تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 75219
تحميل: 9433


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75219 / تحميل: 9433
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يُحدِّثنا ما لقيَ من قومه بمكَّة وبعد المهاجرة إلى المدينة، فمكث عنّا ليلة لم يأتنا حتّى طال ذلك علينا بعد العشاء، قال: قلنا: ما أمكثك عنّا يا رسول الله؟ قال: (طرأ عليّ حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتّى أقضيه)، فسألنا أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أصبحنا: كيف تحزِّبون القرآن؟ قالوا: نحزِّبه خمس سوَر وستّ سوَر وسبع سوَر وتسع سوَر وإحدى عشرة سورة. وحزب المفصّل من سورة ق حتّى تختم (1) .

والظاهر أنَّ الجملة الأخيرة هي من كلام أوس نفسه، تفريعاً على ما ذكره أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنَّ القرآن لم يؤلَّف حينذاك مصحفاً بين دفَّتين، وإنَّما كانت السوَر مكتملة، فكانوا يقسِّمون السوَر إلى أعداد متساوية؛ لتسهل قراءتها حسب تقسيم الأيّام أو الأوقات.

3 - مخالفات في رسم الخطّ:

لا شكَّ أنَّ الخطَّ وضِع ليعبِّر عن المعنى بنفس اللفظ الذي ينطق به، فالكتابة في الحقيقة قيد للَّفظ المعبِّر عن المعنى المقصود، وعليه فيجب أن تكون الكتابة مطابقة للَّفظ المنطوق به تماماً؛ ليكون الخطّ مقياساً للّفظ من غير زيادة عليه أو نقصان.

غير أنَّ أساليب الإنشاء والكتابة تختلف عن هذه القاعدة بكثير، ولكن لا بأس بذلك ما دام الاصطلاح العامّ جارياً عليه، فلا يسبِّب اشتباهاً أو التباساً في المراد.

هذا، ورسم الخطّ في المصحف الشريف تخلَّف حتّى عن المصطلح العامّ، ففيه الكثير من الأخطاء الإملائية وتناقضات في رسْم الكلمات، بحيث إذا لم

____________________

(1) مسند أحمد بن حنبل: ج4، ص343.

٢٠١

يكن سماع وتواتر في قراءة القرآن، ولا يزال المسلمون يتوارثونها جيلاً بعد جيل في دقَّة وعناية بالغة؛ لولا ذلك لأصبح قراءة كثير من كلمات القرآن - قراءة صحيحة - مستحيلة.

ويرجع السبب - كما تقدَّم - إلى عدم اضطلاع العرب بفنون الخطّ وأساليب الكتابة ذلك العهد، بل ولم يكونوا يعرفون الكتابة غير عدد قليل، خطّاً بدائيّاً رديئاً للغاية، كما يبدو على خطوط باقية من الصدر الأوَّل (1) .

كما ويبدو أنَّ الذين انتدبهم عثمان لكتابة المصحف كانوا غاية في رداءة الخطّ وجهلاً بأساليب الكتابة، حتّى ولو كانت بدائية آنذاك.

يحدِّثنا ابن أبي داود - كما سبق -: أنَّهم بعدما أكملوا نُسَخ المصاحف رفعوا إلى عثمان مصحفاً، فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى فيه شيئاً من لحْن ستقيمه العرب بألسنتها، ثمَّ قال: أمّا لو كان المُملي من هُذَيل، والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا (2) .

يبدو من هذه الرواية: أنَّ عثمان كان يعلم من هُذيل معرفتها بأسلوب الإنشاء ذلك الوقت، ومن ثقيف حُسن كتابتها وجودة خطِّها، الأمر الذي فَقَده في المصحف الذي رُفع إليه، ومن ثمَّ يؤخَذ عليه انتدابه الأوَّل الذي تمَّ من غير فحص ولا عناية!.

وروى الثعلبي في تفسيره - عند قوله تعالى: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (3) - أنَّ عثمان قال: إنَّ في المصحف لحْناً ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيِّره - أي ألا تصحِّحه -؟ فقال - عن تكاسل أو تساهل -: دعُوه؛ فإنَّه لا يحلِّل حراماً ولا يحرِّم حلالاً (4) .

____________________

(1) راجع المقدّمة لابن خلدون: ص419 و438.

(2) المصاحف: ص32 - 33.

(3) طه: 63.

(4) دلائل الصدق للمظفّر: ج3، ص196.

٢٠٢

هذا، ولابن روزبهان - هنا - محاولة فاشلة، قال: وأمّا عدم تصحيح لفظ القرآن؛ لأنَّه كان يجب عليه (على عثمان) متابعة صورة الخطّ، وهكذا كان مكتوباً في المصاحف، ولم يكن له التغيير جائزاً، فتركه؛ لأنَّه لُغة بعض العرب! (1).

ما ندري ماذا يعني بقوله: (كان مكتوباً في المصاحف) أيّ مصاحف؟ وكيف يُجمع بين قوله هذا وقوله أخيراً: (لأنَّه لغة بعض العرب)؟!

وعلى أيّ تقدير، فإنَّ تساهل المسؤولين ذلك العهد أعقب على الأمّة - مع الأبد - مكابدة أخطاء ومناقضات جاءت في المصحف الشريف، من غير أن تجْرؤ العرب أو غيرهم على إقامتها عِبر العصور.

نعم، لم يمسُّوا القرآن بيَد إصلاحٍ بعد ذلك قطّ لحكمةٍ، هي خشية أن يقع القرآن عُرضة تحريف أهل الباطل بعدئذٍ؛ بحجَّة إصلاح خطئه أو إقامة أَوْده، فيصبح كتاب الله معرَضاً خصباً لتلاعب أيدي المُغرضين من أهل الأهواء.

وقد قال علي (عليه السلام) كلمته الخالدة: (إنَّ القرآن لا يُهاج اليوم ولا يحوَّل) (2)، فأصبحت مرسوماً قانونياً التزم به المسلمون مع الأبد.

* * *

ملحوظة: ليس وجود المخالفة لرسم الخطّ في المصحف الشريف بالذي يمسّ كرامة القرآن:

أوَّلاً: القرآن - في واقعه - هو الذي يُقرأ، لا الذي يُكتب، فلتكن الكتابة بأيِّ أسلوب، فإنَّها لا تضرّ شيئاً مادامت القراءة باقية على سلامتها الأُولى، التي كانت تُقرأ على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وصحابته الأكرمين.

ولا شكَّ أنَّ المسلمين احتفظوا على نصِّ القرآن بلفظه المقروء صحيحاً، منذ الصدر الأوَّل فإلى الآن، وسيبقى مع الخلود في تواتر قطعيّ.

____________________

(1) نفس المصدر: ص197.

(2) تفسير الطبري: ج27، ص104.

٢٠٣

ثانياً: تخطئة الكتابة هي استنكار على الكتَبة الأوائل جهْلهم أو تساهلهم، وليس قدحاً في نفس الكتاب الذي ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (1) .

ثالثاً: إنّ وجود أخطاء ظلَّت باقية لم تتبدَّل، يفيد المسلمين في ناحية احتجاجهم بها على سلامة كتابهم من التحريف عِبر القرون، إذ إنّ أخطاء إملائية لا شأن لها، وكان جديراً أن تُمدّ إليها يد الإصلاح، ومع ذلك بقيت سليمة عن التغيير؛ تكريماً بمقام السلف فيما كتبوه، فأجدر بنصِّ الكتاب العزيز أن يبقى بعيداً عن احتمال التحريف والتبديل رأساً.

وقلنا - آنفاً -: إنَّ الحكمة في الإبقاء على تلكمُ الأخطاء كانت هي الحذر على نفس الكتاب أن لا تمسَّه يد سوء بحجَّة الإصلاح، ومن ثمَّ أصبحت سدّاً منيعاً دون أطماع المغرضين؛ وبذلك بقي كتاب الله يشقّ طريقه إلى الأبدية بسلام.

نماذج من مخالفات الرسم:

وربَّما نرسم جدولاً يستوعب الأخطاء الواقعة في الرسم العثماني مستقصاة، ونشير هنا - الآن - إلى أهمّ أخطاء وقعت فيه كنماذج بارزة:

1 - (واختلف الليل والنَّهار) البقرة: 164، والصَحيح: واختلاف اللَّيل ...

2 - (علّم الغيوب) المائدة: 109، والصحيح: علاّم .

3 - (يأتيهم أنبؤا) الأنعام: 5، والصحيح: أنباء .

4 - (وينؤن عنه) الأنعام: 26، والصحيح: ينأون عنه .

5 - (بالغداوة) الأنعام: 52، والصحيح: بالغداة ، والواو زائدة في الرسم بلا سبب معروف.

____________________

(1) فصّلت: 42.

٢٠٤

6 - (فيكم شركؤا) الأنعام: 94، والصحيح: شركاء.

7 - (ما نشؤا) هود: 87، والصحيح: ما نشاؤا .

8 - (إنَّه لا يايئس) يوسف: 87، والصحيح: لا ييأس .

9 - (ألم يأتكم نبؤا) إبراهيم: 9، والصحيح: نبأ .

10 - (فقال الضُّعفؤا) إبراهيم: 21، والصحيح: الضعفاء .

11 - (ولا تقولنَّ لشايء) الكهف: 23، والصحيح: لشيء .

12 - (لو شئت لتخذت) الكهف: 77، والصحيح: لاتَّخذت .

13 - (قال يبنؤمَّ) طه: 94، والصحيح: يا ابن أُمَّ.

14 - (أو لأاذبحنَّه) النمل: 21، والصحيح: لأذبحنّه، وقد زيدت ألف في الرسم بلا سبب معقول.

15 - (يا أيّها الملؤا) النمل: 29، والصحيح: الملأ.

16 - (شفعؤا) الروم: 13، والصحيح: شفعاء .

17 - (لهو البلؤ المبين) الصافات: 106، والصحيح: البلاء.

18 - (وأصحاب لئيكة) ص: 13، والصحيح: الأيكة .

19 - (وجاىء بالنبيّين) الزمر: 96، والصحيح: وجيء .

20 - (وما دعؤا الكافرين) غافر: 50، والصحيح: وما دعاء .

تلك نماذج عشرون كان اللحن فيها عجيباً جداً، ولاسيَّما إذا علمنا أنَّ المصاحف آنذاك كانت مجرَّدة عن كلِّ علامة تشير إلى إعجام الحرف، أو إلى حركة الكلمة، أو هجاها الصحيح، مثلاً: من أين يعرف قارئ المصحف أنَّ (لتّخذت) مشدَّدة التاء، وأيُّ فرْق بينها وبين (لتخذت) مخفّفة بلام تأكيد؟ أو كيف يعرف أنَّ ألف (لأاذبحنّه) زائدة لا تقرأ؟ أو أنَّ إحدى اليائين زائدة في

٢٠٥

قوله: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ) (1) ، وكذلك لا يدري في (نشؤا) - بلا علامة - أنَّ الواو زائدة، والألف ممدودة، والهمزة تُلفظ بعد الألف، إذ ليس في اللفظ ما يشير إلى ذلك بتاتاً وهكذا...!.

مناقضات الرسم العثماني:

والشيء الأغرب وجود مناقضات في رسم المصحف، بينما الكلمة مثبتة في موضع برسم خاصّ، وإذا هي بذاتها مرسومة في موضعٍ آخر بما يخالفها، الأمر الذي يثير العجَب، ويبعث على الاعتقاد بأنَّ الكَتَبة الأوائل كانوا أبعد شيء عن معرفة أصول الكتابة، أو الإتقان من وحدة الرسم على الأقلّ.

وإليك نموذجاً من ذلك التناقض الغريب:

* * *

____________________

(1) الذاريات: 47.

٢٠٦

٢٠٧

تلك - أيضاً - أمثلة عشرون اخترناها من التناقض الموجود في الرسم العثماني، وربّما تزداد غرابتك - أيّها القارئ - إذا ما لاحظت التناقض في إملاء سورة واحدة، كالمثال رقم 18 سورة الكهف، ورقم 19 سورة المؤمنون، كما رسموا (بسطة) في البقرة 247 بالسين، وفي الأعراف 69 بالصاد، وكذلك (يبسط) في الرعد 26 بالسين، وفي البقرة 245 بالصاد، وهذا أيضاً من التناقض في سورة واحدة... إلى غير ذلك وهو كثير.

4 - اختلاف المصاحف:

كانت الغاية من إرسال مصاحف إلى الآفاق هي: رعاية جانب وحدة الكلمة؛ لئلاّ تختلف، وليجتمع المسلمون على قراءةٍ واحدة ونبْذ ما سواها، فكان يجب أن تكون هذه المصاحف مستنسخة على نمطٍ واحد، وأن تكون موحَّدة من جميع الوجوه، ومن ثمَّ كان يجب على أعضاء المشروع أن يتحقَّقوا من وحدتها ويقابلوا النُسخ مع بعضها في دقّة كاملة.

غير أنَّ الواقعية بدَت بوجه آخر، وجاءت المصاحف يختلف مع بعضها البعض، كان المصحف المدَني يختلف عن المصحف المكّي، والمصحف المكّي يختلف عن الشامي، وهذا عن البصري والكوفي وهكذا، الأمر الذي يدلّ بوضوح أنَّ اللجْنة تساهلت في أمر المقابلة أيضاً، فلم يأخذوا بالدقَّة الكاملة في جانب توحيد المصاحف المرسَلة إلى الآفاق.

وصار هذا الاختلاف في المصاحف من أهمّ أسباب نشوء الاختلاف القرائي فيما بعد، وفتح باب جديد لاختلاف القراءات في حياة المسلمين.

كان قارئ كلِّ مِصر ومُقريها يلتزم طبعاً بقراءة ما في مصحفهم من نصٍّ، وكان عليه أيضاً أن يختار نوع الحرف والشكل حسب ما يبدو له من ظاهر الكلمة المثبتة في المصحف بلا نُقَط ولا تشكيل، ومن ثمَّ كانت السلايق والمذاويق،

٢٠٨

وكذلك الأنظار والأفهام تختلف في هذا الاختيار.

أمّا الرواية والسماع عن الشيخ، فهي لا تنضبط تماماً وفي جميع الوجوه إذا لم تكن مثبتة في سجلٍّ، أو في نصِّ المصحف ذاته، فلابدَّ أن يقع فيها خلط أو اشتباه من جانب النقل أو السماع، ولاسيَّما إذا طالت الفترة بين الشيخ الأوَّل والقارئ الأخير.

ومن ثمَّ ظهرت: قراءة مكَّة، وقراءة المدينة، وقراءة البصرة، وقراءة الكوفة، وقراءة الشام وهكذا، الأمر الذي كان كرّاً على ما فرّوا منه.

وزعم الزرقاني أنَّ هذا الاختلاف في النصّ كان عن عمْدٍ منهم وعن قصْد، لحكمةِ تحمُّل اللفظ كلَّ قراءة ممكنة، قال: وكتبوها متفاوتة في إثباتٍ وحذفٍ وبدَل وغيرها؛ لأنَّ عثمان قصد اشتمالها على الأحرف السبعة، فكانت بعض الكلمات يُقرأ رسمها بأكثر من وجه نحو (فتبيَّنوا) و(ننشزها).

أمّا الكلمات التي لا تَحتمل أكثر من قراءة، فإنَّهم كانوا يرسمونها في بعض المصاحف برسم، وفي بعض آخر برسم آخَر، كـ(وصّى) بالتضعيف، و(أوصى) بالهمز، وكذلك (تحتها الأنهار) في مصحف، و(من تحتها الأنهار) بزيادة (من) في مصحف آخَر... (1) .

قلت: هذا تعليل عليل، بعد أن كان الغرض من نَسْخ المصاحف وتوحيدها، هو رفع الاختلاف في القراءات، كان أحدهم يقول: قراءتنا خير من قراءتكم.

فلئلاّ يقع مثل هذا الجدل المرير تأسَّس المشروع المصاحفي باتّفاق من آراء الصحابة، أمّا وبعد أن أَنجزت اللجْنة مهمَّتها، وإذا بدواعي الاختلاف - الاختلاف في القراءة ذاتها - موجودة.

أمّا قضيَّة الأحرف السبعة المفسَّرة إلى القراءات السبْع، فحديث مشتبه ربَّما

____________________

(1) مناهل العرفان: ج1، ص251.

٢٠٩

بلغ تفسيره إلى أربعين معنى (1) ، وأوهَن المعاني هو: تفسيره بالقراءات، إذ لم يثبت أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قرأ القرآن على سبعة وجوه، كما أنَّ لاختلاف القرّاء في قراءتهم عِللاً وأسباباً تخصّهم هم، وقد فصَّلها أبو محمَّد مكّي بن أبي طالب في كتابه (الكشف عن وجوه القراءات وعِللها وحُججها) فراجع، وقد تكلَّمنا عن حديث الأحرف السبعة في فصل خاصّ يأتي إن شاء الله.

هذا، وأمّا الأستاذ الأبياري فإنَّه يرى أنَّ هذا الاختلاف إنَّما كان بين مصاحف سبقت مصحف عثمان، وجاء هذا الأخير ليرفع تلكم الاختلافات (2) .

لكنَّها نظرةٌ تخالف النصَّ القائل: بأنَّ الاختلاف كان في نفس مصاحف عثمان (3) .

وعلى أيّة حال، فإنَّ الاختلاف بين المصاحف المبعوثة إلى الآفاق شيء واقع ويؤسف عليه، وكانت البذرة التي انبثق منها اختلاف القراءات فيما بعد.

وفيما يلي عرض نموذجي عن اختلاف مصاحف الآفاق، اعتمدنا فيه على نصّ ابن أبي داود في كتابه (المصاحف) (4) .

ملحوظة: مصحفنا اليوم يتوافق أكثريّاً مع مصحف الكوفة، سوى مواضع نرمز إليها في الجدول التالي بعلامة (*).

غير أنَّ مصحف البصرة كان أدقَّ من سائر المصاحف - كما أشار إليه حديث الشامي الآنف (5) -.

تدلّنا على ذلك الآية 87 من سورة المؤمنون، إنَّها في مصحف البصرة: (قل مَن ربّ السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله) ، وهي في مصحف الكوفة وغيرها: (سيقولون لله).

____________________

(1) راجع الإتقان: ج1، ص45.

(2) تاريخ القرآن لإبراهيم الأبياري: ص99.

(3) راجع المصاحف: ص39.

(4) المصدر السابق.

(5) تقدم في صفحة: 194.

٢١٠

وكذلك الآية 89 من نفس السورة، والآية 33 من سورة فاطر، مثبتة في مصحف البصرة: (من ذهبٍ ولؤلؤ) ، وفي غيره: (ولؤلؤاً).

وهكذا الآية 16 من سورة الإنسان في مصحف البصرة: (قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّة ٍ) ، وفي غيره: (قواريراً * قواريراً من فضة) . .. إلى غير ذلك.

وإليك جدولاً نموذجيّاً يعيِّن مواضع الاختلاف من مصاحف الآفاق: الشام، الكوفة، البصرة، مكّة، أهمّ البلاد التي أُرسلت إليها المصاحف، ومقارنتها مع المصحف الإمام (مصحف المدينة):

* * *

٢١١

٢١٢

٢١٣

٢١٤

القرآن في أطوار الأناقة والتجويد:

لم يزل القرآن - منذ الصدر الأوَّل - في طور التجويد والتحسين، لاسيَّما في ناحية كتابته وتجميل خطَّه من جميل إلى أجمل، وقد أسهم الخطّاطون الكبار في تجويد خطِّ المصاحف وتحسين كتابتها.

وأوَّل مَن تنوَّق في كتابة المصاحف وتجويد خطِّها هو: خالد بن أبي الهياج المتوفّى حدود 100 هـ، صاحب أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكان مشهوراً بجمال خطِّه وأناقة ذوقه، ويقال: إنَّ سعداً - مولى الوليد وحاجبه - اختاره لكتابة المصاحف والشِعر والأخبار للوليد بن عبد الملك (86 - 96هـ)، فكان هو الذي خطَّ قِبلة المسجد النبوي بالمدينة بالذهب من سورة الشمس إلى آخر القرآن، وكان قد جدَّد بناءه وأوسعه عمَر بن عبد العزيز والياً على المدينة من قِبل الوليد وبأمرٍ منه، وفرغ من بنائه سنة 90 هـ (1) .

وطلب إليه عمَر بن عبد العزيز أن يكتب له مصحفاً على هذا المثال، فكتب له مصحفاً تنوَّق فيه، فأقبل عمَر يقلِّبه ويستحسنه، ولكنَّه استكثر من ثمنه فردَّه عليه، والظاهر أنَّ ذلك كان أيّام خلافته (99 - 101هـ) التي كان قد تزهَّد فيها.

قال محمَّد بن إسحاق - ابن النديم -: رأيت مصحفاً بخطِّ خالد بن أبي الهياج، صاحب علي (عليه السلام)، وكان في مجموعة خطوط أثرية عند محمَّد بن الحسين المعروف بابن أبي بعرة، ثمَّ صار إلى أبي عبد الله بن حاني (رحمه الله) (2) .

وقد ظلَّ الخطّاطون يكتبون المصاحف بالخطِّ الكوفي حتّى أواخر القرن الثالث الهجري، ثمَّ حلَّ محلَّه خطُّ النَسْخ الجميل في أوائل القرن الرابع على يد الخطّاط الشهير محمَّد بن عليّ بن الحسين بن مقلة (272 - 328هـ).

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج3، ص30 و36.

(2) الفهرست: الفنّ الأوّل من المقالة الأُولى ص9، والفنَّ الأوّل من المقالة الثانية ص46.

٢١٥

قيل: إنَّه أوَّل مَن كتب خطَّ الثلث والنسْخ، وأوَّل مَن هَندس الحروف - إذ كان بارعاً في علم الهندسة - ووضع قواعدها وأصول رسمها، واتَّفق الباحثون أنَّ الفضل الأكبر في تطوير وتحسين الخطِّ العربيّ الإسلامي وتنويعه، يرجع إلى هذا الخطّاط الماهر الذي لم تنجب الأمّة الإسلامية لحدِّ الآن خطّاطاً بارعاً مثله.

وقد نُسب عدد من المخطوطات الأثريَّة إليه، كالمصحف الموجود في متحف هراة بأفغانستان، ويقال: إنَّه كتبَ القرآن مرَّتين (1) .

وقد بلغ خطّ النسخ العربي ذروَته في الجودة والحُسن في القرن السابع على يد الخطَّاط المستعصمي، ياقوت بن عبد الله الموصلي (ت 689هـ)، كتب سبعة مصاحف بخطِّه الرائع الذي كان يُجيده إجادة تامَّة، ويكتب بأنواعه المختلفة حتّى صار مثلاً يُقتدى به (2) .

وهكذا صارت المصاحف تُكتَب على أسلوب خطِّ ياقوت حتّى القرن الحادي عشر، ومنذ مفتتح القرن الثاني عشر اهتمَّ الأتراك العثمانيِّون عنايتهم بالخطِّ العربيِّ الإسلامي، لاسيَّما بعد فتح سلطان سليم مصر وزوال حكم المماليك عنها، فجعل الخطّ العربي يتطوَّر على أيدي الخطّاطين الفُرس الذين استخدمهم العثمانيّون في إمبراطوريتهم.

وقد نقل السلطان سليم جميع الخطّاطين والرسّامين والفنّانين إلى عاصمته، وأضافوا للخطِّ العربي أنواع جديدة، لازالت تُستعمل في الكتابات الدارجة: كالخطِّ الرقعي، والخطِّ الديواني، والخطّ الطغرائي، والخط الإسلامبولي وغيرها.

ومن الخطّاطين العثمانيّين الذين ذاع صِيتهم: الحافظ عثمان (ت 1110هـ)، والسيد عبد الله أفندي (ت 1144هـ)، والأستاذ راسم (ت1169هـ)، وأبو بكر ممتاز بك مصطفى أفندي الذي اخترع خطّ الرقعة، وهو أسهل الخطوط العربيَّة

____________________

(1) الخطّ العربي الإسلامي لتركي عطية: ص155. والخطّاط البغدادي ص16.

(2) الخطّ العربي الإسلامي: ص171. مصوَّر الخطّ العربي لناجي المصرف: ص92.

٢١٦

وأبسطها استعمالاً، وقد وضع قواعده وكتب به لأوَّل مرّة في عهد السلطان عبد المجيد خان سنة 1280هـ (1) .

أمّا طباعة المصحف الشريف فقد مرَّت - ككتابته خطّاً - بأطوار التجويد والتحسين، فلأوَّل مرَّة ظهر القرآن مطبوعاً في البندقية في حدود سنة 950هـ = 1530م، لكنَّ السلطات الكنيسيّة أصدرت أمراً بإعدامه حال ظهوره.

ثمَّ قام (هنلكمان) بطبع القرآن في مدينة (هانبورغ) - ألمانيا - سنة 1104هـ = 1694م، ثمَّ تلاه (مراكى) بطبعه في (بادو) سنة 1108هـ = 1698م.

وقام مولاي عثمان بطبع القرآن بطبعةٍ إسلامية خالصة في مدينة (سانت بتر سبورغ) - روسيا - سنة 1200هـ = 1787م، وظهر مثلها في (قازان).

وقام (فلوجل) بطبعته الخاصَّة للقرآن في مدينة (لينزبورغ) سنة 1252هـ = 1834م، فتلقّاها الأوروبيون بحماسة منقطعة النظير؛ بسبب إملائها السهل، ولكنَّها - كسائر الطبعات الأوربية - لم تنجح في العالم الإسلامي.

وأوَّل دولة إسلامية قامت بطبع القرآن - فكان نصيبها النجاح - هي: إيران (2) ، طبعت طبعتين حجريَّتين جميلتين ومنقَّحتين في حجم كبير، مع ترجمة موضوعة تحت كلِّ سطر من القرآن، ومفهرستين بعدَّة فهارس: إحداهما كانت في طهران سنة 1243هـ = 1828م، والأخرى في تبريز 1248هـ = 1833م.

وظهرت في الهند - في هذا العهد - أيضاً عدَّة طبعات.

ثمَّ عُنيت الأستانة - تركيا العثمانية - ابتداءً من سنة 1294هـ = 1877م بطبع القرآن طبَعات أنيقة ومتقنة جدّاً.

وقامت روسيا المَلكية عام 1323هـ = 1905م بطبع قرآن كُتب بخطٍّ كوفي

____________________

(1) الخط العربي الإسلامي: ص123.

(2) مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي صالح: ص99. وينقل عن المستشرق (بلاشير) معلومات هامَّة بهذا الصدد اعتمدناها في هذا العَرْض.

٢١٧

قديم، في حجم كبير، يُظنَّ أنّه أحد المصاحف العثمانيَّة الأُولى، خالٍ عن النُقَط والتشكيل، سقطت من أوَّله ورقات، وناقص من آخره أيضاً، يبتدئ من قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) (1) وينتهي إلى قوله: ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2) عثروا عليه في سمرقند، فامتلكته المكتبة الملَكيَّة في بتر سبورغ، ثمَّ تولّى طبعه معهد الآثار في طشقند طبعة فوتوغرافية على نفس الرسم والحجم في خمسين نسخة، وأهداها إلى أهمّ جامعات البلاد الإسلامية، ومنها نسخة في مكتبة جامعة طهران مسجَّلة برقم المطبوعات (14403 DSS ).

وأخيراً قامت مصر بطبعة ممتازة للمصحف الشريف سنة 1342هـ = 1923م، تحت إشراف مشيخة الأزهر، وبإقرار لجْنةٍ عيَّنتها وزارة الأوقاف، وقد تلقّى العالم الإسلامي هذه الطَبعة بالقبول، وجرت عليها سائر الطبعات.

كما ظهرت في العراق سنة 1370هـ = 1950م طبعة بارزة أنيقة للقرآن، وهكذا اهتمّت الأُمم الإسلامية في مختلف الأقطار بطبع هذا الكتاب ونشْره على أحسن أسلوب وأجمل طراز، ولا تزال.

* * *

____________________

(1) البقرة: 8.

(2) الزخرف: 4.

٢١٨

القراءات في نشأتها وتطوّرها

القراءات في نشأتها الأُولى.

عوامل نشوء الاختلاف.

- بداءة الخطّ.

- خُلوّه عن النُقَط.

- تجريده عن الشكل.

- إسقاط الألِفات.

- تأثير اللهجة.

- تحكيم الرأي والاجتهاد.

٢١٩

القراءات في نشأتها وتطوّرها

القراءات في نشأتها الأُولى:

القراءة - وتعني وجهاً من محتملات النصّ القرآني -: مصطلح قديم يرجع عهدها إلى عهد الصحابة الأوَّلين، حيث عمَد جماعة من كبار صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد وفاته إلى جمْع القرآن في مصاحف: كعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، والمقداد بن الأسود وأضرابهم، وربَّما اختلفوا في ثبْت النصّ أو في كيفية قراءته، ومن ثمَّ اختلفت مصاحف الصحابة الأُولى، وكان كلُّ قُطرٍ من أقطار البلاد الإسلامية تقرأ حسب المصحف الذي جمعَه الصحابيّ النازل عندهم.

كان أهل الكوفة يقرأون على قراءة ابن مسعود، وأهل البصرة على قراءة أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على قراءة أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على قراءة أُبَي بن كعب، وهكذا حسبما تقدَّم تفصيله.

واستمرَّ الحال إلى عهد عثمان، حيث تفاقم أمر الاختلاف، ففزع لذلك لفيف من نبهاء الأمّة أمثال: حذيفة بن اليمان، فأشاروا على عثمان أن يقوم بتوحيد المصاحف قبل أن يذهب كتاب الله عُرْضة الاختلاف والتمزيق.

٢٢٠