية؛ فإن لعن علي بن أبي طالب وإلاّ فاضربه أربعمئة سوط، واحلق رأسه ولحيته. فدعاه فأقرأه كتاب الحجّاج، فأبى عطية أن يفعل، فضربه أربعمئة سوط، وحلق رأسه ولحيته، فلمّا ولي قتيبة خراسان خرج عطية إليه، فلم يزل بخراسان حتّى ولي عمر بن هبيرة العراق، فكتب إليه عطية يسأله الإذن له في القدوم، فأذن له، فقدم الكوفة، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة إحدى عشرة ومئة، وكان ثقّة وله أحاديث صالحة.

وأمّا الإجابة على السؤال السابق فإنّه من التتبع للروايات التاريخية، وفي كتب الحديث يظهر أنّ هناك عدّة احتمالات في وقت فقدان جابر لبصره، ونحن نرجّح أنّه لم يكن كفيف البصر في يوم الأربعين.

الاحتمالات الموجودة

١ - إنّه كان كفيف البصر في يوم الأربعين (العشرين من صفر) سنة ٦١ هـ. وقد يُستفاد هذا من ظاهر رواية صاحب (بشارة المصطفى) كما في قوله: ألمسنيه (القبر)، وقوله فيما بعد: خذني نحو أبيات كوفان.

٢ - إنّه كان كفيف البصر يوم واقعة الحرّة كما يستفاد من رواية

٤٤

البداية والنهاية(١) التي تنتهي إلى ابنيه.

٣ - إنّه كان كفيف البصر في زمان عبد الملك بن مروان (من سنة ٧٣ هـ - سنة ٨٦ هـ)، وبالتحديد في سنة خمس وسبعين عندما حجّ هذا وذهب إلى المدينة كما ذكره ابن سعد في الطبقات(٢) ، فقد صرّح فيه بأنّه

____________________

١ - البداية والنهاية - ابن كثير ٨ / ٢٤٤: الدارقطني: ثنا علي بن أحمد بن القاسم، ثنا أبي، ثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، ثنا أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري، عن محمّد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا: خرجنا مع أبينا يوم الحرّة وقد كُفّ بصره فقال: تعس مَنْ أخاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! فقلنا: يا أبة، وهل أحد يُخيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:«مَنْ أخاف أهل هذا الحيّ من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين» ، ووضع يده على جبينه.

٢ - الطبقات الكبرى - محمّد بن سعد ٥ / ٢٣١: أخبرنا محمّد بن عمر قال: حدّثني بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث قال: رأيت جابر بن عبد الله دخل على عبد الملك فرحّب به عبد الملك وقرّبه، فقال جابر: يا أمير المؤمنين، إنّ المدينة حيث ترى، وهي طيّبة سمّاها النبي (عليه السّلام)، وأهلها محصورون، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل أرحامهم، ويعرف حقّهم فعل.

قال: فكره ذلك عبد الملك وأعرض عنه، وجعل جابر يلحّ عليه حتّى أومأ قبيصة إلى ابنه وهو قائده، وكان جابر قد ذهب بصره أن أسكته. قال: فجعل ابنه يسكته. قال جابر: ويحك ما تصنع بي؟ قال: اسكت. فسكت جابر فلمّا خرج أخذ قبيصة بيده فقال: يا أبا عبد الله، إنّ هؤلاء القوم صاروا ملوكاً، فقال له جابر: أبلى الله بلاء حسناً؛ فإنّه لا عذر لك وصاحبك يسمع منك. قال: يسمع ولا يسمع. ما وافقه سمع، وقد أمر لك أمير المؤمنين بخمسة آلاف درهم فاستعن بها على زمانك، فقبضها جابر.

قال: أخبرنا محمّد بن عمر قال: حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: أقام الحجّ سنة خمس وسبعين عبد الملك بن مروان ثمّ صدر فمرّ على المدينة فخطب الناس على المنبر، ثمّ أقام خطيباً له آخر وهو جالس على المنبر =

٤٥

كان قد كُفّ بصره. وبعدها توفي كما عليه أكثر المؤرّخين في سنة ٧٨ هـ.

٤ - أن يكون قد كُفّ بصره قبل سنة (٧٤ هـ) وبعد سنة (٧١) هـ.

مناقشة الاحتمالات

أمّا الاحتمال الأوّل فلا مقتضي للالتزام به إلاّ ما يظهر من رواية (بشارة المصطفى) المتقدّمة من خلال كلمات (ألمسنيه - القبر - وقوله: خذني إلى أبيات كوفان)، وهذه لا صراحة فيها، بل لا ظهور في العمى؛ فإنّ الرجل الكبير مثل جابر في ذلك السنّ المتقدّم (حوالي ٨٢ سنة أو ٨٧ سنة)، (إذ أنّ عمره عندما توفي كان ٩٥ سنة) يحتاج إلى مساعدة شخص يكون معه، وهكذا ألمسه القبر، ثمّ أخذه إلى طريق كوفان دليلاً ومرافقاً. وربما يكون ذلك من أثر حالة الحزن الشديد والبكاء المتواصل التي اعترت جابراً إلى حدّ أنّه قد وقع مغشيّاً عليه على القبر لمّا لمسه.

بل في نفس الخبر الذي نقله صاحب (بشارة المصطفى) قرائن أُخرى تخالف هذه العبارات، مثل قول عطية، عن جابر: أنّه دنا من الفرات، ثمّ قوله: دنا من القبر، وهكذا قوله فيما بعد: ثمّ جال ببصره حول القبر. فكيف يجول ببصره وهو كفيف؟!

ولم يذكر في أيّ مصدر آخر من المصادر التي تعرّضت لحياة جابر على

____________________

= فتكلّم الخطيب، فكان ممّا تكلّم به يومئذ أن وقع بأهل المدينة، وذكر من خلافهم الطاعة، وسوء رأيهم في عبد الملك وأهل بيته، وما فعل أهل الحرّة، ثمّ قال: ما وجدت لكم يا أهل المدينة مثلاً إلاّ القرية التي ذكر الله في القرآن، فإنّ الله قال:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) . فبرك بن عبد فقال للخطيب: كذبت، كذبت، لسنا كذلك! اقرأ الآية التي بعدها(وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) ، وإنّا آمنا بالله ورسله.

٤٦

نحو مستقل أو ضمناً، أي إشارة إلى كونه كفيف البصر في تلك المرحلة.

على أنّه مخالف لما اتّفق عليه الرجاليون والمؤرّخون من أنّ جابر بن عبد الله إنّما كُفّ بصره في أواخر عمره، وبعضهم يقول: آخر عمره، ولا يُقال لمَنْ كُفّ بصره قبل سبعة عشر سنة من وفاته: إنّه فقد بصره في أواخر عمره.

وهو يصطدم بما ذُكر في أكثر المصادر الشيعية، وبعض المصادر السنية، من لقائه بالإمام الباقر (عليه السّلام) في المدينة فيما بعد، ونظره إليه وتعرّف شمائل النبي (صلّى الله عليه وآله) فيه(١) .

____________________

١ - الكافي - الشيخ الكليني ١ / ٤٦٩. عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن سنان، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال:«إنّ جابر بن عبد الله الأنصاري كان آخر مَنْ بقي من أصحاب رسول الله، وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو معتجر بعمامة سوداء، وكان ينادي: يا باقر العلم، يا باقر العلم، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا والله ما أهجر، ولكنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إنّك ستدرك رجلاً منّي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً؛ فذاك الذي دعاني إلى ما أقول» .

قال:«فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مرّ بطريق في ذاك الطريق كتاب فيه محمّد بن علي فلمّا نظر إليه قال: يا غلام أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال: شمائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والذي نفسي بيده. يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي محمّد بن علي بن الحسين، فأقبل عليه يقبّل رأسه ويقول: بأبي أنت وأُمّي، أبوك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يُقرئك السّلام ويقول ذلك» .

قال: «فرجع محمّد بن علي بن الحسين إلى أبيه وهو ذعر فأخبره الخبر، فقال له: يا بُني وقد فعلها جابر، قال: نعم. قال: إلزم بيتك يا بُني، فكان جابر يأتيه طرفي النهار، وكان أهل المدينة يقولون: وا عجباه لجابر! يأتي هذا الغلام طرفي النهار، وهو آخر مَنْ بقي من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم يلبث =

٤٧

الاحتمال الثاني: يلحق سابقه في الضعف، ولا دليل عليه سوى رواية محمّد وعبد الرحمن ابني جابر. وقد نقله في البداية والنهاية بإثبات (خرجنا مع أبينا يوم الحرّة وقد كُفّ بصره)،

بينما لم تكن هذه الجملة في رواية محمّد بن جابر بنفس النصّ التي رواها في كتاب الآحاد والمثاني، أي لم يكن في هذا الكتاب غير نصّ«مَنْ أخاف أهل هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين»، وضع يده على جبينيه.

إضافة إلى ما سبق ذكره في ردّ الاحتمال الأوّل.

الاحتمال الثالث وهو الذي نرجّحه: أنّ جابر بن عبد الله بعدما بقي في الكوفة لمدّة من الزمن عاد إلى المدينة كما ينصّ عليه المؤرّخون، وبقي فيها، وفي هذه الأثناء حدثت واقعة كربلاء، ولا نعرف شيئاً عن الأسباب التي منعت جابر عن الخروج من المدينة مع الحسين (وهي ليست بالضرورة العمى وفقدان البصر)؛ فإنّ الحسين (عليه السّلام) لم يدعُ كلّ مَنْ كان في المدينة للخروج معه بعد موت معاوية، وإنّما خرج مع أهل بيته من المدينة المنوّرة متّجهاً إلى مكة، والذين التحقوا به من غير أهل بيته إنّما التحقوا به من مكة المكرّمة، أو من الطريق، أو ممّن راسلهم في الكوفة أو البصرة.

____________________

=أن مضى علي بن الحسين (عليهما السّلام) فكان محمّد بن علي يأتيه على وجه الكرامة؛ لصحبته لرسول الله (صلّى الله عليه وآله») .

قال:«فجلس (عليه السّلام) يحدّثهم عن الله تبارك وتعالى، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً أجرأ من هذا، فلمّا رأى ما يقولون حدّثهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أكذب من هذا، يحدّثنا عمّن لم يره، فلمّا رأى ما يقولون حدّثهم عن جابر بن عبد الله» .

قال:«فصدّقوه، وكان جابر بن عبد الله يأتيه فيتعلّم منه» .

وسند الرواية وإن كان فيه محمّد بن سنان وقد ضعف على المشهور، إلاّ أنّ المضمون لا ينحصر بهذه الرواية، ولا بسندها كما ذكر المولى المازندراني.

٤٨

وبعد الواقعة قدم جابر بن عبد الله إلى كربلاء زائراً، فوافى هناك الركب الحسيني بما ذكرناه في الحديث عن اللقاء بين ركب السبايا وجابر (فراجعه في موضعه في القسم الأوّل).

ثمّ بعد أن عاد إلى الكوفة كرّ راجعاً إلى المدينة وبقي فيها، وتعرّض للأذى الشديد لاسيما في وقعة الحرّة، وفي زمان عبد الملك تعرّض لعَنَت الحجّاج الثقفي الذي ولي على المدينة سنة ٧٤ هـ، فقام يتتبّع أصحاب الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالإهانة والإذلال حتّى لقد ختم عنق سهل بن سعد الساعدي، وختم كفّ جابر بن عبد الله الأنصاري كما ذكر الطبري.

في هذه الفترة، أي ما بين سنة (٧١ هـ وبين سنة ٧٤ هـ) كُفّ بصر جابر، وكان قد التقى بالإمام الباقر (عليه السّلام) قُبيل هذه الفترة، وقبل فقده البصر(١) .

تذييل في احتمالات كيفية اللقاء وصوره المختلفة

* يُحتمل أن يكون الإمام (عليه السّلام) قد جاء مع والده لزيارة جابر كما في تاريخ دمشق، وأنّه لم يبقَ جابر بعد ذلك اللقاء إلاّ بضعة عشر يوماً حتّى توفي. يضعف هذا أنّ في الرواية أنّ الباقر كان صبيّاً صغيراً، مع أنّه مع فرض ولادة الإمام الباقر في سنة ٥٨ هـ، ووفاة جابر سنة ٧٨ هـ يكون عمره حينئذ عشرين سنة ولا يمكن أن يُقال لمثله: (صبي صغير)، وحتى لو كانت وفاة جابر سنة ٧٤ هـ يكون عمر الباقر (عليه السّلام) ستة عشر

____________________

١ - هناك رواية نقلها العلاّمة المجلسي في البحار ٤٦، تفيد أنّه كُفّ بصره، ولكنّه رُدّ إليه كما أخبره النبي (صلّى الله عليه وآله)، فرأى الإمام الباقر (عليه السّلام)، لكنّ هذه الرواية التي نقلها عن أمالي الشيخ الطوسي غير معتبرة من ناحية السند.

٤٩

عاماً، وكذلك لا يُقال: (صبي صغير) لمَنْ كان في مثل تلك السنّ.

* كما يُحتمل أن يكون اللقاء بين الإمام الباقر (عليه السّلام) وبين جابر قد حدث قبل سنة ٧٤ هـ (والتي هي سنة وفاته أيضاً على رأي جماعة من المؤرّخين، وإن كانت تضعف برواية أُخرى تفيد أنّ لقاءه بعبد الملك بن مروان سنة ٧٥ هـ).

فاللقاء تمّ بينه وبين الإمام حينما كان جابر مبصراً، وربما يكون في حدود سنة (٧٠ هـ) أو ما بعدها بقليل، وفيها مثلاً قد يكون جابر يجلس للحديث في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويتشوّق إلى أداء أمانة رسول الله، فيقول: يا باقر، ويا باقر... إلى آخر ما ذُكر في الأحاديث المختلفة، حتّى إذا التقاه وعرّفه رسالة جدّه وبلّغه سلامه، كان جابر يأتي الإمام الباقر (عليه السّلام)، ويتدارسان العلم النبوي، فربما تصوّر الناس أنّ الباقر يتعلّم منه، وإنّما كان يعلّمه كما في رواية أبان بن تغلب.

وهذا الاحتمال يمكن أن توفّق به سائر الروايات؛ سواء تلك التي قالت إنّه رآه في طريق فيه كتّاب، أو إنّه قال له: يا غلام، حيث يكون عمره في ذلك الوقت حوالي (١٣) سنة، أو غيرها كالتي ورد فيها أنّ جابر كان ينظر في الصحيفة التي كان فيها أسماء المعصومين (عليهم السّلام)، وكان الباقر يقرأ من حفظه، وجابر يتابعه بالنظر في الصحيفة فما خالف حرفاً.

سؤال حول موضوع الشعائر الحسينيّة العزائية، وبالذات حول التطبير، فقد كثر الكلام حوله بين مؤيد بقوّة، وبين محرّم له وناهٍ عنه يشنّع على مَنْ يقومون به، وأخذ الأمر بُعداً اجتماعياً ممّا يُخشى معه أن يتحوّل إلى صراع. فما هو الموقف الشرعي من ذلك؟ وما هي حقيقة الاختلاف بين المجوّزين والمانعين وكلّهم علماء أهل البيت (عليهم السّلام) وينتمون لمدرسة واحدة وفقه واحد؟

الجواب: يمكن أن نقسّم الشعائر العزائية الحسينيّة إلى قسمين:

٥٠

القسم الأوّل: ما هو متسالم على مشروعيته، بل واستحبابه عند علماء الشيعة، ومن ذلك البكاء، واللطم على الصدور، وما شاكل.

والقسم الثاني: ما وقع فيه الاختلاف (مشروعية أو استحباباً)؛ سواء كان ذلك بالعنوان الأولي، أو العناوين الثانوية الطارئة. ومن ذلك التطبير (جرح الرأس بالسيف)، والضرب بالسلاسل وإدماء الظهر.

ولا يرتبط الأمر بوضع سياسي معاصر، كما قد يتصوّر البعض خطأ أنّه مَنْ يكون ضمن وضع سياسي معين ويؤيد تياراً خاصاً فإنّه سيلتزم بالمنع، بينما مَنْ يعارض ذلك التيار السياسي يلتزم بالجواز أو الاستحباب؛ وذلك أنّ الخلاف في هذه القضية عمره عشرات من السنين، قبل وجود الأوضاع السياسية المشار إليها.

كما إنّه لا يرتبط - بالضرورة - على الظاهر بالنهج الفكري، الذي رأى بعض تصنيف الفئات إليه، كما كُتب فيه بهذا الاتجاه، وصنّفوا على أساسه القائلين بالمنع من التطبير (والقسم الثاني عموماً) بأنّهم دعاة إصلاح، ورجال تغيير، وفكرهم ينتهي إلى إنهاض المجتمع الشيعي، بينما دعاة الاهتمام بهذا النوع من الشعائر، والقائلين باستحبابه هم رجعيّون في الفكر، وتقليديون في الممارسة، وليس لهم من الفكر المتطوّر نصيب.

أقول: لا يرتبط بذلك بالضرورة؛ فإنّنا وجدنا تداخلاً كبيراً في هذه المسألة، فإنّ شخصاً مثل المحقّق النائيني (أعلى الله مقامه)، مع ما هو عليه من الوعي السياسي حتّى عُدّ من أوائل الذين كانت لهم نظرية سياسية واقعية ناظرة إلى الأوضاع الحاضرة تجلّت في كتابه (تنبيه الأُمّة وتنزيه الملّة)، وله ممارسة سياسية متطوّرة، قال بالجواز والاستحباب.

ومثله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء والذي كان يُعدّ من

٥١

المجدّدين في الفقه وغيره، (ولا مجال للحديث هنا عن التفاصيل)، أيضاً مع ما هو عليه من الإدارة الاجتماعية الحكيمة وبُعد النظر السياسي، فإنّه ذهب أيضاً إلى استحباب ذلك والحثّ عليه.

وقد أوردنا هذين المثالين للتأكيد على أنّ الأمر ليس ضمن معادلة الخطّ السياسي كما قد يتراءى بادئ النظر، وليس ضمن معادلة الواقع المعاش الحديث. هذا كلّه بالنظر إلى الحكم الأوّلي.

كما إنّه ليس أمراً حادثاً، ولا وليد اليوم، وإنّما كان محور نقاش، وربما صراع في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، والناظر إلى كتاب شعراء الغري (النجفيات) للشيخ علي الخاقاني، و (هكذا عرفتهم) للخليلي، وغيرها من الكتب التي أرّخت للفترة تلك من حياة الحوزة العلميّة في النجف يجد بشكل واضح أثر ذلك الاختلاف في الموقف بين فئات الحوزويين.

ولعلّ تلك الفترة نشطت فيها حركة التأليف في هذا المجال، واستصدار الفتاوى الموافقة أو المخالفة لكلّ فريق.

ونحن نقول هذا لكي لا يتصوّر الجيل الجديد أنّ المسألة حديثة الظهور فيظنّ الشباب - وهم من الطرفين غيورون على الدين - أنّ عليهم أن يواجهوا بعضهم؛ لأنّ الدين في خطر، فهذا الطرف المجوّز يُحارب الطرف المانع بكلّ ما أوتي من قوّة باعتباره ضدّ الشعائر، أو أنّه يريد هدم شعارات المذهب وتقويض أسس الطائفة، أو أنّ الطرف المانع يُحارب الطرف المجوّز باعتباره متآمراً مع الأجانب لتشويه صورة الدين، وأنّه داخل في مخطط لإلحاق الأذى بصورة المذهب النقية.

لا، ليس الأمر هكذا، وليست القضية وليدة اليوم، وإنّما هي منبعثة من خلال اختلاف طريقة الاستدلال والمقدّمات التي يمهّدها كلّ فريق

٥٢

للنتيجة الخاصة به.

ونحن سوف نتعرّض إلى عرض إجمالي لأدلّة الطرفين بما يتناسب مع وضع هذا الكتاب، وبما يتناسب مع الفئة التي يوجّه لهم، وهي في الغالب الفئة الشابّة؛ بنين وبنات.

فمما استدل به المجوّزون:

١ - أصل الإباحة: فقد تقرر عندهم أنّ الأشياء على الإباحة، وأنّ«كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» ، وهذا الأصل وإن تعدّدت صيَغه، إلاّ أنّ نتيجته: أنّ ما لم يأتِ دليل على المنع منه من الله سبحانه، أو المبلّغين عنه (كالنبي والأوصياء (عليهم السّلام» فإنّه مباح. وممارسة العزاء بهذا النحو من الضرب والإدماء يُشكّ في تحريمها والأصل عدم التحريم.

قد يُقال: إنّه قد ورد النهي عن الإضرار بالنفس، وهذا من الإضرار بها، ومع وجود النهي لا مجال لتحكيم الأصل.

لكنّهم أجابوا: أنّ مطلق الإضرار بالنفس - ولو في مراتبه الدانية - لا دليل على حرمته، وخصوصاً لو كان فيه مصلحة عقلائية.

نعم، لو كان الضرر يُعدّ جناية على النفس بإتلافها، أو يُعدّ ظلماً لها، كما لو أدّى إلى نقص عضو، فهنا يكون حراماً. وهذا غير متحقّق في مظاهر الشعائر؛ فإنّهم يقومون بعملهم صباحاً وبعد الظهر يمارسون حياتهم العادية. بالإضافة إلى المصالح الدينية المترتّبة عليه ممّا هو واضح.

وواضح أنّ هذا المقدار من الاستدلال لا ينتج أكثر من الجواز والمشروعية، لا الاستحباب. لكنّهم يضيفون:

٢ - أنّ هذا العمل - مثل التطبير والإدماء - من مراتب الجزع الممنوع إلاّ في مورد الإمام الحسين (عليه السّلام) فإنّه غير ممنوع، بل مرغوب ومحبوب.

وقد ورد في الخبر بسند معتبر هو حسنة معاوية بن وهب(١) :«كلّ الجزع

____________________

١ - لجهة أبي محمّد الأنصاري فإنّه لم يوثّق بتوثيق خاص، لكن مدحه محمّد بن عبد الجبار في رواية في الكافي.

٥٣

والبكاء مكروه إلاّ الجزع والبكاء على الحسين (عليه السّلام») .

٣ - إنّ هذه الشعائر بما فيها التطبير والإدماء، من مصاديق إحياء الأمر، وقد ورد في الروايات كثيراً التوجيه إلى إحياء أمرهم، ومن مصاديق تعظيم الشعائر( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

والشاهد على ذلك جريانها منذ فترات طويلة من الزمان بمسمع ومرأى من علماء الطائفة وأكابر المذهب، ولم يردعوا عنها أو يمنعوا منها، مع توفّر الدواعي للمنع، والقدرة عليه ولو في حدود الفتوى.

وبالتالي فإنّ هذا العمل وإن لم يأتِ على الفرض إمضاء خاص بشأنه، إلاّ أنّه مشمول للعمومات المرغّبة في تعظيم الشعائر وإحياء الأمر.

٤ - ويستشهدون - ولو على نحو التأييد - بما ورد في بعض الروايات التي لم تكن نقيّة السند، إلاّ أنّهم عملوا بها، كالخبر الذي نقله العلاّمة المجلسي في البحار(١) ، وفيه أنّ زينب نطحت جبينها بمقدّم المحمل، وكذلك

____________________

١ - قال العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ٥٤ / ١١٤: رأيت في بعض الكتب المعتبرة روي مرسلاً عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الأمارة بالكوفة، فبينما أنا أُجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فأقبلت على خادم كان معنا فقلت: ما لي أرى الكوفة تضجّ؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد. فقلت: مَنْ هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي (عليهما السّلام). قال: فتركت الخادم حتّى خرج ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن يذهب، وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر، وأتيت إلى الكنّاس فبينما أنا واقف والناس يتوقعون =

٥٤

____________________

= وصول السبايا والرؤوس، إذ قد أقبلت نحو أربعين شقّة تحمل على أربعين جملاً فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة (عليها السّلام)، وإذا بعلي بن الحسين (عليهما السّلام) على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أُمّةَ السوءِ لا سقياً لربعكمُ

يا أُمّةً لم تراعِ جدّنا فينا

لو أننا ورسولُ اللهِ يجمعنا

يومَ القيامةِ ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتابِ عارية

كأنّنا لم نشيّد فيكمُ دينا

بني أُميّة ما هذا الوقوف على

تلكَ المصائبِ لا تلبون داعينا

تصفّقون علينا كفكم فرحاً

وأنتمُ في فجاجِ الأرض تسبونا

أليسَ جدّي رسولُ اللهِ ويلكمُ

أهدى البريّةِ من سبلِ المضلّينا

يا وقعةَ الطفّ قد أورثتني حزناً

واللهُ يهتكُ أستارَ المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أُمّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم، وترمي به إلى الأرض.

قال: كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم، ثمّ إنّ أُمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء. فبينما هي تخاطبهن إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السّلام)، وهو رأس زهري قمري، أشبه الخلق برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والرمح تلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتّى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول:

يا هلالاً لما استتم كمالا

غاله خسفُه فأبدا غروبا

ما توهّمتُ يا شقيقَ فؤادي

كان هذا مقدّراً مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلّمـ

ـها فقد كاد قلبها أن يذوبا

أقول: أوّل ما في هذا الخبر أنّه من بعض الكتب (المعتبرة) عند العلاّمة المجلسي، ولم يعلم أي كتاب هو ولا مؤلّفه، وثاني ما فيه إرساله، وثالث ما فيه مجهولية =

٥٥

ما ورد عنهم (عليهم السّلام) أنّه«على مثل الحسين فلتشق الجيوب، ولتخمش الوجوه، ولتلطم الخدود» (١) .

فإنّ لطم الخدود وإن لم يلزم منه الإدماء إلاّ أنّ خمش الوجوه لا ينفكّ عن الإدماء.

وما ورد في زيارة الناحية المنسوبة(٢) للإمام الحجّة (عجّل الله فرجه)«... ولأبكين عليك بدل الدموع

____________________

= مسلم الجصّاص، فليس له ذكر في كتب الرجال، ورابع ما فيه وجود الخلل في المتن فقد ذكر فيه أنّ زين العابدين (عليه السّلام) كانت أوداجه تشخب دماً، ولا يخفى ما فيه إلاّ أن يكون تعبيراً كنائياً، وكذلك لم يُعلم أنّ النساء سيّرّنَ إلى الكوفة على محامل وإنّما كنّ على جمال بغير غطاء ولا وطاء كما هو المعروف، وإن كانت هذه بدورها تحتاج إلى تحقيق.

وأيضاً هل كان على النساء أقنعة حتّى يخرج الدم من تحت القناع؟ إلاّ أن يُقال أنّهنّ في بداية دخولهنّ لم يكنّ عليهنّ أقنعة، ثمّ ناولتهنّ بعض الكوفيات أزراً ومقانع كما ورد في بعض المرويّات التاريخية. ثمّ أين كانت عن زينب (عليها السّلام) وصية الحسين:«إنّي أقسمت عليك فأبري قسمي، لا تشقي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً» . كما نقلها في الإرشاد؟

هذا مع ملاحظة أنّهم يذكرون بأنّ رأس الحسين (عليه السّلام) قد سُيّر في نفس يوم العاشر مع خولي بن يزيد الأصبحي؛ ليبشّر ابن زياد بالنصر، ويُفترض أنّه في اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر موجود في قصر الأمارة عند ابن زياد، فكيف يُقال فإذا هم بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين؟

١ - ما وجدت في ما لدي من المصادر هذا النصّ. نعم، في الوسائل وغيره«فعلى مثل الحسين فليبك الباكون؛ فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام» .

وفي دعاء الندبه«فعلى الأطائب من أهل بيت محمّد وعلي (صلّى الله عليهما وآلهما) فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ويضجّ الضاجون، ويعجّ العاجون، أين الحسن أين الحسين...» . وفي التهذيب توجد رواية«وعلى مثله تُلطم الخدود، وتُشق الجيوب...» من دون جملة تخمش الوجوه.

٢ - ذكرنا في القسم الأوّل من هذا الكتاب وجود رأيين حول الزيارة المذكورة، فليراجع.

٥٦

دماً...» ، فإنّ ذلك من إدماء العين بالبكاء، ولو لم يكن كلّ ذلك راجحاً ومستحبّاً لما فعلته العالمة غير المعلّمة زينب، ولما تعهّد به الإمام المعصوم (عليهم السّلام).

وممّا استدل به المانعون:

١ - التشكيك في كون التطبير والإدماء من مصاديق الجزع، أو التألّم لما جرى على أهل البيت (عليهم السّلام) وبخاصة على الحسين (عليه السّلام). فالبكاء هو من مصاديق التألّم عرفاً، والضرب على الصدور كذلك، وأما الإدماء للجسد فليس كذلك. وحينئذ فلا يشمله ما دلّ على الترغيب في الحزن لأحزانهم، والتألّم لأجلهم.

٢ - إنّه لم يعهد من الأئمّة (عليهم السّلام)، ولا العصر القريب منهم إمضاء عام ولا خاص لهذا النوع من العزاء والممارسات.

٣ - الالتزام بأنّ مطلق الإضرار بالنفس حرام حتّى لو لم يؤدّ إلى التهلكة، أو للجناية على النفس بنقص العضو ونحوه، ويمثّلون بأنّه لو جئت بشفرة وجرحت نفسك ووضعت بعد ذلك دواءً ليندمل الجرح فحتى لو شفيت بعدئذ فهذا حرام؛ لأنّه تعريض النفس للضرر، والإضرار بالنفس ظلم للنفس، وظلم النفس محرّم( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

والإدماء هو من الإضرار بالنفس فلا يكون جائزاً.

وهنا يختلف المانعون؛ حيث إنّ بعضهم لا يلتزم بهذا المبنى؛ ولذا يجوّزون مثلاً الضرب بالسلاسل مع أنّ فيه إضراراً بالنفس في مرتبة من مراتب الضرر.

٤ - التوسّل بالعنوان الثانوي: وهو الوهن الوارد على المذهب على

____________________

١ - سورة النحل / ١١٨.

٥٧

أثر هذه الممارسات، فهم يقولون أنّ أعداء المذهب اليوم يتربّصون به حتّى يُظهروه على غير حقيقته، وبروز هذه المظاهر والصور من التطبير والإدماء تُسبّب وهن المذهب، وتشويه صورته، وذلك غير جائز.

فحتى لو فرضنا جوازه بالعنوان الأولي فإنّه بالعنوان الثانوي لا يكون جائزاً؛ لما فيه من تشويه صورة المذهب، وتسبيب الوهن عليه.

تلك كانت خلاصة رأي الطرفين وما يمكن أن يستدلّ به لكلّ منهما بمقدار ما يحتمله وضع هذا الكتاب والفئة المخاطبة به.

نهاية المطاف:

قد عرفت ممّا سبق أنّ كلّ طائفة من العلماء تعتمد على توجيه معيّن، وتقريب خاص تصل من خلاله إلى نتيجة الجواز، بل الاستحباب، أو المنع وعدم الجواز، ولنا هنا عدّة نقاط، ربما مرّت الإشارة إلى بعضها:

أوّلها: إنّ التزام المؤمن بتقليد مَنْ يقول بالمنع والحرمة، ولو لأجل العنوان الثانوي الطارئ، يعني أن لا يقوم هو بتلك الأمور، لكن لا يعطيه حقّ أن يحارب مَنْ يقوم بها إذا كان له حجّة شرعية بتقليده مَنْ يقول بجوازها أو استحبابها.

كما إنّ التزام المكلّف بقول مرجعه القائل بالجواز أو الاستحباب لا يعني فرض ذلك عليه على نحو الوجوب، ولا يعني أيضاً إنّه هو الذي يدافع عن الأئمّة فقط، وهو وارث التشيّع دون سواه، وإنّ الآخرين ليسوا في خطّ أهل البيت (عليهم السّلام). وإنّه يجب بالتالي زيادة هذه الأمور نكاية بالفريق الأوّل.

ثانياً: إنّ شعائر الحسين (عليه السّلام) على اختلاف طرقها وأساليبها، يوجد بينها قاسم مشترك. والقاسم المشترك بينها كما يُفترض هو أن تساهم

٥٨

في إحياء أمر أهل البيت (عليهم السّلام)، وإن اختلف البعض في أنّ هذا يساهم أو لا يساهم في إحياء أمرهم، لكنّ غرضها الأقصى والقاسم المشترك بينها هو ذاك، فلا يصحّ أن يحوّلها أتباع أهل البيت (عليهم السّلام) إلى ساحة معارك داخلية تنتهي إلى إضعاف أمر أهل البيت (عليهم السّلام).

وما نراه من حالات الهجوم والهجوم المضاد من قبل كلّ فئة للأخرى لا يحقّق سوى المزيد من الانتكاس لخطّ الأئمّة (عليهم السّلام)؛ ولذا فإنّ الأطراف المختلفة مدعوّة لملاحظة هذا الأمر.

إنّ الفئات الاجتماعية فيها من دواعي التفرّق والاختلاف ما يكفيها، فلا يصحّ أن نضيف سبباً جديداً هو ما يرتبط بالحسين (عليه السّلام)، والذي هو نور وهداية، فنحوّله بتخلّفنا وجهلنا إلى مصدر للفتنة والتناحر، كيف وقد ذكروا (عليهم السّلام) بأن«طاعتنا نظام للملّة، وإمامتنا أمان من الفرقة» .

ثالثاً: إنّه لا بدّ من التفريق بين الحكم الأوّلي، والذي لا يخضع لرأي الغير، ولا يؤثّر فيه الزمان ما دام الموضوع واحداً، وبين الحكم الثانوي الذي ينظر إلى الطوارئ والعناوين اللاحقة.

والمجوزون القائلون بالاستحباب أيضاً يقولون بأنّه لا يجوز لشخص القيام بهذا العمل لو كان بالنسبة له يؤدّي إلى ضرر لا يُتحمّل عادة.

وهكذا لو كانت الظروف المحيطة بالمجتمع، كما لو كان أقلّية شيعية في محيط معاد تنتج مشاكل حياتية صعبة، كالاحتراب الداخلي وغيره، وكانت تلك الشعائر فرضاً تسبّب في حدوث تلك المشاكل، فإنّه حتّى القائلين بالاستحباب لا يلتزمون به بالنظر إلى هذا العنوان الثانوي الطارئ، بالنسبة إلى ذلك المجتمع وفي تلك الفترة الزمنية.

وهكذا يُفترض أنّ القائلين بالحرمة على أساس أنّ هذه الممارسات تؤدّي إلى وهن المذهب والإزراء عليه، يربطون الحرمة من هذه الجهة

٥٩

بتحقّق الوهن، فلو فرضنا في مكان أنّه لا يحصل وهن، بل تقوية فإنّه لا ينبغي أن يلتزموا بالتحريم من هذه الجهة مع فرض عدم الإضرار.

والاختلاف في تشخيص الأمور الخارجية أمر شائع، ولا يُفسد لا للود ولا في الدين قضية.

وهذا يعني أن يفكّر الشباب المؤمنون في مناطقنا (زادهم الله وعياً وحماساً) بأنّ القضية ليست على نحو الإطلاق بين حدّي التحريم والوجوب.

سؤال: هل كان الحسين ملاحقاً من أعوان يزيد واضطر أخيراً إلى خوض معركة أم كان ثائراً؟

الجواب: الناظر إلى مجمل حركة الإمام الحسين (عليه السّلام) يقطع بأنّه لم تكن تلك إلاّ ما عبّر عنه:«اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنازعاً في سلطان، ولا التماساً لشيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، وتُقام المعطّلة من حدودك، فيأمن المظلومون في بلادك» .

وإنّه لم يكن (سلام الله عليه) إلاّ ثائراً آثر العزّ والشهادة على الذلّ والحياة الذميمة، فقال:«فليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً» . وأقسم أنّه لا يُعطي بيده إعطاء الذليل ولا يفرّ فرار العبيد.

بل إنّه رفض أن يتنكّب الطريق الأعظم من المدينة المنوّرة إلى مكة، مع أنّ البعض نصحوه بأن يفعل ذلك كما فعل ابن الزبير، فلم يقبل منهم.

وبعدها من مكة إلى كربلاء خرج جهاراً أمام الملأ، إلاّ حين كادت أن تحصل المواجهة بينه وبين الحرّ بن يزيد الرياحي، الذي اقترح عليه أن لا يدخل الكوفة؛ فسار على غير الجادة.

إنّ الملاحَق أو المنهزم لا يفوّت على نفسه فرصة النجاة لو حصلت،

٦٠