ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية0%

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 311
المشاهدات: 52223
تحميل: 6348

توضيحات:

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52223 / تحميل: 6348
الحجم الحجم الحجم
ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

« إنّا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل لنقض بيعتنا »(1) .

وقد ثبت على موقفه هذا بعد وفاة الإمام الحسنعليه‌السلام ، فقد روى الكلبي، والمدائني، وغيرهما من أصحاب السير، قالوا: « لمّا مات الحسن بن عليعليهما‌السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً ولا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك »(2) .

وقد كان معاوية يستغل هذه الحُرمة التي للعهد في نفوس الناس؛ فيلوّح بها في مكاتباته إلى الإمام الحسينعليه‌السلام حول نشاطه في تعبئة المجتمع الإسلامي للثورة على الحكم الاُموي؛ فقد كتب إليه: « أمّا بعد، فقد انتهت إليّ اُمور عنك، إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحق الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك، ومنزلتك التي أنزلك الله بها. ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتقِ شقّ عصا هذه الاُمّة »(3) .

____________________

(1) انظر: الأخبار الطوال/203.

(2) انظر: الإرشاد/206، إعلام الورى/220، تأريخ الخلفاء/206، وقد ذكر فيليب حتّي « تأريخ العرب » 2/252 أنّ أهل الكوفة كانوا قد بايعوا الحسين بعد موت أخيه، وهذا غير صحيح، وما صح هو هذه المحاولة التي لم يستجب لها الإمام الحسينعليه‌السلام .

(3) انظر: الأخبار الطوال/224 - 225، والإمامة والسياسة 1/188.

١٦١

فها هو ذا معاوية يُلوّح هنا بالعهد والميثاق، ويُطالب بالوفاء بهما.

ولربما فهم الناس من ثورته لو ثار في عهد معاوية أنّه كان على غير رأي أخيه الحسنعليه‌السلام في الصلح مع معاوية، وقد كان الحسينعليه‌السلام دائماً حريصاً على أن يُظهر اتّفاقه مع أخيه في القرار الذي اتّخذه.

ومن جملة ما يدلّ على ذلك جوابه لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين ذكر له امتناع الحسينعليه‌السلام من إجابة مَنْ دعاه إلى الثورة بعد الصلح، مبيّناً لهم عدم استعداد المجتمع الإسلامي لذلك: « صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً »(1) .

وإذاً، فلم يثُر الحسينعليه‌السلام في عهد معاوية؛ لأنّ المجتمع لم يكن مُهيئاً للثورة(2) ، وكان هذا هو السبب الذي دفع بالحسنعليه‌السلام إلى أن يُصالح معاوية بعدما تبيّن له عقم محاولة المضي في الصراع، ولولا ذلك لما صالح الحسنعليه‌السلام معاوية، ولما قعد الحسينعليه‌السلام عن الثورة على معاوية.

وقد أضاف هذا الصلح سبباً آخر منع الحسينعليه‌السلام من الثورة على معاوية الذي كانت شخصيته عاملاً في جعل الثورة عليه عملاً غير مضمون بالنجاح؛ ولذا فقد كان لا بدّ للحسن والحسينعليهما‌السلام - وهذه هي ظروفهما في عهد معاوية - أن يُهيّئا هذا المجتمع للثورة، وأن يعدّاه لها.

وقد مضت الدعوة إلى الثورة على الحكم الاُموي تنتشر بنجاح طيلة عهد معاوية، تجد غذاءها في ظلم معاوية وجوره، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، وانتهى الأمر بهذه الدعوة إلى هذا النجاح الكبير الذي أوجزه

____________________

(1) انظر: الأخبار الطوال/221.

(2) انظر: الإرشاد - للشيخ المفيد/199 طبعة النجف الأشرف سنة 1962.

١٦٢

الدكتور طه حسين في هذه الكلمات: « ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس وعامّة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً »(1) .

شخصيّة يزيد

أمّا يزيد فقد كان على الضدّ مع أبيه في كلّ ما كان يحول بين الحسينعليه‌السلام وبين الثورة على أبيه. لقد كان يزيد من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروّي، كان إنساناً صغير العقل، متهوراً، سطحي التفكير، « لا يهم بشيء إلاّ ركبه »(2) .

واُسلوبه في معالجة المشاكل التي واجهته خلال حكمه يعزّز وجهة النظر هذه. اُسلوبه في معالجة ثورة الحسينعليه‌السلام ، واُسلوبه في معالجة ثورة أهل المدينة، واُسلوبه في معالجة ثورة ابن الزبير.

وتدلّ بعض الملاحظات التي ذكرها المؤرّخون عن حياته العاطفية أنّ هذا النزق والتهوّر، والاستجابة السريعة العنيفة للانفعال ليس أموراً عارضة، بل هي سمات أصيلة في شخصيته(3) .

____________________

(1) انظر: الفتنة الكبرى - 2 - علي وبنوه - للدكتور طه حسين/295.

(2) انظر: أنساب الأشراف 4/القسم الثاني/1.

(3) انظر المصدر نفسه، وله أبيات من الشعر فيها دلالة على تهتّكه. ومن =

١٦٣

ومن ثمّ فهو أبعد الناس عن أن يواجه ثورة الحسينعليه‌السلام باُسلوب أبيه، بل القريب أن يواجهها بالاُسلوب الذي يتّفق مع شخصيته، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته.

ونشأة يزيد المسيحية، أو القريبة من المسيحية(1) ، جعلته أضعف ما يكون صلة بالعقيدة التي يُريد أن يحكم الناس باسمها، أعني الإسلام. وحياة التحلّل التي عاشها قبل أن يلي الحكم، والانسياق مع العاطفة، وتلبية كلّ رغباته، كلّ ذلك جعله عاجزاً عن التظاهر بالورع والتقوى والتلبّس بلباس الدين بعد أن حكم المسلمين.

هذا بالإضافة إلى أنّ طبيعته النزقة جعلته يُعالن الناس بارتكاب المحرّمات، ويُقارف من الآثام ما عرف الناس بمدى بُعده عن الصلاحية لتولّي منصب الخلافة. ومن ثمّ فلن يكون في وسع أنصار الحكم الاُموي أن يُلوثوا ثورة الحسينعليه‌السلام أمام الرأي العام بأنّها ثورة في سبيل الملك؛ لأنّ العامّة ترى أنّ مبرّرات هذه الثورة موجودة في سلوك يزيد نفسه.

هذا السلوك الذي لا يلتقي مع الدين على صعيد، وسيقبل الناس بلا تردّد تبرير الحسينعليه‌السلام وأنصاره لثورتهم بحماية الدين، وإنقاذ المسلمين من جور الاُمويِّين.

____________________

= أبياته في زوجته اُمّ خالد:

وما نحنُ يوم استعبرت اُمّ خالدٍ

بمرضى ذوي داءٍ ولا بصحاحِ

وقامت لتسقي الشُّربَ حُمراً عيونهمْ

مُخصّبة الأطرافِ ذات وشاحِ

لها عُكّنٌ بيضٌ كأنّ غصونها

إذا شَفّ عنها السابري فداحِ

انظر: تأريخ مدينة دمشق 69/112، نسب قريش/128.

(1) انظر: تأريخ العرب 2/258، سمو المعنى في سمو الذات/59 - 61. وعن حياة اللهو لاحظ ولهاوزن - الدولة العربيّة وسقوطها/137 - 138، وبروكلمان - تأريخ الشعوب الإسلاميّة 1/156.

١٦٤

موقف الحسينعليه‌السلام من يزيد في حياة معاوية

وقد حاول معاوية أن يُقيّد الإمام الحسينعليه‌السلام ببيعة يزيد، أو يضمن - على الأقل - سكوت الإمام الحسينعليه‌السلام عن يزيد، فلم يفز بطائل. ويروي المؤرّخون عدّة مواقف للحسينعليه‌السلام مع معاوية حين أخذ يعدّ الأمر لابنه يزيد من بعده.

وكان من جملة كتبه إليه في هذا الشأن قوله في أحدها: «... وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد؛ تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص.

وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع رأيه؛ فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب الهراش عند التهارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف، وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول؛ فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه. فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة... »(1) .

وقد أراد معاوية أن يحمل الحسينعليه‌السلام على البيعة ليزيد بحرمان بني هاشم جميعاً من أعطياتهم حتّى يبايع الحسين (عليه السلام)(2) ، فلم يتحقق له ما أراد، ومات معاوية والحسينعليه‌السلام باقٍ على موقفه من الإنكار لبيعة يزيد.

____________________

(1) انظر: الإمامة والسياسة 1/195 - 196.

(2) انظر: الإمامة والسياسة 1/200، الكامل في التاريخ 3/252.

١٦٥

١٦٦

موقف الحسينعليه‌السلام من البيعة ليزيد

« ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق - بنوع خاص - يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً »(1) ؛ فقد اكتشف المجتمع الإسلامي ما فيه الكفاية من عورات الحكم الاُموي، وذاق طعم عذابه، وخبر ألواناً من عسفه وظلمه في الأرزاق والكرامات، وانزاحت عن بصيرته الغشاوة التي رانت عليها في أوّل عهد معاوية.

ولم يكن يزيد في مثل تروّي أبيه وحزمه واحتياطه للأمور، ولم يلتزم اُسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغشاء الديني مُسدلاً على أفعاله وتصرّفاته، ولم يكن بين الحسن والحسينعليهما‌السلام من جهة وبين يزيد من جهة اُخرى أي عهد أو ميثاق.

وهكذا فقد انزاحت بموت معاوية ووعي المجتمع الإسلامي جميع الأسباب التي كانت تحول بين الحسينعليه‌السلام وبين الثورة في عهد معاوية، وبدا الطريق

____________________

(1) انظر: الفتنة الكبرى - 2 - علي وبنوه - للدكتور طه حسين/295.

١٦٧

إلى الثورة على الحكم الاُموي مُمهّداً أمام الحسينعليه‌السلام .

وقد عجّل تلهف يزيد على أخذ البيعة له من كبار زعماء المعارضة له - وعلى رأسهم الحسينعليه‌السلام - في تتابع الأحداث؛ فقد كان أكبر همّه حين آل الأمر بعد موت أبيه هو بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعة يزيد، فكتب إلى الوليد بن عتبة والي المدينة كتاباً يُخبره فيه بموت معاوية، وكتاباً آخر جاء فيه: « أمّا بعد، فخذ حسيناً، وعبد الله بن عمر، وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا، والسّلام »(1) .

ولقد آثر الحسينعليه‌السلام أن يتخلّص من الوليد بالحُسنى حين دعاه إلى البيعة، فقال له: « مثلي لا يبايع سرّاً، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً ».

ولكن مروان قال للوليد: « لئن فارقك الساعة ولم يُبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبسه فإن بايع

____________________

(1) انظر: الكامل في التاريخ 2/529 و3/263، تاريخ الطبري 4/250 و5/338، الأخبار الطوال - لابن داود الدينوري/227، وفي الفتوح 2/355 و3/9 زيادة: فمَنْ أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. وفي مقتل الحسين - للخوارزمي 1/180 مثله.

وهذا يُبطل كلّ كلام يُدافع به عن يزيد وعن تبرير المنافقين والمستشرقين الذي يدّعون بأنّ يزيد لم يكن راغباً في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٦٨

وإلاّ ضربت عنقه ».

فوثب الحسينعليه‌السلام عند ذلك، وقال: « ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عُنقي؟ كذبت ولؤمت ».

ثمّ أقبل على الوليد فقال: « أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله »(1) .

بهذه الكلمات أعلن الحسينعليه‌السلام ثورته على الحكم الاُموي الفاسد على عظمته وجبروته وقسوته في مؤاخذة الخارجين عليه، فقد مات معاوية وانقضى العهد والميثاق، وأصبح وجهاً لوجه أمام دوره التأريخي الذي يتحتّم

____________________

(1) انظر: مقتل الحسين - للخوارزمي 1/184 وزاد فيه: « والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقاً... ». تأريخ الطبري 4/251، تذكرة الخواص - لسبط ابن الجوزي/229 طبعة إيران، الآداب السلطانية - للفخري/88، الكامل في التاريخ - لابن الأثير 4/75، تاريخ ابن عساكر 7/407، أنساب الأشراف 5/129، الفتوح 3/14، وكان يُقال له - أي مروان - ولولده: بنو الزرقاء، يقول ذلك من يريد ذمّهم وعيبهم. وهي الزرقاء بنت موهب جدّة مروان بن الحكم لأبيه، وكانت من ذوات الرايات التي يستدلّ بها على بيوت البغاء؛ فلهذا كانوا يدعون بها.

وقال البلاذري في أنساب الأشراف 5/126: اسمها مارية ابنة موهب، وكان قيناً.

انظر: تذكرة الخواص/229، تأريخ ابن عساكر 7/407، تأريخ الطبري 8/16، تفسير من آية 13 سورة القلم في قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) ، وانظر: كنز العمال - للمتقي الهندي 1/156، روح المعاني - للآلوسي 29/28، الإمامة والسياسة 1/227.

١٦٩

عليه أن يصنعه، وإنّه لعلى يقين من أنّ حكم يزيد لن يأخذ صفة شرعية ما دام هو مُمسكاً عن بيعته، أمّا إذا بايعه فإنّه يكون قد اكتسب الغلّ الجديد الذي طُوقت به الأمّة المسلمة صفة قانونية شرعية، وهذا شيء لا يفعلهعليه‌السلام .

إنّ ثمّة فرقاً عظيماً بين أن تكون الاُمّة راضخة لحكم ظالم ولكنّها تعلم أنّه حكم بغير حقّ، وأنّه حكم يجب أن يزول، وبين أن تخضع الاُمّة لحكم ظالم وترى أنّه حكم شرعي لا بدّ منه، ولا يجوز تغييره.

إنّ الاُمّة في الحالة الثانية ترى أنّ حياتها التعسة، وأنّ التشريد والجوع والحرمان والذلّ هو قدرها الذي لا مفرّ لها منه، هو مصيرها المحتوم الذي لا بدّ أن تصير إليه، وحينئذ يُقضى على كلّ أمل في تغيير الأوضاع، وحينئذ يضمحلّ كلّ أمل في الثورة، وحينئذ تدعم الاُمّة جلاّديها بدل أن تثور عليهم، وحينئذ يُصار إلى الرضا بما هو كائن بحسبانه ما ينبغي أن يكون.

أمّا حين تخضع الاُمّة وهي تعلم أنّ الحاكم لا حقّ له فحينئذ يبقى الأمل في التغيير حيّاً نابضاً، وتبقى الثورة مشتعلة في النفوس، وحينئذ يكون للثائرين مجال للعمل؛ لأنّ التربة مُعدّة للثورة.

وكان على الحسينعليه‌السلام وحده أن ينهض بهذا الدور. لقد كانت الثورة قدره المحتوم، أمّا الآخرون الذين أبوا البيعة ليزيد فلم يكن لهم عند المسلمين ما للحسينعليه‌السلام من المنزلة وعلوّ الشأن؛ أمّا ابن عمر فسرعان ما سلّم قائلاً: « إذا بايع الناس بايعت »(1) ؛ وأمّا ابن الزبير فقد كان الناس يكرهونه ويتّهمونه في إبائه البيعة بأنّه يريد الأمر لنفسه؛ فلم تكن دوافعه دينية خالصة، وإنّما كان يدفعه الطمع

____________________

(1) انظر: تاريخ الطبري 4/254، الكامل في التاريخ 3/265، أنساب الأشراف 1/14.

١٧٠

في الخلافة، وما كان الناس يرونه لذلك أهلاً.

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنّ الحسينعليه‌السلام لمّا خرج وابن الزبير من المدينة إلى مكة، وأقاما بها، « عكف الناس على الحسين يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمع منه، ويضبطون ما يروون عنه »(1) . ومغزى هذا الخبر بيّن فقد اتّجهت أنظار الناس إلى الحسينعليه‌السلام وحده فانقطعوا إليه، وهذا يدلّك على مركزه في نفوس المسلمين إذ ذاك.

قال أبو الفرج الأصفهاني: « إنّ عبد الله بن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق؛ طمعاً في الوثوب بالحجاز، وعلماً منه بأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بعد خروج الحسين »(2) .

وكان الحسينعليه‌السلام يعي هذا أيضاً، فقد قال يوماً لجلسائه: « إنّ هذا - يعني ابن الزبير - ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر شيء معي، وأنّ الناس لم يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجت منها لتخلو له »(3) .

وقال عبد الله بن عباس له وهو يحاوره في الخروج إلى العراق: « لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز،

____________________

(1) انظر: البداية والنهاية 3/217.

(2) انظر: مقاتل الطالبيِّين/245، وأنساب الأشراف 4/13 - 14، الإرشاد/202.

(3) انظر: تأريخ الطبري 4/288، والكامل 3/276، وأنساب الأشراف 4/14.

١٧١

والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك »(1) .

كلّ هذا يكشف عن مدى تعلّق جماهير المسلمين بالحسينعليه‌السلام باعتباره رجل الساعة. ويقيناً لو أنّه بايع يزيد لما كان لابن الزبير وأضرابه وزن في المعارضة؛ لأنّهم حينئذ ما كانوا ليجدوا أنصاراً على ما يريدون.

وإذاً، فقد وجد الحسينعليه‌السلام نفسه وجهاً لوجه أمام دوره التاريخي؛ الحكم الاُموي بكلّ ما فيه من فساد وانحطاط ورجعية وظلم، والاُمّة المسلمة بذلّها وجوعها وحرمانها ومركزه العظيم في المسلمين، كلّ ذلك وضعه وجهاً لوجه أمام دوره التأريخي، وخطّط له المصير الذي يتحتّم عليه أن يضعه لنفسه، وعند ذلك أعلن ثورته بهذه الكلمات التي مرّت عليك، وقد أجمل فيها أسباب هذه الثورة؛ التهتك، والتطاول على الدين، والاستهتار بحقوق الشعب، هذه هي أسباب ثورة الحسينعليه‌السلام .

ويبدو أنّ يزيد بن معاوية أراد أن يخنق ثورة الحسينعليه‌السلام قبل اشتعالها، وذلك باغتياله في المدينة. وقد وردت إشارتان إلى ذلك في كتاب أورده اليعقوبي في تأريخه(2) من ابن عباس إلى يزيد بن معاوية صريحتان في الدلالة على أنّ يزيد دسّ رجالاً ليغتالوا الحسينعليه‌السلام في المدينة قبل مغادرته إيّاها إلى العراق؛ ولعلّ هذا ما يكشف لنا عن سبب خروج الحسينعليه‌السلام من المدينة بصورة سرّية.

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 4/288، والكامل 3/276، وأنساب الأشراف 4/14.

(2) انظر: تأريخ اليعقوبي 2/234 - 236، طبع النجف سنة 1964 م.

١٧٢

بواعث الثورة عند الحسينعليه‌السلام

إنّ العنصر الاجتماعي شديد البروز في ثورة الحسينعليه‌السلام ، ويستطيع الباحث أن يُلاحظه فيها من بدايتها حتّى نهايتها، ويرى أنّ الحسينعليه‌السلام ثار من أجل الشعب المسلم.

لقد ثار على يزيد باعتباره مُمثّلاً للحكم الاُموي. هذا الحكم الذي جوّع الشعب المسلم، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات والرشا، وشراء الضمائر وقمع الحركات التحرّرية. هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين غير العرب وهدّدهم بالإفناء، ومزّق وحدة المسلمين العرب، وبعث بينهم العداوة والبغضاء. هذا الحكم الذي شرّد ذوي العقيدة السياسيّة التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي، وقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، وقطع عنهم الأرزاق، وصادر أموالهم.

هذا الحكم الذي شجّع القبيلة على حساب الكيان الاجتماعي للاُمّة المسلمة. هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة، وعن طريق غير مباشر تارة اُخرى على تقويض الحس الإنساني في الشعب، وقتل كلّ نزعة إلى التحرّر بواسطة التخدير الديني الكاذب.

كلّ هذا الانحطاط ثار عليه الحسينعليه‌السلام ، وها هو يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة في وصيته له: « إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أن آمر

١٧٣

بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين »(1) . فالإصلاح في اُمّة جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو هدفه من الثورة.

وهنا شيء اُريد أن أنبه عليه في قوله: «... فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ». إنّه لم يقل: فمَنْ قبلني لشرفي ومنزلتي في المسلمين، وقرابتي من رسول الله، وما إلى ذلك... لم يقل شيئاً من هذا، إنّ قبوله يكون بقبول الحقّ فهذا داع من دعاته، وحين يقبل الناس داعي الحقّ فإنّما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحقّ والخير لا لنفسه، وفي هذا تعالٍٍ وتسامٍ عن التفاخر القبلي الذي كان رأس مال كلّ زعيم سياسي أو ديني في عصرهعليه‌السلام .

* * *

وظهر العصر الاجتماعي في ثورة الحسينعليه‌السلام أيضاً حين التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي، وقد كان ذلك بعد أن علم الحسينعليه‌السلام بتخاذل أهل العراق عنه بعد بيعتهم له، وبعد أن انتهى إليه نبأ قتل رسوله وسفيره إليهم مسلم بن عقيل، وبعد أن تبيّن له ولمَنْ معه المصير الرهيب الذي ينتظرهم جميعاً، فقد خطب الجيش الذي مع الحرّ قائلاً: « أيّها الناس، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول

____________________

(1) انظر: الفتوح - لابن أعثم 5/34، مناقب آل أبي طالب 3/241.

١٧٤

الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَنْ غيّر. وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، وإنّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رُشدكم؛ فإنّي الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ اُسوة.

وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنُكر؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل، والمغرور مَنْ اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه »(1) . فهو هنا يبيّن لهم أسباب ثورته: إنّها الظلم، والاضطهاد والتجويع، وتحريف الدين، واختلاس أموال الاُمّة.

ثمّ انظر كيف لمّح لهم إلى ما يخشون، لقد علم أنّهم يخشون الثورة لخشيتهم الحرمان والتشريد، فهم يؤثرون حياتهم على ما فيها من انحطاط وهوان على محاولة التغيير خشية أن يفشلوا فيعانوا القسوة والضّنك.

لقد علم منهم هذا، فقال لهم:

____________________

(1) انظر: تأريخ الطبري 3/307 و4/304 - 305، والكامل في التأريخ 3/280.

١٧٥

« فإنّي الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ». فبيّن لهم مركزه أوّلاً، ثمّ قال لهم: « نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ اُسوة »، فيما قد يحدث من اضطهاد وحرمان.

ويقف المتأمّل وقفة اُخرى عند قوله: « وأنا أحقّ من غيّر ». فيها تعبير عن شعوره بدوره التأريخي الذي يتحتّم عليه أن يقوم بأدائه.

ومرّة ثالثة حدّث الحسينعليه‌السلام أهل العراق عن ثورته ومبرراتها، وكانت خطبته هذه في الساعات الأخيرة التي سبقت اشتباك القتال بينه وبين الجيش الأموي. قالوا: إنّهعليه‌السلام ركب فرسه فاستنصتهم فلم ينصتوا، حتّى قال لهم: « ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا قولي؟! وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمَنْ أطاعني كان من المرشدين، ومَنْ عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري، غير مستمع لقولي، فقد مُلئت [ بطونكم ] من الحرام، وطُبع على قلوبكم. ويلكم! ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟ ».

فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم، وقالوا: « أنصتوا له. فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال ».

١٧٦

ثمّ قال: « تبّاً لكم أيّها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منّا، ولا رأي تفيّل لنا.

فهلاّ - لكم الويلات! - إذ كرهتمونا وتركتمونا، [ تجهزتموها ] والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُّبا، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش. فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومُحرّفي الكتاب، ومُطفئي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومُبيدي عترة الأوصياء، ومُلحقي العهار بالنسب، ومُؤذي المؤمنين، وصُراخ أئمّة المُستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون!

وأنتم ابن حرب وأشياعه تعضدون، وعنّا تخاذلون! أجل والله، الخذل فيكم معروف؛ وشجت عليه اُصولكم، وتأزّرت عليه فروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث ثمرة شجيّ للناظر، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، فأنتم والله هم.

ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت، واُنوف حمية ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...

ألا وإنّي

١٧٧

قد أعذرت وأنذرت، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة مع قلّة العدد، وكثرة العدوّ، وخذلان الناصر.

ثمّ قال:

فإن نهزِم فهزّامونَ قدماً

وإن نُغلب فغير مُغلّبينا

وما أن طبّنا جبنٌ ولكن

منايانا ودولة آخرينا

إذا ما الموتُ رفّعَ عن اُناسٍ

كلاكلَه أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكمْ سرواتُ قومي

كما أفنى القرونَ الغابرينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا

ولو بقي الكرامُ إذاً بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا

سيلقى الشامتونَ كما لقينا »(1)

في هذه الخطبة حدّثهم الحسينعليه‌السلام عن أنفسهم، وعن واقعهم، وعن زيف حياتهم. حدّثهم كيف أنّهم استصرخوه على جلاّديهم ثمّ انكفؤوا مع هؤلاء الجلاّدين عليه. هؤلاء الجلاّدون الذين لم يسيروا فيهم بالعدل وإنّما حملوهم على ارتكاب الحرام في مقابل عيش خسيس. خسيس في نفسه، قليل دون الكفاية، خسيس لأنّه يعمل على مدّ الأجل بحياة حقيرة ذليلة، خسيس باعتباره أجراً لعمل خسيس.

وحدّثهم عن مواقفهم المتكرّرة من الحركات الإصلاحية، إنّهم دائماً يُظهرون العزم على الثورة والرغبة فيها، يُظهرون العزم على تطوير واقعهم السيِّئ حتّى إذا جدّ الجدّ انقلبوا جلاّدين للثورة بدل أن يكونوا وقوداً لها.

____________________

(1) نجد هذه الأبيات تارة مجتمعة في مصدر واحد، وتارة متفرقة. انظر: الاحتجاج - الشيخ الطبرسي 2/25، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد 3/344، النزاع والتخاصم - المقريزي/139، اللهوف في قتلى الطفوف - السيد ابن طاووس/59، تأريخ الطبري 2/292، البداية والنهاية 5/83، السيرة النبوية - لابن كثير 4/137.

١٧٨

حدّثهم عن أعدائه باعتبارهم أعدائهم أيضاً، ولكنّهم يُزيّفون حياتهم بأيديهم، يُحاربون محرّريهم، مَنْ يعلمون أنّهم المحرّرون. مع مَنْ؟ مع أعدائهم مُذلّيهم وظالميهم.

هذه الخطبة، بهذا الاُسلوب الثائر، وبما فيها من تقريع، وبما فيها من فضح لهم، كانت ملائمة تمام الملاءمة للجو النفسي السائد آنذاك على الجيش الاُموي. إنّ محاربي ذلك الجيش كانوا على علم بمَنْ يُحاربون، فأراد أن يُشعرهم بفداحة الإثم الذي يُقارفونه، وعظم الأمر الذي يُحاولونه، وأراد أن يُسمع المجتمع الإسلامي - هذا المجتمع الخاضع - صوته المدوّي. وبهذا اللون من البيان جعل الحسينعليه‌السلام من كلّ مسلم بركاناً مدمّراً على أهبة الانفجار.

بواعث الثورة لدى الرأي العام

ولم يكن المغزى الاجتماعي للثورة مُدركاً من قبل الحسينعليه‌السلام وحده، فقد كان المسلمون يحسّون بضرورة العمل على تطوير واقعهم السيِّئ إلى واقع أحسن. أدرك هذا اُولئك الذين كتبوا إلى الحسينعليه‌السلام يطلبون منه القدوم إلى العراق، وأدرك هذا اُولئك الذين صبّروا أنفسهم على الموت معه.

والذين كتبوا إليه من العراق لم يكونوا أفراداً معدودين، وإنّما كانوا كثيرين جدّاً؛ ففي المؤرّخين مَنْ يقول: أنّ كُتب أهل العراق إلى الحسينعليه‌السلام زادت على مئة وخمسين كتاباً(1) .

وقال مؤرّخون آخرون: إنّه قد اجتمع عند الحسينعليه‌السلام في نُوب

____________________

(1) انظر: الكامل في التاريخ 3/266 - 267. اختلف المؤرّخون وأصحاب السير والمقاتل في =

١٧٩

مُتفرّقة اثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق.

ونستطيع أن نكوّن فكرة صحيحة عن ضخامة عدد الكتب التي دعت الحسينعليه‌السلام إلى القيام بالثورة إذا قرأنا هذا الخبر الذي رواه أغلب المؤرّخين، وهو: أنّ الحسينعليه‌السلام لمّا لقي الحرّ بن يزيد كان من جملة ما قاله للحرّ ومَنْ معه: « أمّا بعد، أيّها الناس، فإنّكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان. وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم ».

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.

فقال الحسينعليه‌السلام : « يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما

____________________

= عدد الكتب التي وردت إلى الحسينعليه‌السلام من أهل الكوفة، وكذلك اختلفوا في بعض ألفاظها، وبيد مَنْ أرسلوها. ولسنا بصدد بيان كلّ ما جاء في بطون الكتب، بل نشير إلى نموذج واحد منها على سبيل المثال، ونحيل القارئ إلى مصادرها الأصلية؛ فقد ذكر ابن أعثم في الفتوح 3/32 نحو خمسين ومئة، كلّ كتاب من رجلين وثلاثة وأربعة، ومثله في مقتل الحسين - للخوارزمي 1/195، الإرشاد 2/38، وفي اللهوف/15 « فورد عليه في يوم واحد ستمئة كتاب، وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوّب مُتفرّقة اثنا عشر ألف كتاب ».

انظر: مقتل الحسين - لأبي مخنف/16، بلفظ: فحملوا معهم نحواً من ثلاثة وخمسين صحيفة... ومثله في تأريخ الطبري 4/262، الكامل في التاريخ - ابن الأثير 4/10 و2/532، سمط النجوم العوالي 3/58، الأخبار الطوال/229، تأريخ اليعقوبي 2/242.

١٨٠