تلخيص التمهيد الجزء ١

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 459

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 75224
تحميل: 9435


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75224 / تحميل: 9435
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المُحكم والمُتشابه

حقيقةُ الإحكام والتشابُه:

الإحكام: هو الإتقان، يوصف به الكلام إذا كان ذا دلالة واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني، مأخوذ من الحَكَم (بالفتح) بمعنى المنع والسدّ، ومنه حَكَمة اللجام (بفتحات): ما أحاط بحنَكَي الفرس، سُمّيت بذلك؛ لأنّها تمنعه من الجَرْيِ الشديد، قاله ابن فارس.

فإحكام الكلام: إتقانه تعبيراً وأداءً بالمقصود، وهذا كأكثر آيات التشريع والمواعظ والآداب.

والتشابه: مأخوذ من تشابه الوجوه، أي تماثُلَ بعضها مع البعض، بحيث يَحتمل وجوهاً من المعاني، ومن ثمّ كان خفاء في وجه المقصود، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) (1) .

قال الراغب: المحكَم ما لا تعرُض فيه شُبهة، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، والمتشابه ما لا يُنبئ ظاهره عن المراد.

هذا هو تعريف المتشابه بوجهٍ عام، ومن ثمَّ قد يتَّحد مع المبهم الَّذي يكشفه التفسير، في حين أنَّ المتشابه بحاجة إلى التأويل، كأكثر آيات الخلْق والتقدير والصفات والأفعال.

____________________

(1) البقرة: 70.

٤٢١

وعليه: فالمتشابه - حسَب المصطلح القرآني -: هو اللفظ المحتمِل لوجوه من المعاني، وكان موضع رَيبٍ وشُبهة، ومن ثمَّ فهو كما يصلح للتأويل إلى وجه صحيح يصلُح للتأويل إلى وجهٍ فاسد؛ ولأجل هذا الاحتمال وقع مطمع أهل الزَيغ والفساد، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله إلى ما يتوافق وأهدافهم الضالَّة.

ما بين المتشابه والمبْهَم من نِسبة:

النسبة بين المتشابه والمبهم هو العموم المطلق؛ لأنّ كل متشابه مبهَم في معناه، وليس كلّ مبهَم متشابهاً، فقوله تعالى: ( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ) (1) إنّها من المتشابهات، وقد عَلَتها طبقة من الإبهام أيضاً.

أمّا التشابه فمِن جهة نِسبة الإضلال إليه سُبحانه، وأمّا الإبهام فمِن جهة كيفية حصول ذلك الانشراح والضِيق، ولاسيّما وجه الشبَه في قوله: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ) ، كيف أنّ الضالّ يشبه مَن يحاول الصعود في أعماق السماء؟.

وسوف نشرح في مجاله الآتي هذه الموارد ونجيب على هذه الأمثلة إن شاء الله تعالى.

وقد لا تكون الآية المبهمة من المتشابهات، فهي إلى التفسير أحوَج منها إلى التأويل، كقوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء ) (2) ، فالآية بأمسّ حاجة إلى تفسير يجيب على عِدة أسئلة يبعثها إبهام في ظاهر الآية.

أوّلاً: كيف تحقّق هذا التعليم الَّذي باهى الله به ملائكته؟.

ثانياً: ما هي الأسماء الَّتي يعود عليها ضمير التأنيث تارةً وضمير الجمْع المذكَّر أخرى؟.

____________________

(1) الأنعام: 125.

(2) البقرة: 31.

٤٢٢

وثالثاً: كيف استسلمت الملائكة لهذه المباهاة واعترفت بعجْزها وقصورها مع الأبد؟.

إذاً لا تلازم بين الإبهام والتشابه كلّياً، وعليه فتفترق موارد الحاجة إلى التفسير عن موارد الاحتياج إلى التأويل، فالتفسير: هو كشف القناع عن اللفظ المشكل، أي المبهَم، سواء أكان متشابهاً أمْ لم يكن. والتأويل: هو إرجاع الكلام إلى أحد محتملاته العقلانية، ولو كان في ظاهره واضح المدلول.

ما بين عوامل التشابه والإبهام من فَرْق:

ولتوضيح ما بين المتشابه والمبهم من فرْق، نذكر من عوامل التشابه الَّتي تختلف تماماً عن عوامل الإبهام.

يعود الفرْق بين تشابه الآية وإبهامها إلى ما بين عوامل الأمرَين من اختلاف، حيث من أهمّ عوامل التشابه هو: دقَّة المعنى وسموّ مستواه عن المستوى العامّ، مضافاً إلى رقّة التعبير وجزالة الأداء، كما في قوله تعالى: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) (1) ، إذ لا يخفى لُطف هذا التعبير الرقيق عن مفهوم هو من أدقّ المفاهيم الإسلامية في الأمر بين الأمرين (لا جبْر ولا تفويض) ، ومن ثمّ خفيَ على غالبية الناس إدراك حقيقته الأصلية، من عدا أولئك الراسخين في العِلم، الَّذين استسهلوا الصعاب بفضْل جهودهم في سبيل اكتساب المعالي.

ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) ، فقد وقع فيها تشبيه ذاته المقدَّسة بالنور، وهو أدقّ تعبير في تقريب ذاته المقدّسة إلى أفهام العامّة، إذ لو قيل للجمهور: أن لا ماهيّة له تعالى، ولا هو جسم، ولا فيه خواصّ الجسم، لم يقتنعوا في الجواب عن موجود وقع الاعتراف به، كيف لا ماهيَّة له ولا هو جسم؟ فإذا قيل لهم: إنّه نور اقتنعوا، في حين أنّ نفس الإجابة صحيحة يعرفها

____________________

(1) الأنفال: 17.

(2) النور: 35.

٤٢٣

الراسخون في العِلم، إذ كما أنَّ النور في المحسوس غير قابل للإدراك ذاتاً، وإنّما يُحسّ به من قِبل إنارته للأشياء، كذلك وجوده تعالى في غير المحسوس لا يُدرك هو، وإنَّما يُدرك بإفاضته الوجود على الموجودات، فالله تبارك وتعالى يتجلّى من خلال كلّ موجود وليس يُدرك ذاتاً، كالنور سبب لإدراك الأشياء وتعجز الأبصار عن إدراكه بالذات (1) .

وأمّا عوامل الإبهام المحوجة إلى التفسير، فتعود إلى جهات أُخَر:

منها: غرابة الكلمة عن المألوف العامّ؛ نظراً لاختصاص استعمالها ببعض القبائل دون بعض، فجاء القرآن ليوحِّد اللغة باستعمال جميع لغات العرب، من ذلك: (صَلداً) بمعنى (نقيّاً) في لُغة هذَيل، و (الإملاق) بمعنى (الجوع) في لُغة لخْم، و (المنسأة) بمعنى (العصا) في لغة حضرموت، و (الودق) بمعنى (المطر) في لغة جَرْهُم، و (بُسَّت) بمعنى (تفتَّتت) في لغة كندة، وهلمّ جرّاً، الأمر الذي دُوّنت لأجْله كُتب غريب القرآن، وهي كثيرة.

ومنها: إشارات عابرة جاءت في عَرْض الكلام، بحيث يحتاج فهْمها إلى درس عادات ومراجعة تاريخ، كالنسيء في سورة التوبة (2) ، والنهي عن إتيان البيوت من ظهورها في سورة البقرة (3) ، أو تعابير إجمالية يحتاج الوقوف على تفاصيلها إلى مراجعة السُنَّة وأقوال السلَف، كقوله تعالى: ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (4) ، و ( وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) (5) ، و ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (6) وأمثال ذلك.

ومنها: تعابير عامّة صالحة لمعانٍ لا يُعرَف المقصود منها إلاّ بمراجعة ذوي الاختصاص، كالدابَّة من سورة النمل: ( أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) (7) ،

____________________

(1) راجع الكشف عن مناهج الأدلّة لابن رشد: ص92 - 93.

(2) آية 37.

(3) آية 189.

(4) وردت في اثنتي عشرة موضعاً من القرآن.

(5) وردت في سبعة مواضع من القرآن.

(6) آل عمران: 97.

(7) النمل: 82.

٤٢٤

والبرهان في سورة يوسف: ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (1) ، والكوثر في: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (2) ، والروح في: ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ) (3) ، وأمثال ذلك.

ومنها: استعارات بعيدة الأغوار، يحتاج البلوغ إليها إلى سبْرٍ وتعمّق كثير، كقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) (4) ، وقوله: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) (5)، ونحو ذلك.

ومن ثمَّ قال الراغب (6) : التفسير إمّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ، نحو: البحيرة، والسائبة، والوصيلة (7) ، أو في وجيز كلام مبيّن بشرح، نحو: ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) (8) ، وإمّا في كلام متضمّن لقصَّة لا يمكن تصويره إلاّ بمعرفتها، كقوله تعالى: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) (9) ، وقوله: ( لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ) (10) .

هذه نماذج من عوامل الإبهام المحوجة إلى تفسير كاشف، وقد تبيَّن أنّها تختلف تماماً عن عوامل التشابه المستدعية لتأويل مقبول، وعليه فلا يشتبه مورد أحدهما بالآخر، وإن كانا يشتركان في خفاء المراد بالنظر إلى ذات اللفظ.

هل في القرآن متشابه؟

لا شكَّ أنّ القرآن - كما هو مشتمل على آيات محكَمات في أكثريَّة غالبة - مشتمل على آيات متشابهات في عدد قليل، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (11) ، ونسبة عدد

____________________

(1) يوسف: 24.

(2) الكوثر: 1.

(3) النبأ: 38.

(4) الرعد: 41.

(5) يس: 65.

(6) بنقل الإتقان: ج2، ص173 الطبعة الأولى.

(7) المائدة: 103.

(8) وردت في سبعة مواضع من القرآن.

(9) التوبة: 37.

(10) البقرة: 189.

(11) آل عمران: 7.

٤٢٥

المتشابهات إلى المحكَمات نسبة هابطة جدّاً، فلو اعتبرنا من مجموع آي القرآن الحكيم ما يربو على ستَّة آلاف آية، فإنّ المتشابهات لا تبلغ المئتين لو أخذنا بالتدقيق وحذْف المكرّرات حسبما يوافيك نماذج منها، وعليه فالمجال أمام مراجعة الكتاب العزيز والارتواء من مناهله العذبة واسع جدّاً.

وقد حاول البعض إنكار وجود آيٍ متشابهة بالذات في القرآن، بحجَّة أنّه كتاب هداية عامّة ( هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ) (1) ، وقد قال تعالى: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (2) .

ومن ثمّ فالتّعبير بالتشابه في آيِ القرآن، إنّما يعني التشابه بالنسبة إلى أُولئك الزائغين الَّذين يحاولون تحريف الكلِم عن مواضعه.

غير أنّ الإنكار لا يصلح علاجاً لواقعيةٍ لا محيص عنها، نعم، لا يصطدم وجود المتشابه في القرآن مع كونه هداية عموم.

أوّلاً: ضآلة جانب المتشابه، بحيث كان الطريق أمام المستهدين بهدى القرآن الكريم فسيحاً جداً.

ثانياً: هداية الكتاب تعني كونه المصدر الأوّل للتشريع وتنظيم الحياة العامَّة، وهذا لا يعني إمكان مراجعة الأفراد بالذّات للقرآن في جميع أحكامه وتشريعاته، إذ لمثل ذلك اختصاصيّون يَعرفون من الكتاب ما لا تعرفه العامَّة، وهم يشكِّلون قيادة الأُمّة على هدى الكتاب؛ وبذلك أصبح القرآن مصباحاً ينير درب الحياة على ركب الإنسانية بشكل عامٍّ.

أمّا الإحكام في سورة هود، فيعني الإتقان والسداد، حيث القرآن ذو أساس مكين لا يتضعضع، وذو مشعل وضّاء لا ينطفئ مع الأبديّة، قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (3) .

____________________

(1) آل عمران: 138.

(2) هود: 1.

(3) الحجر: 9.

٤٢٦

وسنعرض فيما يأتي أنّ من الآيِ المتشابهة ما هي متشابهة بالذات، وإنّما يَعرف الراسخون في العلم تأويلها الصحيح، بفضْل جهودهم وتعمّقهم في أغوار هذا الدين؛ ليستنبطوا من كنوزه المستورة لآلئ وهّاجة تبهر العقول.

* * *

وحاول بعضهم في اتّجاه معاكس، زاعماً أنّ جميع آي القرآن متشابهة، ومن ثمَّ لا يجوز مسّها إلاّ بدلالة نصّ معصوم؛ وبذلك أسقط ظواهر الكتاب عن صلاحية الاستدلال بها أو الاستنباط منها لحُكم شرعي، نظراً لقوله تعالى: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ) (1) ، وبما ورد: (إنّما يَعرف القرآن مَن خوطبَ به) (2) .

وهذا قصور وجفاء، حيث يقول تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (3) ، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فإذا التبسَت عليكم الفِتَن كقِطَع الليل المظلم فعليكم بالقرآن)، كيف الرجوع إلى القرآن لوضح الملتبسات إذا كان هو ملتبساً؟ وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى، فليجْلِ جالٍ بصَره ويفتح للضياء نظَرَه، فإنَّ التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنور)، وقد ورد أيضاً: (إنَّ القرآن فيه تفصيل، وبيان، وتحصيل)، و(هو الفصْل ليس بالهزْل)، (ظاهره أنيق، وباطنه عميق)، (ظاهره حُكم، وباطنه علم) (4) .

أمّا آية الزمر، فتعني تناسق آي القرآن في الإجادة والإيفاء وقوَّة التعبير ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (5) .

____________________

(1) الزمر: 23.

(2) تفسير البرهان للمحدّث البحراني: ج1، ص18.

(3) محمّد: 24.

(4) الأحاديث مستخرجة من الكافي الشريف: ج2، ص599 - 600.

(5) النساء: 82.

٤٢٧

لماذا في القرآن متشابه؟

ولعلَّ معترضاً يقول: هلاّ كانت جميع آي القرآن محكَمات، فكان ذلك أسلم من الالتباس وأقرب إلى طُرُق الاهتداء العامّ!.

قال الإمام الرازي: من الملاحدة مَن طعنَ في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، إذ كيف يكون القرآن مرجع الناس في جميع العصور مع وفْرة دواعي الاختلاف فيه، حيث يجد صاحب كلَِّ مذهب مأربه في القرآن؛ بسبب اختلاف آياته في الدلالة والردّ، الأمر الذي لا يليق بالحكيم تعالى أن يجعل كتابه المبين معرّضاً للجدل وتضارب الآراء، فلو كان جعله نقيّاً من المتشابهات المثيرة للشُبهات كان أقرب إلى حصول الغرَض والمقصود من الهداية العامَّة (1) .

وقد عالجَ ابن رشد الأندلسي - الفيلسوف العظيم - هذه الناحية معالجة دقيقة، صنّف فيها الناس إلى ثلاثة أصناف: صِنف العلماء، وعنى بهم مَن في طبقته من أرباب الحكمة العالية، وصِنف الجمهور ، وهم عامَّة الناس ممّن لم يحظوا بحُليّ العلم شيئاً، وصِنف بين بين ، لا هم في مستوى العلماء ولا مع العامَّة، وعنى بهم أرباب المذاهب الكلامية من الأشاعرة وأصحاب الاعتزال.

قال: وهذا الصِنف الأخير هم الَّذين يوجد في حقِّهم التشابه في الشرع، وهم الّذين ذمّهم الله تعالى، وأمّا عند العلماء فليس في الشرع تشابه؛ لأنَّهم يعرفون من كلّ آية وجه تخريجها الصحيح الذي قصده الشرع، والجمهور لا يشعرون بالشكوك العارضة، بعد أن كانوا أخذوا بالظواهر واستراحوا إليها من غير ترديد.

قال: إنّ التعليم الشرعي هو كالغذاء النافع لأكثر الأبدان، نافع للأكثر وربّما ضرّ بالأقلّ؛ ولهذا جاءت الإشارة بقوله تعالى: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) (2) .

وهذا إنّما يعرض في الأقلّ من الآيات لأقلّ الناس، وهي الآيات الَّتي تضمَّنت

____________________

(1) التفسير الكبير: ج7، ص171.

(2) البقرة: 26.

٤٢٨

الإعلام عن الأشياء المتغيّبة عن الحسّ، ليس لها مثال في المحسوس، فجاء التعبير عنها بالشاهد الَّذي هو أقرب الموجودات إلى تلك الغائبات وأكثرها شبَهاً بها، فربّما عرَضَ لبعض الناس أن يأخذ ذاته لتلزمه الحَيرة والشكّ.

وهذا هو الذي سُمّي في الشرع متشابهاً، الأمر الَّذي لا يعرض للعلماء ولا للجمهور؛ لأنّ هؤلاء هم الأصحّاء الَّذين يلائمهم الغذاء النافع الذي يوافق أبدان الأصحّاء، أمّا غير هذين الصنفين فمرضى، والمرضى هم الأقلّ من الناس، ولذلك قال تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) (1) وهؤلاء هم أهل الجدل والمذاهب الكلامية.

قال: وقد سلَك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكاً ينتفع به الجمهور ويخضع له العلماء، ومن ثمّ جاء بتعابير يفهمها كلّ من الصِنفين: الجمهور يأخذون بظاهر المثال فيتصوّرون عن الممثَّل له ما يشاكل الممثّل به ويقتنعون بذلك، والعلماء يعرفون الحقيقة الَّتي جاءت في طيّ المثال.

مثلاً: لمّا كان أرفع الموجودات في الحسِّ هو النور ضُرب به المثال، وبهذا النحْو من التصوّر أمكن للجمهور أن يفهموا من الموجودات فيما وراء الحسِّ ممّا مثِّل لهم بأمور متخيَّلة محسوسة، فمتى أخَذَ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهرها، لم تعرضْ للجمهور شكٌّ في ذلك، فإذا قيل: الله نور، وأنَّ له حجاباً من نور، وأنَّ المؤمنين يرونه في الآخرة كالشمس في رائعة النهار، لم تعرض للجمهور شُبهة في حقيقة هذه التعابير، وكذلك العلماء لا تعرض لهم شُبهة في ذلك، حيث قد تبرْهَن عندهم أنَّ تلك الحالة هي مزيد عِلم ويقين.

لكن إذا ما صُرِّح بذلك للجمهور بطُلَت عندهم الشريعة كلَّها، وربَّما كفروا بما صُرِّح لهم؛ لأنَّ الجمهور يرون من كلِّ موجود هو المتخيِّل المحسوس، وأنَّ ما ليس بمتخيَّل ولا محسوس فهو عَدَمٌ عندهم.

____________________

(1) آل عمران: 7.

٤٢٩

فإذا قيل: إنّ هناك موجوداً ليس بجسم ولا فيه شيء ممّا يرونه لازم الجسميَّة، ارتفع عنهم التخيُّل وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولاسيّما إذا قيل لهم: إنّه لا خارج العالَم، ولا داخله، ولا فوق، ولا أسفل، ومن ثمَّ لم يصرِّح الشرع بأنّه ليس بجسم، وإنَّما اكتفى بقوله: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (1) ، وقوله: ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (2) .

قال: وأنت إذا تأمّلت الشرع وجدته - مع أنَّه قد ضُرب للجمهور في هذه المعاني المثالات، التي لم يمكنهم تصورّها إلاّ بذلك - قد نبَّه العلماء على تلك المعاني بحقائقها، فيجب أن يوقَف عند حدّ الشرع في نهْج التعليم الذي خصّ به صِنفاً صِنفاً من الناس، وأن لا يخلط التعليمان فتفسد الحكمة الشرعية النبوية؛ ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): (إنّا معشر الأنبياء أُمِرنا أن نُنزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدَر عقولهم) (3) .

وقد انتهج الإمام الرازي نفس المنهج، قال: والسبب الأقوى في هذا الباب: أنّ القرآن كتابٌ مشتملٌ على دعوة الخواصّ والعوامّ جميعاً، وطبائع العوامّ تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمَن سمع من العوام في أوَّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم، ولا متحيّز، ولا مُشار إليه، ظنّ أنّ هذا عدم ونفي فوقع التعطيل، فكان الأصلح أن يُخاطَبوا بألفاظ دالَّة على بعض ما يناسب ما يتوهَّمونه ويتخيّلونه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدلّ على الحقِّ الصريح، فالقسم الأوّل - وهو الذي يخاطَبون به في أوَّل الأمر - يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني - وهو الذي يُكشَف لهم في آخِر الأمر - هي المحكَمات (4) .

* * *

____________________

(1) الشورى: 11.

(2) الأنعام: 103.

(3) الكشف عن مناهج الأدلّة لابن رشد: ص 89 و96 و97 و107.

(4) التفسير الكبير: ج7، ص172، وهو خامس وجه ذكرها بهذا الصدد.

٤٣٠

وهذا المنهج الَّذي انتهجه الفيلسوفان في توجيه وجود المتشابه في القرآن، معالجة للقضية في بعض جوانبها، وهي الآيات المتشابهة المرتبطة مع مسألة المبدأ والمعاد، وليس علاجاً حاسماً للمادَّة من جذورها، إذ تبقى آيات الخلْق والتقدير، والقضاء والقدر، والجبر والاختيار، والعدل والعصمة، وما شاكل، خارجة عن إطار هذا العلاج.

أمّا العلاج الحاسم لمادّة الإشكال في كلّ جوانب المسألة فهو: أنّ وقوع التشابه في مثل القرآن - الكتاب السماوي الخالد - شيء كان لا محيص عنه، ما دام كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم، في حين سُمُوّ فحواه عن مستواهم الهابط.

القرآن جاء بمفاهيم حديثة كانت غريبة عن طبيعة المجتمع البشري آنذاك، ولاسيّما جزيرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات، في حين التزامه في تعبيراته الكلامية نفس الأساليب الّتي كانت دارجة ذلك العهد، الأمر الّذي ضاق بتلك الألفاظ، وهي موضوعة لمعانٍ مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحيق من أن تحيط بمفاهيم هي في درجة راقية وبعيدة الآفاق.

كانت الألفاظ والكلمات الَّتي كانت العرب تستعملها في محاوراتها محدودة في نطاق ضيِّق، حسبما كانت العرب تألَفه من معانٍ محسوسة، أو قريبة من الحسّ ومبتذلة إلى حدٍّ ما، فجاء استعمالها من قِبل القرآن - الكتاب الَّذي جاء للبشريَّة على مختلف مستوياتهم مع الأبديّة - غريباً عن المألوف العام.

ومن ثمَّ قصُرَت أفهامهم عن إدراك حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبير، إذ كانت الألفاظ تقصُر بالذات عن أداء مفاهيم لم تكن تطابقها، ومن ثمَّ كان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات، أو الإيفاء بالكناية ودقائق الإشارات، الأمر الذي قرَّب المفاهيم القرآنية إلى مستوى أفهام العامَّة من جهة، وبعَّدها من جهةٍ أخرى، قرَّبها من جهة إخضاعها لقوالبَ لفظية كانت مألوفة لدى العرب،

٤٣١

وبعَّدها حيث سموّ المعنى، كان يأبى الخضوع لقوالب لم تكن موضوعةً لمِثله، كما كان يأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولِغَ في إخضاعه، إذ اللفظ يقصر عن أداء مفهوم لا يكون قالباً له ولا يتطابقه تماماً؛ هذا هو السبب الأقوى لوقوع التشابه في تعبيرات القرآن بالذات، كما مرّ من مسألة الأمْر بين الأمرَين، وغيرها من مسائل كلامية غامضة تبحث عن شؤون المبدأ تعالى والمعاد، ومسائل شؤون الخليقة وما انطوت عليه من أسرار وغوامض خافية على غالبية الناس.

مثلاً قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) تعبيرٌ رمزيّ عن شأن الإنسان - بصورة عامَّة - في الأرض، إنّه ذلك الموجود العجيب الَّذي يملِك في ذاته قدرة جبّارة، يضيق عنها الفضاء وتخضع لها قوى الأرض والسماء ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

كلّ ذلك بفضْل نبوغه واستعداده الخارق الَّذي يمنحه القدرة على الخلْق والإبداع؛ على أثر تفكيره وجهاده في الوصول إلى درجة الكمال، وليتمثّل مظهريّته تعالى، فهو الموجود النموذجي لمظهرية ذي الجلال والإكرام، ومن ثمَّ كان خليفته في الأرض يومذاك؛ ليصبح خليفته في عالم الوجود إطلاقاً.

لم تكن العرب تستطيع إدراك هكذا تصوّر عن الإنسان، ولا كان يخطر بِبالها أنَّ لهذا الإنسان شأناً في عالَم الوجود، سوى أنّه الموجود الضعيف الذي تتألَّب عليه الضواري، ولا يقتات إلاّ على لحوم بَني جِلدته سَلباً ونَهباً، وإراقةً للدماء والفساد في الأرض.

ومن ثمَّ لمّا جاء التعبير عن شان آدم بهذا التعبير - ممّا ينمّ عن عظَمةٍ وإكبار - حسَبوه (المتصرّف في الأرض) عن جانب الله القابع في زاوية السماء، أو فسَّروه - كما في عصرٍ متأخّر - بأنَّه الخلَف عن مخلوق كان قبل آدم، الجِنّ أو النَسناس.

____________________

(1) البقرة: 30.

(2) الجاثية: 13.

٤٣٢

وهكذا الانجذاب بالآية يمنةً ويسرة، ما دام لم يعرفوا من حقيقة الإنسان ولا أدركوا من شأنه الخطير.

* * *

وهكذا جاء التعبير المجازي في آيتَين لا تختلفان من حيث الأداء والتعبير، غير أنّ إحداهما لمّا كانت تعبِّر عن معنى هو فوق مستوى العامّة حصل فيها التشابه، أمّا الأخرى فكانت تعبيراً عن معنىً محسوس، ومن ثمَّ لم يقع فيها إشكال، فقوله تعالى: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) فيها مجاز الحذْف، أي إلى رحمة ربّها، كما في آية أخرى نظيرتها: ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (2) أي أهل القرية، غير أنّ الأُولى صارت متشابهة لقصور أفْهام العامَّة عن إدراك مقام الإلوهية، فحسبوا منها جواز رؤيته تعالى، أمّا الآية الثانية فلم تتوقَّف في فهْم حقيقتها؛ لأنّها في معنىً محسوس.

ونظير ذلك قوله تعالى: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ ) (3) دعا جهْل العامَّة بصفاته تعالى إلى فهْم ساقٍ له سبحانه، في حين أنَّ استعارة الساق للشدَّة عند العرب كان أمراً دارجاً، قال شاعرهم: (وقامت الحرب على ساق) (4) أي أخذَت في شدّتها، فهم عندما يستمعون إلى هذا الشِعر لا يتردَّدون في فهْم الحقيقة، إذ يعلمون أن لا رِجْل للحرب ولا ساق، أمّا في الآية الكريمة فيذهب وهْمُهم إلى وجود رِجْل له تعالى وساق، ومن ثمَّ ذهب بعضهم إلى عقيدة التجسيم - تعالى الله عن ذلك -.

* * *

وقد ذهب سيِّدنا الطباطبائي (قدّس سرّه) أيضاً إلى هذا الرأي، وذكر أنَّ سبب وقوع التشابه في القرآن يعود إلى خضوع القرآن - في إلقاء معارفه العالية - لألفاظ وأساليب دارجة، هي لم تكن موضوعة لسوى معانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن

____________________

(1) القيامة: 23.

(2) يوسف: 82.

(3) القلم: 42.

(4) البرهان للزركشي: ج2، ص84.

٤٣٣

ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب.

نعم، إلاّ على أولئك الَّذين نفذَت بصيرتهم وكانوا على مستوىً رفيع، قال تعالى: ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً - إلى قوله - كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1) . وهكذا القرآن تحتمله الأفهام على قدَر استعداداتها، وفيه من المتشابهات ما تزول بتعميق النظَر وإجادة التفكير، فيبقى القرآن كلّه محكَماً مع الأبَد بسلام (2) .

وهكذا قال الشيخ محمَّد عبده: إنَّ الأنبياء بُعثوا إلى جميع أصناف الناس من: دانٍ وشريف، وعالمٍ وجاهل، وذكيّ وبليد، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة يفهمها كلّ أحد، ففيها من المعاني العالية، والحِكَم الدقيقة ما يفهمه الخاصَّة، ولو بطريق الكناية والتعريض، ويؤمَر العامَّة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند حدِّ المحكَم، فيكون لكلٍّ نصيبه على قدَر استعداده (3) .

وهناك عاملٌ آخَر كان ذا أثر في إيجاد التشابه في غالبية الآيات الكريمة، إذ لم تكن متشابهة من ذي قبل، وإنّما حدَث التشابه فيها على أثر ظهور مذاهب جدَلية، بعد انقضاء القرن الأوّل الَّذي مضى بسلام، إذ كانت العرب أوَّل عهدها بنزول القرآن تستذوقه بمذاويقها البدائية الساذجة، حلواً بديعاً سهلاً بليغاً، أمّا وبعدما احتبكت وشائج الجدَل بين أرباب المذاهب الكلامية منذ مطلع القرن الثاني، فقد راج التشبّث بظواهر آياتٍ تحريفاً بمواضع الكَلِم، ومن ثمَّ غمّها نوع من الإبهام والغموض الاصطناعيَين، وأخذت كلّ طائفة تتشبّث بما يروقها من آيات؛ لغرض تأويلها إلى ما تَدعَم به مذهبَها.

____________________

(1) الرعد: 17.

(2) تفسير الميزان: ج3، ص58 - 62 بتلخيص واختزال.

(3) تفسير المنار: ج3، ص170 وهو ثالث وجه ذكرها بهذا الصدد.

٤٣٤

ولا ريب أنّ القرآن حمّال ذو وجوه - كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) -؛ لأنّه كما ذكرنا معتمد في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه، فأكسبه ذلك خاصّية قبول الانعطاف في غالبية آياته الكريمة، ومن ثمَّ نهى الإمام (عليه السلام) عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البِدع والأهواء؛ لأنَّهم يعمدون إلى تأويله بلا هوادة، قال (عليه السلام) لابن عبّاس - لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج -: (لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً) (1) .

انظر إلى هذه الآية الكريمة: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (2) .

ربّما لم تكن العرب تخطر بِبالها إرادة الرؤية بالعين، كما قال الزمخشري: سمعت مستجْدِية بمكَّة - بعدما أغلق الناس أبوابهم من حرّ الظهيرة - تقول: عُيَينَتي نوَيظِرة إلى الله وإليكم (3) ، ولم يختلِج بِبال أحد أنّها تقصد النظر بالتحديق إلى الله سبحانه، وإنَّما كان قصدُها الانقطاع إليه وتوقّع فضْله ورحمته تعالى، وهكذا في الآية الكريمة نظراً إلى موقعيّة الحصْر فيها. لكنَّ الأشاعرة وأذنابهم من مشبِّهة ومجسِّمة جمَدوا على ظاهر الآية البِدائي، وأصرّوا على أنّه النظر إليه تعالى بهاتَين العينَين اللتَين في الوجه (4).

وهكذا لمّا سَمِعت العرب قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (5) ، ربَّما لم تَفْهم منه سوى استقلاله تعالى بملَكوت السماوات والأرض وتدبيره لشؤون هذا العالَم، نظير قول شاعرهم:

____________________

(1) نهج البلاغة: ج2، ص136 من الكتب والوصايا رقم 70.

(2) القيامة: 22 و23.

(3) راجع الكشّاف: ذيل الآية 23 من سورة القيامة. وأساس البلاغة: مادة (نظر).

(4) راجع الإبانة لأبي الحسن الأشعري: ص 11 طبعة حيد آباد الدكن.

(5) يونس: 3.

٤٣٥

ثمّ استوى بشَرٌ على العراق

من غير سيفٍ ودم مِهراق

وقال آخر:

فلمّا علَونا واستوَينا عليهم

تركناهم صرعى لنِسرٍ وكاسرِ

لكنَّ الأشاعرة ومن ورائهم سائر أهل التشبيه، أبَوا إلاّ تفسيره بالاستقرار على العرْش جلوساً متربِّعاً فوق السماوات العُلى، وقد ينزل إلى السماء الدنيا؛ ليطَّلع على شؤون خلْقه فيغفر لهم ويجيب دعاءهم، إذ لا يمكنه ذلك وهو متربِّع على كرسيّه فوق السماوات (1) .

وعلى هذا السبيل، لمّا نزلت الآية: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (2) ، لا نظنّ أنّ العرب فهمَت منها الجوارح والأعضاء، نظير قوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) (3) ، لا يعني الجارحة المخصوصة كما زعَمته المشبِّهة من أصحاب الحشْو، وإنّما عنَى يد القدرة ونفْيَ العجْز عن التصرّف فيما يشاء تعالى.

أمّا الأشعري ومَن حَذا حذْوَه، فإنَّهم قد انحرفوا في فَهْم هذا المعنى الظاهر، فأوَّلوه إلى الجارحة، وقالوا: إنّ لله يداً ورجْلاً وعيناً ووجْهاً وما إلى ذلك؛ وقوفاً مع ظاهر الكلمة في القرآن (4) .

* * *

____________________

(1) راجع الإبانة: ص35 فما بعد، ورسالة الردّ على الجهْمية للدارمي: ص13 فما بعد.

(2) المائدة: 64.

(3) الإسراء: 29.

(4) راجع الإبانة: ص39 فما بعد، وغيرها من كتُب القوم وهي كثيرة.

٤٣٦

٤٣٧

حقيقةُ التأويل

- ما بين التأويل والتفسير من فَرْق.

- المعاني الأربعة للتأويل.

- هل يَعلم التأويل إلاّ الله؟

- شكوك واعتراضات.

- مزعومة المنكِرين.

- مَن هُم الراسخون في العِلم؟

٤٣٨

حقيقةُ التأويل

ما بين التأويل والتفسير من فَرْق:

التأويل يُستعمل بمعنى توجيه المتشابه، وهو تفعيل من الأوّل بمعنى الرجوع؛ لأنّ المؤوِّل عندما يُخرِّج للمتشابه وجهاً معقولاً، هو آخِذٌ بزمام اللفظ ليعطِفه إلى الجهة الّتي يحاول التخريج إليها، ومن ثمَّ يستعمل في تبرير العمل المتشابه أيضاً، كما في قصَّة الخِضْر (عليه السلام)، قال لصاحبه: ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ) (1) أي سأُطلِعُك على السرِّ المبرّر لأعمالٍ أثارَت شكوكك ودَعتْك إلى الاعتراض.

إذاً فكلّ لفْظ أو عمل متشابه - أي مثير للرَيب - إذا كان له توجيه صحيح، فهذا التوجيه تأويله لا محالة، وعليه فالفَرْق بين التفسير والتأويل: هو أنّ الأوّل توضيح ما لجانب اللفظ من إبهام، والثاني توجيه ما فيه من مَثار الرَيب، وقد سبق ما بين عوامل الإبهام والتشابه من فَرْق.

هذا، وقد اصطلحوا أيضاً على استعمال التأويل في معنىً ثانوي للآية، فيما لم تكن بحسَب ذاتها ظاهرة فيه، وإنَّما يتوصّل إليه بدليل خارج، ومن ثمَّ يعبَّر عنه

____________________

(1) الكهف: 78.

٤٣٩

بالبَطْن، كما يعبَّر عن تفسيرها الأوَّلي بالظَهْر، فيقال: تفسير كلّ آية ظهْرها، وتأويلها بطْنها.

والتأويل بهذا المعنى الأخير عامٌّ لجميع آيِ القرآن، كما في الأثر: (ما في القرآن آية إلاّ ولَها ظهْرٌ وبطْن)، وقد سُئل الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) عن ذلك، فقال: (ظهْرُه تنزيلُه، وبطْنُه تأويلُه، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر) (1) ، وقال (عليه السلام) أيضاً: (ظَهْر القرآن الَّذين نزل فيهم، وبطْنه الَّذين عملوا بمثل أعمالهم) (2) ، فقد جاء التنزيل في كلامه (عليه السلام) بمعنى التفسير، أي أنّ للآية مورد نزول يكشف عن مدلولها الأوَّلي المنصرم، ويعبَّر عنه بسبب النزول، ولا غنى للمفسِّر عن معرفة أسباب النزول في كشْف إبهام الآية، كما في: آية النسيء (3) ، وآية نفي الجُناح عن السعي بين الصفا والمروة (4) ، وآية النهي عن دخول البيوت من ظهورها (5) ، ونحوها كثير.

نعم، هناك عموم ثابت أبديّ تنطوي عليه الآية، وبذلك تشمل عامَّة المكلَّفين مع الأبديَّة، وهو بطْنها وتأويلها الَّذي يعرفه الراسخون في العلم؛ ولولا ذلك لبطلت الآية، قال الإمام الباقر (عليه السلام): (ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لَمَا بقيَ من القرآن شيء، ولكنَّ القرآن يجري أوَّله على آخِره ما دامت السماوات والأرض من خيرٍ أو شرٍّ) (6).

وقد صحّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنَّ فيكم مَن يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلتُ على تنزيله، وهو عليُّ بن أبي طالب) (7) ، فقد قاتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على تطبيق القرآن الخاصّ حسب مورد نزوله، وقاتل عليٌّ (عليه السلام) على تطبيقه العامّ على مشابه القوم.

____________________

(1) بصائر الدرجات: ص195. البحار: ج92 ص97 رقم 64.

(2) تفسير العيّاشي: ج1، ص11. البحار: ج92، ص94، رقم 46.

(3) التوبة: 37.

(4) البقرة: 158.

(5) البقرة: 189.

(6) تفسير العيّاشي: ج1، ص10. الصافي: ج1، ص14.

(7) تفسير العيّاشي: ج1، ص15 - 16.

٤٤٠