الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة0%

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 119

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الصفحات: 119
المشاهدات: 89080
تحميل: 21886

توضيحات:

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 119 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89080 / تحميل: 21886
الحجم الحجم الحجم
الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي ذات الليلة رأى في المنام ساحة المعركة في يوم عاشوراء، والإمام الحسينعليه‌السلام واقف وأصحابه بين يديه يذبون عنه، وعندما حان وقت الزوال ذكّر أحد الأصحاب أبا عبد اللهعليه‌السلام بالصلاة، فقال له الحسينعليهم‌السلام :« رحمك الله وجعلك من الذاكرين » . فأراد الأصحاب أن يصلّوا الجماعة بإمامه الحسينعليه‌السلام ، فقال الإمامعليهم‌السلام للرجل الذي كان يرى هذا المنام:« قف أمامي لتصدّ عنّي السيوف والرماح والسهام حتّى نصلّي » .

فوقف، وإذا بالسهام تأتيه الواحدة تلو الاُخرى، فأصابه سهم في ناحيته اليسرى، فأدار رأسه يميناً وإذا بسهم آخر أصاب جنبه الأيمن، وهكذا حتّى انهزم من المعركة. ثمّ استيقظ من النوم وإذا به يرى رأسه وقد ضرب حائط الغرفة فجرى منه الدم، فجاء الرجل في الصباح إلى المجلس بين أصدقائه وهو مشدود الرأس، فقصّ عليهم الرؤيا، ثمّ قال لهم: سوف لن أقول بعد ذلك في زيارتي للأصحاب: ( يا ليتني كنت معكم )؛ لأنني لست في مستوى تضحيتهم ومقاومتهم.

ضرورة عدم التهاون والانهيار

وأنت أيها المؤمن عليك أن لا تتهاون وتنهار، فإن أصابك في خلال العمل خلل بسيط كأن تغير برنامج نومك أو أكلك، أو لم يحترمك شخص ما، فعليك بالتريّث والصبر، لا أن تعادي غيرك؛ ذلك لأنّ العزيمة الراسخة، والإرادة القوية تشحنان الإنسان بقوة اليقين والصبر حتّى توصله إلى هدفه السامي.

ومن أجل تحقيق ذلك فإنك تحتاج إلى برمجة العمل خلال مدة زمنية معينة لكي تربي نفسك وتربي الآخرين؛ وذلك بأن تقوّي إرادتك بتهذيب النفس وتزكيتها، فإنك إن لم تقض على الصفات

٤١

الخبيثة كالحسد والحقد والكبر فمن الممكن أن تجرّك إلى متاهات، وبالتالي تلقي بك في نار جهنم.

فكن على حذر من تلك الصفات؛ فإنّ ذرّة الكبر - مثلاً - تحرق بيدراً من الإيمان فلا يبقى لك من الإيمان شيء، وعندئذٍ ستتكبّر على الناس وعلى الحق، لا بل على الله الذي خلقك؛ فتجنّب أن تتحدث بلغة الأنا، وهذه هي الخطوة الأولى في طريق التزكية.

قارن بين نفسك والآخرين

وأنت عندما تجلس في مجلس عزاء للحسينعليه‌السلام وأخوك المؤمن جالس بجنبك، فهل تعرف كم هي المسافة بينك وبينه؟ ربما تكون هذه المسافة كالبعد بين السماء والأرض؛ فأخوك المؤمن يهتزّ قلبه إذا ما ذكر الحسينعليه‌السلام ، فهو يعرف شأنه، وبالتالي فإنه يعرف حجّة الله، أي يعرفه الله ورسالاته.

فهو والحالة هذه يعيش في فضاء من السمو واليقين، أمّا أنت فقد تفكّر وأنت تجلس في مجلس العزاء في قضايا شخصية، وعندما تذكر مصيبة الحسينعليه‌السلام قد تدمع عيونك بغزارة أكثر من صاحبك، ولكن المقياس ليس في البكاء، بل في اليقين والإرادة، ومقدار استيعابك لتلك الثورة المقدسة.

فبعض الناس يبكون في المآتم ليس حزناً على الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولا تأثّراً بمصابه، بل يبكوا على مآسيهم ومصالحهم الذاتية؛ وبناء على ذلك حاول دائماً أن تحلّق في عالم الكمال أكثر من ذي قبل، ودقّق فيما حولك وخذ العبرة منه.

٤٢

الشهادة الناطقة

مع حلول شهر محرم الحرام نستقبل موسم الدم الذي هزم السيف، ذلك الدم الذي جرى في أرض كربلاء ليبقى جارياً، ولتبقى معه عاشوراء مبعث الألم والبطولة، مبعث المأساة والتحدي، خالدة في ضمير الأجيال.

فيا ترى ما هي فلسفة نهضة الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؟ هذه الفلسفة تتلخص في كلمة واحدة هي أن الإمام الحسينعليه‌السلام كان داعياً إلى الله تعالى، وحينما رأى أن دعوته إلى الله بحاجة إلى أن تُكتب بدمه، وتعمّد بشهادته وشهادة أبنائه حتّى الطفل الرضيع، حينما أدرك ذلك اقتحمعليه‌السلام ميدان الشهادة، وبادر إلى العطاء في سبيل الله.

ولما كان الحزب الاُموي متجذّراً في السلطة، كان المجتمع بحاجة إلى هزة عنيفة ليقتلع جذور الاُمويّة، وهذا ما حدث بالضبط بفضل دم أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

٤٣

ترى كيف حدث كل ذلك؟ السر يكمن في أن الحسينعليهم‌السلام كان دماً ناطقاً، وإعلاماً داعياً إلى الله، وشهادة من أجله تعالى، هذه الشهادة التي نرددها يومياً في الصلاة (أشهد أن لا إله إلاّ الله). ماذا تعني؟ إنها تعني إعلان الحق؛ فأنت بإمكانك أن تجلس في بيتك وتقول (أشهد أن لا إله إلاّ الله)، فما الذي يدعوك إلى أن تصعد فوق المنابر وتنادي بهذه الشهادة خمس مرات في كل يوم؟ لأنّ الإسلام بحاجة إلى إعلام؛ لأن هدف الرسالات الأساسي هو دعوة الناس إلى الله تعالى.

وفي بعض الأحيان تحتاج الدعوة إلى الله، إلى صوت، وفي أحيان اُخرى تكون بحاجة إلى دم، وقد عرف الحسينعليه‌السلام هذه المسيرة فأعطى الدم، ومن المعلوم أنّ هذا الإعلام يجب أن ينسجم مع المبدأ ومع ظروف المجتمع، ويجب أن يكون بحجم هذه الظروف.

أي إنّنا يجب أن نثبت صمودنا في هذا الإعلام من خلال ساحة الجهاد، ومن خلال الدم الذي يُراق؛ ولذلك فإنّ الإعلام الإسلامي يجب أن ينسجم مع روح الإسلام التي هي التضحية، وتنازل الإنسان عن ذاته لدينه، وعن دنياه لآخرته، وهذا التنازل لا يمكن أن يتحقق ببساطة.

فلا بّد للإنسان من أن يكون في مستوى الرسالة التي يحملها؛ ولذلك فإن الذي يجلس على منبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ويدعو إلى منهجه، ويتحدث باسمه، وينطق باسم الثورة التي قادها السبط الشهيد، هذا الإنسان يجب أن يكون حسينياً، بمعنى أن يكون مستعداً للتنازل عن كل شيء في لحظة واحدة إذا اقتضى الأمر، حتّى تكون دعوته نافذة.

فالمنبر الذي يتحول إلى مهنة واحتراف لا يغني عن الحسين شيئاً؛ لأن المنبر هو ساحة للجهاد، فمن الممكن أن يرتقي

٤٤

الإنسان المنبر ويتحدّث بحديث تكون فيه نهايته الدنيوية كما فعلوا بخطبائنا العظام طيلة التاريخ.

وهكذا فإن الإنسان المؤمن الصادق لا بدّ أن يقتبس من نور الإمام الحسينعليهم‌السلام شعاعاً عندما يرتقي المنبر ويتحدّث باسمهعليه‌السلام ؛ ولذلك نراه يندفع إلى التضحية.

وهكذا الحال بالنسبة إلى إعلام القلم الذي ينطق باسم الإمام الحسينعليهم‌السلام ، فيجب على حامل هذا القلم أن يكون حسينياً بمعنى الكلمة، وأن يبتعد عن الارتزاق والمهادنة؛ فالقلم الذي يعمل على مهادنة الطغاة يجب أن يتكسّر، والورقة التي يكتب عليها يجب أن تتمزق.

نحن نتحدث عن سيد شباب أهل الجنة، عن سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن إمام من أئمة الهدى الذين بولايتهم وباسمهم تاب الله على آدم، وركب نوح السفينة، وأصبح إبراهيم إماماً للناس.

سمات وخصائص الإعلام الإسلامي

وهكذا فإن الإعلام الإسلامي يجب أن يكون منسجماً مع الإسلام، وفيما يلي سأحاول تلخيص بعض سمات هذا الإعلام:

إعلام إلهي

١ - الإعلام الإسلامي هو إعلام إلهي تجاوز الدنيا إلى الآخرة؛ فقد كانت الكلمة الأولى التي أطلقها السبط الشهيد في المدينة المنورة هي:« ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله » (١) .

شارب الخمر، ولاعب القمار، ويقتل النفس

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٥.

٤٥

المحرّمة، ويتجاوز حدود الله، ومثلي لا يبايع مثله. وهنا أحب أن اُذكّر أن القضية ليست قضية أن يزيد قد أخذ دار الحسينعليه‌السلام وأمواله، وأنه ليس من جماعته، فهذه الاعتبارات ليس لها أساس، بل أن القضية هي قضية إلهية؛ فالرفض ابتدأ بكلمة الله، والدعوة إلى الله.

فأول إعلان عن الثورة كان في مكّة المكرمة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وقد كان الناس يتّجهون إلى منى، ومن ثمّ إلى عرفات، في حين أن الإمام الحسينعليه‌السلام غيّر مسيره إلى العراق، ووقف قائلاً بكل جرأة:« خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف » (١) .

فالكلمة هنا تتجاوز الدنيا، إنها كلمة الآخرة؛ فالإمام الحسينعليه‌السلام لا يعيش الدنيا؛ لأنّ قلبه وروحه وأحاسيسه تعيش في الآخرة. هذه هي الكلمة الأولى، أمّا الكلمة الأخيرة فقد نطق بها بعد شهادتهعليه‌السلام الإمام زين العابدينعليهم‌السلام فوق منبر مسجد الشام، وقد كانت نصف خطبته تدور حول الآخرة، وقد كانعليه‌السلام يهدف من وراء ذلك بيان حقيقة ثورة أبيه الحسينعليه‌السلام ؛ فالمقدمة كانت توجيهاً للناس إلى الآخرة، وإلى الله تعالى حتّى أجهش الناس بالبكاء كما تذكر الروايات.

وعلى هذا فإن منابرنا يجب أن تسير على نهج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمتناعليهم‌السلام ، وهذه هي صبغة الإعلام الإسلامي، وسمة من سماته، فهو إعلام إلهي لا ينظر إلى الدنيا فقط؛ لأن الدنيا لا شيء بالنسبة إلى الآخرة، والإنسان العاقل الحكيم يجب أن يستغل هذه الدنيا لصالح آخرته.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٦.

٤٦

إعلام متفاعل مع الواقع

٢ - إنّ الإعلام الإسلامي لا يعبر عن الصور المتحركة، فهناك إعلام يأتيك بالحدث المجرد، ويصور الحالة الخارجية بشكل محايد، في حين أن الإعلام الإسلامي يتجاوز هذه الصورة، ويغوص في العمق، فهو يربط الحدث بمسيرته التاريخيّة، ويتعمق في الجذور ليقتبس منه العبرة.

فالقصص والأحاديث والأخبار المفرغة من العبرة لا تغني شيئاً؛ لذلك ينبغي أن نعطي الخلفية التاريخيّة للإعلام، والعبرة المستقبلية له، ونربط بينه وبين السنن الإلهية التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم؛ فكل شيء له سبب ودافع، وقد يكون دافع الإنسان نظيفاً، وقد يكون خاطئاً؛ فالإنسان قد يقوم ببطولات ويتحدى ويؤدّي دوراً كبيراً، ولكن دون أن يكون دافعه إرضاء الخالق، بل يخرج أشراً ومفسداً ومستعلياً في الأرض.

ومثل هذا الإنسان لا يساوي عند الله جناح بعوضة حتّى وإن قُتل، وسُحق تحت الأقدام؛ لذلك النية هي المهمة في الإسلام، أما العمل فليس له قيمة من دون النية، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« لا قول إلاّ بعمل، ولا قول ولا عمل إلاّ بنية، ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة » (١) .

وهكذا الحال بالنسبة إلى النية، فإنها وحدها لا تكفي، بل يجب أن نبحث عن الحكم الشرعي الذي يسمح لنا بالعمل؛ فليس من حقي أن أحطم شخصية إنسان بكلمة نابية، أو غيبة، أو تهمة بحجة إنني أنوي تأديبه مثلاً، بل لا بدّ أن أبحث عن الاُسلوب المناسب، وعن

____________________

(١) الكافي ١ / ٧٠.

٤٧

القانون الشرعي؛ فالإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ ووضع لها قانوناً، فليس من حقّك أن تتصرّف في الساحة دون قانون شرعي؛ لأن الإعلام الإسلامي هو إعلام شرعي يقتضي البحث عن الشرعية.

إعلام شجاع لا يهادن

٣ - الإعلام الإسلامي هو إعلام شجاع لا يهادن، فهو يضع النقاط على الحروف؛ انظروا إلى كلمات الأنبياءعليهم‌السلام فإنكم لا تجدون فيها كلمة غامضة، ففيها - حسب التعبير القرآني - فصل الخطاب، أي الخطاب الفاصل والحاسم الذي يفرق بين الحق والباطل.

فإن تخلط الاُمور مع بعضها، وتقول كلمات دبلوماسية حتّى تستطيع أن تخرج دائماً من المآزق، فهذا مرفوض في الإعلام الإسلامي، ولا يجوز إلاّ عند الضرورة، فالأدب والتعبير الحسن في مكانهما، ولكن الوضوح له موقعه أيضاً.

نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام نهضة تبليغيّة

وقد كانت هذه السمات كلها في حركة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ولو درسنا لسنين هذه الحركة من هذه الزاوية أو من الزوايا الاُخرى، فسنكتشف فيها الكثير من الدروس، والأكثر من ذلك أن نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت نهضة تبليغيّة - إن صح التعبير -؛ فقد كانت جميع تحركات الإمامعليه‌السلام وأهل بيته من المدينة، ثمّ من مكّة إلى الكوفة، ومنها إلى الشام، مخططاً لها من أجل إيقاظ الناس، وإقامة الحجة عليهم، وإلاّ فقد كان من المفروض بالإمامعليه‌السلام أن لا يخرج معه بقايا أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لأنهم أمان أهل الأرض.

فهل من المعقول بعد ذلك أن

٤٨

يضعهم أمام العدو وهو يعرف طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، وقد نصحه أكثر من واحد على أن لا يقدم على هذا العمل؟ فالمعالم كانت واضحة لدى الناس؛ لأنّ الكوفة هي نفسها الكوفة التي لم تستجب للإمام عليعليه‌السلام ، وهي نفسها الكوفة التي فعلت ما فعلت بأخيه الحسنعليهم‌السلام .

وعلى هذا فإن الإمام الحسينعليه‌السلام كان يعرف كل شيء، ولكنه مع ذلك جاء بأهل بيته وباُخته زينب، وهو الذي يحبها ذلك الحب العميق؛ لأنها كانت صورة مصغّرة لفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، فهل من المعقول أن يأتي بها إلى كربلاء ويعرّضها للأسر لولا أنّ له في ذلك هدفاً مقدساً؟ وهكذا فإنّ هذا الهدف هو الذي بعث هذا الإعلام؛ فالشهادة مدرسة، والدراسة في هذه المدرسة ضرورية؛ فهي بركة، والتبرك بها يمثّل قضية.

ولقد استشهد الإمام الحسينعليه‌السلام وجرى دمه الطاهر، ولكن مَن الذي يجب أن يستثمر هذا الدم ويحوّله إلى ثورات متلاحقة لا تقضي فقط على النظام الاُموي، وإنما على كل حكم فاسد، وعلى جميع الانحرافات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي كانت مستشرية؟

الإعلام بعد ثورة الحسينعليه‌السلام

لقد فعل كل ذلك مَن تبقّى من أهل أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، فكربلاء كانت أرضاً معزولة، ثمّ إنّ العدو لم ينقل ما جرى على هذه الأرض، فمن الذي يجب عليه أن يروي ما حدث في كربلاء؟ ومن الذي يقصّ البطولات التي أبداها الحسين وأبو الفضل العباسعليهما‌السلام ؟ والظلامة التي رفعها الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء

٤٩

عندما حمل الطفل الرضيع على يديه وطلب شربة ماء، وإذا بالعدو يرميه بالسهم؟ مَن الذي يجب أن ينقل هذه الصور؛ صور المأساة والتحدي، والبطولة والصمود؟ ومن هنا فإنّ قضية السبط الشهيد يجب أن تتحول عندنا إلى ذلك المنبر الإعلامي المتميز حتّى تكون الشهادة الناطقة وسيلة لسعادتنا في الدنيا، وفلاحنا في الآخرة.

٥٠

الفصل الثاني: منهج التغيير

٥١

٥٢

عاشوراء ثورة في ضمير الإنسان

ما أكثر العبر وأقل المعتبر! فظواهر الحياة تسدي للإنسان دروساً لا تحصى، ولكن هذا الإنسان يحتجب عن هذه الدروس العظيمة في الحياة بحجب سميكة؛ فبدلاً من أن يفتح قلبه على دروس الحياة فيستلهم منها ما يحتاج إليه تراه يعرض ويتغافل عنها.

الدروس التي تخترق الحجب

ومع ذلك فإنّ هناك دروساً في الحياة تخترق الحجب، وتهدم الحصون؛ سواء شاء الإنسان أم أبى، وهذه الدروس هي الحجج الإلهية الكبرى على الإنسان. ولا ريب أن واقعة كربلاء هي درس من هذه الدروس، فإن كان قلب الإنسان خاشعاً استلهم العبرة من كل ظاهرة في الطبيعة أو في المجتمع أو التاريخ والحاضر، فيعتبر بكل نعمة أنعم الله بها عليه، كما يعتبر بكل نقمة دفعها عنه.

إنّ القلب الخاشع والقانت والسليم هو القلب الذي يكون كنبتة في مهب النسيم، وهو المثل الواضح لقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ

٥٣

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (الأنفال / ٢).

ومع ذلك فإنّ كل الناس ليسوا كذلك؛ فإنّ أكثرهم ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، بل إنّ أكثرهم مشركون. ومثل هؤلاء بحاجة إلى هزة عنيفة تحطم في قلوبهم كل الجدران التي أقاموها بأنفسهم، ولمثل قلوب هؤلاء كانت كربلاء، وكانت واقعة عاشوراء، وكانت الحوادث المأساوية التي جرت على أبي الشهداء والأحرار الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابهعليهم‌السلام .

أوَليس الحسينعليه‌السلام شهيد العبرات والدموع، وشهيد القلوب التي تخشع لمأساته، فإذا خشعت لها خشعت للحقائق التي حدثت تلك المأساة من أجلها وفي سبيلها؟

المصيبة التي أدمت جميع القلوب

فالإنسان - أي إنسان - لا يملك عندما يستمع إلى قصة كربلاء إلاّ أن يخشع قلبه، فهذا الإنسان لا بدّ أن يتأثر وهو يتصور دخول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، وكيف أن القوم استضعفوه واحتوشوه من كل مكان، وهم الذين دعوه ليكون إماماً وأميراً لهم، ولكنهم جندوا طاقاتهم ضده، وأرسلوا إليه ثلاثين ألفاً ليقتلوه صبراً.

ولا بدّ أيضاً من أن تخنق الإنسان العبرة وهو يجسّد في ذهنه حالة السبط الشهيد في ليلة التاسع من شهر محرم عندما جلس ينعى نفسه قائلاً:

يا دهرُ اُفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراق والأصيلِ

من صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

إنّ القلب الذي لا يخشع لمثل هذا الموقف لا بدّ أن يخشع لموقف آخر، وهو موقف الحسينعليه‌السلام وهو يطلب من ذلك الجيش الهائل الماثل

٥٤

أمامه مهلة ليلة واحدة، فيرفضون هذا الطلب، في حين أنّهعليه‌السلام لم يطلب تلك المهلة لكي يودع أهله فيها، أو يتمتع بملاذ الحياة، بل لكي يصلّي لربه، ويجدد عهده معه تعالى بالصلاة والقرآن.

وهكذا فكل موقف من مواقف الحسينعليه‌السلام ، وكل مصيبة من مصائبه تكفيان لإذابة الصخرة الصماء، فكيف بالقلوب؟ فإن لم تخشع للمآسي التي حدثت في يوم عاشوراء فهي خاشعة لا محالة للمأساة التي حدثت بعد عاشوراء، أي في اليوم الحادي عشر عند ما مرّوا بآل البيتعليهم‌السلام من الثكالى والأرامل على أجسام أعزّتهن وهم مقطعون إرباً إرباً … وهكذا الحال بالنسبة إلى مصيبة السيدة زينبعليها‌السلام في الكوفة، وللمصائب التي نزلت على آل البيتعليهم‌السلام في الطريق إلى الشام، وعند عودتهم إلى المدينة.

وعندما يقول الأئمة المعصومون الذين عصمهم الله من الدنس، وآمنهم من الزلل:« لا يوم كيومك يا أبا عبد الله » (١) ، وعندما يقرّرون أنّ المصيبة التي حلّت بالحسينعليه‌السلام لم تحل بأحد في التاريخ، لا قبل ذلك اليوم ولا بعده، فإنما يبيّنون بذلك حقيقة هامة أن الله تعالى قد هيّأ هذه الفرصة لتخشع القلوب، وليهتدي الناس.

فالهدف من كربلاء هو خشوع القلب، وسقوط تلك الحجب والتحصينات التي تصنعها النفس أمام التأثّر بظواهر الحياة؛ فالقلب لا يهتدي إلاّ إذا خشع، وكيف يخشع وبينه وبين ظواهر الحياة حجب سميكة؟

ومثل هذا الخشوع لا يمكن أن يحصل إلاّ بمثل ظاهرة كربلاء؛ ولذلك أصبح

____________________

(١) أمالي الصدوق / ١٧٧.

٥٥

البكاء قضية دينية. في مثل هذه الحقيقة فالله تعالى يأمرنا بالصبر في كل مصيبة قائلاً:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر / ١٠)،( وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) (فصلت / ٣٥).

لماذا البكاء على مأساة الحسينعليه‌السلام

فهو تعالى يأمرنا بالصبر في كل موضع، أمّا في هذه الحادثة فتأمرنا النصوص الإسلاميّة بالبكاء؛ حيث روي عن آل الرسولعليهم‌السلام أنهم قالوا:« مَن بكى وأبكى فينا مئة فله الجنة، ومَن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومَن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومَن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومَن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومَن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومَن تباكى فله الجنة » (١) .

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام : « إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا »(٢) ، وقال الإمامعليه‌السلام : « يابن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ؛ فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش »(٣) . فالحسين أحق من يبكى عليه؛ لأنّ حادثة كربلاء هي أعظم مصيبة وردت على الإنسانيّة عبر التاريخ.

وهكذا فإنّ الأمر بالبكاء والندب والنحيب يكمن وراءه هدف وحكمة، فليس عبثاً أنّ الأئمةعليهم‌السلام كانوا يؤكّدون دوماً على البكاء والنحيب، وعلى تجديد ذكرى الحسينعليه‌السلام ، وكأنها وقعت في الأمس

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٢٨٨.

(٢) أمالي الصدوق / ١٩٠.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام للشيخ الصدوق / ٢٦٨.

٥٦

القريب، وكأن الحسين قد استشهد للتوِّ، فلا ريب أن طائفة كبيرة من المسلمين يبادرون إلى تجديد هذه الذكرى كلّما مر عليهم هذا الشهر (شهر محرم) الحزين المليء بالعبر والعبرات؛ فترى المدن تلبس السواد، وتتغشى القلوب بسحابة من الكآبة، وتصطبغ المجالس بلون الدم والمأساة، أوَليس كل ذلك لهدف وحكمة؟ ترى ما هي هذه الحكمة؟

الحكمة من وراء ذلك هي أن القلوب وعندما تتفاعل مع المأساة فإنها ستخشع لهدف الحسينعليه‌السلام ولواقعة كربلاء؛ ومن هنا فإنني اُطالب الإخوة الذين يُجدّدون هذه الذكرى المباركة بشكل من الأشكال فيكتبون، أو ينشدون الشعر، أو يرتقون المنابر ويقيمون المآتم والمجالس... أطلب من هؤلاء جميعاً أن لا يغيب عن بالهم أنّ كل هذه المظاهر، مظاهر الحزن والخشوع، إنما تهدف إلى تقريب النفوس من الحقائق، وتجعلها تستفيد من عبر واقعة كربلاء؛ ولذلك ترى أنّ الحسينعليه‌السلام قد ألقى في يوم عاشوراء فقط خمس خطب منذ صبيحة يوم عاشوراء وحتى ظهره، فكان يستغل كل مناسبة ليبين أهداف ثورته.

وقد سجّلعليه‌السلام في كل مناسبة، وعند كل مصرع لشهيد بياناً لهدفه، والحكمة التي من أجلها استشهد، حتّى امتزج الهدف بالمأساة، فلا الهدف ينفصل عن المأساة، ولا المأساة بمنفصلة عن الهدف؛ فالحسينعليه‌السلام خرج إلى كربلاء وفي طريقه كان يردد الآية الكريمة:( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (القصص / ٨٣).

فكيف نستطيع أن نفصل مسيرة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء عن هذه الآية

٥٧

التي كان يرددها في كل لحظة؟ وكيف نستطيع أن نفصل بينهعليه‌السلام وبين الصلاة التي أدّاها وهو في قمّة المواجهة؟ فقد صلّى وأوقف اثنين من خيرة أصحابه يتّقيانه السيوف والسهام، والمعركة دائرة على أشدّها، وبالتالي كيف يمكننا أن نعزل المأساة عن الحسينعليه‌السلام وهو يضع رأسه في آخر لحظة من لحظات حياته على تراب كربلاء قائلاً:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين » (١) ؟!

وعندما يُذبح ابنه الرضيع على يديه الكريمتين يمسك بالدم ويرمي به في الفضاء، ويقول:« هوّن ما نزل بي أنه بعين الله تعالى » (٢) ؛ فإنه في كل لحظة يسجّل هدف ثورته وموقفه، الموقف وهدف الموقف، الحركة وحكمة الحركة، القضية ومأساة القضية...

كل ذلك لا نستطيع أن نفصله عن بعض؛ ولذلك فإنّ على خطبائنا الكرام، وكتّابنا ومؤلّفينا، وكل من يقوم بدور ما في إحياء ذكرى عاشوراء أن يعرف ماذا كانت حكمة مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأن يذكر كل موقف مع حكمته؛ لأنّ الموقف إنّما جاء من أجل تلك الحكمة، فالبكاء وسيلة لخشوع القلب، وخشوع القلب بدوره وسيلة أساسية لقبول الحقّ.

محرّم مدرسة التطهير والتزكية

وهكذا فإن قضية عاشوراء تفرض نفسها على الإنسان، ولا ريب أنّ كثيراً من الناس يدخلون في هذا الشهر الحرام مثقلين بالذنوب

____________________

(١) كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام للشيخ الشريفي / ٥١٠.

(٢) المصدر نفسه / ٤٧٧.

٥٨

والأمراض القلبية، والخلافات الاجتماعية ثمّ يخرجون منه وقد طهرت قلوبهم، وزكت نفوسهم، وغُفرت ذنوبهم، وأصبحوا أكثر حبّاً لإخوتهم، وأقدر على التعاون والعمل، وأبعد ما يكونون عن الكسل.

والمحروم من محرم من لم يستفد من هذه المناسبة الفضيلة، والمحروم هو الذي لا يخشع قلبه لذكرى الحسينعليه‌السلام فيجلس ويستمع، ولكن جدران قلبه من حديد، فيجعل بينه وبين الظاهرة التاريخيّة جداراً ضخماً، وحصناً قوياً.

حتّى الأعداء بكوا على مأساة الحسينعليهم‌السلام

إنّ مأساة الحسينعليه‌السلام أبكت حتّى أعداءه، وقد روي أنّ حرملة الذي قتل الطفل الرضيع قد بكى أيضاً؛ فعندما جيء به إلى المختار الثقفي سأله المختار قائلاً: أما رقّ قلبك للحسين وأطفاله ونسائه؟!

فقال حرملة: بلى رقّ قلبي عندما رأيت الطفل الرضيع يتفجّر عنقه دماً، ثمّ التفت إلى أبيه وتبسّم في وجهه، في تلك الساعة رقّ قلبي لمنظر الحسين، ولمنظر الطفل الرضيع وهو يُذبح على يديه.

وهكذا فقد أبكى الحسينعليه‌السلام أعداءه بمأساته، فإن كنت لا تبكي، ولا تستفيد من هذه المأساة عبرة وخشوعاً في القلب ومعالجة لقسوته فلا بدّ أن تنعى الإنسانيّة في نفسك. وإلى هذا يشير تعالى في قوله:( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ ) (الزمر / ٢٢)؛ ذلك لأنّ قسوة القلب هي أشد أنواع الشقاء عند الإنسان، فعندما يكون قلب الإنسان قاسياً موغلاً في القسوة فإنه سوف لا يتأثّر بأي شيء يزيل هذه القسوة.

ومن هنا فإنّ هناك بعض الإرشادات التي لو اتّبعت فإن حكمة هذه الذكرى العظيمة سوف لن تكون بعيدة عنا إن شاء الله تعالى.

٥٩

كيف نعيش ذكرى الحسينعليه‌السلام دوماً؟

١ - حاول أن تعيش المأساة في شهر محرم الحرام بكل أبعادها وكأنك تعيشها.

٢ - عليك أن توحي لنفسك باستمرار أن الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته كانوا بشراً مثلنا، ولكنهم رغم ذلك ارتفعوا إلى هذا المستوى من الشجاعة والتضحية والفداء؛ فلقد استشهد جميع أعزة الحسينعليه‌السلام أمام ناظريه إلاّ أنه كان كما يقول الراوي: فوالله ما رأيت مفجوعاً قط كالحسين؛ كلما اُصيب بمصيبة ازداد عزماً وقوة! وهذه هي الشجاعة الحقيقية التي هي أن تقتحم الموت خطوة فخطوة بكلِّ إيمان وعزم دون أن تتردّد لحظة واحدة.

وقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام إلى آخر لحظة من لحظات حياته شديد العزم حتّى وهو واقع على تراب كربلاء يعالج الموت في اللحظات الأخيرة. فلنتعلم الشجاعة منهعليه‌السلام ؛ فمن العار علينا أن لا نكون شجعان ونحن ندّعي السير على دربه وانتهاج نهجه، فلنسأل أنفسنا: لماذا كان الحسينعليه‌السلام شجاعاً؟ بل لماذا كان القاسم بن الحسن بتلك الدرجة الرفيعة من البطولة دفعته إلى أن يقول للإمام الحسينعليه‌السلام حينما سأله:« يا بني، كيف الموت عندك؟ » . قال: يا عم، أحلى من العسل(١) .

وهكذا الحال بالنسبة إلى الآخرين من أهل البيت، فما الذي جعل علياً الأكبر شجاعاً؟ وما الذي جعل العباس وفياً؟ وما الذي دفع زينب إلى أن تكون صبورة؟

____________________

(١) مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني / ٢٢٨.

٦٠