الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين0%

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 178

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الصفحات: 178
المشاهدات: 94924
تحميل: 5735

توضيحات:

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94924 / تحميل: 5735
الحجم الحجم الحجم
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة الصديقين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام الحسينعليه‌السلام والتطوّر الحضاري للأمة

لقد حفر السبط الشهيد نهراً مباركاً في ضمير التاريخ، يفيض بالقيم الإيمانية، وتنبت على شاطئه أشجار الرحمة والحب والعواطف الإنسانيّة، ويمتدّ من ذلك النهر الفائض رافد ميمون إلى قلب كلِّ مسلم.

إنّ هذا النهر الحسيني المتدفق ينبعث من ساق العرش، حيث التوحيد الخالص، والتسليم التام لرب العزّة، وحيث الطهارة من دنس الشرك، وحيث التحرر من عبادة الأهواء.

أوَتدري لماذا كُتب عن يمين العرش أنّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة؟ لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حمل راية الحنفية البيضاء، وحطّم بنهضته الحمراء أصنام الجبت والطاغوت، ورفض أن يستسلم لسلطان الطاغية يزيد، ولجبت الدينار والدرهم، وقال بكل شموخ:« ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! » (١) .

وهكذا رفع الله راية السبط الشهيد حين شرفه بالتوحيد النقي.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - للقرشي ٢ / ٢٩٠ - ٢٩١.

٦١

لقد جسّد الإمام الحسينعليه‌السلام الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فكان مثلاً سامياً لقول الله سبحانه:( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) (البقرة/ ٢٥٦).

وإنّ أيام محرّم التي نجدد فيها ذكرى الشهادة هي من أيام الله التي يتجدد فيها الإيمان بالله، وبالرسالات الإلهية، وبإخلاص العبودية لله. وهكذا نطهّر فيها أنفسنا في نهر التوحيد من شوائب الشكِّ والشرك، ومن عبادة الأهواء، ومن الخضوع للطغاة، ومن مجاراة الظالمين، ومهادنة الفسقة والمنافقين.

إنّ نهج أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام لا يزال يبعث شلاّلاً من النور في كل اُفق، وإن نهج أعدائه الظالمين لا يزال يعارض سبيل الشهادة، وإنهما نهجان لا يلتقيان؛ فشيعة الحسينعليه‌السلام يتسابقون إلى نيل شرف الشهادة، ويجعلون محاربة الطغاة شعارهم في كل موقع، بينما ترى السائرين في ركاب يزيد يتهافتون على تقبيل أحذية السلاطين وجعلها وساماً على أكتافهم الذليلة.

ولا يزال موسم محرم الحرام فرقاناً بين النهجين، والدعاة الحسينيّون والخطباء الحقيقيون يجعلون من كلِّ عاشوراء موسماً ميموناً لنصرة نهج السبط الشهيد، ومحاربة نهج الخنوع والاستسلام، وميعاداً لنشر تلك الراية المصبوغة بدم الشهادة، وعليها تلك الكلمة التي لا تمحى:« هيهات منّا الذلة! ».

إنّ كلَّ مسلم حسيني اليوم مدعو وبكلِّ صراحة ليعلن نصرته لنهج السبط الشهيد، أو ليصبح تابعاً ذليلاً لركب يزيد.

٦٢

والبصائر التالية هي بعض ما يمكن أن ننتصر بها جميعاً لمسيرة عاشوراء:

أوّلاً: إنَّ القيادات الشرعية في الاُمّة، والتي تجسد نهج الإمام الحسينعليه‌السلام - حسب رؤيتك أيها السائر في درب الحسينعليه‌السلام - إنّما هي الامتداد الحقيقي لخطِّ أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وخطّ الشهادة والفداء؛ فإذا عرفتها فتمسّك بها، ولا يزلزلك عنها الوسواس الخناس، ولا تنتكص عنها خشية الظالمين أو رغبة في دنيا المترفين.

وإذا لم تعرفها فابحث عنها حتّى تجدها، وإياك أن تبرر التقاعس بأنك لا تعرف مَن يجسّد خطّ أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؛ فإنك سوف تتخلف - لا سمح الله - عن تلك السفينة التي جعلها الله نجاة للاُمّة.

إنّ الانتصار للقيادة الشرعية والولاية الإلهية لهو الخطوة الاُولى في مسيرة النهضة، وإنّ كلّ مَن يضمَّ صوته إلى صوت الحقِّ يضيف قوة إلى بنيان الحقِّ، كما أنه يزداد قوة وصلابة.

وإنّ الخطباء الكرام هم أولى الناس بالدعوة إلى القيادات الشرعية والدفاع عن نهجهم الحسيني؛ وبذلك سوف يؤدّون ديْنَهم إلى السبط الشهيد، كما يقومون بواجبهم الشرعي المتمثل في تولّي أولياء الله.

ثانياً: إنّ التيار الفاعل في الاُمّة، والذي يتمثّل في التجمعات الربانيّة، والجمعيات الخيرية، والهيئات الدينية وما إليها، إنما هو نواة المجتمع الإسلامي، وعلينا دعم مسيرة هذا التيار بكلِّ قوة.

والدعوة إلى دعمهم تتم من خلال المنابر الحسينيّة؛ كي يلتفَّ الناس حولهم، ويبذلون الأموال لدعمهم.

٦٣

وإذا خرجنا من محرم وقد ازداد هذا التيار قوة وصلابة، وازدادت المشاريع الخيرية الناهضة عدداً وعدّة؛ فإنّ ذلك لدليل على نجاحنا في هذا الموسم المبارك.

ثالثاً: تعيش الاُمّة مشاكل بالغة التعقيد، وأبرزها التفتت والاتكالية والابتعاد عن ثقافة الوحي، والتشبّه بالكفار، وضياع القيم الحضارية التي بشّر بها الدين. وعلينا أن نستفيد من موسم محرم الميمون وما فيه من روح الإيمان وهدى الرسالة؛ لتوعية الاُمّة بسبل حلِّ المشاكل والتصدي الشجاع لها.

إنّ الخطباء الكرام سوف يجدون في هذه المناسبة فرصة مناسبة لتوعية الناس بضرورة التعارف والتعاون، وأن يتحمّل كلُّ فرد مسؤوليته الشرعية تجاه دينه واُمّته، وإصلاح واقع الاُمّة.

رابعاً: لقد تعرّضت اُمّتنا ومنذ قرن لأمواج متلاحقة من الثقافات الجاهليّة التي تسخر بعقائد الناس، وتثير الشبهات حول اُصول دينهم ومراسي حضارتهم. واليوم، وبعد تنامي المد الإسلامي، وعودة الناس إلى قواعد دينهم بفضل الله تعالى، نجد موجة جديدة تغزو بلادنا عبر المحطات العالمية المصوّرة التي تبث الأفلام الخليعة؛ لعلّها تجتذب الشبيبة، وتدسّ عبر تلك الأفلام الأفكار الغربية.

كما وأنها تُحكم سيادتها على الإعلام لتصوغ عقولنا حسب مصالحها وأهوائها؛ لذا علينا أن نسارع إلى حصن ثقافتنا الإلهية الصافية، ونتصدى بواسطتها لهذه الموجة الجديدة من الغزو الثقافي.

إنّ القرآن الكريم هو حبل الله المتين والمتصل بين الأرض والسماء،

٦٤

وأنّنا لو عدنا إليه بحقٍّ لكفانا مؤنة هذا الغزو الجديد.

إنّ على الخطباء الكرام أن يستوحوا من آيات القرآن بصائر لردِّ شبهات الخنّاسين، وأن ينتهزوا فرصة اجتماع الناس لتذكرتهم بالله وباليوم الآخر وبالرسالات، وبالتالي بتلك الاُصول الفكرية التي نجدها في كتاب ربنا. وإنّ عليهم - في ذات الوقت - أن يدعوا الناس إلى قراءة كتاب الله، والتدبر في آياته، والاتّعاظ بها، وصياغة أنفسهم وفقها.

والسنة الشريفة قبس من نور الله، فعلينا الاهتداء بها والتأمّل فيها؛ فإنّ سيرة النبي وأهل بيته (عليه وعليهم السّلام) هي تجسيد للوحي، ومثالاً واقعياً للسنة. وبالدعوة المستمرة إلى العودة إلى مائدة القرآن والسنة نستطيع أن نواجه الغزو الغشوم الذي نتعرض له اليوم.

خامساً: إنّ الشعائر الحسينيّة مائدة إلهية مباركة، وإنّ العلماء والخطباء والمثقفين الرساليين مدعوون إلى أن يستفيدوا منها بأقصى درجة ممكنة؛ وذلك بإعطائها بُعدها الإلهي ومحتواها الرسالي، وجعلها أقرب ما يكون إلى الأهداف السامية التي ابتغاها السبط الشهيدعليه‌السلام من نهضته الربانيّة.

سادساً: من أجل تحقيق أهداف النهضة الحسينيّة علينا أن نتشاور ونتعاون، وبالذات فيما يتّصل بحلِّ مشاكل الاُمّة التي علينا أن نتعرّف عليها وعلى حلولها من خلال تواصل وتشاور الخطباء مع العلماء المتصدّين لمختلف المناطق، ومع المثقفين والمتصدين لشؤون المجتمع، وكذلك مع سائر الناس؛ فكلّما كان الخطيب أقرب إلى ضمير اُمّته كلما كانت نصائحه أبلغ أثراً فيهم.

٦٥

الإمام الحسينعليه‌السلام وسيلة النهوض الحضاري

مع اطلالة هلال محرم تهبّ نسائم الهدى من ضمير قبر بكربلاء ضمّ الإيمان والطهر والحرية، وكلّما كبر الهلال واقتربنا من يوم الإمام الحسينعليه‌السلام كلّما ازدادت نسائم الهدى عصفاً وريحاناً.

أجل، فهناك في أرض البطولات التي لا تنتهي، وفي يوم الذكريات التي لا تَخْلَق ألف ألف عبرة، وألف ألف حكمة. بلى، هناك روضة تمتدّ مع امتداد الاُفق، ثمراتها العقل الطاهر من دنس الشك والشرك، والعاطفة الطاهرة من رين الذاتية والحمية.

وأبى الله سبحانه إلاّ أن يُربي الصدقات، وأية صدقةٍ أزكى من السخاء بالنفس والأهل كما هو عطاء السبط الشهيدعليه‌السلام ؟! وكذلك يمحق الله الربا، وأي رباً أنكد من بناء السلطة على جماجم الشرفاء والأحرار كما هو بناء الدولة الاُمويّة المنقرضة؟!

وهكذا أجرى ربنا بحكمته وقدرته ومجده العظيم من قطرات دم الإمام الحسينعليه‌السلام التي تناثرت فوق بقعة محدودة من أرض العراق في لحظة من تاريخ الصراع بين الحقِّ والباطل؛ أجرى ربّنا منها نهراً عظيماً

٦٦

من العاطفة الطاهرة، ومن الحكمة النافذة حتّى جعل الحسينعليه‌السلام كما كتب على ساق عرشه العظيم، جعله مصباح هدى وسفينة نجاة. وكلّما جرى هذا النهر الميمون على بقعة من الأرض أخرج الله فيها ما يناسبها من الثمرات والرياحين.

وهكذا كانت مسيرة عاشوراء في جنوب لبنان وأرض فلسطين مقاومةً استمرت حتّى النصر، وانتفاضةً لن تنتهي بإذن الله حتّى تثمر الفتح المبين بنصر الله سبحانه.

وهكذا كانت هذه المسيرة في العراق وقود استقامة عظيمة ضد أعتى طغاة العصر، وعطاءً سخياً وتضحيةً بكل غالٍ من أجل الدين، وهي ذاتها تصبح في بلد آخر كالجمهورية الإسلاميّة نهضةً حضاريةً في البناء والتطوير، وهي ذاتها تعطي شعباً آخر كما شعبنا في الخليج حيويةً بالغةً لمقاومة الغزو الثقافي، والاستقامة على القيم الرسالية.

إنها نهر متدفق معطاء تأخذ كلّ اُمّةٍ منه حاجتها في لحظة الزمان والمكان. ولا تزال اُمتنا عطشى والنهر يتدفق، وما ارتوينا به لا يشفي كلَّ غليلنا؛ فإنّنا بحاجة إلى المزيد، فلماذا الكسل؟

إنَّ العولمة التي هي ذروة التحول التقني في العالم تفتح لنا آفاقاً إلى المستقبل، كما تفتح علينا أبواباً من الغزو الجامح يتمثل فيما يلي:

أ - غزواً اقتصادياً في إطار (الكات) يمكن أن يحطم ما بنيناه طيلة نصف قرن من الصناعة الوطنية الهشة، حتّى نعود مرة اُخرى سوقاً للبضاعات الأجنبية الأقل كلفة والأفضل جودة.

٦٧

ب - غزواً اعلاماتياً يربط بلادنا بشبكة الاتصالات الدولية التي تضعها تحت سلطة الأقوياء علمياً وإعلامياً.

ج - غزواً ثقافياً يهدف هدم صرحنا الثقافي والاجتماعي، وتحويل اُمتنا المجيدة إلى هباء منثور يتشكل حسب أهوائهم وضلالاتهم.

وإنما بنهضة قعساء نستطيع أن نصد هذه الغزوات المدمرة. ووقود هذه النهضة متوفر في عاشوراء الحسينعليه‌السلام ، فهلاّ تزودنا به وبكل وجودنا دون ترددٍ وتقاعس!

إنّ الغرب ومَن يتبعه من الشعوب المستضعفة امتلكوا ناحية التقنية، وتسنّموا بها ذروة السلطة العالمية؛ ولكنهم فقراء جداً في القيم، وقد محقوا بأيديهم ما ورثوه من آبائهم من القيم المثلى، وهم أحوج ما يكون إليها؛ لأنّ القدرة التقنية الهائلة لا تضبطها شبكة القيم المهزوزة.

ونحن بحمد الله، وبما أكرمنا ربنا سبحانه من هدى الرسالات، وتراث الجهاد، ومجد التضحية، إننا بحمد الله سبحانه قادرون على إمتطاء حصان العولمة، واقتحام كلّ الأبواب المفتوحة، فإذا بشبكة الاتصالات والفضائيات والانفتاح الاقتصادي وغيرها تصبح باذن الله سبحانه سُبُلاً للإصلاح، ووسائلاً للهداية.

ولكن كيف نقوم بذلك؟

أولاً: لا بدّ أن نرتفع من أرض الحساسيات والحميات والذاتيات التي هي منبت الصراعات، ونرتفع إلى سماء الوحدة بعلمية العقل، وبقيمية التقوى، وبأريحية الإحسان.

إنّنا نخسر الكثير الكثير إذا تقوقعنا داخل اُطرنا الخاصة، والشيطان هو

٦٨

الذي يخوفنا من الخروج منها إلى رحاب الاعتصام بحبل الله المجيد.

إنَّ الأنانية وميراثها النكد المتمثل في الحساسية هي مطية الشيطان التي تثير فينا دفائن الحقد والحمية، والحسد والطمع وسائر الفواحش الباطنة حتّى تشل حركتنا الحضارية. ألا فلننبذها إلى غير رجعة، ولنتعلم من يوم عاشوراء الحسينعليه‌السلام كيف نتغلب على وساوس الشيطان.

ثانياً: لكي ننتفع أكثر فأكثر بذكرى عاشوراء، ولكي نجعلها وسيلة النهوض الحضاري، وسبباً إلى التحدي ضد التخلف، لا بدّ أن يقوم علماؤنا والخطباء (حفظهم الله سبحانه وتعالى) بدورهم في تحويل نهضة الطف من التراث إلى العصر، ومن فوران العاطفة إلى حكمة العقل المشبوبة بثورة العاطفة، وعليهم التركيز على مشاكل العصر، وعلى استخلاص الرؤى منها. وهكذا يمكنهم الاعتبار أكثر فأكثر بتراثنا الحافل بالمكرمات.

ثالثاً: وفي أيام محرم، وحيث يهرع أبناؤنا ومن مختلف الأعمار إلى محافل الذكر ومجالس العزاء، تثار عندهم أسئلة شتى حول الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وتلتهب نفوسهم بالعواطف النقية؛ فتكون مناسبة ممتازة لتنمية القيم فيهم، وتكريس روح الإيمان والتقوى في أنفسهم. وهكذا يكون كل واحد منّا مسؤولاً عن زرع شتائل المعرفة في الشبيبة.

إنّ الاُمّهات اليوم مسؤولات أكثر من أي يوم مضى عن أولادهنَّ وبالذات صغار السن، فلا بد أن يفصّلن لهم الحديث عن كربلاء الحسين ودروسها الإيمانية. وكذلك الآباء مسؤولون أيضاً، وخصوصاً عن

٦٩

أولادهم الأكبر سناً. وهكذا الناس جميعاً عليهم أن يتواصوا بينهم، ويستخلصوا دروس النهضة الحسينيّة الشامخة لبعضهم البعض.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام إمامنا جميعاً، فلنجعله معلماً كبيراً، وهادياً عظيماً، وأباً رحيماً؛ لعلّنا ننجو بسفينته ونهتدي بمصباحه إنشاء الله تعالى.

٧٠

الفصل الثاني

على نهج الإمام الحسينعليه‌السلام

٧١

٧٢

الإمام الحسينعليه‌السلام آية العقل والعاطفة

الأحاديث النبوية الشريفة كلها هي غاية في الأدب الإلهي، وتجسّد العظمة في الفكر والبصائر، والأخلاق والإيمان. وبين هذا وذاك ثمة أحاديث قدسية صدرت عن رسول الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله تدفع المهتم بها إلى التمعن والتعمق أكثر فأكثر؛ ليصل بمستواه وبصيرته إلى العمق الإيماني المطلوب الذي كان ينشده هذا النبي القدوةصلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤمنين.

ومن جملة تلكم الأحاديث قول الرسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الحسينعليه‌السلام « مصباح هدى وسفينة نجاة » (١) . وقد وصف هذا الحديث بأنّه مكتوب على يمين العرش، في إشارة إلى عظمة وقدسية هذا الحديث المبارك.

ولكي نكون بمستوى المسؤولية الدينية والحضارية لا بدّ لنا من التدبر والإحاطة بأبعاد هذا الحديث؛ فهو وغيره ممّا فاض على لسان سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطيبين الطاهرينعليهم‌السلام ، ليس من نوع الكلام أو القصص الصادرة عن غيرهم من البشر حتّى يكون

____________________

(١) بحار الأنوار ٩١ / ١٨٤، ح ١.

٧٣

بوسعنا أن نمر عليها مرور الكرام، أو أنها من نوع الكلام الذي ما أن يسمع حتّى ينسى.

فتدبّرنا وتعمّقنا وإحاطتنا - بما في وسعنا - بكلامهم الشريف يعكس مدى اهتمامنا وتعظيمنا لمكانتهم السامية؛ الاهتمام والتعظيم المفروضان علينا - نحن المسلمين - من قبل الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً. مع أنّ اهتمامنا بهذه الأحاديث الفذة إنّما هي بمثابة المؤشر العملي على اهتمامنا بأنفسنا؛ فالروايات صدرت عن أهل البيتعليهم‌السلام لإنقاذنا من براثن الدنيا وغرورها، ولكي تكون منهجاً ودرساً أساسياً مقارناً للقرآن الكريم في حياتنا وكدحنا إلى الله عزّ وجلّ.

ماذا يعني قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الحسين مصباح الهدى؟ وماذا تعني الهداية؟ وماذا يعني أن يكون أبو عبد اللهعليه‌السلام مصباحاً؟ وما هو المصباح؟ وما هو دور المصباح في حياة الإنسان؟ وما هي مسؤولية الإنسان تجاه هذا المصباح؟ ثم ما هي سفينة النجاة؟ وكيف يكون الحسينعليه‌السلام سفينة النجاة؟ وماذا يتوجّب علينا ان نعمل تجاه هذه السفينة؟

إنني في هذا المقام لم أطرح الأسئلة أعلاه كبذخ فكري أو أدبي، ولا أدّعي أبداً بأن بوسع أحد من الناس الإجابة الوافية على هذه الأسئلة باستثناء من أنعم الله عليهم، إنّما الغرض من كل ذلك إلفات نظر المؤمنين إلى ضرورة التعمق في حقيقة الإمام الحسينعليه‌السلام ودوره الرباني العظيم، إضافة إلى ضرورة وعي مسؤولياتنا تجاه سيد الشهداء وأبي الأحرارعليه‌السلام وقضيته السرمدية.

فالإجابة ليست معقدة بقدر

٧٤

ما هي عميقة، ونحن في هذا الإطار يهمّنا النهوض بمستوياتنا حتّى نتوصّل إلى الحقائق النورانية لهذا الحديث النبوي الشريف الذي بين أيدينا.

ومن هنا تنبغي الإشارة إلى حقيقة أنّ الإنسان يتركب من بعدين أساسيين، ولا غنى لأحدهما عن الآخر مطلقاً؛ البعد الأول هو البعد العاطفي، والثاني هو بعد الفكر والعقل والبصيرة.

والبعد الأول يحتل موقعاً من الإنسان أشبه ما يكون بموقع الوقود من السيارة؛ حيث لا يعقل مطلقاً أية حركة لهذا المصنوع البشري دون امتلاكه للطاقة. وبمعنى آخر تكون السيارة غير ذات قيمة فيما لو افتقرت إلى الوقود، بغض النظر عن كون هذه السيارة ذات تكنولوجيا عالية أو هابطة.

ولكن السؤال الراهن هو: هل الوقود بمفرده كافياً لحركة السيارة؟ وبطبيعة الحال فإنّ الجواب سيأتي منفياً تجاهه، على اعتبار أن ثمة أبعاد اُخرى لها الدور الكبير في حركة هذه السيارة، وهذه الأبعاد تتمثل تارة في المحرك، واُخرى في العجلات، واُخرى في الأجهزة الأساسية المتعددة.

وهذه الحقيقة تنطبق تمام الانطباق على حقيقة الوجود وشخصية الإنسان، ولا سيما الأفراد الأحياء قوةً وفعلاً. فمن الصعب جداً تصور الحركة والحيوية في الإنسان الذي تنعدم فيه العواطف؛ نظراً إلى أنَّ العاطفة في الإنسان تمثل الدافع للحركة والنشاط، والفعل وردّ الفعل.

فمن تنعدم فيه الشهوة والإحساس بالجوع والألم وتلمس الراحة فهو لا يعدو عن كونه موجوداً جامداً؛ إذ إنّ مجمل هذه الأحاسيس وغيرها تعني وجود الإنسان؛ فالأب يكون أباً حقيقياً حينما يرى الجوع يعضّ أولاده فيسارع إلى تأمين ما يشتهون؛ لأنّه يقدّر مسؤوليته تجاه عائلته من

٧٥

جهة، ويعرف معنى الجوع وتأثيره من جهة ثانية؛ فهو يعمل المستحيل لكي يوفر الأمن المعيشي لهم. وكذلك الأم التي تترك نومتها الهنيئة لتقوم بإرضاع طفلها الذي قرصه الجوع، والداعي في ذلك بالطبع العاطفة والحنان اللذان تحملهما له؛ لأنّ هذه الأم تعرف أسباب ودوافع البكاء لدى رضيعها، وتعرف في الوقت ذاته الألم الذي يعتصر قلب هذا الطفل جرّاء إحساسه بالجوع.

إذاً فالعاطفة في المثالين المذكورين هي المحرك، وهي الدافع الذي على أساسه يقوم أهم ركن في بناء العائلة المتفاعلة. ثمّ هناك الجانب العقلي في حركة الناس، ومن دون العقل ستفقد العاطفة مصداقيتها.

وما يهمنا في هذا الجانب هو التأكيد على أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو الذي يوفّر للأمة الإسلاميّة حاجتها العقلية كما وفّر لها حاجتها العاطفية؛ فالحسينعليه‌السلام كما أصبح للمسلمين بمثابة نقطة الرجاء والعاطفة بنصّ الرسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث وصفه بـ (سفينة النجاة) التي تؤدي دور المنقذ أثناء وبعد الأمواج والعواصف والدوّامات، فهو أيضاً بشعاراته ومنجزاته الدينية أصبح (مصباح الهدى) بالنسبة للمؤمنين الذين تعترض طريقهم الانحرافات الفكرية والسياسية.

إنّ الاُمّة الإسلاميّة ومنذ استشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام لا تزال تتدفأ بحرارة الثورة الحسينيّة؛ فالحسينعليه‌السلام قتيل العبرات، بمعنى أنه قد قُتل لكي يوفّر في الاُمّة المسلمة الدموع؛ لأنّ الإنسان المسلم حينما تدمع عينه ويخشع قلبه سيكون قابلاً لاستلهام المعاني الحية لتعاليم

٧٦

الدين الحضارية، وسيكون مثله مثل الأرض القابلة لامتصاص غيث السماء حيث تهتز وتربو، دون الأرض الصلدة التي لا تستجيب لنداء المطر ورسالته الداعية إلى الإنبات.

فعندما يبكي المرء ويخشع قلبه تأخذ الآيات القرآنية الكريمة موقعها منه، وتجد استجابة طيبة لديه من أجل الاعتقاد والتمسك بها وتطبيقها. ولكن الإنسان الأبله أو المستهزئ الذي لا تربطه أية عاطفة بالآيات السماوية لن ينتفع بها مهما كان تالياً لها. وقد سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أين الله؟

فقال:« عند المنكسرة قلوبهم » (١) .

لذلك فإننا نرى ونشهد على أنّ المقيم للشعائر الحسينيّة يتحوّل إلى إنسان نزيه وطاهر ونظيف؛ نظراً إلى أنّ دموعه التي ذرفها، وقلبه الذي خشع قد غسلاه وطهراه من ذنوبه؛ فهو مغسول بالعاطفة والحماس.

والمسلك في ذلك يبدو واضحاً؛ حيث يعود المقيم للشعائر الحسينيّة إلى قاعدة محاسبة الذات بصورة إرادية أو لا إرادية؛ فهو على يقين من العظمة اللامتناهية التي يتمتع بها سيده ومولاه الحسين بن علي (عليهما السلام)، وهو يعرف من خلال التأريخ ما قام به هذا السيد العظيم من تضحية وشجاعة لا نظير لهما على مرّ الزمان؛ فتراه يعود إلى ذاته ويؤنبها إزاء التقصير في ارتكاب الذنوب، والانهزام تجاه المصاعب والعقبات.

ولا شك أن التوبة العملية هذه مع ما يزامنها من اعتقاد راسخ بولاية الحسين وأهل البيتعليهم‌السلام توبة حقيقية مقبولة لدى الله سبحانه وتعالى.

____________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ / ١٥٧.

٧٧

إذاً فالعاطفة الصادقة على جانب كبير جداً من الأهمية في حياة المرء؛ حيث تحركه وتدفعه، وتخلق أمامه أهدافاً وغايات سامية؛ على اعتبار أنّ حياة الإنسان لا تسمّى حياةً ما لم يسعى الإنسان إلى تحقيق شيء فيها.

وأصحاب الحسينعليه‌السلام وصلوا إلى هذه الحقيقة؛ حيث لم يغادروا الحياة ما لم يطمئنوا إلى أن التاريخ سيكتب منجزاتهم بحروف من نور في قلوب المؤمنين المصرّين على الثأر لدين الله من الظالمين والجبابرة.

وهنا يجب أن نلتفت إلى أن المصباح هو الذي يشع بالنور، والهدى هو الذي يهدي الإنسان إلى الطريق المستقيم. وإننا كاُمّة مسلمة بعيدون عن الإمام الحسينعليه‌السلام من هذه الناحية، فنحن نعيش مع سيد الشهداءعليه‌السلام في عواطفه ومأساته فقط مع بالغ الأسف.

وللتوضيح أقول: إنّ تاريخ كربلاء ينقل لنا بأن الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه استمهلوا الأعداء سواد ليلة عاشوراء، ولم يكن طلب الفرصة هذا ناتجاً عن خوف من الموت أو الاستشهاد؛ حيث إنّ هذا الركب الشجاع لم يقدم إلى أرض كربلاء إلاّ وكان عارفاً بما سيؤول إليه مصيره مسبقاً.

والدليل على ذلك أن الإمامعليه‌السلام نفسه كان قد قال قبيل مغادرته المدينة المنورة في معرض رده على تحذير من حذّره القتل، وتعرض نسائه ونساء أصحابه للتنكيل والتشريد من قبل الجيش الاُموي، قالعليه‌السلام :« قد شاء الله أن يراهن سبايا » (١) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٩٧.

٧٨

لقد كان سبب الطلب المشار إليه الرغبة في تجديد العهد بكتاب الله تبارك وتعالى؛ فالحسينعليه‌السلام كان القرآن الناطق؛ لذا نحن نرى في حركته ومنهجه قرآناً ينطق بصدق الحديث، وصدق الأمانة والتضحية، والتفاني في ذات الله؛ فواقعة كربلاء كانت تجسيداً واقعياً لتعاليم القرآن والوحي المنزل.

ومن جانبنا نحن المسلمين، كلما كان التصاقنا بالقرآن الكريم وتعاليمه شديداً كلما كان اقترابنا للحسينعليه‌السلام شديداً أيضاً، والعكس هو الصحيح؛ فالطرفان يعبران عن إرادة إلهية تتجلى في ضرورة إنقاذ الإنسان نفسه من الوساوس والانحرافات.

يقول ربنا سبحانه وتعالى:( قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه ) (آل عمران/٣١)، أي إن كنتم تدّعون محبّة الله ومحبة رسوله ومحبة أولياء الله( فَاتَّبِعُونِي ) ، على اعتبار أن هذا الحب لا بدّ له من طاعة لتتقرّب به؛ كي لا يكون حبّاً فارغاً.

فالإتّباع بمختلف معانيه ومصاديقه، وبمختلف ما يستدعي من تضحية وشجاعة وفداء هو الحب المنشود، وإذا ما اقترن الحب بالطاعة لله تكون النتيجة العملية له:( يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) .

فالعاطفة والعقل إذا ما امتزجا يولّدان الفلاح؛ حيث يقول تعالى:( يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّواْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) (آل عمران/٣١ - ٣٢)، وهذه الحقيقة تمثل إحدى مصاديق الكفر التي قد يصاب بها الإنسان من حيث لا يشعر؛ إذ يحصل التفاوت بين قوله وفعله، بين اعتقاده وسلوكه.

٧٩

وقد جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام حديث يحتل أعظم درجات الأهمية؛ حيث يتضمّن بيان موقع أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، كما يتضمّن ضرورة ما ينبغي أن يكون عليه شيعتهم ومواليهم، بل وجميع المسلمين؛ حيث يقولعليه‌السلام :« إنّ الله تبارك وتعالى أوجب عليكم حبّنا وموالاتنا، وفرض عليكم طاعتنا. ألا فمن كان منّا فليقتدِ بنا؛ فإنّ من شأننا الورع والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، وصلة الرحم، وإقراء الضيف، والعفو عن المسيء. ومن لم يقتدِ بنا فليس منّا ».

وقالعليه‌السلام :« لا تسفّهوا؛ فإنَّ أئمتكم ليسوا بسفهاء » (١) .

فالإنسان لكي يصل الجنة عليه أن يعفّ نفسه عن ارتكاب المعاصي، وأن يبذل كل وسعه، ويجدّ ويجتهد في طريق أداء الواجبات الشرعية الذي هو في واقع الأمر المسؤول أولاً وآخراً عنها؛ فأئمة أهل البيتعليهم‌السلام لا يحبون الشخص الكسول الجامد، وإنّما يحبون المؤمن الذي يبذل جهده تماماً، أو يستنفذ طاقته في إطار الطاعة.

أمّا أداء الأمانة فهو أمر ذو وجوه؛ منها وجه تحمل المسؤوليات السماوية انطلاقاً من مفهوم الآية القرآنية القائلة:( اِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان ) (الأحزاب/٧٢)، ومنها نبذ الخيانة الذي يعكس الصورة الصحيحة للأئمةعليهم‌السلام ولشيعتهم، رغم ما يبذله حزب الشيطان من مساع حثيثة لتشويه صورتهم بين الناس.

وكان الامام السجادعليه‌السلام

____________________

(١) بحار الأنوار ٧٢ / ١١٥.

٨٠